تفسير القرآن
البقرة / من الآية 01 الى الآية 02

من الآية 01 الى الآية 02
مدنية - وآياتها مائتان وست وثمانون
 
سورة البقرة بين الاسم والمسمى:
 
أول ما قد يتبادر إلى أذهاننا في ما يتعلّق بهذه السورة هو السؤال التالي: لماذا كانت هذه التسمية؟
 
والجواب: إنَّ أسماء السور القرآنية تخضع للتركيز على قصّة معيَّنة، أو اسم معيّن، أو موضوع خاص بارز في السورة، ممّا يُراد توجيه الأنظار إليه، فنجد أمامنا سورة آل عمران، وسورة النساء، والكهف، والإسراء وغيرها من السور التي تشتمل على ما ترمز إليه عناوينها. وكانت تسمية سورة البقرة رمزاً للقصة المذكورة في حوار موسى (ع) مع قومه، عندما قال لهم: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة:67].
 
وانطلقت الأسئلة تلو الأسئلة من بني إسرائيل، لا لتحاول استجلاء الموضوع، بل لتتهكّم أو تسخر أو تتعنّت، وجاء ردّ الفعل تأديبياً؛ فكلّما ازدادت الأسئلة، كانت القيود والخصائص المطلوبة في البقرة تزداد وتكثر، حتى أصبحت قيمتها بمستوى كبير جداً في تكاليفه المالية، في الوقت الذي كان بإمكانهم أن يتفادوا هذا الشيء بالاكتفاء بالأمر الذي صدر إليهم، والأخذ بإطلاق الكلمة، ويكتفوا بأية بقرة في مجال امتثال الأمر. وكان ذلك بمثابة العقوبة التشريعيَّة على استخفافهم وسخريتهم بالنبيّ وبالتشريع، ولم يقتصر الأمر على هذا الموضوع، بل إننا واجدون في ما يأتي من حديث بني إسرائيل، كثيراً من التشريعات المحرّمة التي كانت عقوبة على سلوكهم في واقعهم المنحرف الذي كانوا يعيشونه.
 
وربَّما كانت علاقة القصّة ـ في خصوصيتها الإسرائيلية ـ بالخطّ العام التوجيهي في السورة، في كونها تقدّم للمسلمين الصورة الكاشفة عن السلوك المنحرف لبني إسرائيل في مواجهة الأنبياء، بالدرجة التي تصل بهم إلى التعسّف والاستهزاء بالأساليب المتنوّعة التي تشغلهم عن مهمّتهم الرسالية بالقضايا التفصيلية التي تعقّد الواقع العملي، وتدفع به إلى متاهات الاحتمالات العقيمة؛ فتكون القصة بمثابة التحذير التربوي للابتعاد عن ذلك في مسؤولياتهم العملية في حركة الدعوة، وفي خطّ القيادة الشرعية.
 
وربَّما كان السرّ في التركيز على هذه القصة، هو إعطاء الأهمية لضرورة توفر روح الطاعة المطلقة، والتسليم الواعي للأوامر الصادرة من اللّه للنّاس بواسطة رسله، لدفعهم إلى أن ينظروا إليها نظرة احترام ومسؤولية في الفهم والممارسة؛ فلا يغرقوا في ضباب الاحتمالات المتنوّعة التي لا مجال لها من خلال مدلول الكلمة وجوّها الطبيعي. وبذلك يبتعدون عن الانحراف العملي في خطوات التشريع.
 
ولعلّ علاقتها بمضمون السورة تكمن في اعتبار اشتمالها على كثير من الأحكام الشرعية، التي تُلزم المؤمنين بامتثالها من دون اعتراض أو فضول لا معنى له. أمّا ارتباطها بمسيرتنا العملية العامة، فإنّها توجّه الإنسان المسلم إلى عدم الإكثار من الأسئلة حول المسؤوليات التي تناط به، إذا كانت التعليمات واضحة محدّدة في الجوانب الصريحة وفي الجوانب المطلقة؛ إذ يمكن للإنسان أن ينطلق معها بشكل طبيعي مركّز من دون سؤال، لأنه لو كان هناك حاجة إلى بيان زائد لَذُكِر، آخذين بالاعتبار حكمة المتكلّم في ما يبيّنه، وفي ما يترك الحديث عنه.
 
إنَّ خلاصة الفكرة في القصّة، هي أن نترك الفضول في قضايا المسؤولية، إلاّ إذا انطلق من عدم فهمنا لطبيعة التوجيه في الفكرة المعروضة علينا؛ فإنَّ ذلك هو الذي يمنع الاهتزاز في وعي المعرفة، ويدفع الإنسان إلى الإحساس بالثقة في مواقع المسؤولية.
 
* * *
 
مواضيع السورة:
 
لعلّ هذه السورة من أبرز سور القرآن الكريم التي عالجت قضايا العقيدة في سياق مواجهتها للتحدّيات الفكرية والعملية، أو من خلال تاريخها المتحرّك في مسيرة دعوة الأنبياء إلى اللّه، ومدى الصراع العنيف الذي واجهوه من جانب قوى الكفر والضلال، أو في نماذجها المتنوّعة من الذين يقفون أمام قضية الكفر والإيمان في مواقف ثلاثة:
 
فهناك النموذج الأول المتمثّل بالمؤمنين الذين يعيشون الإيمان في وجدانهم، ويمارسونه في حياتهم، ويصرّحون بالتزامهم به بدون خوف أو تذبذب.
 
وهناك النموذج الثاني المتمثّل بالكافرين الذين يكفرون باللّه، ويمارسون الكفر في مواقفهم العملية ويجاهرون به.
 
وهناك النموذج الثالث المتمثّل بالمنافقين الذين تهتز مواقفهم في داخل ذواتهم وخارجها بين خطّ الإيمان وخطّ الكفر، وقد أفاضت السورة في الحديث عنهم، لنعرفهم من خلال مواصفاتهم وسماتهم في كلّ زمان ومكان.
 
وقد عالجت السورة بداية خلق آدم (ع)، فتحدّثت عن الحوار بين اللّه، سبحانه وتعالى، وبين الملائكة، ثُمَّ بينه وبين إبليس، لإعطاء الفكرة الحيّة في بيان قيمة الإنسان وكرامته من حيث تأكيد جانب الخلافة له في الأرض، ومن حيث التركيز على مزاياه التي يتفوّق بها على الملائكة، بسبب ما منحه اللّه من العلم، ومن القدرة على التكيُّف بواسطته في جميع مجالات الحياة.
 
ودخلت السورة في أجواء بني إسرائيل لتحدّثنا عن بعض محطات تاريخهم، وما عايشوه من مشاكل، لا سيما ممارساتهم العملية المنحرفة ضدّ الأنبياء ورسالاتهم. ثُمَّ انطلقت لتعالج مختلف القضايا الشرعية، فأثارت الحديث عن الطلاق والزواج، والصوم، والصلاة، والحج، والربا، والوصايا، وغير ذلك.
 
وفي ضوء ذلك، تعتبر هذه السورة من أغنى السور القرآنية، لأنها تجسّد أغلب المجالات الحيّة، التي يمكن لها أن تغني روحية الإنسان الداخلية، وثقافته الفكرية والتاريخية والتشريعية، في الإطار القرآني المُمَيَّز.
 
وربما كان الأساس في هذا الغنى الكبير، هو أنَّ هذه السورة المدنية تصدّت لحاجات المجتمع الإسلامي الجديد في العقيدة والفكر والتشريع، لتبلور له مفاهيمه وقناعاته، لئلا ينحرف أمام المدّ الفكري والتشريعي المنحرف، الذي كان يتمثّل في أساليب اليهود المتعدّدة لتضليل المسلمين في صراع الإسلام الدائر معهم، ومع الفئات الأخرى من المشركين والمنافقين، ولترسي أسس هذا المجتمع على قاعدة إسلامية متينة. وهذا هو الطابع الذي يغلب على السور المدنية، بينما تتّجه السور المكيّة إلى تغذية جانب العقيدة لأنها كانت سرَّ المشكلة لديهم. هذه صورة مجملة عن الموضوعات التي عالجتها السورة.
 
بسم اللّه الرحمن الرحيم
 
الآيتــان
 
[ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] [1ـ2].
 
* * *
 
معاني المفردات:
 
[ رَيْبَ] : الريب: الشك، وقيل: أسوأ الشك، وقيل: أن تتوهم بالشيء أمراً ما فينكشف عمّا تتوهمه.
 
{هُدًى} : الهدى: الدلالة بلطف[1].
 
{لِّلْمُتَّقِين} : من الوقاية، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه. والتقوى هي جعل النفس في وقاية مما يُخاف، وفي عرف الشرع: حفظ النفس من معصية اللّه وترك طاعته، لأنَّ ذلك هو الذي يؤدي إلى وقايتها من عذاب اللّه؛ وبذلك كان الخوف تقوى باعتباره من أسباب الوقاية، حيث يدفع الإنسان في اتجاه البعد عن مواقع سخط اللّه. وجاء: التقوى أن لا يراك اللّه حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك[2].
 
* * *
 
الحروف المقطّعة في القرآن:
 
[ ألم] من الحروف المقطعة التي ابتدأت بها أكثر من سورة في القرآن، وقد قال المفسّرون في معناها آراء عدّة نذكر منها:
 
الرأي الأول: إنّها من الرموز والأسرار التي تعبّر عن تاريخ مُعيَّن تنتهي فيه الدنيا، أو تتمثّل فيه بعض الحوادث، وذلك على أساس حساب الحروف الأبجدية الذي يجعل لكلّ حرف منها رقماً معيناً يعبِّر عن عدد معيَّن.
 
ونحن لا نوافق على هذا الرأي، لأنّ القرآن لم يتنزّل ليتّجه مثل هذا الاتجاه المتكلّف في التعبير عن الحوادث والأشياء، وبالتالي ليربط النّاس بأسرارٍ وألغازٍ ومعمياتٍ يختلف النّاس في فهمها؛ لأنَّ ذلك لا يحقِّق أيَّ هدف للمعرفة وللّهدى الذي اتبعه القرآن ليشقّ طريقه في الحياة.
 
الرأي الثاني: إنّها لإثارة انتباه النّاس إلى الآيات التي يريد النبيّ (ص) أن يقرأها عليهم؛ فقد كان المشركون ـ في ذلك الوقت ـ يعملون على إثارة الضوضاء واللّغو عند قراءة النبيّ (ص) للقرآن، ليمنعوا الآخرين من الاستماع إليه، فجاءت هذه المفردات غير المألوفة لديهم لتؤدّي دورها في إثارة الانتباه من خلال غرابتها على أسماعهم، لأنّها ليست من النوع الذي تعارفوا عليه، فليس لها مدلول معيَّن ومضمون واضح. ومن هنا، يبدأ التساؤل الداخلي الذي يهيّىء النفس لانتظار ما بعدها لتستوضح معناها من خلال ذلك. وتتحقّق الغاية من ذلك في سماعهم لآيات اللّه.
 
ونحن لا نمانع في معقولية هذا الرأي وانسجامه مع الأجواء العدائية التي كان المشركون يثيرونها أمام النبيّ (ص) ممّا حدَّثنا القرآن الكريم عنه في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيه} [فصلت:26].
 
ولكن ذلك كان موقف المشركين في مكة، بينما يغلب على السور التي اشتملت على هذه الكلمات الطابع المدني في نزولها على النبيّ (ص)، وفي المدينة لم تكن هذه الأجواء مثارة، لأنَّ المشكلة لم تكن مطروحة هناك، فلا يصلح هذا الرأي لتفسير هذه المفردات.
 
الرأي الثالث: ما ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان حيث قال: إنّ بين هذه الحروف المقطّعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطاً خاصاً، ويؤيد ذلك ما نجد أنّ سورة الأعراف المصدرة بـ [ ا ل م ص] في مضمونها، كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص. وكذا سورة الرعد المصدّرة بـ [ ا ل م ر] في مضمونها، كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات. ويستفاد من ذلك أنّ هذه الحروف رموز بين اللّه سبحانه ورسوله (ص) خفيت عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها، إلاّ بمقدار أن نستشعر أنّ بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطاً خاص[3].
 
ونلاحظ على ذلك، أنَّ هذا الرأي لا يملك أيّ وضوح للمضمون الذاتي لهذه الحروف، لأنَّ الارتباط الذي يتحدّث عنه لا دليل عليه إلاَّ بالاستشعار الذي لا يوحي بأية فكرة معيّنة، وقد نتساءل: ما هي الحكمة في تنزّل رموز خفيّة بين اللّه ورسوله، لا يملك النّاس أن يفهموها، ولا يعمل النبيّ (ص) على أن يشرحها لهم، في الوقت الذي كان القرآن فيه منزّلاً على النبيّ (ص) وعلى النّاس لأنه ذكر له ولقومه وللعالمين.
 
الرأي الرابع: إنَّ اللّه سبحانه وتعالى تحدّى النّاس بالقرآن، وبالغ في التحدّي بطرق متنوّعة، فأراد أن يُبيّن لهم أنَّ هذا القرآن الذي أعجزهم الإتيان بسورة من مثله، لم يكن مؤلفاً من حروف يجهلونها، لأنَّ المادة الخام التي صُنع منها القرآن موجودة بين أيديهم، وهي هذه الحروف المتنوّعة المعلومة لديهم، فإذا كانت عندهم القدرة على صنع مثل هذا القرآن، فهذه هي المواد الخام جاهزة عندهم، ولعلّ هذا من أبلغ أنواع التحدّي، تماماً كما تواجه إنساناً واقفاً أمام مبنى ذي شكل هندسي متقن، فتقول له: هل تستطيع أن تبني مثل هذا؟ ثُمَّ تعقب على ذلك بأنَّ المواد جاهزة إذا كنت تملك الفكر الهندسي والممارسة الفنية. إنه سيقف عاجزاً من موقع عظمة هذه الهندسة وجهله بأصولها الفنية.
 
وقد يكون هذا التفسير أقرب التفاسير إلى الفهم، وينسب إلى الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع) الإمام الحسن العسكري (ع)، برغم أنه لم تثبت صحة نسبته إليه لعدم وثاقة رواته، ولكن من الممكن أن ينسجم مع طبيعة الموقع الذي وردت فيه هذه الكلمات في القرآن الكريم، ففي هذه السورة عندما تلتقي بكلمة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فربما تفهم منها أنَّ هذا الكتاب الكامل في كلّ شيء، مصنوع ومؤلف من هذه الحروف، فإذا كنتم ترون في أنفسكم القدرة على مجاراته، فهذه الحروف أمامكم، فاصنعوا منها ولو سورة ممّا تشاؤون.
 
وقد يتأمّل المتأمّل في هذا الرأي، فلا يجد في بعض المواضع القرآنية ما ينسجم معه، أو لا يلمح مثل هذا التوجيه في ما قدّمناه من تفسير، ولكن المهم أنَّ التفسير يتحرّك في مثل هذه الأجواء؛ فإن استطعنا أن نقرّبها إلى أذواقنا، وإلاَّ فحسبنا أن نرجع علمها إلى اللّه والراسخين في العلم، فتكون مما استأثر اللّه بحقيقة علمه، ضاربين صفحاً عمّا يخوض فيه المفسّرون من متاهات الاحتمالات التي لا تستند إلى أساس صحيح.
 
* * *
 
ذلك الكتاب لا ريب فيه:
 
{ذَلِكَ الْكِتَابُ} ربما يخطر في الذهن أن من المناسب أن تُستبدل بكلمة «ذلك» كلمة «هذا»، لأنَّ اسم الإشارة عندما يكون للقريب يُعبَّر عنه بـ «هذا»، أمّا كلمة «ذلك» فهي للبعيد، والمفروض أن الكتاب قريب إلى قارئيه وسامعيه؛ ولكنّ اللغة العربية تتّسع للتّنزيل، فيمكن فيها تنزيل القريب منزلة البعيد لمناسبة تقتضي ذلك لعلوّ مكانة هذا الشيء أو بعدها، وإن كان قريب المكان، تنزيلاً للمكانة البعيدة عن متناول الأفكار في الوصول إليها منزلة بعد المكان.
 
واستعملت الألف واللام في «الكتاب» للتدليل على النوع، فذلك الكتاب يعني الكامل، تماماً كما تقول «ذلك الرّجل» أو «ذلك البطل» وتريد الكامل في الرجولة أو البطولة؛ فكأنَّ النوع مجسّد فيه، لاجتماع كلّ خصائص الكمال المتفرقة في الأفراد في هذا الفرد؛ فهو يمثّل النوع بكلّ صفاته وخصائصه. وعلى هذا الأساس، فالمراد بـ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، الكامل في هدايته، الجامع لجميع الخصائص التي تجعل منه قيمة عظيمة هادية للنّاس في كلّ مجالات العصر.
 
[ لاَ رَيْبَ فِيهِ] أي أنه الكتاب الذي لا يحمل في آياته وفي مفاهيمه أي عنصر من العناصر التي توحي بالرَّيب أو تقود إليه، فلا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه إذا دقق في الخصائص الموجودة فيه، وفي المعاني الأصيلة الواضحة التي إذا تأمّلها الإنسان، وأمعن النظر فيها، ووعاها وعياً صحيحاً، لما ارتاب فيها، ولانكشفت أمامه كلّ أجواء الرّيب والشكّ والشبهة.
 
من هنا، فليس معناه أنه لم يرتب فيه أحد، لأنَّ كثيراً من النّاس أثاروا حوله جوّاً من الريبة والشك؛ فقد قالوا عنه إنه «أساطير الأولين»، وقالوا عنه أشياء أخرى، إمّا لغفلتهم عن طبيعته الواضحة باستغراقهم في أجواء الإثارة، وإمّا لخضوعهم لأساليب التضليل المتنوّعة التي تنحرف بالفكر عن وجه الحقّ.
 
* * *
 
القرآن كتاب هداية:
 
[ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] هذه هي الصفة الثالثة من صفات الكتاب الكامل في كلّ شيء الذي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، فهو {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} . إنّه كتاب هداية، وهذا هو دوره الأصيل، وليس دوره أن يكون كتاباً يتحدّث عن المخترعات أو عن أي شيء آخر مما ينسب إليه، إنما هو كتاب هدى للإنسان ليوجّهه إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم.. ولا مانع من أن يلتفت القرآن إلى بعض الأسرار الكونية، والظواهر الطبيعية، إذا دعت إليها المعالجة القرآنية لبعض المواضيع، ولكنَّها لا تأتي على أساس مستقلّ دائماً، بل تكتفي بالتركيز على عنصر الهداية في وسائلها وأهدافها. فليس القرآن كتاباً علمياً يجمع علوم الكيمياء والفيزياء وعلوم الحيوان والنبات وغير ذلك، بل هو كتاب إرشاد وتوجيه وهداية للإنسان، ليعرف كيف يسير ويصارع وينظّم حياته في كلّ المجالات.
 
إنّه يحدّد للإنسان الفكرة في صفاء ونقاء، ويربطه، من خلال ذلك، بالمسيرة الإسلامية من بدايتها إلى نهايتها، ويخطّط له مسيرته وحياته من خلال الأحكام الشرعية التي تعرّفه كيف يتحرّك، من موقع المسؤولية، في هدوء واطمئنان، حركةً تعرف نفسها جيداً، لأنها تعيش الوضوح في الرؤية، والانسجام مع الهدف.
 
ولعلّ القيمة الكبيرة للّهدى القرآني هي أنه لا يتجمّد عند حدود الذات ليملأها بالإشراق والصفاء، وتقف الهداية في الداخل فلا تتجاوزه إلى خارج نطاق الذات في حياة الآخرين، بل هو الهُدى الممتدّ من القلب إلى الحياة، كمثل الينبوع المتدفّق الذي ينطلق ويتفجّر ليفيض ويتدفق على الأرض الرحبة الفسيحة ليمنحها الخصب والحياة.
 
* * *
 
الطابع الفريد للهدى القرآني:
 
أمّا طابع الهُدى القرآني فهو فريد من نوعه، لأنه لا يقف في منطقة الفكر ليشير إلى العقل أن يتفلسف ويحلّل، ويبدع الفكر من موقع الفلسفة والتحليل، ولكنَّه يتحرّك في أبعاد النفس الإنسانية ليثير فيها الفكر الممزوج بالعاطفة، والعقل المتحرّك بالوجدان، والروحية المتّصلة بالواقعية، فليس هناك جفاف فكري تشعر معه بأنك تعيش ضمن قوالب جاهزة جامدة تقدّم إليك من خارج ذاتك، بل هناك الحيويّة النابضة بالروح التي تنساب في مشاعرك وعواطفك وفكرك ووجدانك، فتشعر معها بأنك تمارس فكرك من موقع النور المتفجّر من أعماقك في رحاب اللّه، ما يجعل من قضية الفكر شيئاً يشبه العبادة ويصنع الحياة.
 
* * *
 
المتقون هم المنفتحون على الحقّ:
 
أمّا «المتّقون»، فهم أولئك الذين انفتحت عقولهم على فكر الحقّ من خلال التأمّل والمعاناة الوجدانية، حتى عاش في وجدانهم قناعة واطمئناناً، واندمجت أرواحهم في لقاء اللّه، حتى شعروا بحضوره معهم في يقظتهم ومنامهم، فلا يواجهون شيئاً في الحياة إلاَّ ويواجهون اللّه معه، باعتبار أنَّ الأشياء تفقد استقلالها وذاتيتها في داخلهم، لأنها المظهر الحي لوجود اللّه وقدرته وحكمته ورحمته. وهم الذين تحرّكت حياتهم في الصراط المستقيم حتى لتحسّ بخطواتهم تتنقل في ثبات واتزان، كأنها تعيش وعي الطريق في كلّ أبعاده واتجاهاته، فلا تغيب عنها أية انعطافة من منعطفات الطريق التي تدعو للانحراف، بل هي الاستقامة الباحثة أبداً عن النور في طريق اللّه.
 
* * *
 
هل القرآن هدى للمتقين فقط؟
 
وهنا يواجهنا سؤال مثير، كيف يكون القرآن هُدًى للمتقين ولا يكون هُدىً لكلّ النّاس؟ وهل يحتاج المتقون الذين يعيشون الهُدى في كيانهم إلى هداية ليكون القرآن هادياً لهم؟
 
والجواب: هو أنَّ المتّقين هم الذين يشعرون بمسؤوليتهم الفكرية والاجتماعية تجاه العقيدة والحياة، فهم الذين يعيشون تقوى الفكر التي توحي بالتأمّل والتفكير العميق، فيطلبون الهداية من موقع المواجهة الحادة للمشاكل الصعبة التي تعترضهم في قضايا الصراع، فيقفون أمامها موقف الجادّ الذي لا يعيش حالة اللامبالاة والاسترخاء الفكري، بل يحاول أن يدخل عملية الصدام الفكري ليفكّر في ما يُعرض عليه ليناقشه، فإمّا أن يقتنع به وإمّا أن يرفضه على أساسٍ من الوعي، ثُمَّ إن المتّقين هم الذين يخافون اللّه ويحبونه بإخلاص وإيمان، فيشعرون من خلال ذلك بالمسؤولية التي تتحول إلى مراقبة ومحاسبة في الفكر والعمل، فيندفعون في عملية ملاحقةٍ للأسس التي يرتكز عليها الهدى من أجل أن تكون موضع تفكير ومناقشة.
 
أمّا الآخرون من غير المتّقين، فهم الذين لا يشعرون بالمسؤولية تجاه أنفسهم، وتجاه ربهم، بل وتجاه الحياة كلّها. إنهم يواجهون الحياة مواجهة اللامبالاة والهروب من كلّ شيء يتعب الفكر والوجدان، فلا يحاولون أن يهتدوا، ولا يريدون أن يفكروا بالهدى، فلا يمكن للكتاب أن يكون هدى لهم، لأنَّ الهدى لا بُدَّ له من عقل مفتوح ووجدان سليم، ولكنَّه يظلّ يطرق أسماعهم منتظراً حالة الوعي الجديدة التي تربطهم بالإرادة الواعية ليهديهم من موقع إرادتهم للهداية، في آفاق اللّه الرحبة الممتدة بالإيمان.
 
(1) وردت معاني الهداية في سورة الفاتحة، تراجع في مكانها.
 
(2) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط:1، 1412هـ ـ 1992م، ج:1، ص:45.
 
(3) تفسير الميزان، ج:18، ص:8 ـ 9.