من الآية 57 إلى الآية 61
الآيــات
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللّه وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النبيّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}(57ـ61).
* * *
معاني المفردات:
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} : سخّرناه ليظلّلكم.
{ الْمَنَّ} : أصل المنّ: «الإحسان إلى من لا يستثيبه... فالمنّ الذي كان يسقط على بني إسرائيل هو مما منّ اللّه به عليهم، أي أحسن به إليهم»[1] كما جاء في مجمع البيان.
{ وَالسَّلْوَى} : طائر كالسماني؛ طائر معروف.
{ رَغَدً} : رغد عيشه: طاب واتسع، فهو رَغْدٌ ورَغَدٌ ورَغِيدٌ.
{ حِطَّةٌ} : الحط: النزول والهبوط.
{ رِجْزً} : الرجز هنا العذاب، وأصله الاضطراب.
{ اسْتَسْقَى} : الاستسقاء: طلب الماء.
{ مَّشْرَبَهُمْ} : مكان شربهم.
{ تَعْثَوْ} : العيث والعبث: أشدّ الفساد.
{ وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَ} : القثاء: الخيار؛ والفوم: الثوم أو الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.
{ وَبَآءُوا بِغَضَب} : انصرفوا ورجعوا، ولا يُقال «باء» إلاَّ موصولاً إمّا بخير أو بشرّ.
* * *
نِعَمٌ تتوالى وتمرّد يتجدّد:
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . توحي هذه الآية أنَّ بني إسرائيل كانوا يعانون من حرّ الشمس في الصحراء في رحلتهم الطويلة، فأرسل اللّه إليهم الغمام ليظلّلهم، وأنهم كانوا يشكون من الجوع، فأنزل اللّه عليهم المنّ، الذي قيل بأنه إمّا طعام يسقط على الشجر أو جميع النعم التي منّ اللّه بها عليهم. والسلوى الذي قيل: إنه طائر أبيض يشبه السماني أو هو السماني. ولكنَّهم لم يشكروا، بل ظلّوا على تمرّدهم وظلمهم وبغيهم الذي أساؤوا به إلى أنفسهم، لأنَّ ذلك لا يضر اللّه شيئاً، فهو الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه... وهذا ما أراد أن يثيره القرآن في وعي النّاس في ما يكلّفهم اللّه به من تكاليف في ما يفعلون وفي ما يتركون، ليعرفوا أنَّ الشأن في ذلك كلّه هو هداية الإنسان لما يصلحه وإبعاده عمّا يفسده، ما يجعل من المعصية ظلماً للنفس لا ظلماً للّه.
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} في رحلتكم الطويلة في الصحراء اللاهبة التي تشتد فيها حرارة الشمس، فتثقل مسيرة السائرين وتكلّفهم جهداً كبيراً وعناءً عظيماً وآلاماً شديدة، فكان الغمام الذي يحجب حرارة الشمس ويخفف من تأثيرها، ويستبدل الجوّ الحار المحرق بجوّ ظليل منعش يمنح السائرين الإحساس بالاسترخاء الجسدي من خلال برودة الهواء ووداعة الظلال.
{ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} مما تتغذون به في هذه المسيرة الطويلة، لئلا تواجهوا الجوع القاتل. والتعبير بالإنزال، هنا، يتضمن الإيحاء بالموقع الأعلى الذي يتمثّل في اللّه على عباده الذين هم في المنزلة الدنيا، وليس بالتالي من الضروري أن يكون تعبيراً عن الإنزال المادي وإن كان محتملاً.
{ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فقد هيأ اللّه لكم طيبات الطعام من كلّ الأصناف الشهية مما أحله لكم، ودعاكم إلى التمتع بها، لأنَّ اللّه لا يريد لكم حرمان أنفسكم منها، فليست القيمة في الحياة أن تجوعوا أو تظمأوا أو تلبسوا اللباس الخشن... في ذاتية الجوع والظمأ والخشونة، بل القيمة هي الإرادة الإنسانية القوية الواعية التي يملك الإنسان فيها نفسه في مواقع السلب أو الإيجاب، بحيث لا يكون عبد الطيبات والملذات، بل يكون سيّدها من حيث هو سيِّد نفسه في قوّة إرادته.
{ وَمَا ظَلَمُونَ} في انحرافهم عن خطّ الإيمان والعمل الصالح، بالمعنى الذي توحي به كلمة الظلم من النتائج السيئة التي تصيب المظلوم من تصرفات الظالم، لأنَّ اللّه هو الغني بذاته الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه أو إيمان من آمن به، ولا تضره معصية من عصاه أو كُفر من كَفَر به، { وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنَّ الكفر والانحراف يمثّلان خطّين من الخطوط المنحرفة عن القيمة الكبرى التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة، ما يؤدي إلى الهلاك العاجل والآجل معاً.
* * *
إنزال الرجز على الفاسقين:
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ} والظاهر أنَّ المراد بيت المقدس الذي أريد له أن يكون المستقر الذي تتحرّك فيه الرسالة من موقع القوّة بعد خروج موسى من مصر، باعتبار أنَّ وجود قاعدة الانطلاق في أيّ مشروع رساليّ عام، أمر ضروري في موازين القوى في ساحة الصراع بين الحقّ والباطل في واقع الحياة العامة، { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدً} من خلال القوّة القاهرة التي تملكونها في سيطرتكم على مواقع الجبارين الذين يستضعفون النّاس ويبغون في الأرض بغير الحقّ، لتكون لكم الحرية في الأخذ بما تشاؤون من النعم الموجودة فيها والأكل مما تشتهونه من ثمارها وطيباتها في سعة من العيش الهني.
{ وَادْخُلُواْ الْبَابَ} ، الظاهر أنه باب البلد، { سُجَّدً} شكراً للّه على نعمته في انتصاركم على الجبارين الظالمين الذين يكفرون به ويصدّون عن سبيله كلّ المؤمنين الصالحين؛ { وَقُولُواْ حِطَّةٌ} وابتهلوا إلى اللّه في اعتراف صادق بالتوبة والندم عن كلّ التاريخ الخاطىء الذي عشتموه في خطاياكم، وقولوا ـ في ابتهالاتكم ـ: اللّهم حُطّ عنّا خطايانا، فإنَّ اللّه سوف يستجيب لكم ذلك ويغفر لكم خطيئاتكم، { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} لتتحرروا من ثقل الخطيئة وعقدة الإحساس بالذنب؛ ولن يقتصر اللطف الإلهي على غفران الخطايا، بل يمتد إلى الزيادة لكم في أعماركم وأموالكم جزاءً لإحسانكم؛ { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا القول والعمل، بالإضافة إلى الإحسان في خطّ العقيدة والإيمان.
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُو} أنفسهم بالانحراف عن الخطّ المستقيم { قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فاستبدلوا الدعاء بالحط عن الخطايا، بإعلان الإصرار على التمرّد على اللّه، والتواضع للحقّ بالاستكبار عليه، والاحترام للرسول والرسالة وللرساليين بالسخرية والاستهزاء، { فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّماء} ؛ والظاهر أنَّ المقصود به العذاب، وقيل: إنه الطاعون { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} لأنَّ العذاب، دنيوياً كان أو أخروياً، لا ينطلق من فراغ، بل ينطلق من السبب الواقعي الذي يتمثّل في الفسق العملي في حركة الإنسان على صعيد الانحراف.
وفي هذا إشارة إلى العلاقة الوثيقة بين العمل الشرير المنحرف عن الحقّ، وبين النتائج السيئة التي تطال المنحرفين الأشرار من خلال الرابطة العضوية بين السبب والمسبّب، أو المقدّمة والنتيجة في نطاق السنن الإلهية التي أودعها اللّه في حركة الواقع الطبيعي في نظام الكون.
* * *
استسقاء موسى لقومه:
وطلب موسى الماء لقومه، ولم يكن هناك أثر للماء، وضاق بهم العطش، وتعرّضوا للهلاك، فدعا ربّه أن يسقيهم، واستجاب اللّه لطلبه بمعجزة، وأمره أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، بعدد أسباط بني إسرائيل، حتى لا يختلفوا أو يزدحموا على الماء، فاتّجه كلّ سبطٍ إلى العين المخصصة له، وقيل لهم: لا تسعوا في الأرض فساداً، فإنَّ ذلك هو الشكر العملي للنعمة التي أفاضها اللّه عليكم، ولكنَّهم لا يشكرون.
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} في مسيرة التيه، وأرادوا منه أن يسقيهم الماء في الوقت الذي لم تكن هناك أية بوادر توحي بوجود الماء في المناطق المحيطة بهم، لأنهم شاهدوا في تجربتهم معه أنه يملك الموقع المميّز عند اللّه بالدرجة التي يستطيع أن يطلب فيها من ربِّه الحصول على ما يريده في مهمته الرسالية العامة بطريقة غيبية على أساس المعجزة، كما حدث في عبورهم البحر ونحوه، وهكذا أرادوا له أن يحقّق لهم ما يريدونه بمعجزة؛ واستجاب اللّه نداءه ودعاءه، { فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي حجر كان، فليس المراد به حجراً معيناً، وهذا ما يؤكد المعجزة، باعتبار أنَّ القضية ليست تحديد مكان معين يوجد فيه الماء دون مكان آخر، بل هي خلق الماء من العدم؛ { فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنً} لكلّ جماعة منهم عين معينة في عملية توزيع عادلة تمنع النزاع والاختلاف، وكانوا ـ كما يُقال ـ اثني عشر سبطاً، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر. { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} من خلال التحديد الذي حدّده لهم موسى في قضية توزيع الحصص فيما بينهم. { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللّه} مما رزقكم اللّه من غير جهد وعناء، واشكروا اللّه على ذلك في إصلاح أمركم في الإيمان والقول والفعل، لتوظفوا نعم اللّه الكثيرة في هذا وفي غيره في ما يرضاه اللّه من إصلاح البلاد والعباد، ]وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرْضِ مُفْسِدِينَ} ، لأنَّ اللّه لا يريد للإنسان أن يحرّك طاقاته في الفساد والإفساد في كلّ مجالات الحياة.
* * *
ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل:,
وبدأ الملل يتسرب إليهم، فلم يستريحوا إلى هذه الألطاف التي أغدقها اللّه عليهم في ما يأكلون ويشربون، فاشتاقوا إلى طعامهم المفضل الذي كانوا يأكلونه في مصر، وفقدوا الصبر على هذه الحياة الهنيئة الرخيّة، واعترض عليهم موسى بأنَّ الحياة التي يعيشونها أفضل من الحياة التي فقدوها، لأنها الحياة التي ترتاح في الأجواء الروحية الخالصة، فكيف يستبدلون الذي هو أقل بالذي هو أفضل؟!. واستجيب لهم طلبهم وقيل لهم: { اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} فيها من طعام وشراب. وفقدوا القاعدة التي ترتكز عليها الحياة العزيزة الكريمة، وهي الإيمان باللّه والسير على هداه، وفضّلوا الأشياء المادية الصغيرة على ذلك كلّه، واستسلموا لشهواتهم وملذاتهم، وقادهم ذلك إلى الخضوع للقوى التي تملك سبيل الشهوات والملذات، فباعوا أنفسهم وحياتهم للطغاة والمستبدين، فأذلوهم وقهروهم { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} ، وذلك هو سبيل كلّ المجتمعات التي تعيش لشهواتها وأطماعها، فتستسلم لكلّ القوى التي تؤمّن لها ذلك، ولو على حساب كرامتها وعزتها ومبادئها، ويمتد بها هذا السلوك، حتى تنحرف عن خطّ اللّه المستقيم، فترجع بغضب اللّه وسخطه، لأنَّ ذلك يؤدي بها إلى الكفر بآيات اللّه عناداً وضلالاً، وإلى الوقوف ضدّ رسالاته ورسله، كما فعل بنو إسرائيل الذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويعصون ربهم ويعتدون على النّاس بغير حقّ... وتلك هي النهاية الطبيعية لكلّ شعب يفقد إيمانه ووعيه للقيم الروحية الكبيرة التي تغمر حياته بالقوّة وروحه بالسكينة وتعمر كيانه بالقوّة والحياة.
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَحِدٍ} ويُقال: إنه المنّ والسلوى، باعتبار أنه الطعام الذي لا يتغيّر ولا يتبدل، ما يعطيه معنى الوحدة حتى مع تعدّده، فنحن نريد التنوّع أو العودة إلى طعامنا الذي اعتدنا عليه بالإضافة إلى ما رزقنا اللّه من الطعام، {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَ} وهو كلّ ما اخضرّت به الأرض من البقول والخضروات، { وَقِثَّآئِهَ} وهو الخيار، { وَفُومِهَ} وهو الثوم، { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَ} وهما معروفان. { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى} أقلّ مرتبة في الخصائص والعناصر الشهية مما تطلبونه { بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} وهو المنّ والسلوى، فلا ترتفعون في مزاجكم الغذائي إلى المستوى الأفضل؟ الأمر الذي قد يوحي بالجمود الذاتي في عاداتكم وتقاليدكم الذي يمتد إلى أفكاركم، فلا تتحرّك نحو التطوّر في اكتشاف الجديد في خصائصه، أو الجديد لدى الشعوب الأخرى، الذي قد يتميّز عن القديم المألوف للنّاس، حتى لو كان الجديد طيباً والقديم خبيثاً، بحيث يتعقّد الإنسان من الطيب ويرفضه لمصلحة الخبيث الذي يطلبه، ولكن المسألة مهما كانت طبيعتها في ما تطلبون، فإنَّ هناك فرصة للحصول على ذلك في البلد الذي تتوفر فيه هذه المآكل، لأنَّ الصحراء التي تتيهون فيها لا توفر لكم ذلك.
{ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} من مشتهياتكم. { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} من خلال خضوعهم للأطماع الذاتية، التي تبتعد بهم عن القضايا الكبيرة في مواقع التحدّي والتمرّد على الذات، الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى الضعف النفسي والسقوط الروحي أمام الآخرين الذين يملكون حاجاتهم ويفرضون عليهم سيطرتهم، من خلال نقاط الضعف المتحكمة فيهم الكامنـة في داخل شخصياتهم. { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّه} أي عادوا بحصيلتهم العملية بغضب اللّه عليهم لعصيانهم له وتمرّدهم على رسوله ورسالاته، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه} بعد قيام الحجّة عليهم وإدراكهم للحقّ الصادر من اللّه، { وَيَقْتُلُونَ النبيّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} من خلال العقدة المتأصّلة في نفوسهم ضدّ الحق وأهله، من الرسل الذين جاءوا ليحرروا الإنسان المستعبَد من عبوديته والشخص المستضعف من استضعافه، وليربطوه باللّه الذي خلقـه وأراد له أن يكون عزيزاً حرّاً، وبالقيم الروحية التي أراد اللّه للإنسان أن ينطلق بها في كلّ خطواته في الحياة ليرتفع إلى الدرجات العليا في الروح والفكر والحركة والحياة، ولكن هؤلاء النّاس الذين تعودوا على الخضوع للاستعباد وأهله، لا يريدون الانفتاح على الرسالة الجديدة الحرّة، ولا يحترمون الرسل الذين يحملونها، ولا يملكون في الوقت نفسه مواجهتهم بالحجّة، فيعمدون إلى اضطهادهم وقتلهم لئلا يكونوا شهوداً على الواقع الشرير الذي يتقلبون فيه ويتحرّكون من خلاله. { ذلِكَ بِمَا عَصَو} ربهم وخالفوا أوامره ونواهيه في اتباع الصراط المستقيم، {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي يتجاوزون الحدّ في الظلم والبغي والفساد.
* * *
وقفة استيحاء للآيات:
تستوقفنا في هذه الآيات التي تحدّث اللّه فيها عن النعم التي أغدقها على بني إسرائيل فقابلوها بالجحود والنكران، عدّة نقاط:
* * *
اليهود المعاصرون للنبيّ امتداد لمن سبقهم:
1 ـ إنَّ اللّه يخاطب بهذه الآيات اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي محمَّد (ص)، مع أنَّ هذه القضايا التي أثارتها الآيات حدثت مع القوم الذين كانوا معاصرين لموسى، فكيف يخاطب اللّه بها غير أصحابها؟!
والجواب على ذلك: أنَّ الجماعة التي عاصرت النبيّ محمَّداً (ص) كانت امتداداً لتلك الجماعة في مفاهيمها وقناعاتها وتمرّدها وبغيها، لأنها مارست الأساليب التي مارسها أولئك مع موسى من اللف والدوران وارتباك المواقف. وعلى ضوء هذا، نستفيد الفكرة التالية: إنَّ كلّ فئة من الفئات التي تكون امتداداً لتاريخ معيّن تتبناه وترضى به، تُعتبر شريكةً للفئات التي مارست ذلك التاريخ. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نحاسب أية فئةٍ في مجتمعنا مشدودة إلى أيّ تاريخ انشداداً نفسياً أو فكرياً أو عملياً ونخاطبها تماماً بكلّ السلبيات المتحرّكة فيه، لأنَّ الرضى والانتماء يجعلانها في الموقف نفسه وفي الاتجاه ذاته، ما يجعل الماضي قاعدةً للمستقبل في مركز الوحدة الفكرية والروحية للفكرة وللحركة.
* * *
بنو إسرائيل.. صورة التمرّد المستمر:
2 ـ إنها تعطينا صورة مجملةً عن بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون التمرّد والقلق والطفولة الفكرية التي تقفز من طلب إلى طلب، ومن حاجة إلى حاجة، لأنهم لم يرتكزوا على قاعدة فكرية أو روحية، بل كانوا يتحرّكون بوحي شهواتهم وأطماعهم ونزواتهم، فكانوا يقدّمون الطلبات التي تستجاب لهم حتى على سبيل المعجزة، لإفساح المجال لكلّ نقاط الضعف الكامنة فيهم أن تتحرّك وتظهر لتأخذ مجالها في التوجيه والتربية دون جدوى.
* * *
مواجهة التمرّد بالهدوء والثقة:
3 ـ إنَّ هذه الآيات وغيرها تعطينا فكرة واضحة عن القوّة الرسالية الروحية التي كان يتميّز بها موسى النبيّ (ع)، حينما كان يواجه كلّ مواقف التمرّد والطغيان والدلع والطفولة الفكرية والعملية... برحابة الصدر وهدوء الرسالة الواثقة بنفسها، ككلّ الأنبياء الذين حملوا الرسالة بقوّة وواجهوا كلّ أشكال التمرّد والطغيان بروحٍ واثقةٍ برسالتها، ومنسجمة مع مسؤولياتها في الأسلوب والهدف، لأنهم يشعرون بأنَّ دور الرسول هو أن لا يعيش لمزاجه بل للرسالة، وأن يشعر بأنَّ عليه أن يتابع كلّ إمكانات الهداية ليطرحها في الساحة ويجربها في مجال الدعوة والعمل.
وهذا ما نحتاجه في عملنا الرسالي عندما تواجهنا كلّ مواقف التمرّد والطغيان ونكران الجميل، والاتهام الكاذب والسباب... وغير ذلك من التحدّيات التي تقابل الرسل والرسالات؛ أن نقف في خطّ الرسالات الهادىء الواثق باللّه، المنطلق أبداً من موقع الرسالة لا من موقع الذات.
* * *
بنو إسرائيل أول جمهور رسالي:
4 ـ لماذا أفسح اللّه لبني إسرائيل هذا المجال الواسع في النعم والألطاف والرعاية؟ والجواب: لعلّ رسالة موسى كانت أولى الرسالات المتحرّكة في نطاق جمهورها، الذي عملت من أجله على صعيد الرسالة وعلى صعيد الواقع، فنحن نلاحظ أنَّ الرسالات السابقة كرسالة نوح وإبراهيم (ع)، لا تشعرنا بوجود المؤمنين كقوّة تتحرّك مع النبيّ في صراعه، أو يتحرّك معها النبيّ في خطواته العملية، بل كان الصراع وحده يتجه إلى الجوّ الذي يعيش فيه النبيّ مع الخصوم الرئيسيين للرسالة. ففي إطار رسالة نوح، لا نشعر بالمؤمنين إلاَّ من خلال وصف الكفّار لهم بأنهم { أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي} [هود:27]، ثُمَّ لا نجد لهم أية حركة، بل نجد نوحاً يواجه كلّ التحدّيات كما لو كان وحده. وفي نطاق رسالة إبراهيم، كان يواجه الكفّار وحده، وكان يواجه طاغية زمانه وحده... وكانت القضية كلّها هي قضية الإيمان والكفر في إطارهما العقيدي، في حدود المعلومات التي حدّثنا القرآن عنها في شؤون الرسالتين.
أمّا موسى، فقد كان يحمل قضية العقيدة في صراع الإيمان والكفر، ويحمل قضية الاضطهاد الذي يعانيه هذا الشعب من حكم فرعون، وبهذا كانت الرسالة تتحرّك في اتجاهين: في صراع الإيمان ضدّ الكفر، وفي صراع العدل ضدّ الظلم، وبهذا كان للرسالة جمهورها المتحرّك، ولكنَّ هذا الجمهور الذي خرج من جوّ الاضطهاد إلى جوّ الحرية بفضل الرسالة والرسول، لم يكن في مستوى الرسالة، فقد كان يناصر الرسول على أساس قضيته الحياتية المباشرة، لا على أساس قضية الرسالة، ولهذا كان لا بُدَّ للرسالة من الاحتفاظ بجمهورها أو بمقدار منه، فتمنحه مقداراً كبيراً من الأجواء الهادئة الواسعة التي يتنفس فيها روح الرسالة ـ حياتها وأهدافهاـ ويشعر بأنَّ الأجواء الجديدة هي أجواء الرحمة والرعاية حتى مع أشدّ التحدّيات قساوةً وضراوةً. ولعلّ التجربة كانت ناجحةً، لأننا رأينا انفصال مقدار كبير من الجمهور عن الخطّ المنحرف إلى الخطّ المستقيم، كما نجد ذلك في الآيات القرآنية المقبلة إن شاء اللّه.
باختصار، إنَّ الخطّة كانت تتلخص في أنَّ الرسالة لا تفقد جمهورها لتجعله يشعر بأنها لا تضطهده حتى في حالة تمرّده، ولهذا أعطته المجالات الرحبة للالتقاء بخطّ الإيمان فكراً وروحاً وحياةً.
* * *
تركيز القرآن على بني إسرائيل لتبيين انحرافهم:
5 ـ لماذا ركز القرآن كثيراً على بني إسرائيل، بحيث شغل جوّ القرآن كلّه بهم، حتى نشعر بأننا نلتقي بهم في كلّ سورة؟
والجواب: إننا نشعر بأنَّ صراع الإسلام مع التحريف في الرسالات السَّماوية المتقدّمة ومع جمهورها المنحرف، ليس صراعاً بسيطاً، بل كان يمثّل الصراع حول المفاهيم الأساسية لخطّ الإيمان العريض، وللتفاصيل التي تتحرّك في هذا الخطّ، وكان ـ إلى جانب ذلك ـ يُعتبر في موقع الخطورة الكبرى عندما يواجه رسالة اللّه التي يؤمن بها ويصدِّق بأنبيائها، وعلى ضوء هذا، كان لا بُدَّ له من أن يعطي كلّ الفكرة عن هذا الجمهور الضال، باعتباره القوّة الأولى التي تهدّد حركته، ويعطي الفكرة من خلال ذلك للأفكار الصحيحة السليمة التي طرأ عليها الانحراف، ولذلك لم تكن القضية قضية الاهتمام بهذا الشعب من خلال ما يملك من قيمة ومنزلة، بل هي قضية الاهتمام بتاريخ الرسالات السَّماوية في جمهورها المنحرف والمستقيم، وفي أفكارها المحرّفة والخاطئة، باعتبار أنَّ الإسلام يمثّل الامتداد الحيّ لهذه الرسالات، ما يجعل لحركتها وتاريخها ومفاهيمها تأثيراً كبيراً على حركة الإسلام في حاضره ومستقبله.
ولعلّ ما يؤكِّد الفكرة، أننا نرى الإسلام يرفض هذا التاريخ ويحاكمه وينقده، فكيف يجتمع هذا مع نظرة القداسة والتكريم التي يطرحها السؤال أو يوحي بها البعض في المفهوم الخطأ؟!
(1) مجمع البيان، ج:1، ص:242.