تفسير القرآن
البقرة / من الآية 49 الى الآية 54

من الآية 49 الى الآية 54

الآيــات

] وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ (49ـ54).

* * *

معاني المفردات:

] يَسُومُونَكُمْ[ : يكلّفونكم ويذيقونكم، وقيل معناه: يديمون عذابكم.

] وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ[ : أي يتركونهن أحياءً للخدمة من غير أن يقتلوهنّ؛ فالاستحياء: طلب الحياة.

] بَلاَءٌ[ : البلاء والنعمة والإحسان نظائر في اللغة، ويستعمل في الخير والشر.

] فَرَقْنَا[ : شققنا.

] وَعَدْنَا[ : واعده مواعدة: عاهده على أن يوافيه في وقت وموضع معينين.

] بَارِئِكُمْ[ : البارىء: الخالق، من برأ يبرأ برءاً، وأصل البرء: انفصال الشي من الشيء، ومنه برأ اللّه الخلق، أي فطرهم كأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود.

* * *

نِعَمٌ تتوالى، وألطافٌ تتحرّك في التاريخ:

] وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ[ .

هذه إحدى النعم التي أنعمها اللّه على بني إسرائيل، فقد كانوا يرزحون تحت حكم الطغيان الفرعوني الذي كان يعمل على إبادة رجالهم بكلّ وسيلة مهما كانت وحشية قاسية، فقد كان يذبح الأولاد الذكور الذين يولدون خوفاً من أن يكونوا قوّة مضادة، ويبقي النساء لحاجته لهنّ في خدمته وخدمة قومه. وقد ذُكر في كلمة «يستحيون» وجهان:

الأول: أنَّها مشتقة من الحياة بمعنى أنهم يطلبون الحياة لهنّ.

الثاني: أنَّها مشتقة من الحياء أو الاستحياء، بمعنى أنَّ الحياء يبعثهم على الإبقاء عليهن بعلاقة المجاز، لأنَّ الاستحياء يمنع الإنسان عن عمل ما يستحي منه عادة.

وهناك أحاديث متعدّدة لا نستطيع الوثوق بها لإمكان أن تكون مستمدةً من بعض رواة اليهود الذين جعلوا من أنفسهم مفسّرين للقصص القرآني، وهو ما نسميه بالإسرائيليات، ولا مانع من أن يكون لها نصيب من الواقع في بعض الحالات... وعلى كلّ حال، فإنها قد تعطينا ظلالاً على الأجواء التي تحدّثنا عنها الآية الكريمة، وذلك ما نحتاجه من القصص القرآني، فإننا لسنا في حديث يربطنا بالتاريخ من خلال التفاصيل، بل نحن في حديث يربطنا بالعبرة الحيّة من خلال التاريخ، وبذلك فلا نخضع للقصص المروية في استيحاء الآيات القرآنية، بل نعمل على أن نعيشها ونحاكمها في الأجواء التي نستوحيها من الآية في قراءتنا لها.

وخلاصة ما ترويه هذه الأحاديث، أنَّ فرعون رأى في منامه أنه سيموت على يد شخص من بني إسرائيل، فأراد أن يعطّل مفعول المنام في المستقبل بإفناء كلّ الذكور منهم وذلك بقتل كلّ وليد ذكر، الأمر الذي أدّى ـ كما تقول القصة ـ إلى أنَّ قومه ضجوا إليه، فقالوا له: يوشك أن نفقد العمال ونكلّف نحن بالعمل، لأنَّ بني إسرائيل كانوا يمثّلون اليد العاملة في ذلك المجتمع، فبادر إلى ذبح أبنائهم سنة وتركهم سنة. وربما كانت قصة ولادة موسى وإلقاء أمه له في البحر دليلاً على صدق بعض هذه التفاصيل في القصة.

وربما كان الأساس في هذا السلوك الفرعوني، خوف الفراعنة من تكاثر هؤلاء المستضعفين من الناحية العددية، وتطوّرهم في قوّتهم النامية، بحيث يتحوّلون إلى خطر يتهدّد ملكهم وجبروتهم؛ الأمر الذي يفسر ذبح الأولاد الذين هم شباب المستقبل القوي ورجاله، بينما لا تمثّل النساء أيّ عنصر قوّة اجتماعي أو اقتصادي أو عسكري، ولا سيما في ذلك الزمان، بل ربما يُحتاج إليهن كقوّة عاملةٍ للخدمة في تقوية ملك الفراعنة.

] وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ[ الذين كانوا يستعبدونكم ويضغطون على حريتكم، فلا يملك أحدٌ منكم أمامهم أي حول أو قوّة، فلا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حماية وجوده، فكانوا ] يَسُومُونَكُمْ[ أي: يذيقونكم ] سُوءَ الْعَذَابِ[أي العذاب السيىء الشديد في وحشيته وقسوته، في استخدامهم لكم في أعمالهم العمرانية والزراعية والخدماتية، وفي فرض الجزية عليكم من دون أساس. ويشتدّ ذلك ويتعاظم في صورة أكثر قسوة ووحشية، فهم ] يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ[ ولا يبقى منكم في المستقبل شباب يملكون القوّة ورجال يعملون من أجل الحرية، كوسيلة من وسائل مصادرة وجودكم القوي في المستقبل، ] وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ[ فيبقونهنّ للخدمة وللّذّة ولغير ذلك. ] وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ[ لأنه يمثّل الموت الجسدي للذكور والموت المعنوي للإناث. وقد نجّاكم اللّه من ذلك كلّه ببركة موسى (ع) الذي جاهد في رسالته جهاد الأبطال من أجل حريتكم، التي هي رمز حرية الإنسان المستضعف.

وقد جاءت هذه الآية لتقول لهم ـ للبقية الباقية منهم ـ في زمن النبيّ محمَّد (ص): إنَّ اللّه قد رفع عنكم هذا البلاء العظيم بفضل موسى (ع) ورسالته، وأنعم عليكم بنعمة الامتداد في الحياة بعيداً عن كلّ طغيان مدمّر وحشي، فلماذا لا تشكرون؟

* * *

ضرورة استحضار اللّه في كلّ شيء:

ويمكن لنا أن نستوحي هذه النعمة في كلّ موقف يقفه أفراد أيّ شعب من الشعوب تحت سلطة الحكم الظالم الذي يقهرهم، ويضطهدهم، ويقتل الأبرياء من أبنائهم، ويستغل خيراتهم وثمراتهم، ويكبت حرياتهم، ويعطّل طاقاتهم عن الحركة والانطلاق، وذلك عندما يرتفع عنهم هذا الكابوس الثقيل بما يصنعه اللّه لهم من الظروف والأوضاع والوسائل الداخلية والخارجية، فلا بُدَّ لهم من الوقوف أمام ذلك موقف المؤمن الواعي الشاكر لنعمة اللّه، عندما يلتفت ـ بعمق ـ إلى ألطاف اللّه وآلائه، في تيسير ذلك كلّه بشكل مباشر، فيواجهون الحياة من موقع إرادة اللّه الأصيلة العميقة في الأشياء، لا من موقع الأسباب الظاهرية فقط، لأنَّ ذلك ما يربطهم باللّه دائماً من خلال الوعي الأعمق والفهم الأرحب، فلا يتصوّرون شيئاً إلاَّ ويرون اللّه معه، ولا يواجهون شيئاً إلاَّ ويرون اللّه خلفه.

* * *

إغراق آل فرعون وإنجاء بني إسرائيل:

] وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ[ .

هذه هي النعمة الثانية التي أنعمها اللّه عليهم، وذلك في صورة المعجزة، فقد خرج موسى ببني إسرائيل ليخلصهم من طغيان فرعون، بعد أن أعيته الوسائل الطبيعية التي حاول من خلالها إقناع فرعون بالسماح لهم بالخروج معه، حتى إذا عرف فرعون بذلك، لحقهم بجنوده ليمنعهم من التقدّم... وهنا كانت المفاجأة الإلهية التي أنقذت الموقف بمعجزة حطمت كبرياء فرعون، كما استطاعت أن تحطم زهوه في معجزة العصا، فشقّ اللّه البحر لموسى وقومه وفتح لهم طريقاً يابساً ـ كما يحدّثنا القرآن في ما نستقبله من آياته ـ وعبروا إلى الجانب الآخر، وأراد فرعون أن يلحقهم في هذا الطريق اليابس نفسه الممتد أمامه بعد عبورهم، فدخلت خيوله البحر فغمره الماء الذي غطّى الطريق، وهم ينظرون إليه في حيرته الذليلة، زيادةً في إذلاله وفي إعزاز المستضعفين الذين انطلقوا في طريق الرسالة والرسول.

إنَّ الموقف قد تحرّك هنا من خلال المعجزة، لأنَّ الوسائل العادية قد استُنفدت، ولم يبقَ هناك من سبيل لإنقاذ الموقف الرسالي إلاَّ ذلك، فلو أنَّ فرعون استطاع أن يدركهم لدمّرهم ودمّر موسى معهم، مما يجعل القضية تمثّل انتصاراً ساحقاً للكفر على الإيمان، وهذا ما لا يريده اللّه في تلك المرحلة التي تحوّلت إلى موقف للتحدّي المباشر له.

] وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ[ أي: فلقناه وجعلنا فيه جسراً تعبرون عليه هرباً من عدوكم، ] فَأَنجَيْنَاكُمْ[ من ظلم فرعون وطغيانه، ] وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ[ الذين خُيّل إليهم أنهم قادرون على ملاحقتكم، من خلال الأرض اليابسة التي جعلها اللّه بقدرته في قلب البحر، فاندفعوا إليه، واندفع الماء إليهم، فغمرهم بعد أن تجاوزتم البحر إلى البرّ، ]وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ[ إليهم، وهم يلاقون جزاء طغيانهم في مصيرهم المحتوم.

وتلك هي قصة المعجزة في كلّ زمانٍ ومكانٍ في مسيرة النبوّات، فهي تأتي لتنقذ الموقف حيث لا مجال للموقف البديل، وهي ليست حدثاً يومياً يأتي بمناسبة وبغير مناسبة، كما قد توحي بذلك بعض الأقاصيص المنقولة في قصص الأنبياء والأئمة والأولياء، فإنَّ اللّه قد أقام الحياة على أساس السنن الطبيعية التي أودعها في الكون، فلا يغيّر سننه الطبيعية إلاَّ لأمر عظيم.

* * *

عفو اللّه عن بني إسرائيل بعد عبادتهم العجل:

] وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ .

هذه هي الحادثة الثالثة التي واجه اللّه بها بني إسرائيل في مجال تعداد ممارساتهم السيئة أمام نعمه عليهم، فقد أراد لهم أن يبدأوا حياةً جديدةً في ظلّ شريعةٍ شاملة تنظّم لهم حياتهم، وترعى لهم شؤونهم وعلاقاتهم، وتفتح لهم أبواب الحياة الواسعة على أساس من الحكمة والمصلحة. وفي هذا الجوّ، استدعى اللّه موسى لميقاته ليُنزِل عليه التوراة في مدى أربعين ليلة؛ وهنا كانت المفارقة ـ المفاجأة، فلم يكد موسى يغيب عنهم حتى نسوا الرسالة والرسول، ونسوا اللّه سبحانه، فعبدوا العجل في قصة طويلة سيذكرها القرآن أكثر من مرة، ولم ينفتحوا على الآفاق الواسعة التي أراد اللّه لهم أن ينفتحوا عليها، لينطلقوا إلى العالم كحَمَلةٍ للرسالة الشاملة، فيكون لهم المركز الكبير في ظلّ هذه الرسالة.

ولكن اللّه لم يعاملهم بظلمهم، بل عفا عنهم ليفسح لهم المجال للتراجع ولتصحيح الفكر والمسيرة، ليهيىء لهم الجوّ الروحي والنفسي الذي يعينهم على الرجوع إليه والشكر له على نعمائه من ناحية عملية.

] وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً[ ليتلقى الوحي الإلهي الذي فيه الهدى للنّاس في كلّ قضاياهم العامة، في مسؤوليتهم اتجاه أنفسهم، واتجاه النّاس من حولهم، واتجاه الحياة المحيطة بهم، بالإضافة إلى مسئوليتهم في عبادة اللّه. ] ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ[ ، فرجعتم إلى السلوك الوثني الذي يعود إلى تاريخكم المنحرف في حياتكم مع فرعون، ما يوحي بأنكم لم تنفتحوا على الرسالة الإلهية التوحيدية من موقع العمق الفكري والروحي والاستقامة العملية، ] وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ[ لأنفسكم من خلال النتائج السلبية للوثنية الجديدة في الدنيا والآخرة. ] ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ[ لتعودوا إلى الخطّ المستقيم واليقظة الروحية في حركة التوبة النفسية والإخلاص العملي، ] لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ اللّه على هذه النعمة التي فتحت لكم الفرصة الجديدة للعودة إلى التوازن في طاعة اللّه ومرضاته.

وإذا كان الخطاب موجهاً لليهود المعاصرين للنبيّ محمَّد (ص) الذين لم يعبدوا العجل، فذلك لاعتبارهم امتداداً لأولئك كفريق واحد يمتد في الحاضر من خلال امتدادات التاريخ، ما يجعل الخصائص التاريخية لأسلافهم بمثابة الخصائص الذاتية لهم.

* * *

إنزال الكتاب والفرقان على موسى:

] وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[ .

يثير اللّه، في هذه الآية، أمام بني إسرائيل مسألة إنزال الكتاب والفرقان كنعمة عظيمة من النعم الكبيرة التي يمنّ اللّه بها عليهم، باعتبار أنه سبيل الهداية إلى الحقّ؛ الأمر الذي يوحي بأنَّ الاهتداء إلى الطريق القويم نعمةٌ عظيمة كبيرة، وأيُّ نعمة أعظم من النعمة التي تفتح للإنسان مجالات الحياة السعيدة الرخيّة المرتكزة على قاعدةٍ ثابتةٍ من المبادىء الحقّة والقيم الكبيرة، وتسيِّره نحو المصير الآمن الذي لا يخاف فيه شيئاً، وتجعله يسير في النور عندما يفكر وعندما يعمل أو يتعاون مع الآخرين.

والظاهر أنَّ كلمة الفرقان، التي تعبِّر عن الفارق بين الحقّ والباطل، تعتبر تفسيراً لكلمة الكتاب، على سبيل العطف التفسيري الذي يُراد به توضيح الصفة العلمية للكتاب.

] وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ[ الذي يفصل بين الحقّ والباطل في مفاهيمه وشرائعه ومناهجه، بحيث يحقّق لكم الثقافة الواعية التي تعرف حدود الأشياء في سلبياتها وإيجابياتها. ] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[ بآياته في إيحاءاتها وأفكارها وخطوطها الواضحة للمسيرة الإنسانية في الحياة.

* * *

التركيز على الجانب المعنوي في الرسالات:

ونستوحي من هذه الآية أنَّ على الدعاة أن يركزوا على طبيعة النعم التي أنعم بها اللّه على الإنسان، فلا يقتصروا على النعم الحسية التي يمارس الإنسان من خلالها شهواته ولذّاته ومطامحه الذاتية، بل يثيروا أمامه النعم التي تتصل بفكره وخطواته العملية ومصيره في الدنيا والآخرة، في ما يتصل بقضايا الحقّ والباطل من القيم الروحية والإنسانية الكبرى، التي ترتفع بمستوى الإنسان الروحي والاجتماعي. وسنجد في الآيات القرآنية المقبلة كثيراً من هذه اللفتات التي تركز على الجانب المعنوي في النعم المعنوية، كما تؤكد الجانب المادي في النعم المادية، ممّا يدخل في طبيعة تكوين الشخصية الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الروحي بالمادي من دون ازدواجية أو انفصال.

ولعلّ القيمة في هذا التوجيه التربوي، هي أنه يمنح الإنسان المسلم شعوراً بالغبطة والسعادة أمام الصعوبات والتحدّيات التي تواجهه في مسيرته نحو إقرار شريعة اللّه في الحياة، باعتبار أنها لا تعني شيئاً أمام نعمة اللّه في التشريع المرتكز على أساس الحقّ والعدل في جميع جوانب الحياة المادية والروحية، ويخلّصه من كثير من سلبيات الطريق الصعبة.

* * *

خطورة التمرّد والموقف الحاسم:

] وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ .

لم يترك موسى القصة من دون عقاب، لأنَّ القضية ليست قضية طارئة بسيطة، بل هي من القضايا التي تهدد المسيرة في مجتمعها الذي يمكن أن يتلاعب به أي إنسان منحرف بفعل بعض الأساليب الشيطانية الخادعة، ما يجعل الجبهة مفتوحة أمام كلّ القوى المضادة في أيّ موقف من مواقف الصراع؛ فأراد أن يثبِّت الموقف بتعميق الإحساس بالذنب في نفوسهم، باعتباره ظلماً للنفس وإساءةً لها بتحويلها من خطّ الإيمان إلى خطّ الكفر، وتعريضها للعقوبة في الدنيا والآخرة، وذلك هو أبشع أنواع الظلم.

وكانت الخطّة ـ في ما توحي به الآية ـ أن يدعوهم إلى التوبة ولكن بطريقةٍ جديدة مُرعبة، وهي أن يقتلوا أنفسهم، إمّا بأن يقتل كلّ واحد نفسه، وإمّا بأن يستسلم بعضهم لبعض، حسب اختلاف فهم المفسرين؛ ويروون في هذا المجال، أنَّ موسى أمرهم بأن يقوموا صفّين ثُمَّ أن يغتسلوا ويلبسوا أكفانهم، وجاء هارون باثني عشر ألفاً ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة لتبدأ عملية القتل، فلما قتلوا سبعين ألفاً تاب اللّه على الباقين وجعل قتل الماضين شهادةً لهم.

وإذا أردنا أن نأخذ بظاهر الآية، ونحمل القتل على معناه اللغوي، فقد يكون السبب في هذه العقوبة الصعبة أنَّ الموقف يمثّل أوَّل تمرّد للقوم على النبوّة، في بداية تحرّكها العملي، من أجل الانتقال من دور الدعوة والتبليغ إلى دور التنظيم والتشريع، والاتجاه إلى بناء الفرد والمجتمع على أساس المفاهيم الدينية الجديدة التي أوحى اللّه بها إلى موسى في صيغة تشريعية متصلة لا تترك أي مجال للفراغ الفكري والعملي، فكان لا بُدَّ من موقف يساوي حجم التمرّد، ليكون ضربةً قوية للطبيعة المتمرّدة التي بدأت تحكم مسيرة الدِّين الجديد في مجتمعه، وليمنع حدوث أيّ تحرّكٍ أو تصرّفٍ من هذا القبيل، لأنَّ الموقف مرتبط بالتوبة، فلا مجال لها إلاَّ بهذا الأسلوب الصعب، إذ إنَّ هناك فرقاً بين خطأ ينطلق من الغفلة والجهل والاندفاع العفوي، وخطأ ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف كلّه وما يترتب عليه، لا سيما مع وجود هارون واحتجاجه عليهم ومواجهته الموقف بكلّ قوّة.

وقد أثار بعض المتكلّمين من المفسرين جدالاً كلامياً فلسفياً حول علاقة هذه العقوبة باللطف الإلهي، ومدى انسجامها مع مفهومه الذي يرتبط بالمستقبل لا بالماضي. ونحن لا نريد الخوض كثيراً في هذا الموضوع، ولا نظنّ وجود مشكلة في أساس القضية، لأنَّ الذي أثاروه يتصل بقضية اللطف في موضوع التكليف الشرعي، الذي يقصد من خلاله دفع المكلّف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، ما يقتضي تسهيل الفعل عليه بالمستوى الذي لا يقع فيه المكلّف في مشقة وحرج غير عادي، أمّا القضية هنا، فإنها تتصل بالعقوبة على المعصية، وهي حقّ اللّه يضعه أين يشاء وكيف يشاء، ونحن لا نعقل فرقاً بين الأمر للقاتل بالاستسلام لوليّ المقتول ليجري عليه القصاص وبين هذا الأمر الموجود في هذه الآية، كما لا نجد فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، فلا استبعاد ولا مخالفة لرحمة اللّه وعدله وحكمته.

وربَّما يلوح للبعض أنَّ القتل هنا لم يرد بمعناه الحقيقي، وهو إزهاق النفس، بل المراد منه قتل شهواتها المحرّمة وصفاتها الذميمة وأوضاعها السيئة، تماماً كما يعبّر بعض المرتاضين الروحيين عنه بإماتة النفس، ويقصد بذلك إماتة كلّ شهوة أو كلّ اندفاع للشهوة المحرّمة فيها، وقد يؤيد ذلك باعتباره أسلوباً من أساليب التوبة التي توحي بالندم على ما مضى والعزم على تصحيح المسيرة في المستقبل، ما يفرض وجود مجالٍ بعد التوبة، وربما يجد هذا البعض في إلحاق صفة الرحيم بالتوَّاب ما يوحي بأنَّ الموقف يتناسب مع الرحمة الإلهية في مفهوم العاصي، مما لا ينسجم مع الأمر بالقتل.

أمّا تعليقنا على ذلك، فهو ما ألمحنا إليه في حديث سابق، وهو أنَّ الخطّ التفسيري الذي نسير عليه، هو العمل بظاهر القرآن في ما توحيه طبيعة الكلمة في معناها الموضوع لها أو في القرائن المحيطة بالكلمة، إلى أن يثبت خلاف ذلك من عقل أو نقل، ونحن لا نجد في ما ذكره هذا البعض دليلاً على إرادة خلاف الظاهر، لأنَّ من الممكن أن تكون التوبة بالاستسلام للقتل نظير القصاص، ولا ضرورة لوجود مجال للحياة في المستقبل، لأنَّ الحدود الشرعية في حالة القتل أو الزنى للمحصن أو غير ذلك تعتبر وسيلةً للتوبة وللتطهير، أمّا موضوع الرحمة، فقد تكون متصلة بقبوله التوبة وعدم إغلاق وسائلها بوجه الإنسان.

* * *

محاورة موسى لقومه حول سلوكهم المنحرف:

] وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ[ وهو يحاورهم حول السلبيات السلوكية الصادرة منهم في انحرافهم العملي، ليثير فيهم الشعور بعقدة الذنب الذي قد يؤدّي بهم إلى القيام بعملية التصحيح والعودة إلى خطّ الاستقامة في خطّ الرسالة في الفكر والعمل ] يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ[ وورطتموها في السير بها إلى مواقع الهلاك الأخروي، وذلك بحركة التمرّد على الخطّ التوحيدي في العبادة للّه ] بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ[ معبوداً بعد أن بيّنت لكم الأسس العقيدية التي يرتكز عليها التوحيد في الالتزامات العملية المتحرّكة في دائرة الالتزام الفكري في توحيد اللّه، وذلك بإخلاص العبادة للّه وعدم الإشراك به في هذا المجال. ] فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ[ أي خالقكم الذي يملك كلّ وجودكم، الذي هو سرّ النعمة الكبرى في إنسانيتكم، ما يفرض عليكم العودة إليه بعد الرحلة الضالة في الابتعاد عنه، فذلك هو الأمر الطبيعي الذي تفرضه طبيعة الأشياء التي تقتضي عودة الإنسان إلى مبدع وجوده، ليحصل على رحمته ويمتد معه في نعمته، وليعبّر بذلك عن شكره وانقياده له، ولا سيما أنَّ الأمر بالتوبة ليس أمراً شخصياً من موسى، بل هو من خلال صفة الرسالة التي تجعل أمره أمراً صادراً من اللّه. وفي التعبير بكلمة: «بارئكم» إشارة إلى عمق الموضوع، للإيحاء بالمعنى الذي يوحي للإنسان بضرورة الانضباط في خطّ التوبة. ] فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ[ كعقوبة حاسمة للواقع الشركي الذي ابتعدتم فيه كثيراً عن الخطّ التوحيدي المستقيم، فتمرّدتُم على اللّه ونسيتم نعمه، ورجعتم إلى الوثنية المتخلّفة التي انطلق كلّ الجهاد ضدّ فرعون من أجل تحريركم منها، لأنَّ القضية في حركة الرسالات التوحيدية، ليست هي في تحرير الإنسان من الوثنية الخارجية المتمثّلة في الحجر أو البشر الذي يعبده النّاس من دون اللّه، بل هي في تحريره من ذهنية الصنمية، بحيث لا يبقى لها جذور في الوعي الفكري للإنسان، فلا يعود إليها عند توفر الظروف الملائمة لها في الواقع الخارجي.

وهذا ما جعل العقوبة على هذا الجرم الكبير قاسية متمثّلة بالإعدام الجماعي الذي يقتل فيه بعضهم بعضاً، بحيث يقتل المذنبون بعضهم البعض أو يقتل الأبرياء المجرمين، فذلك هو السبيل الوحيد في الشريعة آنذاك للتوبة التي تتوخى غفران اللّه لهم وتوبته عليهم. ] ذَلِكُمْ[ أي القتل، الذي هو وسيلة التوبة، ] خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ[ لأنه يحقّق لكم الحصول على رضاه، من خلال دلالته على صدق التوبة في عمق الإحساس بالندم، ويؤدي بالتالي إلى السعادة الكبرى في النجاة من النّار ودخول الجنّة. ] فَتَابَ عَلَيْكُمْ[ بذلك، ] إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ[ على المذنبين التائبين،] الرَّحِيمُ[ بالخاطئين المنيبين.

* * *

هل الأمر بقتل أنفسهم امتحاني؟

جاء في تفسير الميزان: "إنَّ قوله تعالى: ] فَتَابَ عَلَيْكُمْ[ يدل على نزول التوبة وقبولها، وقد وردت الرِّواية أنَّ التوبة نزلت ولمّا يقتل جميع المجرمين منهم. ومن هنا يظهر أنَّ الأمر كان أمراً امتحانياً نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم (ع) وذبح إسماعيل: ] أَن يا إِبْرَهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ[ [الصافات:104ـ105]، فقد ذكر موسى (ع): ] فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ[ وأمضى اللّه سبحانه قوله (ع)، وجعل قتل البعض قتلاً للكلّ وأنزل التوبة بقوله: ] فَتَابَ عَلَيْكُمْ[ [1].

ونلاحظ على هذا الرأي، أنَّ هناك فرقاً بين الأمر الصادر لإبراهيم وإسماعيل الذي لم يكن منطلقاً من إرادة جدية في تحقيق الفعل، بل كان وسيلةً من وسائل إظهار عمق الإسلام الروحي والعملي في موقف إبراهيم وإسماعيل، الأمر الذي لا علاقة له بالفعل بل بمقدماته؛ وبين الأمر الصادر لهؤلاء الذي كان في أقصى درجات الجدية، ولذلك أريد له أن يتحوّل إلى واقع امتثالي، غير أنَّ اللّه سبحانه اكتفى بما حصل من القتل وعفا عن الباقين الذين لم يمتثلوا ذلك، فأسقط التكليف عنهم باعتبار أنَّ المقصود هو التوبة المنطلقة من الإسلام الروحي، المنضمة إلى الفعل، ولا معنى لأن يكون الأمر امتحانياً بالنسبة إلى الباقين الذين لم يقتلوا أنفسهم، لأنَّ الأمر لم يصدر إليهم بخصوصياتهم ليتميّز أمرهم عن أمر غيرهم، ولعلّنا نستفيد من الآية السابقة ] ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ[ أنَّ هناك عفواً عن الجريمة.

* * *

الارتباط اللاواعي:

من خلال هذه الآيات المتقدّمة، نستطيع استيحاء موقف يرى أنَّ قوم موسى لم ينطلقوا معه من موقع الإيمان برسالته والوعي لمفاهيمها التي تفرض عليهم مسؤولية الفكر والحركة، بل كانوا يسيرون معه من موقع الانتماء القومي من جهة، ومن موقع الحاجة إلى التخلّص من ظلم فرعون من جهة أخرى، ولم تكن قضية الإيمان إلاَّ وسيلةً من وسائل تأكيد هاتين الجهتين بعيداً عن كلّ اعتبار للحقيقة في الموقف، ما جعلهم ينحرفون عند أيّ منعطف للانحراف، ويبتعدون عن الجوّ لدى أوّل غياب لموسى (ع) عنهم، لأنهم كانوا خاضعين للتأثير القويّ لشخصيته القوية وإحساسهم بالاعتراف بالجميل؛ وهذا ما يظهر تراجعهم السريع وشعورهم العميق بالذنب عند مواجهتهم لموسى بعد رجوعه من ميقات اللّه.

* * *

مهمة القيادة في دراسة خلفيات القاعدة:

ومما نستوحيه أيضاً من هذه الآيات درساً جديداً للعاملين في سبيل اللّه، وخلاصته: إنَّ على العاملين في سبيل اللّه، سواء أكانوا في موقع الدعوة، أم كانوا في موقع العمل والحركة، أن لا يتأثروا بالمظاهر الانفعالية للإيمان فيمن يتعاونون معهم أو من يتبعونهم، بل عليهم أن يدرسوا بعمق طبيعة العوامل الداخلية والمؤثرات الخلفية التي استطاعت أن تربط هؤلاء بالقيادة أو بالخطّ العملي، أو بالفكرة الشاملة؛ فقد تكون المؤثرات خاضعة لطبيعة القائد في قوته الفكرية، أو جاذبيته الشخصية، أو انتماءاته العائلية والقومية أو الإقليمية... وقد تكون الأسباب متصلةً ببعض الأجواء العاطفية للقضية، أو ببعض ردود الفعل ضدّ حركات معينة، أو قيادات خاصة تقف في الموقف المعاكس لهذه الحركة أو هذه القيادة، ما يجعل من الارتباط بها تنفيساً عن عقدة أو تفجيراً لغيظ. وربما تكون العوامل المؤثرة مرتبطة ببعض المواقف السياسية أو الاجتماعية التي تمثّلها حركة الدعوة إلى اللّه في مسيرتها الطويلة، بحيث يعتبر الارتباط بالدعوة الإسلامية مرحلياً من أجل الوصول إلى الموقف السياسي أو الاجتماعي المحدّد؛ وقد لا تكون القضية نابعةً من ذلك كلّه، بل هي منطلقة من خطّ الإيمان الحقّ بالفكرة والخطّ والهدف، فلا بُدَّ للعاملين من دراسة ذلك كلّه، لتكون مواقفهم مبنية على معرفة عميقة للأرضية التي يقفون عليها، وللمجتمعات التي يتعاملون معها ويتحرّكون فيها، لأنَّ ذلك قد يكلّف العمل وجوده، عندما تختلف حسابات الموقف أمام النماذج القلقة التي تتكشف عنها التجارب في صورة غير منتظرة.

ــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:1، ص:189.