من الآية 47 الى الآية 48
الآيتــان
] يَا بَنِي إِسْرَائيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ[ (47ـ48).
* * *
تذكير وتحذير لبني إسرائيل:
تبدأ هذه الآيات في جوّ رحيم نابض بالعاطفة، يدعو فيه اللّه بني إسرائيل إلى أن يتذكروا نعمه التي أنعمها عليهم بالرسالات الكبيرة التي جعلتهم في مركز القيادة للنّاس، من خلال الفكرة الممتدة في الكون امتداد الحياة، والروح المنفتحة على مشاعر النّاس وآمالهم وآلامهم، حتى تحسّ به يضمهم في عناق حالم واحتضان لذيذ، ليربط على قلوبهم ويخفف من عبء الحياة وجهدها عنهم، ويسير بهم إلى الجوّ العابق بالطهر النابض بالحنان، المتحرّك بالحقّ والخير والجمال، وذلك في لحظات اللقاء به. وهذا الجوّ الذي تثيره هاتان الآيتان هو ما يجب أن تعيشه القيادة فكراً ومسؤولية وقدوة، ليتمثّل في حياة الآخرين حياة مليئة بالفاعلية والحركة والإيمان، فكان الأنبياء منهم هم قادة النّاس وهداتهم.
ولم تقتصر النعم على ذلك، بل انطلقت إلى حياتهم كلّها لتملأها بالخير والبركة والأمن والطمأنينة والخلاص من كيد الظالمين، من الطغاة والفراعنة، بعيداً عن كلّ ذلٍّ وامتهان.
إنها الدعوة إلى التذكر الواعي المنطلق من دراسة الماضي والحاضر، في واقع النعمة بجميع أشكالها وألوانها وأوضاعها التي جعلت حياتهم منفتحةً على الخير، في كلّ شؤونهم، وعلى الرفعة الاجتماعية في كلّ مظاهرها.
{ يَابَنِي إِسْرَائيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ولا تغفلوا عنها كما يعيش النّاس الغفلة عن الواقع من خلال استغراقهم فيه، فلا يتحسسونه بشكل واع، لتتعرفوا من خلال ذلك الامتيازات الحياتية التي منحكم اللّه إياها، { وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} بالنعمة التي قد تتحوّل إلى تفضيل بالقيمة، إذا أخذتم بأسباب الاستقامة في خطّ اللّه على أساس التقوى.
وفي ضوء ذلك، نفهم أنَّ التفضيل ليس تفضيلاً طبقياً يمنحهم القيمة الذاتية التي يشعرون معها بالعلو على النّاس، بل هو تفضيل النعمة بما أغدقه اللّه عليهم من ألطافه وفيوضاته، ما يستوجب الشكر والطاعة والتقوى. ولعلّ هذا الجوّ الذي يريد القرآن الكريم أن يضع التفضيل فيه في موقع النعمة، هو الذي جعل الآية الثانية تمثّل الدعوة إلى التقوى والخوف من اليوم الآخر، الذي يقف فيه كلّ إنسان أمام عمله ومسؤوليته، ليواجه مصيره بعيداً عن كلّ الامتيازات الطبقية والعائلية، وعن كلّ البدائل التي يمكن أن يفكر بها الإنسان في التخلّص من مسؤوليته... إنه الموقف الذي يحسّ الإنسان فيه بإنسانيته في مسارها الروحي والعملي عندما تلتقي باللّه، ليعرف أنها طريق الخلاص الوحيد.
وربما كان في هذه الآية بعض الإيحاء إلى هؤلاء اليهود الذين عاشوا في زمان النبيّ(ص) ممن وقفوا ضدّ الرسالة، بأنّ عليهم أن ينسجموا مع خطّ الدعوة الجديدة، باعتبارها مظهراً للتقوى والانقياد إلى اللّه، كونها تمثّل إرادته الحقيقية الأخيرة في خطّ الرسالات.
وهذا ما نستوحيه من الآية: { وَاتَّقُواْ يَوْمً} حاسماً في مسألة المصير، وهو يوم القيامة الذي يواجه فيه النّاس حساب المسؤولية عمّا قاموا به في الدنيا، بعيداً عن كلّ الذاتيات الشخصية والعلاقات الاجتماعية ] لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئً} ، لأنَّ القضية لا تتصل بأيّة علاقة شخصية في امتيازاتها الطبقية، مما كان النّاس يتعاملون به في سلوكهم العام والخاص، مثل قيام شخص بإبعاد العقاب عن شخص آخر، بحيث يتخفف من ثقل المسؤولية لقرابته له، أو لعلاقته به؛ { لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]، وموقع خاص يحدّد له حساباته التي لن تتعداه إلى غيره.
* * *
هل في الآخرة شفاعة؟
{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .
قد تستوقفنا هذه الفقرة من الآية الكريمة، لأنها لا تعترف بوجود الشفاعة وتأثيرها في يوم القيامة، ولا ينسجم هذا مع الفكرة الإسلامية المعروفة الثابتة في بعض الآيات الأخرى التي تتحدّث عن إمكانات الشفاعة ضمن شروط معينة، كما في قوله تعالى: ]وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْل} [طه:109] وبعض الأحاديث المأثورة ـ كما في الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول ـ عن النبيّ (ص) وهو قوله: «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»[1]، وما جاء في روايات أصحابنا رضي اللّه عنهم مرفوعاً إلى النبيّ (ص) أنه قال: «إني أشفع يوم القيامة فأشفَّع، ويشفع عليٌّ فيشفَّع، ويشفع أهل بيتي فيشفَّعون، وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه، كلٌّ قد استوجب النّار»[2].
ولكنَّنا نرى ـ في تحليل هذه الفقرة ـ أنَّ الآية لا تواجه القضية من حيث المبدأ، بل تواجهها من ناحية رفض الذهنية البشرية في الدنيا التي يواجه بها الإنسان قضية المصير في الآخرة، من خلال العلاقات الذاتية والتمنيات الشخصية في محاولة التخلّص من نتائج المسؤولية، تماماً كما هي الحال في قضايا النّاس بعضهم مع بعض، عندما تُحلُّ المشكلة بقيام شخص مقام شخص، أو بواسطته، أو بدفع بدل مالي أو غير مالي، ممّا يدخل في حساب التسويات الشخصية التي لا تعتمد على قاعدة عامة، أو تعتبر مبرراً للخروج عن القانون من خلال تدخل أصحاب الشفاعة من الوجهاء والرؤساء.
أمّا قضية الشفاعة كمبدأ، فإنها تبتعد عن هذا الجوّ، لتدخل في جوّ آخر، حيث نلمح في القرآن والسُّنَّة التأكيد على وجود قواعد أساسية تحكمها، من حيث طبيعة الأشخاص والمواقع والقضايا، ما يجعلها لا ترتبط بالعلاقات الذاتية التي تتبع الحبّ الذاتي ـ كما يفهمه العامة من النّاس ـ حيث يحاولون التقرّب إلى الأنبياء والأولياء بالمبادرات الذاتية من النذور وغيرها، كما يتقرّبون إلى الزعماء والوجهاء بالهدايا والمصانعات بالروحية نفسها، من أجل الوصول إلى الشفاعة، مع فارقٍ واحد، وهو الشعور بالقداسة في عالم الأولياء والأنبياء.
ولكن هذا لا يمنع أن يطلب النّاس الشفاعة من الأنبياء والأولياء من موقع الطلب إلى اللّه بأن يجعلهم شفعاء لهم، لقربهم من اللّه الذي منحهم الكرامة وأراد أن يظهر ذلك. ولا يلتقي هذا الاتجاه بمعنى الوساطة التي تقف لتربط بين اللّه وبين عباده على أساس الفكرة التي تقول: إننا لا نقف في المستوى الذي يؤهلنا للاتصال باللّه مباشرة لبُعدنا عن ساحة قُربه وقدسه، فنحاول أن نتوسط لذلك بالاتصال بهم مباشرة ليصلونا باللّه في نهاية المطاف.
إننا نتحفظ حول هذه الفكرة من موقع الأسلوب القرآني الذي يخاطب النّاس بشكل مباشر، ويدعوهم إلى الاتصال باللّه من دون وساطة أحد، كما في الآيات التي توحي للإنسان بأنَّ اللّه قريب إلى النّاس، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد، كما في قوله تعالى: ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
أمّا الأحاديث التي تتحدّث عن الأنبياء أو الأوصياء بأنهم وسطاء بين اللّه وبين خلقه، فالظاهر أنَّ المقصود بها الوساطة في حمل الرسالة وتبليغها إليهم من اللّه لا الوساطة في الاتصال به.
* * *
هل هناك علاقة بين طلب الشفاعة والشرك؟
إنَّ قضية طلب الشفاعة لا تستدعي الكثير من الجهد والجدل الفكري الذي أثاره بعض علماء المسلمين، إذ اعتبروها ذات علاقة بموضوع صفاء العقيدة التوحيدية، لأنها ترتبط بالفكرة التي كانت تحكم المشركين في علاقتهم بالأصنام، حيث برّروا ذلك بقولهم في ما حدثنا اللّه عنهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللّه زُلْفَى} [الزمر:3].
أمّا تعليقنا على ذلك، فهو أنَّ القضية ليست قضية عبادة موجهة إلى الأنبياء أو الأولياء، بل تنطلق من موقع تكريم اللّه لهم بإظهار مكانتهم لديه وقربهم منه، بطريقة منحهم حقّ الشفاعة في حدود ما يعلمون أنه رضًى للّه، فتعود قضية التوسل بهم إلى اللّه تماماً كالتوسل بأسمائه الحسنى، في اعتبارها دعاءً إليه تعالى أن يجعلنا ممن تنالهم تلك الشفاعة، وأن يغفر لنا ببركتهم، فيمن يغفر له على أساس إرادته في ذلك، كما جرت سنّة اللّه أن يغفر لنا بسبب بعض الأعمال، أو بعض المواقف والحالات النفسية.
إنَّ ما ندعو إليه هو أن نلتزم بالتوحيد على أساس المفاهيم القرآنية التوحيدية، وأن نحافظ على صفائه في أجواء الصفاء التي أرادنا اللّه أن نعيشها في الخطوط الفاصلة بين خطّ التوحيد وخطّ الشرك، وأن لا نلجأ إلى العمق الفلسفي في ما نقبله وفي ما نرفضه في هذا المجال، بعيداً عن حدود الشريعة وأحكامها. وربما نعود إلى هذا البحث في ما يستقبلنا من آيات الشفاعة ـ إن شاء اللّه تعالى ـ لنتحدّث هناك عن الجوانب الفلسفية للموضوع.
{ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وهو البدل الذي يقوم مقام المذنب في تحمّل العقوبة، كما هي الحال في الدنيا، إذ قد يقدّم الإنسان شخصاً آخر بدلاً عنه في مواجهة نتائج المسؤولية، بحيث ينجو من آثارها الصعبة. ] وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} من قبل أنصارهم وأصحابهم وأقربائهم، لأنهم لا يملكون شيئاً أمام اللّه.
أمَّا ما نستوحيه من جوّ الآية، فهو الإيحاء بأنَّ على الإنسان أن يتحرّك في حياته من موقع التفكير بأنَّ خلاصه لا يرتبط بأي شيء مما تعارف عليه النّاس من أساليب اللف والدوران من المصانعات والمجاملات والتسويات، بل يرتبط بالخطّ العملي الذي يتحرّك في حدود الشعور بالمسؤولية العملية، في التصوّر الإنساني للموقف الحاسم في يوم القيامة الذي يقف فيه الإنسان ليواجه مصيره من خلال عمله، فلا شيء إلاَّ العمل مع رحمة اللّه؛ مما يدعونا إلى التركيز في خطوات الحياة، على أساس الخطّ العملي المستقيم، وعلى الرجوع الخاشع إلى اللّه، والارتباط الوثيق به في صفاء العقيدة وحيويتها.
(1) البحار، م:3، ج:8، باب:21، ص:451.
(2) مجمع البيان، ج:1، ص:223ـ224.