تفسير القرآن
من الآية 35 الى الآية 39
الآيــات
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجنّة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (35ـ39).
* * *
معاني المفردات:
{ رَغَدً} : يُقال: عيش رغد ورغيد: طيب واسع.
{ الْظَّالِمِينَ} : الظلم: أصله انتقاص الحقّ. قال اللّه تعالى: { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئً} [الكهف:33] أي: لم تنقص، وقيل: أصله وضع الشيء في غير موضعه من قولهم: مَنْ أشبه أباه فما ظلم، أي: فما وضع الشيء في غير موضعه، وهو ضدّ الإنصاف والعدل.
{ فَتَابَ} : التوب: ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإنَّ المعتذر يعترف بإساءته ويعلن إقلاعه عنها، والتوبة في الشرع ترك المذنب الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شروط التوبة.
{ خَوْفٌ} : الخوف: توقّع المكروه من أمارة مظنونة أو معلومةٍ، ويضادّ الخوف الأمن.
{ يَحْزَنُونَ} : الحزن: هو خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، ولهذا كان الخوف من أمر مستقبلي، والحزن على أمر قد مضى.
{ خَالِدُونَ} : الخلود: هو تبرّؤ الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وأصل المخلد: الذي يبقى مدّة طويلة ثُمَّ استعير للمبقى دائماً. والخلود في الجنّة: بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الفساد عليها.
* * *
آدم في الاختبار:
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} أي: امرأتك، والزوج يطلق على الذكر والأنثى، { الْجنّة} ، والظاهر أنَّ المراد بها جنّة الخلد، لأنَّ الألف واللام للتعريف وقد صارا كالعلم عليها، وهناك من قال بأنها جنّة من جنّات السَّماء غير جنّة الخلد، لأنَّ جنّة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها، وقال أبو مسلم: هي جنّة من جنان الدنيا في الأرض، وقال: إنَّ قوله: { اهْبِطُواْ مِنْهَ} ، لا يقتضي كونها في السَّماء، لأنه مثل قوله: { اهْبِطُواْ مِصْرً} [1]. وهذان القولان لا يرتكزان على قاعدة ثابتة، لأنَّ الأساس فيهما هو امتناع أن تكون هي الجنّة الموعودة، باعتبار أنها التي لا يخرج منها الداخل فيها، ولكن لا دليل على ذلك، لأنَّ هذا شأن الذي يدخل الجنّة بعد انقضاء مدّة العمل في الدنيا وبعثه بعد الموت في الآخرة، وليس مثل مسألة آدم الذي أدخله اللّه الجنّة ليعيش التجربة الصعبة فيها، وليتعرف قيمتها في خطّ العمل، ليعمل لها في المستقبل، ولتكون هدف أولاده من بعده في السعي الحثيث إليها من خلال الإيمان والعمل، وربما نستوحي ذلك من قوله تعالى: { يَا بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجنّة} [الأعراف:27]، فقد يكون المراد هو التحذير من فتنة الشيطان لبني آدم حتى لا يبعدهم عن الجنّة كما أبعد أبويهم عنها.
وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه سئل عن جنّة آدم فقال: «كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً»[2]. فإذا صحَّ هذا الحديث كان هو الحجّة على المدّعى.
{ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَ} في عيش هنيّ طيب واسع لا نفاد له ولا عناء فيه، فليست هناك شجرة محرّمة في كلّ أشجار الجنّة، وليس هناك موقع ممنوع عنكم فيها.
{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ} أي: لا تأكلا منها ـ على سبيل الكناية ـ باعتبار أنَّ المطلوب بالقرب منها، هو الأكل من ثمرها، تماماً كما يأكلان من بقية أشجار الجنّة، فكأنه قال: كُلا منها رغداً إلاَّ من هذه الشجرة. وفي التعبير عن الأكل بالقرب منها مبالغة في التحذير. واختلف المفسّرون في نوع هذه الشجرة، بين المعنى المادي للكلمة وهو السنبلة والكرمة والكافور ونحو ذلك، وبين المدلول المعنوي لها وهو: أنَّ المراد بها شجرة العلم؛ علم الخير والشر على سبيل الاستعارة، ولكن لا دليل على شيء من ذلك بشكل موثق.
{ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} لأنفسكما بذلك، لأنكما أبعدتماها عن موقع السعادة وساحة الخلود.
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَ} أي: أبعدهما عنها، من الزلل بمعنى الخطيئة التي تبعد الإنسان عن الثبات في موقعه، وذلك من خلال وسوسته وإغوائه وخداعه، وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى: { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من الجنّة الخالدة والعيش الرغيد والراحة والهدوء والطمأنينة والفرح الروحي المنفتح على لذّات الجنّة وجمالاتها.
* * *
آدم وإبليس في الأرض:
{ وَقُلْنَا اهْبِطُو} إلى الأرض أنتما وإبليس لعصيانكم اللّه وفشلكم في الاستقامة على خطّ أوامره ونواهيه، { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} بفعل الحرب المفتوحة بينكما وذريتكما وبينه وجنوده، لأنه يستهدف إبعادكم عن رحمة اللّه وعن جنته، بينما تعملون على التمرّد عليه والخروج من سلطته والسعي إلى دخول الجنّة والبُعد عن النّار. { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي مقام ثابت لأنَّ اللّه جعلها قراراً، { وَمَتَاعٌ} تستمتعون فيه في حاجاتكم الوجودية العامة والخاصة، { إِلَى حِينٍ} إلى الأجل الذي جعله اللّه لكم في مدّة العمر التي حدّدها لكم في هذه الدنيا.
وهكذا عرف آدم ومعه زوجته معنى الشيطان في وسوسته، وقسوة التجربة في نتائجها، وأدرك الهول الكبير الذي يواجهه في البُعد عن رحمة اللّه، وفي الخروج من مواقع القرب إليه، ومقامات الروح في رحابه.
* * *
آدم يتوب إلى اللّه تعالى:
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} ترتفع إلى اللّه من روح خاشعة خاضعة وقلب نابض بالحسرة والندم، ولسان ينطق بالتوبة، وكيانٍ يرتجف بالتوسل، وذلك بالإلهام الإلهي من خلال الفطرة التي توحي بالمعرفة في علاقة النتائج بالمقدمات، وفي طريقة تغيير الموقف من دائرة السلب إلى دائرة الإيجاب، ليكون التحوّل الإنساني في الاعتراف بالذنب والاستسلام للندم، والعزيمة على التصحيح، والرجوع إلى اللّه بالعودة إلى طاعته في ما يكلفه به من مهمّات، وفي ما يرشده إليه من إرشادات، لأنَّ أوامر اللّه الإرشادية تتصل بمحبته لعبده لئلا يقع في قبضة الفساد، كما تتصل أوامره المولوية بحرصه عليه في البقاء في خطّ الاستقامة، وابتعاده عن خطّ الانحراف الذي يؤدي به إلى الزلل ويقوده إلى الهلاك.
ولكن ما هي هذه الكلمات؟
إنَّ الرجوع إلى القصة في سورة الأعراف يوحي بأنَّ آدم الذي انطلق نحو التوبة في عملية تكامل مع حوّاء، وقف معها ليقولا في توبتهما: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، ويبدو من خلال هذه الآية، أنَّ التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض، بعد التوبيخ الإلهي والتذكير لهما بأنَّ سقوطهما في التجربة الصعبة لم يحصل من حالة غفلةٍ لا تعرف الطريق إلى الوعي، بل كان حاصلاً بعد التحذير الإلهي من الأكل من الشجرة، ومن الشيطان، باعتباره عدوّاً لهما، وذلك قوله تعالى: { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجنّة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف:22]. ويؤكد هذا التفسير للكلمات الحديث المرويّ في قوله تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: لا إله إلاَّ أنت سبحانك اللّهم وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، لا إله إلاَّ أنت سبحانك اللّهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلاَّ أنت سبحانك اللّهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وتب عليّ إنَّك أنت التوّاب الرحيم[3].
وهذا ما ينسجم مع الآية في أصل الفكرة ولكنَّه يختلف عنها في التفاصيل.
* * *
وقفة مع صاحب الميزان:
ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا القول، فيردّه بأنَّ التوبة كما تدل عليه الآيات في هذه السورة ـ أعني سورة البقرة ـ وقعت بعد الهبوط إلى الأرض، قال تعالى: { وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} إلى أن قال: { فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} الآيات، وهذه الكلمات تكلّم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنّة كما في سورة الأعراف، قال تعالى: { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} إلى أن قال: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَ} إلى أن قال: { اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف:22ـ24] الآيات، بل الظاهر أنَّ قولهما: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَ} تذلّل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأنَّ الأمر إلى اللّه سبحانه كيف يشاء، بعد الاعتراف بأنَّ له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران[4].
ونلاحظ على ذلك، أنَّ الآيات في سورة الأعراف وطه، تدل على أنَّ التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض، أمّا في الأعراف فإنَّ الظاهر من الآية: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَ} إلى آخر الآية أنها تعبير عن التوبة والندم بقرينة: { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فإنَّ مدلولها، هو طلب الغفران والرحمة من اللّه لإدراكهما النتائج الخاسرة في حالة عدم حصولهما على ذلك، وليست مجرّد تعبير عن التذلل والخضوع للّه، في قبال ندائه وإيكال الأمر إليه، لأنه المالك للأمر كلّه. أمّا في سورة طه، فقد ذكر التوبة بعد العصيان وذلك قوله تعالى: { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجنّة وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وذكر الأمر بالهبوط إلى الأرض ـ بعد ذلك ـ { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيع} [طه:121ـ123].
أمّا آية سورة البقرة، فإنها لا تبتعد عن ذلك إلاَّ من خلال موقع الفاء التي لا مانع من حملها على خلاف الظاهر من الترتيب بقرينة ما جاء في سورة الأعراف وطه، واللّه العالم.
* * *
الكلمات التي تلقّاها آدم (ع):
وهناك تفسير آخر للكلمات؛ فقد جاء في الدر المنثور، للسيوطي، عن النبيّ (ص) قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه، رفع رأسه إلى السَّماء فقال: أسألك بحقّ محمَّد إلاَّ غفرت لي، فأوحى اللّه إليه: ومن محمَّد؟ فقال: تبارك اسمك، لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلاَّ اللّه محمَّد رسول اللّه، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى اللّه إليه: يا آدم إنه آخر النبيّين من ذريتك، ولولا هو ما خلقتك[5].
وقال الكليني في الكافي: وفي رواية أخرى في قوله تعالى: { فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: سأله بحقّ محمَّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ـ كما جاء في الميزان[6].
ولكن صاحب الميزان يرى أنَّ هذا المعنى بعيد عن ظاهر الآيات في بادي النظر، ومع ذلك فإنه يستقربه، لأنَّ «إشباع النظر والتدبّر فيها ربما قرّب ذلك تقريباً، إذ قوله: { فَتَلَقَّى ءَادَمُ} ، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربّه، ففيه علم سابق على التوبة، وقد كان (ع) تعلَّم من ربّه الأسماء كلّها، إذ قال تعالى للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَ} ، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كلّ ظلم ومعصية لا محالة، ودواء كلّ داء وإلاّ لم يتمّ الجواب عمّا أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: { يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} شيئاً ولم يقابلهم بشيء دون أن علَّم آدم الأسماء كلّها، ففيه إصلاح كلّ فاسد، وقد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء، وأنها موجودات عالية مغيَّبة في غيب السَّموات والأرض، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتمّ كمال لمستكمل إلاَّ ببركاتها، وقد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت وأنوارهم حين علم الأسماء، وورد أنه رآها حين أخرج اللّه ذريته من ظهره، وورد أيضاً أنه رآها وهو في الجنّة، فراجع»[7].
* * *
مناقشة السيِّد الطباطبائي:
ولنا ملاحظات:
أولاً: إنَّ حمل القرآن على خلاف ظاهره لا بُدَّ فيه من حجة واضحة تقرّب الفكرة الجديدة إلى الفهم العام، بحيث تتبادر إليه بعد البيان. ولم يثبت سلامة هذه الرِّوايات من حيث التوثيق السندي، بالإضافة إلى معارضتها بالرِّوايات التي تؤكدها آية الأعراف.
وثانياً: إنَّ العلاّمة الطباطبائي ركّز على كلمة التلقي، التي تعني معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ هذه الكلمات من ربّه، ففيه علم سابق على التوبة.
ولكن الكلمة لا تدل على ذلك ـ بحسب الظهور ـ لأنه يكفي في صدق التلقي الإلهام من خلال الفطرة، لأنَّ كلّ شيء لدى الإنسان هو من اللّه، تماماً كما هي الهداية من اللّه، وليس من الضروري أن يكون هناك علم سابق على التوبة، بل قد تكون القضية هي إيحاء اللّه له بأن يتوب ويتراجع ليتوب اللّه عليه، لأنه قد لا يكون عالماً بذلك أو بأساليب التوبة.
هذا مع ملاحظة مهمة، وهي أنَّ الظاهر من الآية أنَّ التلقي كان بعد المعصية، ولم يكن في حال جعل الخلافة لآدم.
وإذا لاحظنا الأحاديث، فإننا نرى أنها تتحدّث عن مبادرة آدم للتوسل بهذه الأسماء من خلال تجربته النفسية، أو ملاحظته الرؤيوية مما رآه مكتوباً في السَّماء، أو مما شاهده من أشباح أهل البيت وأنوارهم.
ثالثاً: إننا ناقشنا ما استفاده صاحب الميزان من كلمة الأسماء أنَّ المقصود بها الموجودات الحيّة العاقلة المغيبة في غيب السَّموات والأرض.
وربَّما كان هناك مجال للجمع بين الرِّوايات بأنَّ آدم دعا ربّه بما جاء في سورة طه متوسلاً بالنبيّ (ص) وأهل البيت (ع).
ومهما كان الأمر، فإنَّ اللّه قد أبهم أمر هذه الكلمات ونكّرها، للإيحاء بأنَّ القضية هي قضية لطف اللّه بآدم في توجيهه نحو التوبة وتقريبه إليه، للتدليل على كرامته عنده، بخلاف إبليس الذي سلب اللّه عنه رحمته وأبعده عن مواقع القرب عنده، فلنجمل ما أجمله اللّه، ولنقف في التفاصيل على ما تثبت لنا حجيته، لأنَّ أمر تفسير كلام اللّه من القضايا الكبيرة التي لا مجال للتساهل فيها بالاعتماد على رأي واحد.
* * *
توبة آدم (ع) بين مرحلتين:
] فَتَابَ عَلَيْهِ[ لأنه عرف منه صدق الندم، وإخلاص النية، ووعي الموقف. فآدم (ع) لم يخالف أمر ربّه من موقع التمرّد، بل من حالة ضعف في وعي التجربة الجديدة التي لم يسبق له أن مرّ بها، أو عرف طبيعتها وخلفياتها، حيث كان تفكيره يتحرّك في اتجاه صدق محدّثه الذي أقسم له أنه من الناصحين، فانفتح له قلبه الطاهر الطيب، وضعفت إرادته أمامه، وخيّل إليه أنَّ المسألة ليست مسألة عصيان يستتبع غضب اللّه، بل هي مسألة نصيحة عادية يمكن أن يتجاوز اللّه أمرها في حالة عدم الاستجابة لها، ولا سيما أنَّ مسألة الالتزامات القانونية الشرعية لم تكن واردة في حسابه، لأنها ليست مطروحة في المرحلة التي عاشها، ما جعله لا يعيش الذهنية القانونية في عملية الالتزام بالتعاليم، فكان ينسى العهد بسرعة، ويفقد العزم على الاستجابة له من موقع الضعف الإنساني لديه بالإضافة إلى ضعف التجربة في حياته.
وهكذا أدخله اللّه في التجربة التي سقط فيها، ليضعه بعد ذلك في خطّ التجربة الأصعب في قضايا المسؤولية في الحياة في خطّ الخلافة، بعد أن اهتزت مشاعره بفعل الصدمة الأولى، فاجتباه إليه واختاره ليكون أول نبيّ في الأرض، بل ربما كانت المسألة تتجه في طبيعتها هذا الاتجاه التربوي الذي يتعرض فيه الإنسان الجديد للخطأ في تجربته الأولى ليعرف كيف يقف مع الصواب. وهكذا كانت التوبة نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى.
* * *
اللّه هو التوّاب الرحيم:
{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} لأنه هو الذي خلق في عباده نقاط ضعفهم التي قد يسقطون معها في الخطيئة، وأراد لهم أن يرجعوا إليه، ليستقيموا في الخطّ الصحيح، وليقبلهم من جديد في ساحة طاعته، وليرحمهم بمغفرته ورضوانه. وأراد اللّه له ولذريته ـ بعد ذلك ـ أن ينطلقوا في المنهج الإلهي الذي يضع الحياة الإنسانية في خطّين: خطّ الهدى وخطّ الضلال. فإنَّ اللّه، سبحانه وتعالى، وضع لهم برنامجاً عملياً في وحيه، بالإضافة إلى البرنامج الذي يوحي به العقل عندهم، ليلتزموا به ويستقيموا على نهجه.
* * *
آدم (ع) في الأرض بين الهداية والضلالة:
{ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعً} والخطاب لآدم وحواء ـ على الظاهر ـ وإن كان يشمل الأمر بالهبوط إبليس أيضاً، ففي الأرض مستقركم وحركتكم ومسؤولياتكم، فليست لكم الحرية في أن تتحرّكوا على مزاجكم في ما تفعلون أو تتركون، لأنَّ عبوديتكم للّه الذي خلقكم تفرض عليكم أن تخضعوا له، وتطيعوه في أوامره ونواهيه، وتسيروا على منهاجه، { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} مما أوحي به إليكم من خلال رسلي في كلّ شؤونكم العامة والخاصة وفي ما يتصل بدوركم في رعاية الحياة من حولكم، { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} وآمن بي وبرسلي وبرسالاتي وباليوم الآخر وعمل صالحاً، فله الدرجة العليا عندي، وله النجاة في الآخرة، وله النعيم الخالد في الجنّة، حيث الأمن والفرح والطمأنينة الروحية، { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إذ من يعش في أمان اللّه، فممّن يخاف؟ ومم يخاف؟ ومن ينفتح على فرح رضوانه، فكيف يحزن، وعلى ماذا يحزن؟!
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا حقائق الإيمان { وَكَذَّبُوا} الرسل وانحرفوا عن خطّ الرسالات، فكذبوا { بِآيَاتِنَآ} الواضحة الجلية التي لا مجال فيها لإنكار منكر، { أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون، لأنَّ اللّه قد أقام عليهم الحجة في توحيده وربوبيته، وأخذ عليهم العهد في الالتزام بالمضمون الحيّ لمعنى العبودية المنطلقة من خلقه لهم، فأنكروا ذلك كلّه، فحقّت عليهم كلمة العذاب في نار جهنم وبئس المصير.
* * *
خلاصات وتساؤلات من وحي قصة الخلق:
هذا هو الفصل الأخير من الفصول التي تحدّث فيها القرآن الكريم عن بداية الخلق، وعن دور الإنسان وقيمته، وكيف أراد اللّه سبحانه أن يظهر قيمة الإنسان وكرامته وأهميته من خلال الحوار بين اللّه والملائكة، ثُمَّ بين الملائكة وآدم الذي قام بدور المعلم لهم في ما تحدّاهم اللّه بأن يعلموه فلم يستطيعوا، ليوضح لهم السرّ في خلقه، ليعرفوا ـ من خلال ذلك ـ أنَّ السلبيات التي تحدث من خلال وجوده وخلافته لا تقابل الإيجابيات الكبيرة جداً التي تكمن في طبيعة هذا الإنسان وفي مؤهلاته الذاتية للخلافة عن اللّه في الأرض.
ثُمَّ ينطلق في الفصل الثاني ليتحدّث عن رمز التقديس للإنسان، في ما أراده اللّه من الملائكة، في سجودهم لآدم، وهم الذين يمثّلون القمة في الروح والقرب من اللّه، فلمّا امتنع إبليس من السجود له، كتعبير عن الكبرياء والاستعلاء، عاقبه اللّه وأخرجه من رحمته.
أمّا في هذا الفصل، فإنَّ القرآن يدخل في تصوير تجربة الإنسان للمسؤولية، وكيف تتدخل نوازع الإغراء الكامنة في طبيعته في سقوطه أمام التجربة أحياناً، وكيف استطاع إبليس أن يستغل ذلك في إزاحته عن الخطّ المستقيم من خلال إغراءاته وتسويلاته. وإننا في هذا السياق التفسيري لسورة البقرة، نريد أن نستوحي الآية من طبيعة القصة، ثُمَّ ندخل ـ بعد ذلك ـ في التفاصيل الفكرية للقضايا التي أثارتها هذه الآيات، وذلك في عدّة نقاط.
* * *
تجربة الإنسان الأولى:
إنَّ اللّه أباح لآدم وحواء أن يسكنا الجنّة، ويستمتعا بكلّ ما فيها من لذائذ من دون حرج ولا تحديد، فلهما أن يأكلا من كلّ أشجار الجنّة حيث يشاءان، ولكنَّه منعهما عن شجرة واحدة كشرط لبقائهما في الجنّة، في ما يوحيه جوّ الآيات: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجنّة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} .
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل تحديد هذه الشجرة؛ هل هي شجرة تفاح، أم هي سنبلة، أم هي شجرة معنوية، كما يحلو للبعض أن يقول أنها شجرة معرفة الخير والشر، لأنَّ ذلك لا يمسّ طبيعة الموضوع، ولا يفيدنا في شيء.
كانت أول تجربة لهما في الوجود، وانسجما مع التجربة ببساطة وعفوية. وكان الشيطان لهما بالمرصاد؛ فقد عرف أنَّ الفكر الذي يملكه الإنسان لا يقوى على مواجهة التحدّيات إلاَّ من خلال التجارب المريرة التي يتعلّم من خلالها أنَّ الحياة لا تتمثّل في وجه واحد، فهناك عدّة وجوه وألوان. ولم تكن لهذين المخلوقَيْن الجديدين أية تجربة سابقة مع الغش والكذب والخداع واللف والدوران؛ كان الصدق، وكانت البراءة في مواجهة الأشياء، وكانت العفوية في تقبّل الكلمات، هي الطابع للشخصية البريئة النقية من كلّ لوث أو شائبة، أو خاطر سوء، والتي لم تصهرها التجارب بعد، ولم تتعرف إلى ما معنى الخير ومعنى الشر، فنظرتها لكلّ ما حولها نظرة تفاؤلية جيّدة، وقد كان هذا كلّه متمثّلاً في كيانهما.
وبدأت العملية من موقع حقده وحسده وعداوته، فمشى إليهما في صورة الملاك الناصح ليقول لهما أنَّ هذا النهي عن الأكل من الشجرة لا يلزمهما، بل سيحصلان من خلال تجاوزه على لذة الخلود والانطلاق في أجواء الملائكة، كما جاء في قوله تعالى: { إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، وبدأت الكلمات الجديدة المغلّفة بغلاف من البراءة والنصح تأخذ مفعولها في نفسيهما، كما جاء في قوله تعالى: { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فهما لم يتصورا أنَّ هناك غشّاً في النوايا، وخداعاً في الأساليب، بل كلّ ما عندهما الصفاء والنقاء والنظر إلى الحياة من وجه واحد، هو الحقيقة بعينها، فاستسلما للكلمات من دون أن يشعرا بأنَّ ذلك يمثّل تمرّداً على اللّه وعصياناً لإرادته، فقد كان لأساليب إبليس، لعنه اللّه، فعل السحر في نفسيهما، تماماً كما هي الأحلام عندما تغرق الإنسان في أجواء روحية لذيذة فتبعده عن واقعه وعن حياته.
وسقطا في أول تجربة، ونجح إبليس في التحدّي الأول للإنسان، فأهبطه من عليائه وأسقطه من مكانته، لئلا يبقى الساقط الوحيد في عملية التمرّد على اللّه. فها هو يشعر بالزهو والرضى، لأنه استطاع أن يهبط بقيمة هذا المخلوق الذي كرّمه اللّه عليه، إلى درك الخطيئة، ليصبح منبوذاً من اللّه. وجاء الأمر من اللّه إليهم؛ آدم وحواء وإبليس، أن يهبطوا جميعاً، وأن يعيشوا في الأرض إلى المدى الذي يريد لهم أن يعيشوا فيه، ويتمتعوا في ما هيأه اللّه لهم من صنوف المتع واللذات، وأن يواجهوا الموقف بين الفريقين ـ فريق الإنسان وفريق الشيطان ـ بروح العداوة التي يشعر معها الإنسان بأنَّ الشيطان لا يخلص له ولا يصفو، لأنَّ مهمته التي نذر نفسه لها هي إغواء الإنسان، وإضلاله، وإبعاده عن رحمة اللّه، ولذا فإنَّ الحياة الجديدة تعتبر بداية الصراع.
ولم يترك اللّه، سبحانه، لإبليس أن يجني ثمرة انتصاره، فأوحى لآدم بالطريقة المثلى التي يستطيع من خلالها أن يتراجع عن خطئه، لتكون أساساً ثابتاً في علاقته باللّه في الحالات التي يشعر معها بالحاجة إلى اللقاء به في عملية رجوع واستغفار. واستجاب آدم لرعاية اللّه له، ورجع إلى ربّه وعاد ـ كما كان ـ إنساناً يسبح في أجواء عفو اللّه ورحمته ورضوانه، ليمارس دوره الجديد في الخلافة عن اللّه من موقع علاقة المخلوق التائب بخالقه الرحيم الغفور { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} .
ولم تكن عملية الهبوط عقوبة لهذا الانحراف عن أوامر اللّه، ولا يُراد منها الإبعاد والإقصاء عن مجال رحمته ـ تعالى ـ، بل هي تخطيط لكون جديد يتحرّك فيه الإنسان على أساس هدى اللّه في ما يوجه إليه من خلال رسالاته، ويمارس على أساسه دوره الطبيعي في خلافته عن اللّه في الأرض.
وتحوّلت الجنّة إلى هدف كبير للإنسان من خلال خطواته العملية في الحياة. فكما ساهمت المعصية الأولى في خروجه منها، فإنَّ الطاعة للّه تساهم في دخوله إليها من جديد، لأنَّ قيمتها تكمن في تمثيلها لرضوان اللّه ولطفه ورحمته، ما يعني ابتعاد المذنبين عنها وقرب المطيعين إليها.
تلك هي الصورة الإجمالية المستوحاة من هذه الآيات الكريمة. وتبقى أمامنا عدّة نقاط فكرية وعملية، لا بُدَّ لنا من الوقوف أمامها وقفة تأمّل وتفكير.
* * *
خطيئة آدم وعلاقتها بعصمة الأنبياء:
إننا نعلم من بعض الآيات القرآنية اعتبار آدم نبياً، وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33]، وقد تقرر لدى جمهور علماء الإمامية أنَّ الأنبياء معصومون قبل النبوّة وبعدها، فكيف يمكن أن نوفق بين ذلك وبين هذه الآيات الدالة على أنَّ هناك عصياناً من آدم وزوجته لأوامر اللّه لهما في الجنّة؟ ويجيب علماؤنا على ذلك، باتجاهات مختلفة:
* * *
المعصية بين المولوية والإرشادية:
أمّا الاتجاه الأول، فيرى أنَّ للمعصية مجالين: المجال القانوني الذي يتحدّد بالتمرّد على التكاليف الصادرة من اللّه بصفته مشرّعاً ومولى بحيث يطلب من المكلّف أن يمتثلها تحت طائلة العقوبة الأخروية أو الجزاء الدنيوي، والمجال الإرشادي الذي يتحدّد بالتمرّد على الأوامر والنواهي الصادرة من اللّه بصفته ناصحاً ومرشداً يوجه الإنسان نحو مصلحته من دون أن يلزمه بالسير على أساسها من ناحية قانونية، تماماً كأوامر الطبيب ونواهيه، فلا يترتب عليها إلاَّ الوقوع في الضرر الذي حذّر منه، أو عدم النفع الذي أريد له أن يحصل عليه. ويعبّر عن النهي في المجال الأول بالنهي المولوي، وفي المجال الثاني، بالنهي الإرشادي. ويقولون: إنَّ العصمة لا تتنافى مع القسم الثاني من النهي، لأنَّ النبيّ لم يتمرّد على اللّه في فعل ما يغضبه، بل كلّ ما هناك أنه أساء إلى نفسه في ما وجهه اللّه إليه من نصيحة وإرشاد. وهذا ما نستوحيه من الآية، حيث الظاهر أنَّ النهي كان إرشادياً، باعتبار أنَّ نتيجته فقدان نعيم الجنّة، وليس التعرّض لعقاب اللّه.. وقد نجد شواهد على ذلك من هذه الآية وغيرها. فنحن نجد النهي هنا واقعاً بعد الحديث معهما عن حريتهما المطلقة في التنعم بنعيم الجنّة في ما يشاءان، ما يوحي بأنَّ القضية تتحرّك في إطار النصيحة. ونجد ذلك في قوله سبحانه: { فَقُلْنَا يا آدَمُ إِنَّ هَـذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجنّة فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} [طه:117ـ119] فنحن نواجه ترغيباً في نِعَمِ الجنّة كأسلوب من أساليب التشجيع على الانسجام مع التوجيه الإلهي، من دون أن تكون هناك ضغوط تشريعية في هذا المجال. فلم تكن القضية هي أن يعذب أو لا يعذب، بل كلّ ما كان هناك هو: هل يبقى في الجنّة أو لا يبقى فيها؟ فلا منافاة في ذلك لفكرة العصمة من قريب أو من بعيد.
وقد يقول قائل: إنَّ كثيراً من ظواهر القرآن لا تؤدي هذه الفكرة، فنحن نلتقي بقوله تعالى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، وبقوله تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وقوله تعالى: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَ} وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} . فنحن نلاحظ أنَّ المعصية ضدّ الطاعة، وأنَّ الغواية ضدّ الرشد، وأنَّ التوبة لا تكون إلاَّ عن ذنب، وأنَّ اعتبار الإنسان ظالماً لنفسه لا يكون إلاَّ من خلال عصيانه للّه، مما كثر التعبير عنه في القرآن الكريم.
ونجيب على ذلك: إنَّ كلمة المعصية لا تختص بالمعصية القانونية المستتبعة للعقاب، فيصحّ لنا أن نطلق على التمرّد على أوامر الطبيب كلمة العصيان، فتقول: عصيت أمر الطبيب، أمّا كلمة الغواية، فإنها ضدّ الرشد كما ذكر، ولكن الرشد قد يكون في جانب المصلحة الدنيوية أو الذاتية، وقد يكون في إطار المصلحة الأخروية. وكذلك كلمة التوبة، فإنها تعبّر عن الرجوع عن الخطأ، سواء كان في ما يتعلّق بالأمور الدنيوية أو الأخروية، فيُقال: تاب فلان عن العمل المضرّ، من دون أن يكون محرّماً في نفسه.
أمّا الظلم، فقد يظلم الإنسان نفسه إذا منعها من الفرص الطيبة التي تجلب لها الراحة الذاتية، وقد يطلق الظلم على تعريضها للعقاب الأخروي. أمّا طلب المغفرة والرحمة، فإنه قد ينطلق من الشعور بالإساءة إلى مقام اللّه في ترك اتباع نصائحه، وبمنافاة ذلك لحقّ العبودية للخالق. هذه هي بعض الأفكار التي أثارها الاتجاه الأول في موضوع عصمة آدم.
* * *
المعصية بين دار التكليف ودار النعيم:
ويثير الاتجاه الثاني الموضوع بطريقة أخرى، وهي أنَّ الجنّة ليست دار التكليف والمسؤولية، بل هي دار النعيم. وقد يُجاب بأنَّ ذلك هو وصف الجنّة بعد الدنيا، فلا نعلم أنَّ ذلك هو شأنها قبل النزول إلى الأرض.
أمّا الاتجاه الثالث، فيرى أن لا مانع من حصول المعصية من الأنبياء قبل النبوّة، ولا سيّما في المعاصي الصغيرة التي لا تسيء إلى مكانتهم، ولا تعتبر لطخة عار في تاريخهم، مما لا ينسجم مع جوّ النبوّة.
* * *
ضرورة التجربة للإعداد:
ويرى الاتجاه الرابع في قصة آدم وضعاً خاصاً لا يرتبط بالأجواء التي تثيرها قضية العصمة كعنصر ذاتي من عناصر النبوّة الهادية، وذلك أنَّ آدم يمثل بداية الإنسان في وجوده، فهو الحلقة الأولى من هذه السلسلة الإنسانية الممتدة في هذا الكون، وهو خليفة اللّه في الأرض ـ بصفته الإنسانية ـ، فكان لا بُدَّ له من أن يعيش التجربة الحيّة في مواجهة الإغراء ليخرج من براءته الذهنية، التي قد توحي له بأنَّ الكون يعيش روح البراءة والصفاء في نصائحه وعلاقاته، لأنَّ مثل هذه البراءة قد تؤدي به إلى الوقوع في قبضة الغش والعداوة، لأنه لا يفهم معنى الغش والعداوة في حركة الحياة. ولذا، فقد كانت هذه القضية أسلوباً تجريبياً تدريبياً، حيث يضعه في مواجهة الواقع، ليتعرف، من خلال تجربته، على طبيعة الضعف في تكوينه، ونوعية الأساليب الملتوية التي يبتدعها الشيطان في الإغواء والإضلال، ليأخذ من ذلك فكرة عملية عن الأسلوب الأفضل للمواجهة الدائمة مع الشيطان، ليكون استعداده الجديد من خلال التجربة الحيّة، لا من خلال الفكرة المجرّدة، وليفهم معنى العداوة في النتائج السيئة التي انتهى إليها في إطاعته للشيطان.
وقد يثور أمامنا هنا سؤال: إننا نعرف في قصة خلق آدم، في حوار اللّه مع الملائكة، أنَّ اللّه قد خلقه للأرض ولم يخلقه ابتداءً ليعيش في الجنّة، فكيف نفسّر هذا الأمر الذي يوحي بأنَّ الجنّة كانت المكان الطبيعي له لولا العصيان؟
والجواب عن ذلك، هو أنَّ هذا الأمر الإلهي كان جزءاً من عملية التدريب الإلهي المرتكزة على فكرة الربط بين الجنّة والطاعة في وعي الإنسان، مع علم اللّه بأنه لن ينجح في الامتحان، فكان تقديره في خلقه للأرض لاشتراط بقاء آدم (ع) في الجنّة بشرط غير متحقق، فلا منافاة بين الأمرين.
وقد نستوضح الصورة في إطار الفكرة الأصولية التي يبحثها علماء الأصول في موضوع صيغة الأمر، وهي أنَّ دوافع الأمر قد تختلف، فقد يكون الدافع له هو إرادة حصول الفعل من المأمور، وقد يكون الدافع هو امتحان إخلاص المأمور وطاعته، أو إظهار قوّة إيمانه وإخلاصه، من دون أن يكون هناك أي غرض يتعلّق بالفعل، كما نلاحظه في أمر اللّه لإبراهيم بذبح ولده، لا لأنَّ اللّه يريد ذلك، ولذلك رفعه قبل حصوله، بل ليظهر عظمة التسليم المطلق للّه في سلوك الأب والابن، ليكونا مثلاً وقدوة للنّاس، وقد يكون الداعي أمراً آخر، وهو تدريب الإنسان على مواجهة حالات السقوط بتعريضه لتلك التجربة لينتبه إلى أمثالها في المستقبل كما في حالة آدم (ع).
ونحن لا نجد أيَّ مانع عقلي في ذلك، بل هو واقع كثيراً في أفعال العقلاء وأساليبهم في الأوامر والنواهي.
ولا مجال للاعتراض هنا بأنَّ اللّه كلّف آدم بما يعلم أنه لا يمتثله من خلال الظروف الموضوعية المحيطة به؛ أوّلاً، لأنَّ العلم بعدم الامتثال لا يمنع من التكليف أساساً باعتبار أنَّ العلم معلول للمعلوم وليس الأمر بالعكس. وثانياً، لأنَّ التكليف لم يستهدف حصول الفعل بل استهدف وعي التجربة المستقبلة من خلال التجربة الحاضرة.
وعلى ضوء هذا، نجد أنَّ الأمر هنا يشبه الأمر في قصة إبراهيم (ع)، ولكن بطريقة متعاكسة في الموضعين.
* * *
مدلول التوبة في حياة الإنسان:
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} لعلّ في هذه الآية بعض الدلالة على أنَّ الموقف كلّه في قضية آدم كان تدريبياً من أجل أن يعي الإنسان في مستقبل حياته كيف تتحرّك الخطيئة في نفسه وكيف تدفعه بعيداً عن اللّه. فقد عالجت هذه الآية قضية التوبة، ووضعتها في نطاق الأشياء المتلقّاة من اللّه، ما يوحي بأنَّ آدم لا يحمل أية فكرة فطرية عنها، فكان الإيحاء والإلهام من اللّه من أجل أن يتعلّم كيف يتراجع عن الخطأ، فلا يستمر عليه. أمّا طبيعة الكلمات، فقد اختلف المفسّرون فيها، ولكن الأقرب إلى الذهن هو ما حدّثنا عنه القرآن في سورة الأعراف في قوله تعالى: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
إنه الشعور العميق بطبيعة الخطأ، وعلاقته بنفس الخاطىء وحياته، وانعكاساته على قضية مصيره، فليست القضية متصلة باللّه باعتبارها شيئاً يسيء إليه أو يمسّ سلطانه، ولكنَّها متصلة بالموقف الإنساني من اللّه بقدر علاقة الإنسان بموقفه من مصلحة نفسه، ما يجعل من بقاء الذنب في موقعه، خسارة كبيرة للإنسان في الدنيا والآخرة، ويكون طلب المغفرة والرحمة منطلقاً من الرفض الكبير للمصير الخاسر. فلا خسارة أعظم من خسارة الإنسان في علاقة القرب باللّه، لأنه يخسر بذلك امتداده الإنساني في الطريق المستقيم.
* * *
خطيئة آدم أمام عقيدة الفداء:
ما هي علاقتنا بخطيئة آدم؟ هل يحمل الإنسان عبء خطيئته، فتتحول إلى هاجس يعيشه في دمه وفي حياته؟ ذلك هو ما يظهر من المسيحية المعروفة الآن التي اعتبرت الخطيئة منذ آدم لازمة لأولاده. ولما كانت الخطيئة تستوجب العقاب، كان لا بُدَّ من مخلِّص طاهر من الذنب، يخلِّص البشرية منه، فيتحمل الآلام والعذاب من أجلها، «وهكذا أظهر اللّه رحمته بتجسد الكلمة الأزلية، فلبس هذا الجسد، وكان يلزم أن يكون هذا الفادي طاهراً قدوساً منزهاً عن النقص حتى يفي للعدل الإلهي حقّه ويخلِّص الخاطئين، فالمسيح يسوع قام بهذا الأمر وقدّم نفسه فداءً عنا، فالعدل الإلهي كان يستوجب عقابنا وموتنا، فمات الفادي عوضاً عنا ووفى للعدل الإلهي حقه».
إننا ـ كمسلمين ـ لا نقرّ هذه الفكرة، أولاً: لأننا لا نرى أي ارتباط بين خطيئة آدم وخطايانا من ناحية ذاتية، بل القضية كلّها هي أنَّ التكوين الإنساني بطبيعته يفسح في المجال لنوازع الخطيئة لأن تبرز وتعبّر عن نفسها بالعصيان. فلآدم أسبابه الطبيعية المستمدة من تجربته في ما عمل، ولنا أسبابنا الطبيعية في ما عملنا وفي ما نعمل، فلا ربط لنا بخطيئته من قريب أو بعيد.
ثانياً: إنَّ التفكير الإسلامي يعتبر الخطيئة حالة طارئة في حياة الإنسان، ويرى أنَّ من الممكن أن تزول بالجهاد النفسي وبالمعاناة والتكفير عنها، كما يمكن أن تزول آثارها ونتائجها الأخروية من العقاب والغضب الإلهي بالندم والتوبة والإنابة إلى اللّه. وهذا ما عبَّر عنه القرآن في قوله تعالى: { قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وبذلك يتحوّل الإنسان إلى صفحة بيضاء ناصعة لا ظلمة فيها ولا سواد، فأية حاجة بعد ذلك إلى المخلِّص، فضلاً عن أن يكون المخلِّص هو اللّه نفسه الذي يتحمّل العذاب الجسدي بتجسّده ليستوفي حقّه وعدله. إنه كلام لا نفهم له أساساً معقولاً من خلال وعينا لعظمة الذات الإلهية واستحالة التجسد فيها من جهة، أو من خلال اعتبار المغفرة موقوفة على استيفاء اللّه لحقّه من نفسه بشكل مادي، مع أنه الجواد الكريم الذي يفيض بجوده وكرمه على جميع خلقه.
ثالثاً: ما معنى أن يتحمّل شخص العذاب والآلام ليفدي بذلك خطايا البشرية القليلة والكثيرة؛ إذ لا نعقل معنًى لاستيفاء الحقّ بذلك. فإنَّ الفكرة الطبيعية المعقولة هي أن يتحمّل الإنسان مسؤولية خطئه، فيجني ثمارها بنفسه، وهذا ما ركّزه القرآن في قوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
وبهذه المناسبة نحبّ أن نشير إلى أنَّ مثل هذه الفكرة ـ وهي فكرة التكفير عن خطايا الآخرين بالآلام التي يتحمّلها شخص معيّن عظيم يقف ليفدي النّاس بذلك ـ قد انتقلت إلى بعض الأساليب الشائعة في عرض قضية الإمام الحسين في ثورته واستشهاده. فإنَّ بعض القارئين للسيرة يحاولون أن يذكروا أنَّ الحسين فدى بنفسه ذنوب شيعته وخطاياهم، ما يقتضي غفران تلك الذنوب بتضحيته، إمّا بشكل مباشر، كما في التفكير المسيحي، أو بشكل غير مباشر، باعتبار أنه يشفع لهم من خلال هذه الشهادة. إننا نحبّ أن نسجل ابتعاد هذه الأساليب عن التفكير الإسلامي، وعن الطابع الإسلامي للثورة الحسينية التي انطلقت من أجل إقامة الحقّ وإزهاق الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعيداً عن أية حالة فداء لذنوب الآخرين، بل هو الفداء والتضحية للحقّ وفي سبيل اللّه.
* * *
وقفة أمام مفردات التفسير:
هذه هي بعض القضايا العامة التي تواجهنا في قضية آدم وخروجه من الجنّة، وتبقى أمامنا بعض اللمحات المتعلّقة بمفردات التفسير.
{ الْجنّة} هل هي الجنّة التي وعد اللّه بها المتقين، أم هي جنّة أخرى من جنان الأرض مشابهة للجنّة الموعودة؟ لا نريد أن نخوض في الجدل الذي وقع فيه المفسّرون، لأنَّ ذلك لا يتصل بالفكرة الأساسية للتفسير، وإن كان الأقرب لجوّ الآيات التي تحدّث فيها القرآن عن الجنّة أن تكون هي نفسها الجنّة الموعودة. وقد يسبق إلى الذهن أنها غيرها، لأنَّ جنّة اللّه تمثّل الطهر كلّه، في التفكير، وفي الممارسة، وفي الجوّ العام، فلا مجال فيها للانحراف، ولا مجال فيها للخطيئة. ولكنَّنا نحسب أنَّ ذلك لا يمنع أن تكون جنّة آدم هي الجنّة، لأنَّ قضية آدم تمثّل تجربة تدريبية في ضمن الجوّ الذي أريد له أن يعيش فيه مع أولاده من خلال العمل الصالح، فلا يتنافى ذلك مع الأجواء العامة الطبيعية التي أرادها اللّه للجنّة كدارٍ للثواب وللنعيم الخالد.
{ اهْبِطُو} : هل هو الهبوط المكاني المادي من السَّماء إلى الأرض، أم هو الهبوط المعنوي في المنزلة والمكانة والنعيم؟ الظاهر من الكلمة هو الجوّ المادي، إلاَّ أن يثبت غيره، ولم يثبت لنا ذلك.
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} : إنَّ هذه التجربة ركزت العداوة وعمّقتها وأوضحت خطوطها الكاملة، فلم يعد هناك أي مجال للالتباس، فعلى الإنسان أن يعي دوره الجديد في الأرض ويتعرف إلى أساليب هذا العدو الجديد الذي أخرجه من الجنّة، وأهبطه إلى الأرض، ويريد ـ من جديد ـ أن يبعده عن الجنّة التي تمثّل رحمة اللّه وغفرانه ليشفي غيظه وعقدته الذاتية من تفضيل اللّه لآدم وتكريمه.
{ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} إنَّ الأرض هي المجال الجديد الذي يتحرّك فيه آدم من موقع التجربة الحيّة التي انطلقت في حياته بما يشبه الصدمة، فهزت أعماقه وفجرت فيها الروح الجديدة الخاشعة للّه، فانطلقت تكتشف الآفاق الرائعة التي يمكن أن تفقدها إذا ابتعدت عن طاعة اللّه، والآفاق التي يمكن أن تحقّق لها الانسجام مع هواه، فكانت التوبة يقظة الروح الخاشعة المنسابة في أجواء العبودية، ليبدأ آدم من خلالها دوره الجديد في خلافته للّه في الأرض، من موقع الوعي والطهارة والشعور العميق بالمسؤولية، والحذر من الألاعيب والملابسات التي يلعب من خلالها إبليس لعبة الإغراء والإغواء التي تهيىء أجواء الخطيئة لتنحرف بالإنسان عن دوره الأصيل، ولم تكن التوبة حالة فريدة في التجربة الأولى لآدم، بل كانت سبيلاً عاماً يلجأ إليه الإنسان لتصحيح نفسه كلّما انحرف عن الطريق واستسلم لإغواء إبليس، ليعيش الانفتاح على أجواء الطهارة في كلّ مجال يحسّ فيه بالحاجة إلى التطهّر.
وقد وصف اللّه تعالى نفسه في هذه الآية بأنه التوّاب الرحيم، ليشعر الإنسان بعمق مبدأ التوبة وامتداده في علاقته باللّه، باعتبار أنها من صفات اللّه المرتبطة برحمته، التي لا تنفصل عن حياة الإنسان، ولذا تحدّث اللّه عنها بصفة المبالغة التي تعني الكثرة. فقد خلق اللّه الإنسان وعرف أنَّ غرائزه قد تثور وتنحرف وتقوده إلى غير ما يرضي اللّه، فأراد أن يفتح للنّاس أبواب الرجوع إليه في كلّ وقت، ليستقيموا على طريقه، ويرجعوا إلى شريعته.
{ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وهنا حدّد اللّه القضية وخطّ السير للإنسان، المتجسّد بالهدى والعمل الذي ينزله على عباده، فهو الذي يحدّد له دوره، وهو الذي يقرر له مصيره. إنه الهدى الذي تتضح فيه الرؤية للبداية والنهاية في خطّ السير؛ الهدى في الفكر، وفي العمل، وفي الوسيلة، وفي الغاية، وفي جميع مجالات الحياة، فلا لبس ولا غموض في ذلك كلّه. إنه النور الذي يغدقه اللّه على روح الإنسان وفكره من خلال ألطافه ومن خلال آياته، لتكون إرادته حرة في الحركة من خلال وضوح الرؤية، فلا تتجمد أمام عوامل الشك والغموض، وليكون المصير الإنساني في الآخرة خاضعاً لإرادة الإنسان واختياره بعد قيام الحجة عليه من عند اللّه، وليشعر الإنسان أولاً وأخيراً بأنَّ الحياة الدنيا تعني مواجهة المسؤولية من خلال الرسالات، وأنَّ الدار الآخرة تعني مواجهة نتائج المسؤولية من خلال العمل.
هذه هي بعض ملامح القضية في ما تتسع له سورة البقرة، وسنعود إلى هذه القصة في السور الأخرى التي تتحدّث عنها إن شاء اللّه.
* * *
خلاصات عملية من هذه الآيات:
أمّا حصيلتنا من هذه الآيات ـ في الخطّ العملي لحياتنا ـ فهي أن نستفيد من تركيز اللّه على عداوة إبليس لآدم، لإثارة عمق الإحساس بالعداوة في حياتنا إزاء إبليس وجنوده، ما يجعلنا نعيش الحذر في الفكرة، وفي الكلمة، وفي الخطوات العملية، وذلك بأن ننفذ إلى أعماق ذلك كلّه في شهواتنا وخلفياتها الذاتية، لأنَّ الدوافع الشريرة قد تختبىء وراء ستار كثيف من الانطباعات السطحية الخفيفة الكامنة في زوايا النفس، وقد تتلوّن ببعض الألوان المحببة إلى النفس في ما تقبله أو ترفضه. ثُمَّ نلتفت إلى ما حولنا من الأشياء التي تثيرنا نحو التحرّك، وإلى من حولنا من النّاس الذين نختلف معهم في جوانب العقيدة والحياة عندما نلتقي بهم في بعض مراحل الطريق، أو نتفق معهم في بعض خطط العمل، لندرس كلّ علاقة فكرية أو عملية، بروح الحذر الذكي الذي لا يتجمّد ليشلَّ في الإنسان جانب الحركة في جوّ الشك، بل يتحرّك ليبحث عن كلّ السلبيات الكامنة في خلفيات الأشياء والنفوس، فقد تكون هناك بعض الأمور السيئة الكامنة خلف واجهات الإغراء.
إنَّ علينا أن نضع أمامنا حقيقة العداوة مع الأعداء، فلا نستسلم لحالات الاسترخاء الطيِّب في نفوسنا للعلاقات الطارئة التي تعيش في جوٍّ حميم، لأنَّ العدو الذي يعيش الإحساس بالفواصل الفكرية والروحية والعملية التي تفصله عنا، لا بُدَّ له من التخطيط الفكري والعملي الذي يشل معه قدراتنا عن التحرّك، ويوحي لنا بالانحراف من حيث لا نريد أو لا نشعر، فنستسلم للسذاجة الطيبة، وللكلمات المعسولة، وللأجواء الحميمة التي يتنامى فيها الشعور بحسن الظنّ، إنَّ علينا أن نستحضر هذا الإحساس بالفواصل الفكرية والشعورية لنخطط لعملية الثبات على الإيمان من خلال الثبات على القواعد الفكرية والعملية، لنحفظ خطواتنا من الزلل، ومشاعرنا من الذوبان، وأفكارنا من الانحراف، ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها أعداء الإسلام، وتتنوّع أساليب الإغراء التي تقتطع من الإسلام قطعة من هنا وقطعة من هناك، لحساب قضية من القضايا غير الإسلامية، ليتجمع النّاس حولها فيحسبوها من الإسلام، وما هي من الإسلام، إن هي إلاَّ الكفر المقنَّع خلف الواجهات الإسلامية.
إنَّ اللّه يريد من الإنسان أن يعيش الوعي العميق الممتد في كلّ خطواته من خلال وعيه لتجاربه في ما حوله وفي من حوله، ليسير إلى غاياته على أساس الرؤية الواضحة، والإرادة الحرة، لينتهي إلى رحاب اللّه من موقع الطاعة الواعية المستقيمة.
(1) انظر: مجمع البيان، ج:1، ص:108.
(2) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج :1، ص:139.
(3) تفسير الميزان، ج:1، ص:148.
(4) م.س، ج:1، ص:150.
(5) السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993م، ـ 1414هـ ، ج:1، ص:142.
(6) تفسير الميزان، ج:1، ص:148.
(7) م.س، ج:1، ص:149.