الآية 62
الآيــــة
] إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[ (62).
* * *
معاني المفردات:
{ هَادُو} : اليهود نسبة إلى يهوذا أكبر أبناء يعقوب. وإسرائيل اسم يعقوب بالذات.
{ وَالنَّصَارَى} : جمع مفرده المذكر نصران والمؤنث نصرانة؛ كسكارى جمع لسكران وسكرانة. وقيل إنها نسبة إلى بلدة الناصرة في أرض فلسطين.
{ وَالصَّابِئِينَ} : الصابئون: جمع صابىء، وهو من انتقل إلى دين آخر، وكلّ خارج من دين كان عليه إلى آخر، سمي في اللغة صابئاً.
* * *
الذين هادوا والنصارى والصابئون لهم أجرهم:
المعنى في هذه الآية واضح، فهي تؤكد أنَّ النجاح في الآخرة تناله كلّ هذه الفئات الدينية المختلفة في تفكيرها وتصوّرها الديني للعقيدة والحياة، بشرطٍ واحد وهو التقاؤها على قاعدة الإيمان باللّه واليوم الآخر والعمل الصالح.
وقد تعترضنا مسألة وهي: أنَّ هذا الاتجاه المذكور في الآية يعني التنازل عن الإسلام، وهو الرسالة التي جاء بها النبيّ محمَّد (ص)، بالمعنى المصطلح، كشرط للنجاة في الآخرة وللحصول على رضى اللّه، لأنها تؤكّد بقاء الصفة المميّزة لكلّ فريق كمنطلق للعمل ما دام الشرط حاصلاً.
* * *
هل الآية منسوخة؟
حاول بعض المفسرين الإجابة عن ذلك باعتبار أنَّ الآية منسوخة بقوله تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
ولكنَّنا نتحفّظ على هذا الجواب، لأنَّ مدلول هذه الآية لا يتنافى مع مدلول تلك حتى نفرض نسخ الثانية للأولى، لأنَّ الظاهر إرادة الإسلام بمعناه العام الشامل للرسالات السَّماوية في الآية الثانية، لا الإسلام بمعناه المصطلح كما يلوح ذلك من صدرها { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّه الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، بقرينة الآيات المتعدّدة التي اعتبرت الإسلام دين إبراهيم، { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـبَنِيَّ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة:131ـ132]، { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} [الحج:78].
أمّا جوابنا على السؤال، فهو أنَّ الآية واردة في مجال تأكيد العناصر الأساسية التي تلتقي عليها الأديان واعتبارها أساساً للحصول على ثواب اللّه ورضاه في النطاق الفكري والعملي للدِّين، بحيث ترجع كلّ مفرداته إليها، وذلك كردٍّ على الأجواء الاستعراضية التي يحاول فيها كلّ فريق أن يعتبر نفسه في خطّ النجاة في الآخرة بعيداً عن الالتزام الفكري والعملي بالعقيدة، حتى كأنَّ القضية قضية أسماء وواجهات، لا قضية عقيدة وعمل، فهي في جوّها الداخلي، واردة مورد الآية الكريمة: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] إنما هي واردةٌ لمعالجة جانبٍ واحد من القضية، وليست لمعالجة كلّ الجوانب ليؤخذ بإطلاقها اللفظيّ. وعلى هذا الأساس، فلا مانع من أن تكون الآيات الكثيرة المتنوّعة في القرآن مكمِّلةً لمدلول هذه الآية، باعتبار أنَّ الإيمان بالرسول هو من شؤون الإيمان باللّه بعد وضوح البيّنات والدلائل الظاهرة، لأنَّ الكفر به يكشف عن فقدان الأسس القوية للإيمان؛ وهذا هو الوجه الذي يمكن أن تنسجم فيه الآية مع الآيات الأخرى التي تندّد بالفئات الأخرى وتعتبرهم منحرفين في جانب العقيدة والعمل، كما نلاحظه في الآيات التي تتحدّث عن اليهود والنصارى وعن انحرافهم عن الخطّ المستقيم في الفكر والعمل.
وربما يخطر في البال أنَّ الإيمان بالرسول يختلف عن الإيمان باللّه في مدلوله الإيماني وفي طبيعة موقعه من العقيدة، فإنَّ الإيمان باللّه غايةٌ في نفسه، باعتبار أنَّ معرفته وعبادته من أسس العقيدة في ذاتها، أمّا الإيمان بالرسول، فقد لوحظ من حيث هو طريق للارتباط بالرسالة والعمل الصالح، ولذلك لم يؤكده القرآن في كلّ دعوات الإيمان إلاَّ في هذا النطاق، وعلى ضوء ذلك، فقد يكون إغفاله في مجال الحديث عن الأساس في نجاة الإنسان في الآخرة، من جهة الاكتفاء عنه بكلمة الإيمان باللّه والعمل الصالح، الذي هو كناية عن السير في خطّ اللّه بالعبودية له والخضوع لشرائعه وأحكامه الثابتة برسالات الأنبياء. وقد تتضح الفكرة بشكل أعمق إذا لاحظنا أنَّ الإسلام لم يعتبر وجود اختلاف بين الرسالات إلاَّ من خلال بعض الجوانب التفصيلية، ما يجعل القضايا الأساسية واحدةً في الجميع، ويكون الانسجام مع واحدة منها انسجاماً مع الكلّ، كما يكون الانحراف عن الخطّ في إحداها انحرافاً عن الخطّ في الباقي، وبذلك تعتبر النبوّات منطلقة من قاعدة واحدة كما يوحي به قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّه الإِسْلامُ} وهذا ما يجعل كلّ صفة طارئة تسقط وتتضاءل أمام القاعدة الصلبة التي تتحرّك من خلالها الرسالات.
* * *
من هم الصابئة؟
أطلق هذا الاسم على فرقتين متميزتين تماماً:
الأولى: «المنديا، أو الصبوة، وهي فرقة يهودية نصرانية تمارس شعائر التعميد في العراق «نصارى يوحنا المعمدان».
الثانية: فرقة صابئة حرّان، وهي فرقة وثنية بقيت أمداً طويلاً في ظلّ الإسلام، ولها أهميتها بحكم مبادئها، ولها أيضاً شأنها لما خرج من بين صفوفها من علماء.
ومن الواضح أنَّ الصابئة الذين ذكرهم القرآن إلى جانب اليهود والنصارى من أهل الكتاب يعدّون من المنديا، ولا شك في أنَّ اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري (ص ب أ) أي غطس ثُمَّ أسقطت الغين، وهو يدل بلا ريب على المعمدانيين، أولئك الذين يمارسون شعائر التعميد أو الغطاس، وربما كان الصابئون الوثنيون الذين لم يعرفوا هذه الشعائر على الإطلاق، قد اصطنعوا هذا الاسم من قبيل الحيطة مبتغين أن ينعموا بالسماحة التي أظهرها القرآن لليهود والنصارى. وذكر كتّاب العرب منذ القرن الرابع الهجري صابئة حرّان في كثير من الأحيان واهتموا بهم في كلّ حال. وقد أفرد الشهرستاني لهم ولشرح أقوالهم فصلاً مسهباً غاية في الإسهاب، وهو يسلكهم في سلك الروحانيين وبخاصة روحانيي الكواكب الكبرى، والصابئة يقولون إنَّ معلميهم الأوّلين هما النبيّان الفيلسوفان عاذيمون ـ أي الروح الطيب ـ وهرمس، وقيل إنَّ عاذيمون هو شيث وإنَّ هرمس هو إدريس. وكان أورفيوس من أنبيائهم.
ومذهب الصابئة أنَّ للعالم صانعاً فاطراً حكيماً مقدّساً عن سمات الحدثان، نعجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما نتقرّب إليه بالمتوسطات المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهرون المقدّسون جوهراً وفعلاً وحالة، أمّا تقديسهم جوهراً، فيُراد به تقديسهم عن المواد الجسمانية، وتبرئتهم عن القوى الجسدية، وتنزيههم عن الحركات المكانية والتغيّرات الزمانية، وهؤلاء هم الأرباب والآلهة والوسائل والشفعاء عند اللّه ربّ الأرباب. وأمّا نحن فلتحصل لنا مناسبة بيننا وبين الروحانيات، فيجب علينا أن نطهّر نفوسنا من دنس الشهوات الطبيعية، ونهذّب أخلاقنا من علائق القوى الشهوانية والغضبية. وأمّا تقديسهم فعلاً، فقد قال الصابئة: الروحانيات هي الأسباب الوسائط في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حال إلى حال، يستمدون القوّة من الحضرة الإلهية القدسية، ويفيضون الفيض على المخلوقات السفلية، ويوجهون المخلوقات من مبدأ إلى كمال.
ومن الروحانيات مدبرات الكواكب السبع السيّارة في أفلاكها، وهي هياكلها، ولكلّ هيكل فلك، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد. وكانوا يسمّون الكواكب أحياناً آباءً والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات تحريكها، ليحصل من تحريكها انفعالات في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركّبات، فيركب عليها نفوس روحانية مثل أنواع النبات والحيوان، ثُمَّ قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلّي، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي، فمع كلّ جنس من المطر ملك، ومع كلّ قطرة ملك. ومنها مدبرات الظواهر الطبيعية كالرياح والعواصف والزلازل وهي مدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات، وهذه المدبرات روحانية خالصة، تشبه في طبيعتها الملائكة.
ويذكر الشهرستاني في «الملَل والنحَل»، أنَّ للصابئة جميعاً صلوات ثلاثاً، وهم يغتسلون إذا لامسوا جثة، ويحرّمون أكل لحم الخنزير والكلاب والطيور ذات المخالب والحمام، وهم لا يختتنون، ولا يبيحون الطلاق إلاَّ بحكم من القاضي، وينهون عن تعدد الزوجات[1].
وقد اختلف فقهاء المسلمين في أنهم من أهل الكتاب أو من غيرهم، بين من أطلق الحكم فيهم بالإيجاب، ومن أطلقه بالسلب، ومن تردّد فيهم على أساس دراسة واقعهم العملي في التزامهم بالنصرانية في الأصول الدينية وعدمه وغير ذلك.
* * *
المؤمنون باللّه لا خوف عليهم:
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُو} وهم المسلمون الذين اصطلح القرآن الكريم على إطلاق هذه الكلمة عليهم عند التعريف بهم والحديث عنهم وعمّن يقابلهم من الفئات الأخرى، { وَالَّذِينَ هَادُو} وهم اليهود الذين انتسبوا إلى موسى (ع) وإلى التوراة، { وَالنَّصَارَى} الذين انتسبوا إلى السيِّد المسيح (ع)، { وَالصَّابِئِينَ} الذين هم فئة مميزة قد يلتقون باليهود أو النصارى وقد يختلفون عنهم؛ { مَنْ ءَامَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِح} من موقع الالتزام العقيدي بالإيمان باللّه وباليوم الآخر بكلّ مستلزماته الفكرية والعقيدية، من حيث المبدأ والتفاصيل الرئيسة المنطلقة منه، ومن قاعدة العمل الصالح الذي يتحوّل فيه الالتزام الفكري إلى التزام بالخطّ العملي المنفتح على أوامر اللّه ونواهيه { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في لقائهم باللّه وموقفهم في الدار الآخرة، فهم الآمنون من كلّ خوف من تهاويل العذاب، وهم المسرورون بما أعدّه اللّه لهم من رضوانه ونعيمه، فابتعدوا بذلك عن أية حالة نفسية مضادة تجلب لهم الحزن الروحي. فليست المسألة مسألة أسماء وعناوين تمثّل الانتماءات الدينية، بل هي مسألة العمق العقيدي الذي يعيشه الإنسان في وجدانه الفكري وانفتاحه الروحي، والاستقامة العملية على خطّ التوحيد في كلّ التزاماته في الواقع العملي للإنسان.
(1) دائرة المعارف الإسلامية "الصادرة بالألمانية والإنجليزية والفرنسية"، ج:14، ص:89 ـ 90.