الآية 34
الآيــــة
] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ[ (34).
* * *
معاني المفردات:
{ اسْجُدُو} : السجود: الخضوع والتذلل. وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض. والسجود للّه يكون على نحو العبادة، ولغيره على وجه التكريم والتحية، ومنه سجود الملائكة لآدم وسجود يعقوب وأهله ليوسف، فقد كان ذلك هو التعبير عن التحية للملوك، وذلك في قوله تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ} [يوسف:100]. وهو عام في الإنسان والحيوان والجمادات، كما جاء في القرآن الكريم، وذلك نوعان:
أ ـ سجود باختيار، وهو من خصوصيات الإنسان الذي يستحق به الثواب ويقترب به من مواقع القرب للّه.
ب ـ سجود التسخير، وهو للإنسان والحيوان والنبات والجماد، وعلى ذلك قوله تعالى: { وَللّه يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَـواتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهً} [الرعد:15].
} إِبْلِيسَ} : اسم أعجمي معرّب، واستدلوا على ذلك بامتناع صرفه، وذهب آخرون إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس الذي هو الحزن المعترض من شدّة اليأس، قال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:12]. والمقصود بـ «إبليس» المخلوق الغيبي الذي يمثّل رمز الشرّ، وهو من الجنّ، التحق بالملائكة حتى أصبح معدوداً منهم لشدّة عبادته ـ كما يُقال ـ وقد جاء الحديث عنه بذلك في قوله تعالى: { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]. وتحدّث القرآن، تحت عنوان الشيطان، عن سلطته في إضلال البشر بالوسوسة والتزيين والإيحاء ونحو ذلك، من دون أن يكون له القدرة المطلقة على التدخل في قدرتهم الذاتية وشلّ إرادتهم المتحركة في اتجاه الخير.
{ أَبَى{ : الإباء شدّة الامتناع، فكلّ إباء امتناع، وليس كلّ امتناع إباء، ومنه: رجل أبيّ: ممتنع عن تحمّل الضيم.
{ وَاسْتَكْبَرَ} : الاستكبار: إظهار الإنسان من نفسه ما ليس له من خلال تكبره وإعجابه بنفسه، والكبر، حالة الإعجاب ورؤية نفسه أكبر من غيره في صورة انتفاخ الشخصية، والتكبر على اللّه إنما هو بالامتناع من قبول الحقّ ومن الإذعان له بعبادته.
* * *
إبليس يأبى ويستكبر:
هذا هو الموقف الثاني الذي أراد اللّه فيه أن يكرِّم هذا المخلوق الجديد، ليظهر قيمته وفضله، فأمر الملائكة بالسجود له إعظاماً وتحية وتكرمة، وكان إبليس يعيش في أجواء الملائكة حتى كاد أن يحسب منهم، كما يوحي به الاستثناء الذي هو من قسم الاستثناء المنقطع الذي يعتبر فيه المستثنى من لواحق المستثنى منه وإن كان خارجاً عنه.
وانسجم الملائكة مع هذا الأمر الإلهي لأنهم عباده المكرمون الذين { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}أمّا إبليس، فإنَّ الأمر يختلف لديه، لأنه لا يعيش هذا الجوّ الروحي إزاء أوامر اللّه ونواهيه، بل القضية عنده هي ما إذا كانت الطاعة للّه منسجمة مع ذاتيته ونظرته إلى نفسه، أو غير منسجمة. وكان السجود لآدم لا يرضي غروره الذاتي وشعوره بالاستعلاء أمام هذا المخلوق الجديد، على أساس عنصري، كما توحي به الآيات القرآنية الأخرى التي تحدّثت عن القصة بإسهاب، فما كان منه إلاَّ أن تمرّد وأبى واستكبر وامتنع عن الطاعة.
* * *
كفر إبليس:
] وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ[ الذين لم يكفروا باللّه مباشرة، ولكنَّهم يعيشون روحية الكفر وممارسته في التمرّد على اللّه، ما يجعل حياتهم تجسيداً للكفر بكلّ مظاهره ونتائجه. ونجد في القرآن الكثير من الآيات التي تتحدّث عن الكفر العملي بالقوّة نفسها التي تتحدّث فيها عن الكفر العقيدي، باعتبار أنهما يلتقيان في النتيجة الطبيعية، وهي التمرّد على اللّه والبُعد عن الخطّ المستقيم الذي أراد اللّه للحياة أن تسير فيه. ونحن نفهم من الآيات التي تربط العمل الصالح بالإيمان، أنَّ خطورة الكفر لا تقتصر على ما تمثّله من إنكار للّه ولرسله واليوم الآخر، بل تكمن في الانطلاق بعيداً عن عبادة اللّه وإرادته في بناء الحياة على أساس شريعته. وهذا ما نستقربه في اعتبار إبليس كافراً. وقد سار بعض المفسّرين في اتجاهات أخرى لا تثبت أمام النقد العلمي؛ فقد جاء في مجمع البيان للطبرسي:
أمّا قوله تعالى: { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قيل: معناه كان كافراً في الأصل، وهذا القول لا يوافق مذهبنا في الموافاة، وقيل: أراد كان في علم اللّه تعالى من الكافرين، وقيل: معناه صار من الكافرين كقوله تعالى: { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] واستدل بعضهم بهذه الآية على أنَّ أفعال الجوارح من الإيمان فقال: لو لم يكن كذلك لوجب أن يكون إبليس مؤمناً بما معه من المعرفة باللّه تعالى وإن فسق بإبائه، وهذا ضعيف، لأنّا إذا علمنا كفره بالإجماع علمنا أنه لم يكن معه إيمان أصلاً، كما أنّا إذا رأينا من يسجد للصنم علمنا أنه كافر وإن كان نفس السجود ليس بكفر. ثُمَّ قال صاحب المجمع: فإن قيل: لم حكم اللّه بكفره مع أنَّ من ترك السجود الآن لا يكفر؟ قلنا: لأنه جمع إلى ترك السجود خصالاً من الكفر، منها أنه اعتقد أنَّ اللّه تعالى أمره بالقبيح ولم ير أمره بالسجود حكمة، ومنها أنه امتنع من السجود تكبراً وردّاً على اللّه تعالى أمره، ومن تركه الآن كذلك يكفر أيضاً، ومنها أنه استخف بنبيّ اللّه وازدراه وهذا لا يصدر إلاَّ من معتقد الكفر..[1].
ولكنَّنا نلاحظ في هذا المجال، أنَّ هذه الآية، وغيرها من الآيات، لا تدل إلاَّ على نقطة واحدة في سبب العصيان، وهي طبيعة الاستكبار التي كان يشعر بها إبليس تجاه آدم من ناحية العنصر، كما ورد في قوله تعالى: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12] وفي قوله تعالى: { أَرَأيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَني إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيل} [الإسراء:62] ما يعطينا الفكرة التي تظلّ في هذا النطاق المحدود الذي يمثّل المعصية التي لم تتجمد في إطار ذاته، بل امتدت لتتحوّل إلى عملية إغواء لذرية آدم في كلّ مجالات العقيدة من ناحية الفكر ومن ناحية العمل. وفي ضوء ذلك، لا نجد أية ضرورة لهذا التكلّف الذي يريد أن يربط هذا التمرّد بالمعنى المصطلح للكفر، وإلاَّ أمكن أن نرجع الكثير من أعمال العباد وخطاياهم إلى الكفر.
وقد نجد في القرآن الكريم أنه قد يعيش في بعض حالاته النفسية حالة الخوف من اللّه سبحانه كما في قوله تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللّه رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
ولكن ذلك لم يمنع الحديث عنه بعنوان الكفر في الآية التالية: { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:17] وربما كان ذلك من خلال العناصر الذاتية الخفية الكامنة في نفسه التي تأبى على اللّه أن يأمر بما أمر به بما يلتقي بالكفر العقيدي في لوازمه الفكرية.
وقد لا يكون لهذا النوع من الحديث أيّ أثر عملي في مجال العقيدة والعمل، فإنَّ هذا المخلوق هو سرّ الكفر والفسق في الحياة في ما يزينه لبني آدم من أساليب الضلال والانحراف عن اللّه وشريعته، ولكنَّنا نريد أن نخلص منه إلى فكرة تفسيرية وهي ملاحظة مصطلح الكفر في القرآن من خلال المعنى الحقيقي الذي يتحرّك في إطار العقيدة، ومن خلال المعنى المجازي الذي يتحرّك في نطاق العمل. وربما كانت هذه الآية ـ في ما نظنّ ـ من مصاديق المعنى الثاني، واللّه العالم.
* * *
خرافة مأساة إبليس:
وقد حاول بعض المتفلسفين تصوير إبليس في قضية إيمانه بصورة المأساة، فصوروه بصورة الموحد الخالص في توحيده، المؤمن العميق في إيمانه، لأنه رفض السجود لآدم انطلاقاً من رغبته في توحيده العبادة للّه، فلا يريد أن يشرك أحداً في السجود له وإن كان ذلك بأمر من اللّه، فهو مستعد لتقبّل عذاب اللّه في سبيل الإخلاص لمحبته له وإيمانه به. ولكن القضية التي حاولوا تبيانها، لا ترتكز على أيّ أساس منطقي أو ديني، لأمرين:
الأول: إن فكرة إبليس كموجود حي ليست من الأفكار التي تخضع للحس لتدخل في نطاق التجربة لنملك أمر التصرّف في تفاصيلها من خلال تجاربنا الذاتية، بل هي من الغيب الذي عرّفنا اللّه إياه، في ما عرّفه لأنبيائه من أمور الغيب. وفي هذا الإطار، لا بُدَّ لنا من أن نأخذ ملامحها وتفاصيلها من النصوص الدينية في ما أوحاه اللّه من الكتب السَّماوية، وقد رأينا في هذه الآية ـ التي نحن بصددها ـ أنَّ امتناع إبليس عن السجود لآدم كان بفعل الكبرياء، لا بفعل التوحيد والمحبة للّه، وسنجد في شخصيته في ما يأتي من حديث إبليس في القرآن، صفة الحاقد الذي يدفعه حقده إلى أن يمارس كلّ ما يستطيع من الأعمال الشريرة في سبيل تحطيم هذا الكائن في ذاته وفي ذريته كسبيل من سبل التنفيس عن حقده المكبوت في أعماقه، ولذا فإنه يطلب الخلود من أجل تحقيق هذه الغاية الشريرة في نفسه.
وإذا كانت الصورة القرآنية هي هذه، فمن أين تأتي لنا صورة الموحّد للّه الفاني في ذاته الذي يريد أن يحرق نفسه من أجل الاحتفاظ بصفاء حبه وإيمانه؟!
إننا لا نستطيع أن نضع ذلك إلاَّ في أجواء الخيالات الشعرية التي تعيش في آفاق الشعراء الحالمين الذين يحاولون أن يمنحوا جوّ المأساة للمجرمين انطلاقاً من الاستغراق الذاتي في مشاعر المجرم أمام مصيره، بعيداً عن دوافع الجريمة ونتائجها الشريرة في تأثيرها على البلاد والعباد، تماماً كالكثيرين الذين يشجبون قانون القصاص للقاتل على أساس المشاعر العاطفية الساذجة بعيداً عن التخطيط الواعي للتشريع في حياة الإنسان.
وقد نجد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع) بعضاً من الملامح التفصيلية للصورة، ولكن في اتجاه آخر.
فقد ورد في البحار عن قصص الأنبياء، عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا ربّ وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال اللّه جلّ جلاله: إني أحبّ أن أطاع من حيث أريد[2].
فقد نلمح في هذا الحديث بعضاً من ملامح الفكرة التي نقلناها، ولكنَّها لا تسير في الاتجاه الذي يحاوله هذا البعض، بل تسير في جوّ المساومة الساذج الذي يريد إبليس من خلالها أن يرضي كبرياءه بالامتناع عن السجود لآدم، وذلك بالطلب إلى اللّه أن يقبل تعويضاً عنه بعبادة لم يعبده مثلها أحد. ولكن الجواب يضع القضية في إطارها الصحيح، لأنَّ موضوع عبادة اللّه ليس عملية شكلية تتمثّل في أوضاع معينة من أعمال الإنسان، بل هي الخضوع له في كلّ ما يريده بالطريقة التي يريدها بعيداً عن كلّ نوازع النفس ودوافعها الذاتية. ولعلّ من أوضح مظاهر ذلك أن يكبت الإنسان رغباته الشخصية أمام إرادة اللّه.
الأمر الثاني: إنَّ قضية السجود لا تمثّل شكلاً من أشكال عبادة آدم ليتعارض مع الإيمان باللّه وتوحيد عبادته، وكيف يأمر اللّه عباده بالإشراك به، وهو الذي { لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ، ولكنَّها تحيةٌ وتكرمة لآدم من جهة، كما حدث من يعقوب وأهله عند مقابلته لولده يوسف في ما حدّثنا اللّه عنه في قوله تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ} [يوسف:100]، وهي من جهة أخرى طاعة للّه في امتثال أوامره، وفي تعظيم خلقه، كمظهر من مظاهر عظمته.
وهناك نقطة أساسية في هذا المجال، وهي أنَّ اعتبار أيِّ عمل من أعمال الإنسان عبادة لأيّ شخص، يخضع للنية الدافعة له نحو العمل، فإذا كان السجود خضوعاً للإنسان أو للصنم، كان ذلك عبادة لهما، أمّا إذا كان خضوعاً للّه كما إذا كان بأمره له ـ تعالى ـ فهو عبادة للّه وإن كان موجهاً للإنسان أو لشيء آخر، وبهذا لا يعتبر تقبيل الحجر الأسود عبادة له، لأنَّ ذلك لا يتصل بالعظمة الذاتية للحجر، بل بالأمر الإلهي الذي اعتبره رمزاً من رموز القداسة وشعيرة من شعائر العبادة.. إنه أسلوب من أساليب عبادة اللّه التي شرع لنا فيها شعائر العبادة التي لا نملك أمر تغييرها، ولكنَّها مهما اختلفت، فهي موجّهة إليه وحده. وقد أكدت هذا المعنى بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع).
فقد ورد في تحف العقول عن الصادق (ع) قال: «إنَّ السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة للّه ومحبة منهم لآدم»[3].
وفي قصص الأنبياء عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه جعفر الصادق (ع): سجدت الملائكة ووضعوا جباههم على الأرض قال: «نعم، تكرمة من اللّه تعالى»[4].
وفي حديث الاحتجاج عن الإمام عليّ (ع) «في ضمن حوار أهل اليهود»: أنَّ سجودهم لم يكن سجود طاعة أنهم عبدوا آدم من دون اللّه عزَّ وجلّ ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة ورحمةً من اللّه له[5].
* * *
الملائكة تسجد لآدم تكريماً له:
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} هذا المخلوق الجديد الذي هو قبضة من الطين وإبداع من القدرة، ونفخة من روح اللّه، في ميزاته الإنسانية؛ في عقله الذي يتسع لكلّ حقائق العقيدة والحياة، وإرادته التي تمثّل العزيمة القوية في حركة القوّة الروحية في وجوده، وحرية حركته في جميع مجالات الكون الموضوعة تحت قدرته، وفي حيوية إحساسه بالمسؤولية الشاملة لكلّ مواقع الخلافة عن اللّه في الأرض في إدارة شؤونها، وترتيب أوضاعها، وتنظيم حركتها، وتوجيهها في الخطّ الذي يرضاه اللّه للحياة في داخل النظام الكوني.
وفي ضوء ذلك، كانت عظمة خلقه لوناً من ألوان الدلالة على عظمة اللّه في إبداع مثله، ما يفرض التحية له والتكريم لوجوده، والخضوع للّه على عظمة قدرته في خلقه، الأمر الذي يجعل السجود له شأناً من شؤون العبادة للّه والتقدير لإبداعه في الخلق، والتحية للمخلوق الحي الفاعل الذي يشارك الملائكة المهمات الموكولة للعباد في إدارة النظام الكوني. { فَسَجَدُو} خضوعاً، وإذعاناً للأمر الإلهي، وتحية لهذا الخلق الذي أكرمه اللّه بخلافته وكرّمه بنعمه، { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} أن يسجد، { وَاسْتَكْبَرَ} انطلاقاً من العقدة المستعلية في داخل ذاته في إحساسه المرضيّ بالتفوّق العنصري لانتمائه إلى النّار أمام انتماء آدم إلى التراب، حيث تستطيع النّار أن تحرق التراب.
* * *
المستكبرون ومشكلة تضخّم الذات:
وهذه مشكلة المستكبرين الذين يستغرقون في جانب من جوانب الذات، ويغفلون عن الجوانب الأخرى المتصلة بالعناصر الحيّة الفاعلة في الشخصية المنفتحة على الآفاق الواسعة في الحياة في أفكارها وحركيتها وفاعليتها، من دون اعتبار للمادة في ماديتها الذاتية التي لا تمثّل إلاَّ أداة من أدوات الحركة الوجودية في الشكل، لتكون الروح هي العنصر الذي يمنح الذات امتداداً في البعد العملي وعمقاً في المضمون الفكري والروحي للدور الإنساني في الحياة، فلم يدخل الشيطان في المقارنة بينه وبين الإنسان في الجوانب الأخرى، بل استغرق في المسألة المادية، فابتعد عن وعي الخصائص الأخرى التي قد يتفوّق فيها هذا المخلوق عليه ليتواضع أمامه من خلالها، وهكذا سقط من الأعالي ليهوي في الحضيض الأسفل في وحول الاستكبار الذي يتغذى من قذارات العناصر الشريرة في الذات.
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الذين ابتعدوا عن اللّه، واعترضوا على حكمته، وتمرّدوا على أوامره، فكانوا سواءً مع الذين أنكروا وجوده في النتائج العملية الحاسمة في الموقف والموقع.
(1) مجمع البيان، ج:10، ص:105 ـ 106.
(2) البحار، م:1، ج:2، ص:509، باب:32، رواية:5.
(3) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:1، ص:126.
(4) م.ن، ج:1، ص:126.
(5) م.ن، ج:1، ص:126.