من الآية 87 الى الآية 96
الآيــات
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللّه بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللّه مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللّه قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللّه مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقوّة وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخرة عِندَ اللّه خَالِصَةً مِّن دُونِ النّاس فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاس عَلَى حَيَوةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (87ـ96).
* * *
معاني المفردات:
{وَقَفَّيْنَ} : أصله من القفا، يقال: قفوت فلاناً إذا صرت خلف قفاه.
{الْبَيِّنَاتِ} : جمع بيّنة، وهي الدليل والحجة.
{وَأَيَّدْنَاهُ} : قوّيناه.
{بِرُوحِ الْقُدُسِ} : جبرائيل، ويطلق عليه الروح الأمين.
{غُلْفٌ} : جمع أغلف، أي عليها غشاوة.
{يَسْتَفْتِحُونَ} : يطلبون الفتح ويستنصرون.
{بَغْيً} : عدواناً.
{فَبَآءُو} : استوجبوا واستحقّوا واستقروا بغضب على غضب.
{خَالِصَةً} : صافية.
{يُعَمَّرَ} : يعيش طويلاً، يمتدّ عمره.
* * *
القرآن يفضح أساليب اليهود:
في هذه الآيات، يتابع القرآن الكريم حملة التعرية لتاريخ بني إسرائيل، من أجل مواجهة اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية، فهم يُعتبرون امتداداً تاريخياً وعملياً لهم، ولهذا كان الهدف القرآني هو تعرية واقعهم الروحي والفكري والعملي... وفي ضوء ذلك، تتلاحق الآيات الكريمة لتشرح أساليبهم الملتوية مع النبيّ (ص)، ولتواجههم بالموقف الذي كانوا يقفونه قبل الرسالة عندما كانوا يستفتحون على النّاس في المدينة بالنبيّ الموعود الذي ينصرهُم على الآخرين، حتى إذا جاءت الرسالة التي اصطدموا من خلالها بالواقع، كانوا أوّل المحاربين لها والمقاومين لتقدّمها. وجاء القرآن في أسلوب عقلاني هادىء يفضح واقعهم وينقد المبررات والحجج التي كانوا يبررون من خلالها مواقفهم المعادية للإسلام.
* * *
موقف اليهود من الأنبياء:
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} .
ما هو موقف اليهود من الأنبياء؟ إنَّ القرآن الكريم يُجمل القضية في هذه الآية التي يستعرض فيها النبوّات من لدن موسى الذي جاء وبيده كتاب اللّه، مروراً بالرسل الذين جاءوا من بعده، وانتهاءً بعيسى الذي أرسله اللّه، ومعه البينات التي تثبت رسالته ونبوّته وأيّدَه بروح القدس. إنَّ الموقف الذي يحكم سلوكهم من كلّ نبيّ هو موافقته لشهواتهم وأطماعهم وأهوائهم أو عدم موافقته لذلك، فإذا لم يحقّق لهم ما يريدون ولم يوافق على ما يشتهون، فإنهم يستكبرون عليه بما يملكون من جاهٍ ومالٍ وقوّة، ومن تاريخ رسالي، ومن كتاب سماوي يتبجحون بالانتماء إليه... ويُعبرون عن ذلك بالتكذيب تارةً لبعض الأنبياء الذين لا يستطيعون قتلهم نتيجة الظروف الموضوعية الخاصة، مما يدخل في حساب القوّة الذاتية للنبيّ لكثرة قومه كما في قوم شعيب، وبالقتل أخرى للأنبياء الذين لا يملكون أيّ نوعٍ من أنواع القوّة التي تمنحهم الحصانة في نظر بني إسرائيل. وكأنَّ القرآن يريد أن يعطي الموقف الذي يقفه اليهود من النبيّ محمَّد (ص) بُعداً تاريخياً يدخل في حساب تكوين الشخصية، وفي العقدة المتأصلة التي يعاني منها هذا الشعب بشكل عام من الأنبياء ورسالاتهم.
* * *
ادعاؤهم عدم الفهم:
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي مغلقة عن وعي الأفكار والدعوات والتعاليم التي يدعون إليها، وهذا ما كانوا يواجهون به الأنبياء الذين يطلبون منهم الفهم والتأمّل في ما يقدّم إليهم من براهين وحجج وآيات، فكان ردّ الفعل لديهم تظاهرهم بعدم الفهم أو بعدم القدرة على الإدراك، لأنَّ قلوبهم لا تملك الذكاء الذي تستطيع من خلاله الوصول إلى أبعاد القضية. وقد يكون هذا الزعم هروباً من الدخول في عملية الحوار، وقد يكون استهزاءً وسخرية بالنبيّ عندما يقابلونه بهذا المنطق، الذي يجعله حائراً لا يدري كيف يواجه الموقف الجديد الذي لا يحقّق أيّ صدًى لصوته، وهذا ما جعل التعليق القرآني عليهم عنيفاً قاسياً، لأنهم لا ينطلقون من مواقعٍ صحيحة، ]بَل لَّعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ} فقلوبهم كقلوب بقية النّاس، وأفكارهم كأفكارهم في إمكان التقائها بالحقيقة ووعيها للمفاهيم التي تقدّم إليها، وقدرتها على الدخول في عملية الحوار والمناقشة، ولكنَّهم فضلوا الكفر على الإيمان. ولما لم يجدوا حجةً على موقفهم الكافر، لجأوا إلى هذا المنطق ليبرّروا ذلك، فأبعدهم اللّه عن ساحته، وهذا معنى اللعن لغةً؛ {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} لأنهم لا يريدون الإيمان.
* * *
كفرهم بدعوة النبيّ محمَّد (ص):
وجاء القرآن على لسان النبيّ محمَّد (ص) يحمل في آياته التصديق لما في التوراة من عقيدة ومفهوم وتشريع، ليكون ذلك حجة عليهم من اللّه، لأنَّ التوراة لم تكن منتشرة بين النّاس ليتهموه بنقلها وتعلّمها، بل كانت محتكرة عند اليهود بلغةٍ غير عربية، وكان اليهود قبل الرسالة {يَسْتَفْتِحُونَ} أي يطلبون الفتح والنصر على الكافرين الوثنيين المقيمين في المدينة عند اشتداد المشاكل والخلافات فيما بينهم وشعورهم بالضعف أمام قوّة الآخرين، ويقولون لهم: إننا سنكون في موقف القوّة عند ظهور النبيّ الموعود في هذه البلاد، فنقتلكم ونهلككم لأنه سيكون معنا فينصرنا عليكم. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {وَلَمَّا جَآءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} لأنَّ الرسالة الإسلامية كبقية الرسالات التي سبقتها، لم تأتِ لتنسف الرسالات المتقدّمة أو تنسخها بل لتكملها، ولذا جاء الحديث المأثور عن النبيّ محمَّد (ص): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[1]، وروي عن عيسى (ع) أنه قال: جئت لأكمل الناموس.. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُو} بالنبيّ وبالرسالة، ] فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ[ من الرسالة في ما سمعوه من آياتها وعرفوه من شرائعها، ورأوا الانسجام واضحاً بينها وبين ما لديهم من التوراة، وأيقنوا الحقّ في موقف النبيّ ودعوته، {كَفَرُواْ بِهِ} وجحدوه بغياً وحسداً وعدواناً. {فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ} لأنهم ابتعدوا عن اللّه بعد أن عرفوا طريقه، فأبعدهم اللّه عنه.
* * *
بيعهم أنفسهم بدون ثمن:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} ؛ والشراء هنا بمعنى البيع، كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، {أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللّه بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللّه مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} فهم لم يكفروا لشبهةٍ عرضت لهم أو لعدم وضوح الحقّ لديهم، بل كان الكفرُ كفرَ عدوان وعناد وحسد، لأنهم عرفوا من تعاليم الإسلام ومن مواقف النبيّ (ص) أنه لا يمنحهم أيّ امتياز يميّزهم عن سائر المسلمين، فشعروا بأنهم سيتحولون مع هذا الدِّين الجديد إلى أتباع عاديين، وبذلك يفقدون المواقع التي كانوا فيها والامتيازات التي حصلوا عليها..
وهنا يقف القرآن ليشجب هذا الموقف ويندّد بهم، ويقول لهم إنهم باعوا أنفسهم بدون ثمن، لأنهم لم يحصلوا إلاَّ على البغي والحسد الذي لن يؤدي بالإنسان إلى نتيجة محترمة، بل يؤدي بهم إلى الشعور القاتل الذي يحوِّل داخل الإنسان إلى عقدة ضاغطة تقضي عليه في نهاية المطاف. وقد أوضح القرآن طبيعة هذا الحسد، فقد كانوا يحبون أن ينزل القرآن عليهم ليكمّل تاريخ النبوّات لبني إسرائيل، ليعزز من مكانتهم ويرفع من امتيازاتهم ويقوّي من مواقفهم... {فَبَآءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} ؛ الغضب الأول ما واجهوه عند تمرّدهم على موسى وعلى الأنبياء من بعده قبل النبيّ محمَّد (ص)، والغضب الثاني عندما تمرّدوا على النبيّ محمَّد (ص). {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} في الآخرة.
ويزداد الموقف وضوحاً في ما يكشفه القرآن لنا من ملامح شخصيتهم في هذا الحوار: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللّه} ، فهذا كتاب اللّه أمامكم فآمنوا به. {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَ} فنحن أصحاب كتاب سماوي أنزله اللّه علينا، فلا حاجة لنا بغيره، لأنه يحقّق لنا الكفاية في ما نحتاجه من أمور الدنيا والآخرة. {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} من الكتب السَّماوية من الإنجيل والقرآن، {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} . وبذلك كان الإيمان بكتابهم مستلزماً للإيمان بالقرآن لأنه يصدق التوراة في تعاليمها.
وهنا تتجلى عملية التعرية في أوضح بيان؛ إنَّ القرآن يتجه إليهم ليقول لهم: هل أنتم جادّون في دعوى الإيمان بما أنزل عليكم من كتاب؟ هل تنطلقون فيها من مواقع الحقّ والإيمان، أم أنها مجرّد مبرر استعراضي تحاولون من خلاله تبرير كفركم بالقرآن؟ إنكم كاذبون في ذلك، لأنَّ المؤمن بشيء لا بُدَّ له أن ينسجم مع إيمانه في مجال العمل به من جهة، وفي مجال التقديس لأنبياء الإيمان من جهةٍ أخرى، ولكنَّكم سرتم في غير هذا الاتجاه. {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللّه مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وهم الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى، يحملون رسالته، ويدعون النّاس إلى العمل بالكتاب، ويُعتبرون امتداداً طبيعياً له؟ ولم يقتصر الموقف المعاند على هؤلاء الأنبياء، فماذا عن موقفكم من موسى الذي جاء بالكتاب؟
{وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} لأنفسكم في عبادتكم لغير اللّه، مع أنَّ موسى قد دعاكم إلى عبادة اللّه الواحد الأحد. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} بعد إنزال الكتاب {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل، حتى ظللنا عليكم به في طريقة إعجازية، وقلنا لكم في مجال دعوتكم إلى حمل المسؤولية تجاه أنفسكم وتجاه النّاس: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقوّة} وقناعة ويقين وعزيمة لا ضعف فيها {وَاسْمَعُو} سماع وعي في الإيمان وطاعةٍ في العمل؛ فماذا كان الجواب؟ ] قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا[ ، لقد سمعنا كلّ ما قلت ولكنَّنا غير مستعدين للانسجام معك في واقعنا العملي، لأننا لا نريد تغيير واقعنا وعاداتنا وأوضاعنا التي تلتقي بأطماعنا وشهواتنا ومواقعنا في الحياة، {وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} فلا تزال ذكريات العجل تعيش في وجدانهم وقلوبهم، ولا يزال حبّه يجري في مشاعرهم مجرى الدم في العروق. وهنا يوحي القرآن ـ في أسلوبه ـ بالمرارة والسخرية منهم في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإذا كان إيمانكم يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل وإنكار الحقّ، فبئس هذا الاتجاه الإيماني الغريب في ما يأمر به، ممّا يضاد معناه وحيويته، ولكن الحقيقة هي أنكم غير مؤمنين، لأنَّ للإيمان وحيه الطاهر الذي يملأ روح الإنسان بالخير ويحرّك طاقاته في طريق الطاعة والعبادة والحقّ والصلاح.
ثُمَّ يعود القرآن إلى فكرة «شعب اللّه المختار» التي يعيشها اليهود في داخلهم كحقيقة دينية عميقة، فيشعرون معها بالاستكبار والعلوّ والرفعة على الآخرين، ليناقشها مناقشة تفصيلية بعد أن كان قد أشار إليها، في ما تقدّم، إشارة مجملة.
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخرة عِندَ اللّه خَالِصَةً} من كلّ محاسبة ومسؤولية {مِّن دُونِ النّاس} الَّذين يحاسَبون على كلّ ما عملوا من صغيرة وكبيرة، {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لأنَّ الدار الآخرة للمؤمنين في التفكير الديني نعيم لا بؤس فيه، وسعادة لا شقاء معها، فهي الحياة المثالية التي هي أعلى مستوى للحياة، لأنها تحقّق للإنسان كلّ أحلامه بل فوق أحلامه؛ كما ورد في الحديث المأثور عن الجنّة: فيها «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»[2]. فإذا كانت لكم هذه المنزلة الرفيعة، التي تمنحكم مثل هذه الحياة عند اللّه، فتمنّوا الموت الذي ينقلكم إليها من دون جهد أو تعب، فإنَّ الإنسان يتمنى المستوى الأفضل للحياة بشكل طبيعي. {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} فهم يعرفون ما قدّموا من جرائم يحاسبون عليها يوم القيامة، فيتعرضون من أجلها لأقصى أنواع العقاب، فكيف يتمنّون الموت بعد ذلك؟ {وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} .
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاس عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُو} أحرص النّاس على حياة، مهما كانت ذليلة أو غير مسؤولة، هؤلاء الذين يعتبرون الحياة الدنيا نهاية المطاف والفرصة الأخيرة للاستمتاع، إنهم لا يحرصون على هذه الحياة كما يحرص عليها اليهود {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ليبتعد عن أشباح الجريمة والعقاب التي تلاحقه في يقظته ومنامه، ولكن ما فائدة الألف سنة من العمر لو عُمّر ألف سنة؟! إنَّ النتيجة الحاسمة ستكون أمامه {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} لأنه سيلتقي بالعذاب وجهاً لوجه على أساس ما جنته يداه {وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .
* * *
الدروس والإيحاءات ـ النماذج المعاصرة:
أمّا ما نستوحيه من هذا الفصل من السورة، فهو أن نتابع هذا التاريخ من خلال النماذج الحيّة الموجودة في الحاضر التي تواجه الدعاة إلى اللّه بالتكذيب تارةً، وبالسجن أخرى، وبالقتل في بعض الحالات، وذلك لعدم انسجام شعارات الدعوة الإسلامية الحقّة مع أهوائهم وأطماعهم وامتيازاتهم، في الوقت الذي نجد هذه النماذج تحمل مع شعاراتها الكثير من كلمات الإصلاح والخير والإيمان بالرسالات السَّماوية...
وقد نجد كثيراً من ظلال هذه الصورة في بعض هؤلاء الذين كانوا ينتقدون الأسلوب التقليدي للعمل الإسلامي في أساليب العاملين من التقليديين، بحجة أنها لا تحقّق للإنسان أهدافه في الحياة العملية الكريمة، التي تبحث عن التنظيم الواسع الدقيق لمطامحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فلا بُدَّ للإسلام من أن يتحرّك في هذا الاتجاه بعقلية جديدة وأسلوب جديد. فلمّا تحرّكت المسيرة الإسلامية الواعية لتقدّم الإسلام للنّاس في صورته الشاملة الكاملة، بالأسلوب الذي لا يشعرون معه بوجود فراغ في أيّ جانب من الجوانب، وقفوا أمامها بالعنف والتعسف والجحود والنكران.. إنهم يشبهون كثيراً اليهود الذين جاءهم كتاب مصدّق لما معهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا، على الرغم من أنهم كانوا يستفتحون به على الكافرين.
وقد نجد أمامنا صورة اليهود الذين يكفرون بما أنزل اللّه بغياً، وذلك في صورة هؤلاء الذين يرفضون العمل لأنهم لا يؤمنون به إلاَّ إذا كانوا على قمّته، ولا يتفاعلون معه إلاَّ إذا جاء من طريقهم، فليسوا مستعدين للإيمان إذا كان من وحي الآخرين. إنهم الأنانيون الذين لا يؤمنون بالدعوة إلاَّ إذا كانت تحقّق لهم امتيازاتهم الدنيوية. ثُمَّ تمتد الصورة في حياتنا لتكشف لنا عن هؤلاء الذين يدعون إلى الإسلام في عقيدته وشريعته، فيبادرون إلى طرح الدعوات المنحرفة التي تلبس لبوس الكفر تارة ولبوس الإسلام أخرى، ويقولون إننا نؤمن بما لدينا من مبادىء وأفكار، من دون أن يكلّفوا أنفسهم الدخول في حوار جدي في ما يقدَّم إليهم من أفكار الإسلام ومفاهيمه، ليتعرفوا من ذلك كيف يستطيع الإسلام أن يحقّق لهم الشعارات التي يرفعونها بأفضل صورة وأروع أسلوب. إنها الصورة نفسها التي يقدّمها القرآن لهؤلاء الذين يقولون: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} مع تبديل في المواقع وفي تفاصيل المنظر.
إنَّ قيمة التاريخ القرآني تتمثّل في ما يقدّمه لنا من نماذج حيّة متحرّكة لا تتجمد في زوايا التاريخ، بل تظلّ تحمل للحاضر والمستقبل الغنى والامتداد في ما يواجهه الإنسان في مراحل تطوّره من مظاهر الانحراف والاستقامة والكفر والإيمان... وتلك هي مهمّة القارىء للقرآن والدارس له؛ أن لا يظل يدور حول الصورة القرآنية للإنسان في خطوات التاريخ، بل يحاول أن يرصد من خلالها الصور القادمة في حركة المستقبل، ليعطي الحياة للآية في وعيه وفي وعي الآخرين.
(1) البحار، م:6، ج:16، باب:9، ص:408.
(2) البحار، م:3، ج:8، باب:23، ص:489.