تفسير القرآن
البقرة / من الآية 99 إلى الآية 101

من الآية 99 إلى الآية 101

الآيــات

{وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّه وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (99ـ101).

* * *

معاني المفردات:

{نَّبَذَهُ} : طرحه ورمى به وألقاه.

* * *

ديدن اليهود نقض العهود:

في هذه الآيات عودة إلى توضيح الصورة القلقة في سلوك المجتمع اليهودي آنذاك، فهم يكفرون بآيات اللّه التي أنزلت على النبيّ (ص)، مع وضوح دلائل ألوهيتها، ونراهم ـ في الوقت نفسه ـ يدّعون لأنفسهم الاستقامة والثبات على الخطّ، ويتجاهلون مدلول تصرفاتهم المتذبذبة؛ فالذي يكفر بها مع هذا الوضوح، لا يمكن إلاَّ أن يكون فاسقاً خارجاً عن خطّ الإيمان، وفي هذا إيحاء بأنَّ الكفر والفسق في المدلول القرآني لا يمثّلان مصطلحين متقابلين، كما هي الحال في مفهوم الفقهاء، حيث يطلقون الفسق على ما يقابل العدالة، مع التحفظ على مبدأ الإيمان في العقيدة، ويطلقون الكفر على ما يقابل الإيمان، مع عدم ملاحظة جانب العمل في ذلك.

ثُمَّ تكمل الآية الصورة في المجال العملي؛ فنواجه نقض العهود التي كانوا يعقدونها مع النبيّ محمَّد (ص) ومع الآخرين. فهذا هو ديدنهم وطريقتهم في علاقاتهم الاجتماعية، ثُمَّ اعتبر القرآن الكريم أنَّ الفريق الذي يمارس هذا السلوك يمثّل الأكثرية المنطلقة من عدم الإيمان، لأنَّ الإيمان يدعو إلى الحقّ، والحقّ يدعو إلى الوفاء.

وتتضح الصورة في الجانب التطبيقي للفكرة التي ألمحت إليها الآية مع بعض التفاصيل، فقد جاء رسول اللّه ومعه القرآن الذي يصدّق ما لديهم من التوراة، حتى أنهم لا يحتاجون في التعرّف على صحته إلاَّ إلى الرجوع إلى التوراة ليقارنوا بينها وبينه، ولكنَّهم نبذوا التوراة التي هي كتاب اللّه وراء ظهورهم، فلم يعملوا بها، لأنّ ذلك لا ينسجم مع عصبيتهم وأنانياتهم، كأنهم لا يعلمون وجه الحقّ في ذلك، مع أنهم يعلمونه حقّاً كما يعرفون أنفسهم وأولادهم، وذلك هو الضلال الكبير.

* * *

{وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ} في هذا القرآن الذي بين يديك، في وضوح الفكرة فيها، وعمق الحجّة التي تؤدي إلى الالتزام بالإيمان، {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} الذين يتحرّكون في الحياة من خلال ذهنية التمرّد على اللّه في سلوكهم العملي، الأمر الذي يصل بهم إلى الكفر، لأنَّ الإيمان يفرض عليهم الالتزام الدقيق بالمضمون الواسع للتوحيد في حركة الواقع، فيكفرون هرباً من الالتزام من غير عقدة فكريةٍ تفرض عليهم ذلك؛ ومن هنا نفهم أنَّ الكفر قد يكون نتيجة الفسق كعنصر سلبي من عناصر شخصية الكافرين.

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدً} في ما عاهدوا اللّه عليه، أو في ما أبرموه مع الأنبياء أو مع النّاس، {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} وطرحوه انطلاقاً من فقدانهم للقاعدة الروحية الأخلاقية التي تدعو الإنسان إلى الالتزام بعهوده، كمظهرٍ من مظاهر التوازن في الشخصية والاحترام للذات والآخرين، لأنَّ الذي ينقض عهده ويتنكر لكلمته هو إنسان لا يحترم نفسه في التزاماتها ولا يحترم الآخرين في علاقته بهم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فليست القضية في الانحراف لديهم حالة جزئية محدودة، بل هي ظاهرة بارزة في مجتمعهم في حجم الأكثرية الرافضة للإيمان والمؤثرة سلباً على التزامات الإنسان في عهوده. {وَلَمَّا جَآءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّه} وهو محمَّد (ص)، {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة في مفاهيمه وشرائعه ]نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وهم الأكثرية، كتأكيد لما ورد في الآية السابقة، {كِتَابَ اللّه وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} فلم يؤمنوا به ولم يدخلوا مع النبيّ في حوار حوله، ليتعرفوا بذلك الدلائل الواضحة على صدقه، {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} كما لو كانوا لا يعرفون الحقائق الواضحة التي يعرفونها، والمتمثّلة في آياته.

وفي الآية دلالة إيحائية على أنَّ هناك أقلّية من أهل الكتاب دخلت في الإسلام، وانفتحت عليه وعلى رسوله وكتابه، ولذلك فإنه يشير إليها ولا يلغي دورها.