تفسير القرآن
البقرة / من الآية 67 إلى الآية 73

 من الآية 67 الى الآية 73

الآيــات

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِي قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاَْرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَرَأْتُمْ فِيهَا وَاللّه مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللّه الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (67ـ73).

* * *

معاني المفردات:

{هُزُوً} : سخرية.

{فَارِضٌ} : الفارض: المسنّة التي انقطعت ولادتها.

{بِكْرٌ} : صغيرة لم تحمل بعد.

{عَوَانٌ} : وسط.

{فَاقِـعٌ} : شديد الصفرة.

{ذَلُولٌ} : الذلول: الريّض الذي زالت صعوبته، والمراد هنا بقوله ] لاَّ ذَلُولٌ[ البقرة التي لم تعتد العمل في الأرض.

{مُسَلَّمَةٌ} : خالية من العيوب.

{شِيَةَ} : علامة.

{فَادَرَأْتُمْ} : أصلها تدارأتم على وزن تفاعلتم، ومعنى التدارؤ التدافع.

* * *

بنو إسرائيل وقصة البقرة:

في هذه الآيات، قصة مثيرة من قصص بني إسرائيل، وذلك من جهتين؛ فهي من جهة تشتمل على جانب من الإعجاز، من حيث إحياء اللّه الميت القتيل الذي انطلقت القصة في أجواء الخلاف في قاتله؛ وهي من جهة ثانية تشتمل على صورة مجتمع بني إسرائيل من الداخل، وتوضح لنا الطريقة التي يواجه بها أفراده الأوامر الصادرة من موسى إليهم، مما يوحي بطبيعة المشاغبة التي تجعلهم يواجهون القضايا من موقع التعقيد، لا من موقع البساطة، فيحوّلون مهمة النبيّ في قيادته الفكرية والعملية إلى مهمّة صعبة، لأنَّ هناك فرقاً في حركة القيادة، بين قيادة تتحرّك في جمهور يطيع الأوامر كما ترد في صيغة الأمر، وبين قيادة يقف جمهورها ليسأل عن كلّ صغيرة أو كبيرة من دون أن يكون ذلك داخلاً في حساب مسؤوليته، فإنَّ ذلك يعطّل الحركة وينذر بالهزيمة في أصعب المواقف وأكثرها تعقيداً عندما تكون بحاجة إلى الحسم والتحرّك السريع.

ولا بُدَّ لنا من وقفةٍ أمام هذا الحوار بين موسى وبين قومه، لنستجلي بعض خصائصه الموضوعية، فقد طلب منهم ـ باسم اللّه ـ أن يذبحوا بقرة، فاستغربوا الطلب، لأنهم لم يفهموا علاقته بالقضية المتنازع عليها ـ أو هكذا حاولوا أن يصوّروا الموضوع ـ فاعتبروا ذلك هزءاً وسخرية بهم من موسى، فدلّلوا على أنهم لا يعرفون مقام النبوّة ولا شخصية النبيّ بأبعادها الروحية التي تمنعه من أن يوجّه إليهم طلباً باسم اللّه على سبيل العبث والسخرية بهم، فإنَّ ذلك يعتبر إساءةً للّه باستخدام اسمه في هذا المقام وبالكذب عليه، لأنه يخبرهم بأنَّ اللّه يأمرهم بذلك من دون أساس.

* * *

أمر بني إسرائيل بذبح البقرة:

] وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً[ أية بقرة {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوً} لأنَّ مثل هذا الأمر لا يخضع لأية مناسبة تتصل بحياتنا في أوضاعنا الخاصة والعامة، فليس المورد مورد قربان نقدّمه إلى اللّه في مناسباته الخاصة لنعتبرها قرباناً له، وليس المقام مقام دعوة للإطعام لنقدّم لحمها للآكلين الفقراء، وليس هناك شيء آخر يدخل في دائرة التصوّر الواقعي المعقول.

وكان جواب موسى في مستوى المدلول السيىء لردود قومه عليه، ولذا جاء جوابه زاخراً بالمرارة {قَالَ أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، فقد استعاذ باللّه أن يكون من الجاهلين، لأنَّ مثل هذا التصرّف ـ على حسب مفهومهم الخاطىء ـ يجعل موسى في موقف الجاهل الذي لا يعرف كيف يتصرّف وأين يضع كلماته، ولا يَعقل مركز النبوّة ومنطلقاتها العملية، كما أنه لا يمكن أن يحدّثهم عن اللّه بما لم ينزله عليه، ومما لم يأمرهم به، لأنَّ ذلك يعتبر خيانة من الرسول وكذباً على اللّه، وكيف يمكن أن يسخر موسى ـ النبيّ بالنّاس الذين جاء لهدايتهم وربطهم بالجانب الجدي في مواقع المسؤولية في الحياة، لا سيما إذا كانت المسألة مرتبطة بالعمل الذي يكلّفهم الكثير من الجهد والمال والتعقيدات الاجتماعية.

* * *

سؤالهم عن حقيقة البقرة:

وعادوا من جديد إلى المشاغبة، ولكن من موقع اتهامه بأنه يحمل أمراً مبهماً لا وضوح فيه، فسألوه عن حقيقة البقرة، وقد كان بإمكانهم أن يأخذوا بإطلاق الكلمة في مقام البيان ـ كما يقول الأصوليون ـ {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِىَ} . وبدأ الموقف يتجه اتجاهاً آخر يشبه العقوبة ومواجهة التحدّي بمثله، فتحوّل الجواب إلى التضييق عليهم بفرض قيود لم تكن داخلةً في حساب التشريع في ذاته... {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ} إنها بقرة لا هرمة، {وَلاَ بِكْرٌ} صغيرة، ] عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ[ وسط بين ذلك، وهي أقوى ما يكون، {فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} واستجيبوا لهذا الأمر الإلهي في حدوده الجديدة، ما يعني أنَّ القضية لا تحتاج إلى سؤال جديد، فبإمكانهم أن يكتفوا بما ذكر لأنه لم يذكر لهم زيادة في التفاصيل، وأن يسكتوا عمّا سكت اللّه عنه، لأنَّ اللّه لا يحاسب العباد إلاَّ على ما يبيّنه لهم، فلا عقاب بلا بيان.

ولكنَّهم لم يكتفوا بذلك، بل عادوا يثيرون كلّ ما يتصوّرونه من خصائص البقر ممّا يمكن أن يقع موضعاً للسؤال {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَ} لأنَّ ألوان البقر تتعدّد، فهل يفرض علينا اللّه لوناً معيناً لنلتزم به، لأنك لم تحدّد لنا ذلك. وجاء الجواب الثاني ليحدّد ويضيِّق، ردّاً على هذا الفضول الذي لا معنى له؛ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ... وعاد السؤال من جديد، فهم لا يعرفون كيف يحصلون عليها لأنَّ أنواع البقر تتشابه، فلا يملكون الحصول على المطلوب المحدّد، فطلبوا الصفات التي يمكن أن يجدوها بسهولة، على الطبيعة، {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَ} في خصائصها وصفاتها الواضحة التي تجعلها أكثر وضوحاً، وكأنهم شعروا بأنهم قد ذهبوا بعيداً في هذا المجال، فابتعدوا عن الخطّ في هذا الإلحاح الفضولي الذي لا يتناسب مع موقفهم من النبيّ كما لا ينسجم مع طبيعة المسؤولية، فوعدوه بأنهم سيسلكون طريق الهدى في نهاية المطاف؛ {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ} بالهدى الذي ترشدنا إليه في حدود المسؤولية المتصلة بالواقع العملي للطاعة في انقيادنا لأوامر اللّه.

وجاء الجواب أكثر تحديداً وتضييقاً {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ} ، لم يذللّها العمل بإثارة الأرض بأظلافها، ] وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ[ لا يستقى عليها الماء للزرع، {مُسَلَّمَةٌ} من العيوب، {لاَّ شِيَةَ فِيهَ} لا علامات فيها تخالف لون جلدها. {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} فإنَّ هذه الأوصاف المتعدّدة تضعنا في موقع الوضوح الذي لا مجال فيه للحيرة والاشتباه.. ولم يملكوا سؤالاً جديداً، {فَذَبَحُوهَ} لأنهم لا يجدون حجة على الامتناع {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} لأنهم لا يعيشون في أنفسهم روح الطاعة والانقياد.

* * *

معجزة إحياء الميت:

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسً} ولم يتبيّن لكم القاتل، {فَادَرَأْتُمْ فِيهَ} أي اختلفتم، فكان التوجيه الإلهي لموسى (ع) ـ بعد أن سألتموه ـ في إظهار الحقّ في القضية التي كادت أن تخلق لكم مشاكل صعبة مدمّرة، أن تذبحوا بقرة، ليظهر الحقّ من خلال ذلك في نهاية المطاف، {وَاللّه مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} من الحقيقة المعروفة لديكم في الباطن، الغامضة في الظاهر، نتيجة كتمانكم لمعلوماتكم. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَ} أي اضربوا القتيل ببعض البقرة، ليحيى فيحدّثهم عمّن قتله ويرجع بعد ذلك ميتاً، فيكون ذبح البقرة قرباناً يقدّمونه إلى اللّه ليستجيب لهم في دعائهم بأن يكشف لهم سرّ القاتل لتحل مشكلتهم الاجتماعية بذلك، حتى لا يتبادلوا الاتهامات التي تثير الخلاف والشحناء، وربما تؤدي إلى القتال وسفك الدماء، وليكون ذلك تقليداً دينياً لديهم في تقديم القربان إلى اللّه في كلّ حاجة يريدون قضاءها، وفي كلّ مشكلة يطلبون حلها، وفي كلّ سرّ يتطلّعون إلى معرفته، ولينطلقوا من خلال ذلك إلى تأكيد فكرة الحياة بعد الموت من خلال التجربة الحسية التي تركّز المبدأ في حياتهم، ليزداد إيمانهم به بعد الموت. {كَذَلِكَ يُحْىِ اللّه الْمَوْتَى} كما أحيى هذا الميت، {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ودلائل قدرته كما في هذه الحادثة التي تمثّل معجزة إحياء الميت، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وتحرّكون عقولكم في التفكير في تخطيط المنهاج الفكري العقيدي في قضية الإيمان باليوم الآخر، على أساس المقارنة بين عملية الإيجاد التي هي دليل على القدرة في عملية البحث، وبين التجربة الحيّة الماثلة أمامهم التي تكون دليلاً على طبيعة التجربة الكبرى التي جاءت بها النبوّات في قضية يوم القيامة.

وهذا تأكيد لدور العقل في مسألة العقيدة التي تستطيع أن تأخذ من حركته في القضايا الفكرية الأساس القوي الذي يركز الفكرة على قاعدة ثابتة لا تهتز تحت تأثير الأهواء والعواصف.

* * *

من وحي الآيات:

ويمكن أن نخرج من هذا الموقف القلق بانطباعين:

الأول: أنهم كانوا يبحثون عن الحجة التي تبرر لهم الامتناع عن أداء الأوامر وامتثالها، وذلك بإثارة الفضول أمام النبيّ مما يدخل القضية في نطاق المناقشات الجدلية التي تُفقد الموقف روحانيته وحيويته وجديته، وتؤدي بالنتيجة ـ في زعمهم ـ إلى انسحاب النبيّ من الساحة وإلغاء الأمر من خلال الحالة النفسية التي تثيرها هذه الأجواء في نفسه.

الثاني: أن يأخذ القادة درساً عملياً في المسؤوليات العادية الموجهة إلى الأشخاص، التي لا تنطلق من حكم شرعي محدّد، بل من مهمّات عمليّة عامة تدخل في حركة العمل، فإذا واجهتهم مثل هذه النماذج، فإنَّ عليهم أن يواجهوها بطريقةٍ تأديبية هادئة، كدرس عملي لهؤلاء بأن يمتنعوا عن الأسئلة التي لا معنى لها، لئلا يعودوا إلى مثلها في المستقبل عندما يشعرون بأنَّ ذلك قد كلّفهم مسؤوليات ثقيلة لم تكن واردةً في الحساب..

وهذا ما نستوحيه من الحديث المأثور عن النبيّ محمَّد (ص)، فقد رُوي أن رسول اللّه (ص) خطب أصحابه فقال: إنَّ اللّه كتب عليكم الحج، فقام عكاشة (ويروى سراقة بن مالك) فقال: أفي كلّ عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول اللّه (ص): ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، واللّه ولو قلت نعم لوجبت؛ ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم كفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه[1].

(1) البحار، م:8، ج:22، باب:37، ص:291.