تفسير القرآن
البقرة / من الآية 74 إلى الآية 82


 من الآية 74 الى الآية 82

الآيــات

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّه لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّه عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجنّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (74ـ82).

* * *

معاني المفردات:

{يَشَّقَّقُ} : أصله يتشقق: وهو أن ينقطع من غير أن يبين.

{بِغَافِلٍ} : الغفلة: السهو عن الشيء، وهو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره، ويُقال: تغافلت على عمد أي عملت عمل الساهي.

{خَل} : انفرد.

{فَتَحَ} : الفتح في الأصل يستعمل للشيء المغلق، والمراد به هنا الحكم؛ يقال: اللّهم افتح بيني وبين فلان، أي احكم بيني وبينه.

{لِيُحَآجُّوكُم} : ليغلبوكم بالحجة.

{يُسِرُّونَ} : يتحدّثون سرّاً أو يفضون إلى بعضهم البعض سرّاً.

{أُمِّيُّونَ} : جمع أميّ، وهو الرّجل الذي لا يحسن الكتابة.

{أَمَانِىَّ} : «واحدها أمنية، ومن معانيها تمني القلب، وهو أظهرها وأكثرها استعمالاً، وتستعمل في التلاوة أيضاً»[1].

{فَوَيْلٌ} : الويل: في اللغة كلمة يستعملها كلّ واقع في هلكة، وأصله العذاب والهلاك، ومثله: الويح والويس، وقال الأصمعي: هو التقبيح، ومنه: ولكم الويل مما تصفون[2].

{يَكْسِبُونَ} : أصل الكسب العمل الذي يجلب به نفع أو يدفع به ضرر، وكلّ عامل عملاً بمباشرة منه له ومعاناة فهو كاسب له.

* * *

بنو إسرائيل في مراحل التحجّر والتحريف والنفاق:

مرحلة التحجّر:

ثُمَّ جاءت مرحلة جديدة من تاريخ بني إسرائيل، ولكنَّها تختلف عن المراحل السابقة؛ فقد كانت تلك المراحل تمثّل جانب التمرّد الذي يلين بعد ذلك إلى التوبة والإنابة والطاعة، وتعيش طبيعة المشاغبة التي تثور ثُمَّ تتطامن وتهدأ وتفيء إلى الاستقامة.

أمّا هذه المرحلة الجديدة، فإنها تمثّل التحجر الذي أصاب عقولهم وأرواحهم، فأغلقها عن الانفتاح على كلّ وحي إلهي، أو فكر إنساني، أو شعور روحي، فليس هناك مجال للحقّ، لأنَّ النوافذ كلّها مشرعة على الباطل، وليس هناك مجالٌ للرحمة، لأنَّ الآفاق كلّها قد امتلأت بالحقد والعداوة والبغضاء، وبالأنانية التي لا تعرف غير الذات في أطماعها وشهواتها مجالاً للتفكير وللتعاطف.

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . ويتصاعد الأسلوب القرآني في تصوير المدى الذي بلغته القسوة التي تطبع شخصيتهم بطابعها، فلا يجد في الحجارة مثلاً صالحاً لإعطاء الصورة الصارخة، بعد أن بدأ الموضوع من هذا الجانب، لأنَّ التشبيه يفرض أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أقوى من المشبّه، كما تقول: زيد كالأسد، باعتبار أنَّ الشجاعة التي هي وجه الشبه في الأسد أقوى منها في زيد، ما يعطي التشبيه دوراً في إيضاح صورة الشجاعة في زيد بشكل أقوى... أمّا هؤلاء، فإنَّ قلوبهم أقسى من الحجارة، {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} فينتشر منها الخصب والجمال في كلّ مكان.. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ} أي الينابيع الصغيرة، التي تسقي من حولها وما حولها.. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه} ، وهي تعبير عن انفعال هذه الحجارة التي تتساقط بفعل العوامل الطبيعية، بالخضوع التكويني لإرادة اللّه في إطار العظمة الكونية الخاضعة له، نظير التعبير بالطاعة في السَّماء والأرض، والسجود والتسبيح في سائر المخلوقات الحيّة والجامدة... هذه هي قصة الحجارة التي تبدو قاسية في ملامحها، صلبةً في تكوينها. أمّا هؤلاء، فإنَّ قلوبهم لا تنفتح للرحمة ولا للعطاء، فهم يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويبخلون بأموالهم وعلومهم وقواهم على المستضعفين، ولا يعيشون الخشوع الروحي الذي تستسلم فيه القلوب والأرواح والعقول للّه استسلام الخاشعين.

ولعلّ هذه المرحلة هي مرحلة قتل الأنبياء وتكذيبهم واضطهادهم، وتحويل تاريخهم الديني إلى واجهةٍ لاستغلال المستضعفين باسم الدِّين، وهو ما يحدّثنا القرآن عنه في ما نستقبل من حديث.

{وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} في انحرافكم العملي عن خطّ الاستقامة، وفي تمرّدكم على الرسالة والرسول، وفي وحشيتكم القاسية في قتل الأنبياء بغير حقّ.

* * *

التاريخ في خطى الحاضر:

وقد نستوحي من هذه الصورة القاتمة القاسية لهؤلاء، أنَّ علينا أن نتطلّع في مسارنا العملي إلى النماذج الحيّة المتمثّلة في واقعنا المعاصر، ممن يقفون ضدّ المؤمنين والمصلحين الذين يدعون النّاس إلى السير في الحياة على الخطّ المستقيم، وضدّ الشعوب التي تطالب بالعدل والحقّ والحرية، فيضطهدونهم ويواجهونهم بالقتل والتشريد والسجن والتعذيب، لا لشيء إلاَّ لأنهم يخافون على امتيازاتهم وأطماعهم واستغلالهم من الدعوات الإصلاحية والثورية، سواءٌ في ذلك الفئات الحاكمة الطاغية التي تقف في مراكز الحكم، أو الفئات المترفة التي تملك زمام الثروة في المجتمع فتمنعها عن الطبقات المحرومة الضعيفة، أو الفئات الكافرة الضالّة التي تملك قوّة النفوذ والسلاح... إننا نستطيع أن نجد في كلّ أساليبهم وتصرّفاتهم هذه الصورة التي يقدّمها القرآن لبني إسرائيل، وبهذا لا يعود التاريخ الإسرائيلي الذي قصّه علينا القرآن مجرّد مرحلة من مراحل الماضي، بل يتحوّل ـ في وعينا ـ إلى صورة حيّة للإنسان القاسي الموجود في كلّ زمان ومكان. أمّا سبيلنا إلى استحضار هذه الصورة في وعي النّاس، فهو التركيز على طبيعة السلوك الإسرائيلي في المرحلة التي تحدّث عنها القرآن، ودراسة الخصائص الذاتية والعملية في شخصية أولئك النّاس، ثُمَّ البدء في عملية مقارنة مع النماذج المعاصرة المشابهة لها في طبيعتها وخصائصها وتصرّفاتها، لتتعمق الصورة القرآنية من خلال الخطوط العامة، لا من خلال الحالة الخاصة، لئلا نقع في ما يقع فيه الكثيرون ممن يلعنون التاريخ في نماذجه الشريرة، ثُمَّ يباركون النماذج نفسها التي تأخذ في الحاضر صورة أشخاص ذلك التاريخ، انطلاقاً من الاستغراق في الشخص بعيداً عن العوامل الذاتية التي تثير فينا الشعور معه أو ضدّه...

إنها قصة الوعي القرآني المتحرّك الذي يجعل الآية تتحرّك في مدى الزمن في صورها الحيّة، وتطلّعاتها الواسعة، وخطواتها التي تطبع الخير والرحمة والبركة في كلّ مكان وزمان...

* * *

مرحلة التحريف:

ويقف القرآن مع النبيّ والمؤمنين معه، في معالجة قضية الدعوة أمام اليهود؛ فقد كان النبيّ والمؤمنون معه يستشيرون مختلف الأساليب الفكرية والعاطفية في إقناعهم بالإسلام، من أجل أن يؤمن اليهود المعاصرون للدعوة الإسلامية، لأنهم كانوا يرون بعض ملامح الأمل في بعض كلماتهم وأوضاعهم العامة، وكانوا يبذلون في ذلك جهداً كبيراً، لما يمثّله اليهود في المدينة من قوّة روحية ومادية، ما يجعل من إيمانهم بالإسلام قفزةً كبيرة إلى الأمام في مجال القوّة الإسلامية المتقدّمة.

* * *

الطمع في إيمان اليهود أمل ضائع:

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} وهذا خطاب للنبيّ وللمؤمنين معه الذين كانوا يطمعون في إيمان اليهود في المدينة لأنهم أهل كتاب، فقد اطلعوا على ما في التوراة من حقائق العقيدة والشريعة والبشارة بالنبيّ محمَّد (ص) مما جاء القرآن مصدِّقاً له، الأمر الذي يجعل الحقيقة الإسلامية واضحة أمامهم بحيث لا مجال فيها لأية شبهة، بل قد تكون المسألة في الوجدان الإسلامي للمسلمين في علاقتهم باليهود أنهم قد يتحوّلون إلى دعاةٍ للإسلام من موقع الوعي العقيدي المرتكز على العلم الذي حصلوا عليه من التوراة، ولكنَّ القرآن يؤكد للمسلمين أنَّ المشكلة لدى هؤلاء ليست كالمشكلة لدى غيرهم من الكافرين، وهي مسألة جهلهم بالإسلام وبالحقائق الكامنة فيه، ليحتاج النبيّ إلى جهد كبير في تعليمهم الكتاب والحكمة والدخول معهم في حوار طويل، بل المشكلة مشكلة عنادٍ مع سبق الإصرار، انطلاقاً من أنَّ قضية الدِّين لم تكن لديهم قضية التزام فكري وعملي، بل هي قضية تأكيد للذات على مستوى ذهنية المهنة التي تمنح صاحبها موقعاً اجتماعياً متقدّماً، وربحاً مادياً كبيراً، مما يؤدي بهم إلى تحريف النص الديني إلى غير ما يوحي به من الحقائق، ليسخّروه في خدمة أطماعهم وشهواتهم، ويوظفوه لهذا الطاغية وذاك المنحرف، ويؤوّلوه على حسب الأوضاع الطارئة الموجودة في واقعهم، كما كانوا يقولون عن المسلمين في حديثهم عن المشركين: {هَـؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيل} [النساء:51] مع وضوح الضلال الإشراكي في عبادتهم للأوثان، والهدى الإسلامي في توحيد اللّه في العقيدة والعبادة، لذلك فإنَّ قضية الكفر عندهم لم تكن منطلقة من الفكر المضاد، بل من الذاتيات المنحرفة الغارقة في الأطماع والشهوات، وهذا هو النموذج الذي تمثّله القوى المتقدّمة فيهم.

{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه} ويدركون معانيه وإيحاءاته ودلالاته التي تقودهم إلى معرفة الحقّ في الدِّين الجديد والصدق في النبيّ المرسل، {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} ويؤوّلونه، ويبتعدون به عن ظاهره إلى معنى آخر، لا علاقة له بالحقائق العقيدية الإيمانية {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} وعرفوه في عمقه وامتداده، بحيث لم تكن هناك شبهة، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ويجعلون الحرام حلالاً والحلال حراماً، ويقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] فيحلّون لأنفسهم نهب أموال العرب الذين يطلقون عليهم اسم الأميين، بحجة أنَّ التوراة تبيح لهم ذلك.

فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم بعد ذلك، لأنَّ الإيمان لا بُدَّ من أن يتحرّك من موقع قلق المعرفة الباحثة عن الحقّ، وإرادة الإيمان المنطلقة في خطّ الفكر.

وقد كان هذا الاتجاه المتحرّك من موقع الأمل الكبير يشكّل خطورةً على مسار العمل الإسلامي، لأنَّ ذلك يضيّع كثيراً من الجهود الفكرية والعملية التي يحتاج الإسلام إلى بذلها في مجال آخر نافع، باعتبار أنَّ إيمانهم ليس وارداً في حسابهم في واقع الحال، ولأنَّ ذلك يسلم المسلمين إلى السذاجة الروحية، وفقدان الحذر اللازم، عندما يدخل بعض اليهود في الإسلام، فيحصلون على الثقة التي تمنحهم حرية التحرّك في تخريب الإسلام من الداخل، انطلاقاً من صفة الإيمان التي حصلوا عليها، ولأنَّ إغفال المعرفة الحقيقية لما هُم عليه، يُعطّل على المسيرة الإسلامية التحرّك الفعلي ضدّ المخططات التي كانوا يرسمونها في الخفاء للقضاء على الإسلام والمسلمين.

وعلى ضوء ذلك، نشعر بأنَّ عملية تعرية الواقع الحاضر، بعد عملية تعرية التاريخ، ضرورة لحفظ الدعوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي من أخطار السذاجة والتضليل؛ وذلك بالالتفات إلى أنَّ هداية أيّ شخص لأية فكرة تتوقف على شرط الاستعداد النفسي لتقبّل هذه الفكرة أو الإيمان بها، وخاصة في الحالات التي يعيش فيها البساطة الذهنية والقلق الروحي إزاء معرفة المجهول، فعندها يكون مستعداً للأخذ والردّ والدخول في عمليات الحوار في مختلف الجوانب.. أمّا هؤلاء، فقد أغلقوا نوافذ أفكارهم عن كلّ شيء جديد، لأنهم لا يتعاملون مع الحقّ بروحية الإيمان الذي يبحث عن الفكرة ليرتبط بها، بل بعقلية التاجر الذي يريد أن يحقّق لنفسه الربح المادي الوفير من خلاله، فإذا فقد هذه الفرصة اتجه إلى التحريف، ليستطيع أن يحقّق لنفسه رغباتها على أساس ذلك، وهذا ما عرفوه من آيات اللّه في التوراة، فقد عرفوا الحقّ من خلالها كأوضح ما يكون، ولكنَّهم حرفوه عندما وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يحقّقوا لأنفسهم فيه مكسباً ومطمعاً ذاتياً... وفي ضوء ذلك، لا مجال لأي تفكير أو طمع رسالي بهدايتهم أمام هذه الروح الغارقة في الضلال.

* * *

نفاق بني إسرائيل:

يمكن للبعض أن يدخل في الإيمان ظاهراً من أجل التوصل إلى مكاسب ذاتية أو تحقيق مخططات تخريبية ضدّ الإسلام والمسلمين، وقد يدفعه ذلك إلى إبراز ما تشتمل عليه التوراة من دلائل وبراهين على صدق النبيّ في رسالته للتدليل بذلك على إخلاصه للإسلام، حتى إذا خلا بعضهم إلى بعض، وأفاضوا في الحديث عمّا قالوه للمسلمين وما قاله المسلمون لهم في نطاق الخطط المرسومة لديهم، وقف أصحابهم للتنديد بهم على هذا الاسترسال في الحديث بما فتح اللّه عليهم من التوراة، لأنَّ ذلك سيكون حجةً للمسلمين عليهم أمام اللّه يوم القيامة، انطلاقاً من إقرارهم بأحقية الإسلام، وذلك خلاف الحكمة والعقل. ولكنَّ اللّه يواجههم بسذاجة تفكيرهم في ما يخافونه من الاحتجاج عليهم بذلك، لأنهم إذا كانوا يؤمنون باللّه، فينبغي أن يدفعهم إيمانهم إلى الشعور بأنَّ اللّه مطّلع على سرّهم وعلانيتهم، فلا يحتاج إلى إقرارهم ليقيم الحجّة عليهم.

{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّ} بما جاء به النبيّ محمَّد (ص)، لأننا نجد صدقه في ما لدينا من التوراة التي بشرت به، كما نجد فيها الكثير من تفاصيل الشريعة الإسلامية التي تلتقي مع الكثير من أحكام شريعتنا، ولذلك فإننا لا نجد أي مبرر لإنكار الإسلام، {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} وتحادثوا بما قالوه للمسلمين من حقائق الإسلام في حقائق التوراة، {قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ} من العلم الذي يمكن أن يكون حجةً عليكم، إذا انفتح الصراع بينكم وبينهم في ساحاته، كما يكون حجة لهم عليكم عند ربكم، من خلال إقراركم بأنهم على الحقّ، على أساس ما تملكونه من حقائق التوراة المصدِّقة لما يدعون إليه أو يؤمنون به.. {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ} إذا لم تلتزموا الدِّين الذي يلتزمونه، بعد إقراركم به؛ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وتفكرون بالنتائج السلبية التي تحصل لكم من ذلك كلّه. {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، فليست المسألة في قيام الحجة عليهم عند اللّه أنهم يحدّثون المسلمين بما في التوراة، بل المسألة هي المعرفة التي يملكونها، فيتحملون مسؤولياتها تجاه أنفسهم وتجاه النّاس الآخرين في الإقرار بالحقّ، والإيمان به، والدعوة إليه في كلّ مكان وزمان… وقد جاء في مجمع البيان: روي عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: كان قوم من اليهود، ليسوا من المعاندين المتواطئين، إذا لقوا المسلمين، حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمَّد، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمَّد، فيحاجّوكم به عند ربكم، فنزلت هذه الآية[3].

* * *

التوراة والمحرفون:

ثُمَّ يتحدّث اللّه عن بعض نماذج أهل الكتاب المعاصرين للدعوة الإسلامية، فمنهم «أُميُّون» لم يأخذوا من العلم بشيء، ولا يملكون أية معرفة بالكتاب إلاَّ من خلال التمنيات التي تجعلهم يشعرون بالتفوّق على الآخرين في الدنيا والآخرة، لأنهم «شعب اللّه المختار» من دون أية معرفةٍ يقينية، وليس لهم من ذلك إلاَّ الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً.

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} لا يملكون المعرفة الواسعة العميقة التي تربطهم بالحقائق التي يحتويها الكتاب، لأنهم يقفون عند المعاني الساذجة للكلمات، ولا ينفذون إلى أعماقها {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} . ربَّما يُراد من كلمة الأماني التلاوة، يُقال: تمنى كتاب اللّه أي قرأه وتلاه، وبذلك يكون المراد بالكلمة أنهم لا يعلمونه إلاَّ ألفاظاً يتلونها من دون وعي المعاني؛ وربما يُراد منها الأحاديث المختلقة المتضمنة للتحريف. يُقال: أنت تتمنى هذا القول أي تختلقه، فيكون المقصود أنهم لا يعلمون الكتاب إلاَّ بنحو التحريف الذي هو مجموعة من الأكاذيب التي قد تطرح كما لو كانت مدلولاً للكلمات، وقد يقصد بها الأماني جمع أمنية وذلك على أساس أنهم يتمنون على اللّه ما ليس لهم، كقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} أو {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ليكون المعنى أنهم لا يعلمونه إلاَّ بما يتفق مع تخيلاتهم وأحلامهم وأمنياتهم الخيالية التي لا واقع لها. وفي جميع الحالات فهم لا يملكون اليقين الذي يتحرّك في دائرة وضوح الرؤية الذي تسكن إليه النفس وتطمئن إليه الروح؛ {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} من خلال تخرصاتهم وتخميناتهم التي لا ترتكز على أساس المعرفة اليقينية الحقّة.

* * *

اللعنة والويل جزاء المحرّفين:

هؤلاء المحرّفون المتاجرون بالدِّين بتحريف آياته ومفاهيمه، الذين يقدّمون للنّاس الجاهلين بحقيقة التوراة الأكاذيب والتحريفات، ثُمَّ ينسبونها إلى اللّه ليصلوا إلى مطامعهم وشهواتهم... إنهم سيذوقون اللعنة والويل من اللّه، جزاءً لهم على ما حرّفوه، وما كسبوه من أعمال سيئة محرّمة ومال حرام.

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} يحرفونه عن مواضعه، ويختلقون ما ليس فيه، ويخلطون في أساليبهم بين الحقّ والباطل ليوهموا القارىء أنه من الكتاب، وجاء في الحديث عن الإمام محمَّد الباقر(ع) ـ كما في مجمع البيان ـ أنهم عمدوا إلى التوراة وحرّفوا صفة النبيّ (ص)، ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود[4]. {ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّه لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيل} بحيث يعطونه قداسة الوحي الذي يخضع له المؤمنون ويلتزمون به. {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} من الباطل الذي صوّروه بصورة الحقّ، {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} من الخطايا والأعمال الشريرة، التي لن تجلب لهم إلاَّ الويل، في الدنيا والآخرة.

* * *

زعم اليهود عدم تخليدهم في النّار:

{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّه عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهذه هي القاعدة النفسية اليهودية المرتكزة على الذهنية المستعلية التي تنظر إلى النّاس من الموقع الفوقي، باعتبار أنهم شعب اللّه المختار، وأنَّ النّاس يقفون في الدرجات الدنيا ليكونوا خدماً لهم يلبّون حاجاتهم وقضاياهم العامة والخاصة. {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} فلن يخلّدنا اللّه في عذاب النّار لأننا أبناؤه وأحباؤه وشعبه المختار، فلا يعاقبنا إلاَّ كما يعاقب الأب أولاده، والمحبّ حبيبه، بطريقة تأديبية حميمة يمتزج فيها الحبّ بالعقوبة بشكل خفيف لا يستمر طويلاً، لأنَّ الرحمة تسبق الغضب عندما يتحرّك في مثل هذه المواقع، وتلك هي التخيّلات النفسية التي تحوّل الأمنية إلى حقيقةٍ في الواقع. {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء اليهود، في حوار جدي يناقش القضية من منطق الحجة، {أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّه عَهْدً} بأن لا يعذبكم إلاَّ أياماً معدودة؟ لتكون القضية قضية التزام إلهي بالعهد الذي قطعه على نفسه {فَلَن يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ} ولكن أين هو العهد؟ وما مضمونه، وما الحجة فيه؟ ولا نجد لديكم شيئاً من ذلك كلّه، {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ؟ فتكذبون على اللّه وتنسبون إليه ما لم ينزل به سلطاناً، وتلك هي الجريمة الكبرى.

* * *

العمل أساس الخلود في الجنّة أو في النّار:

{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجنّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يؤكد القرآن في هاتين الآيتين القاعدة للخلود في الجنّة أو في النّار، بعيداً عن كلّ الامتيازات، أو الاستثناءات المتوهمة للأشخاص أو للأمم، فليس في الآخرة طبقات على المستوى المعروف لدى النّاس في الدنيا، لأنَّ الطبقية هنا تنشأ من حصول الإنسان على امتياز ماديّ أو معنويّ، يتميّز به عن غيره، فيجعل له قيمةً متميّزة لدى سائر النّاس؛ أمّا في الآخرة، فالجميع متساوون أمام اللّه؛ فلا علاقة لأحد باللّه أكثر من غيره، من ناحية ذاتية، لأنهم مخلوقون له، ومن ناحية الصفات، لأنها هبةٌ من اللّه، فلا مجال هناك إلاَّ للعمل وحده، فهو القيمة الأولى والأخيرة التي ترفع مستوى الإنسان عند اللّه، ولهذا كانت قضية الجنّة والنّار خاضعةً للعمل لجهة خلود الإنسان في الثواب والعقاب؛ فأمّا الخالدون في النّار فهم الذين واقعوا الخطيئة من قاعدة روحية وفكرية وعملية، فهي محيطة بهم من كلّ جانب وليست شيئاً طارئاً مما يحدث للإنسان، كنتيجةٍ لنزوة سريعة. إنهم يعتقدونها ثُمَّ يعيشونها فكراً وشعوراً وعملاً، وهؤلاء هم المجرمون المتمرّدون الذين يواجهون الحقّ من موقع الوضوح في الرؤية، ولكنّهم يصرّون على الابتعاد عنه والتمرّد عليه، والمتاجرة بكلماته بعيداً عن روحه، والتحريف لآياته؛ وهؤلاء هم الذين لا يتطلعون إلى الإيمان باللّه بروحية منفتحةٍ تخشع أمام ذكره وتخضع لآياته، وتستسلم لأوامره ونواهيه، بل يمرون مروراً سريعاً، تماماً كأية فكرة طارئة، أو وهم زائل، وهؤلاء هم الظالمون الذين يفسدون في الأرض ويبغون فيها بغير الحقّ، وينازعون اللّه سلطانه وكبرياءه، عندما يخيَّل إليهم أنهم آلهة صغار، من خلال نوازع الكبرياء والعظمة الذاتية، التي توحي بها السلطة في مظاهر القوّة والسلطان، أو الذين يشركون بعبادة اللّه غيره، مما يصنعونه بأيديهم من الخشب والحجر وغيرهما ممّا يصنع منه الأصنام، أو ممّا يصنعونه بطاعتهم وخضوعهم من أصنام اللحم والدم من الطغاة والمستكبرين الذين يصنع منهم الأتباع آلهة وسادة، ولولاهم ما كانوا شيئاً مذكوراً.

هذه هي النماذج التي تكسب الخطيئة من موقع القاعدة، هم أصحاب الخلود في النّار، وهم الذين تنطبق صفاتهم على هؤلاء اليهود الذين لم يتركوا خطيئة إلاَّ ومارسوها بكلّ قوّة وعزم وتصميم، من التمرّد على الأنبياء، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، وتحريف كلام اللّه، والمتاجرة بالأكاذيب والبدع... وغير ذلك، ما يدل على وجود أساس روحي أو فكري للتمرّد والطغيان، أو يوحي بأنَّ علاقتهم باللّه لا تمثّل شيئاً كثيراً في حياتهم ليندفعوا ـ من خلاله ـ في طريق الطاعة والتوبة؛ فكيف يرون لأنفسهم هذا الامتياز الإلهي الذي يؤمنهم من الدخول في النّار؟

وأمّا الخالدون في الجنّة، فهم الذين عاشوا الإيمان في نفوسهم فكراً وشعوراً وروحانية، فهم يقفون أمام اللّه موقف المؤمن الذي يحسّ وجوده بمشاعره، كما يتعقله بفكره، وهم الذين يعيشون الإحساس بالعبودية المطلقة التي تدفعهم إلى الخضوع والخشوع والاستسلام للّه في أعمالهم، ولكنَّهم قد يخطئون ويتمرّدون نتيجة نزوة سريعة أو هفوة طارئة مما يدخل في حساب الغفلة والنسيان ووسوسة الشيطان، من دون أن يكون هناك أساس نفسي أو فكري يشجع على ذلك ويدفع إليه، ولهذا نجدهم يتراجعون عند أوّل حالة انتباه أو تذكر أو يقظة ضمير، كما حدّثنا اللّه عنهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فهؤلاء هم أصحاب الجنّة المتقون، الذين عاشوا روحيتها في روحيتهم، وأخلاق أهلها في أخلاقهم في الأرض قبل أن ينتقلوا إليها.

] بَلَى[ ليس الأمر كما قالوا وزعموا زعماً بعيداً عن كلّ حقيقة، بل المسألة خاضعة لقاعدة ثابتة في ثواب اللّه وعقابه، مما لا يرجع إلى امتيازات ذاتية لإنسان معين أو شعب معين. {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} عميقة الجذور في ذاته بحيث كان لها الدور الكبير في تغيير كلّ فكره وعمله في الاتجاه السلبي، ليكون إنساناً محاصراً من كلّ جهة، فلا ينفذ إلى عقله شيء من الحقّ، ولا إلى حياته شيء من الخير، فقد أطبقت عليه ضلالته {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئتُهُ} من كلّ جانب، فأينما يتوجه ويتحرّك فهناك خطيئة في فكره وفي عمله.

ولعلّ الشرك الذي لا يغفره اللّه هو التجسيد الحيّ لهذه السيئة التي يكسبها الإنسان فتبعده عن اللّه في توحيد العقيدة والعبادة، ويستغرق في الصنمية التي تحوّل حياته إلى جدارٍ مسدود لا مجال فيه للأفق الواسع، وإلى كهف مظلم لا ينفذ إليه النور من أية جهة، فيكون هذا الإنسان خطيئة متجسدة في حركة الباطل والشرّ والفساد في واقعه الداخلي والخارجي، {فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأنَّ مثل هؤلاء لا يرتبطون باللّه بأية رابطة تنفذ منها رحمته وينفتح عليهم رضوانه، ما يجعل الخلود في النّار هو النهاية الطبيعية التي ينتهون إليها.

{وَالَّذِينَ ءَامَنُو} باللّه ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} التي أراد اللّه لعباده أن يأخذوا بها في حياتهم الفردية والاجتماعية وفي علاقاتهم العامة والخاصة، فكانوا التجسيد الفكري للحقّ، والواقع المتحرّك للخير، الأمر الذي يجعلهم في موقع القرب من اللّه، فلا يزدادون إلاَّ خيراً وطاعة ومحبة وانقياداً له، {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجنّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فهم أهلها ومجتمعها، وهم الذين يمثّلون أخلاقيتها المنفتحة على الروح والرضوان، ويجدّدون لها حيويتها وحركيتها في إنسانيتهم الخيّرة التي عاشت مع اللّه وانتهت إليه في مواقع القرب عنده.

* * *

العاملون أمام الامتيازات الطارئة:

وقد ينبغي للعاملين في حقل التوعية والدعوة الإسلامية، أن يركزوا على هذا الجانب في المفهوم الإسلامي الأصيل للقرب من اللّه والبعد عنه، فلا يسمحوا للامتيازات الطارئة التي توزع الجنّة والنّار بين النّاس على أساس أنسابهم ـ حتى ولو كان النسب مرتبطاً برسول اللّه ـ أو على أساس انتماءاتهم المذهبية من دون أن يكون لذلك أيُّ أثر في سلوكهم العملي وتطلّعاتهم الروحية، لأنَّ ذلك يتنافى مع المفهوم القرآني، الذي يُعتبر الأساس في صحة أيّ مفهوم وفساده، فإذا كان القرآن يطرح القضية في موقع الإيمان والعمل، فكيف يمكن أن نجرّد المقياس من العمل فنعتبره ثانوياً ونبقي على جانب الإيمان وحده؟! ثُم هل يمكن أن نكتشف الإيمان الحقّ إلاَّ من خلال العمل؟! أمّا ما يُخيّل وجوده لدى بعض النّاس من عاطفةٍ إيمانية، إزاء بعض المقدسات أو الروحيات، فإنها قد تدخل في نطاق التربية العاطفية، التي يعيشها الإنسان في طفولته أو في بيئته، بعيداً عن جانب العقيدة عنده.

وقد يحاول البعض أن يُدخل قضية الاستثناءات المطروحة في باب العام والخاص أو المطلق والمقيد، ممّا اعتاد الفقهاء والأصوليون إثارته في كلّ قضية من القضايا الشرعية التي يقف فيها الإنسان بين أمرين، أحدهما يدل على الإطلاق، والآخر يدل على التحديد، فيحملون المطلق على المحدود، فيركزون بذلك الاستثناءات في القاعدة.

ونحن لا نمانع في القضية من ناحية المبدأ، فإنَّ هذه القاعدة اللغوية تُعتبر من بين القواعد المسلّمة في أساليب اللغة العربية، لأنَّ أي متكلّم قد يجري في أسلوبه على إصدار القاعدة من دون قيود لتكون أساساً عاماً يرجع إليه في حالات الشك، ثُمَّ يُتبعها بالاستثناءات في أدلة مستقلة لتكون دليلاً على التقييد. ولكن هذا لا يجري في الحالات التي تدخل في نطاق الضوابط العامة التي يُراد منها التحديد المطلق من أجل إعطاء المفاهيم الأساسية العامة، فقد يدخل ذلك في سياق العموميات أو المطلقات الآبية عن التخصيص أو التقييد ـ كما يقول الأصوليون ـ ولا سيما في أمثال هذه القضايا التي يشعر معها الإنسان، بأنَّ المفهوم المطروح في الآية ينسجم مع طبيعة العلاقة التي تربط اللّه بعباده، حيث لا أساس لأيّ شيء ذاتي في هذا المجال، لما ذكرناه من تساوي الخلق أمام اللّه في كلّ الامتيازات المتوهمة، فلا يبقى إلاَّ العمل المستند إلى الإيمان.

أمّا حديث المغفرة في غير حالة الإشراك باللّه، فهذا لا يدخل في نطاق حديثنا، لأنَّ حديثنا يرتكز على أساس الاستحقاق. أمّا المغفرة وعدمها، فإنها تدخل في نطاق التنفيذ، فقد أخذ اللّه على نفسه ـ برحمته ولطفه ـ أن يعفو عن المذنبين الذين يستحقون دخول النّار أو الخلود فيها، وذلك بلحاظ بعض الأعمال أو النيَّات التي تجعل الإنسان موضعاً لرحمة اللّه.

وخلاصة الحديث، أنَّ من الضروري التركيز على هذا المقياس في الثواب والعقاب في التربية الإسلامية للمؤمنين، ليكون ذلك حافزاً لهم على تنمية الإيمان والعمل في حياتهم، ليتقرّبوا بذلك إلى اللّه طمعاً في نيل رضاه، ولا يستسلموا للامتيازات الطارئة، بحيث يتركون العمل، أو يتهاونون فيه اعتماداً على ما يخيّل إليهم من أسباب الأمان.

(1) مغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، دار العلم للملايين، ط:4، حزيران 1990م، م:1، ص:133.

(2) مجمع البيان، ج :1، ص:291.

(3) مجمع البيان، ج:1، ص:286.

(4) مجمع البيان، ج:1، ص:292.