تفسير القرآن
البقرة / من الآية 104 إلى الآية 110

 من الآية 104 الى الآية 110

الآيــات

{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ* مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْألُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّه إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(104ـ110).

* * *

معاني المفردات:

{رَاعِنَ} : أرعيته سمعي: إذا أصغيت إليه، وراعيته بعيني: إذا لاحظته. والمراعاة التّفقّد للشيء ونقيضها الإغفال.

{انظُرْنَ} : أمهلنا.

{نَنسَخْ} : نُبدّل؛ وقيل: نمحو؛ وقيل: ننقل من حكم إلى غيره فنبدّله ونغيّره، ولا يكون ذلك إلاَّ في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.

{حَسَدً} : كراهية النعمة للغير، وحبّ زوالها عنه، بخلاف الغبطة التي تكون في تمني الإنسان ما عند غيره من نعمة دون أن يتمنى زوالها عنه.

* * *

وقفة مع سبب نزول الآية:

لقد كانت هذه الآية ـ في ما يقول المفسرون في أسباب النزول ـ من أجل توجيه المسلمين إلى استبدال الكلمات التي يمكن أن تعبّر عن معنى سيىء في لغةٍ أخرى، مما يمكن أن يستغلّه أعداء الإسلام في الانتقاص من الإسلام والمسلمين، من دون أن يكون لنا حجةٌ عليهم في ذلك، لأنهم يحاولون الإيحاء بأنهم يريدون بها المعنى الظاهر الذي يقصده منها سائر النّاس، وهذا ما حدث في عهد الرسالة الأوّل في المدينة في كلمة: «راعنا» التي كان المسلمون يخاطبون بها النبيّ طالبين منه أن يصغي إليهم بسمعه، فقد ورد في اللغة: «أرعيته سمعي» إذا أصغيت إليه، ولكن لها معنىً آخر عند اليهود يوحي بالسبّ والانتقاص، فقد ورد أنَّ معنى «راعنا» لديهم من الرعونة يريدون بها الوقيعة والنقيصة، وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر (ع) ـ كما في مجمع البيان ـ أنَّ «هذه الكلمة سبٌّ بالعبرانية، إليه كانوا يذهبون»[1]. فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول المسلمون، فأراد اللّه للمسلمين أن لا يتركوا لليهود مجالاً للتنفيس عن حقدهم بهذه الطريقة ولا يَدَعوا لهم باباً للاستهزاء، فعلّمهم أن يقولوا: «انظرنا» أي انظر إلينا أو أقبل علينا، أو ما شاكل ذلك من معان.

* * *

توعية القرآن للمؤمنين في حركة الواقع:

{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو} ممن التزموا الإيمان في أقوالهم وأفعالهم، {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَ} وأمثالها من الكلمات التي قد توحي بمعنى مختلفٍ عن المعنى المقصود، فيوحي بالإساءة من حيث يريد المتكلّم الإحسان، فإنَّ كلمة «راعنا» التي تطلقونها في حديثكم مع النبيّ محمَّد (ص) لتقصدوا منها معناها الظاهر عندكم في اللغة العربية، أي راعنا سمعك، بمعنى أعطنا سمعك واسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه، أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا، فإنَّ اليهود يقصدون بها السبّ، لأنهم يستقونها من الرعونة وهي الجهل والحمق، بحسب مدلولها في لغتهم ـ كما يُقال ـ ولكن {وَقُولُواْ انظُرْنَ} أي انظر إلينا أو انتظرنا وتأنَّ علينا، {وَاسْمَعُو} أيُّها المؤمنون كلام اللّه بتأمّل وتدبّرٍ وتفكير، لتفهموا مقاصده، ولتعرفوا إيحاءاته، فذلك ما يثبت إيمانكم وينطلق بكم في خطّ الاستقامة، أمّا الكافرون الذين لا يسمعون كلام اللّه، وإذا سمعوه أعرضوا عن الانفتاح عليه أو حرّفوه عن مواضعه، فإنهم يسقطون في عذاب اللّه، {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جزاءً لهم على جحودهم وإنكارهم بعد قيام الحجّة عليهم.

* * *

دقة المصطلحات وإيحاءاتها:

وهذه قاعدة إسلامية توحي للمسلمين في كلّ زمان ومكان بالتدقيق في مداليل الكلمات والمصطلحات التي يستعملونها، ودراسة الآفاق التي يمكن أن تثيرها في ما لها من مفاهيم ضيّقةٍ أو واسعة لدى النّاس، مما قد يلتقي بالمعنى الإسلامي الأصيل، ومما قد لا يلتقي به، لئلاّ يُساءَ استغلالها من قِبَل الآخرين في مقاصد شرّيرة ضالّةٍ أو كافرةٍ يُراد بها تمييع المفاهيم الإسلامية وإرباكها، كما نلاحظ في بعض الكلمات التي أخذت في حياة النّاس أبعاداً معينة لا تنسجم مع التفكير الإسلامي، كما في كلمة «الحرية» التي أصبحت تحمل من المعاني الكثير الكثير مما قد لا يتوافق مع الحدود التي يقف التشريع الإسلامي عندها في أوضاع الإنسان وأفعاله وعلاقاته وأقواله... فقد أخذت هذه الكلمة بعضاً من أفكار الاتجاه الرأسمالي الذي يعطي الفرد مساحةً واسعة في تصرفاته بعيداً عن كلّ مضمون أخلاقي أو إنساني، فأصبح من ملامحها البارزة أن يسمح الإنسان الفرد لنفسه بأن يفعل ما يشاء في علاقاته الجنسية، أو الاقتصادية، أو السياسية... بشرط أن لا يعتدي على حرية غيره، بل ربما امتد ذلك إلى حرية الانتحار مما لا يوافق عليه الإسلام. وهكذا القول في كلمة الديمقراطية التي يستعملها بعض المسلمين في الأسلوب الذي يضادّ الاستبداد والفردية والتسلّط في الحكم والتشريع والعلاقات العامة، ويتناسب مع الطريقة السمحة المتواضعة في صفات النّاس، فيُقال: إنَّ الإسلام ديمقراطي، للتدليل على ما فيه من معاني الشورى والتسامح، ويُقال إنَّ فلاناً ديمقراطي في أخلاقه بمعنى أنه متواضع؛ ولكن الكلمة تحمل في داخلها معنى يختلف عن ذلك كلّه في حدوده الفكرية والتشريعية والاقتصادية، ما يوجب اختلالاً في المفهوم الأساسي، الأمر الذي قد يتجه بالتفكير إلى غير ما نريد، فيخلق في حياتنا ذهنية غريبة لا ترتضي التشريعات أو الأفكار التي لا تنسجم مع الاتجاه الديمقراطي للحكم والتشريع في ما تعنيه كلمة الديمقراطية.. ولهذا، فإننا نتحفظ على مثل هذا التعبير، ولا نرى صلاحاً في استعماله في حديثنا عن الإسلام وعن المسلمين.

ويمكن لنا أن نضيف إلى هاتين الكلمتين كلمة «الاشتراكية»، التي شاع استعمالها في أحاديثنا عن الإسلام في مفهومه لحل مشكلة الفقر وفي تشريعاته المالية، فقد رأينا البعض يعطي الإسلام صفة الدِّين الاشتراكي كطريقة من طرق إعطاء الإسلام طابعاً إنسانياً عادلاً، ولكن هذه الكلمة تحمل في داخلها معنى آخر يختلف مع الإسلام في حدوده التشريعية والعملية، لأنه يلتقي باعتبار الدولة صاحبة الحقّ الشرعي في ملكية وسائل الإنتاج وتحديد الملكية في مصادرها ومواردها، وغير ذلك مما قد لا يتفق الإسلام معه في أكثر مجالاته.

إنَّ القضية التي نستوحيها من الآية، هي أنَّ علينا أن لا نفسح في المجال لاستغلال الكلمة في غير مدلولها الذي نؤمن به، حتى لو كان المدلول المضاد مرتبطاً بها من خلال لغة أخرى أو عُرفٍ آخر، أو أجواء معينة تضفي عليها طابعاً خاصاً، كما في كلمة السلام أو «أنصار السلام»، التي حملت جوّاً حزبياً يوحي بالانتماء إلى بعض المبادىء على أساس اعتبارها مصطلحاً جذاباً للكسب والاستغلال الحزبي، وإن لم يكن للكلمة هذا المعنى بحسب طبيعتها ومعناها اللغوي..

* * *

عقدة الكافرين من المسلمين:

{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . في هذه الآية يريد اللّه أن ينفذ بالمسلمين إلى أعماق الكفّار من أهل الكتاب والمشركين، ليعرِّفهم أنَّ القضية قد تحوّلت في وعي هؤلاء إلى عقدة ذاتية مستعصية يختلط فيها البغي والحسد، فلم تعد القضية لديهم قضية الإيمان والكفر كشيء يتصل بالحقيقة في العقيدة والحياة، بل عادت مجرّد حالةٍ نفسية معقدة ضدّ المسلمين كجماعة تواجه جماعة من مواقع السلطة والغلبة، فلا يريدون لهم أن يُنزَّل عليهم خير من اللّه، ولا سيما النبوّة التي ورد في بعض الرِّوايات تفسير الخير بها، ولكنَّنا نعتبر ذلك من التفسير التطبيقي الذي يُراد به الإيحاء بأفضل المصاديق أو أبرزها في الدلالة على المعنى، فإنَّ من البديهي هنا اعتبار النبوّة من أبرز مجالات الخير النازل من اللّه عليهم إن لم يكن أبرزها، لأنها تمثّل المركز الأسمى الذي يُعتبر فيه الإنسان ـ الرسول صلة الوصل الروحي والرسالي بين اللّه وبين عباده، كما تتحوّل الجماعة المؤمنة ـ من خلاله ـ إلى قائدةٍ للمجتمعات الأخرى وشاهدة على النّاس. أمّا في مجال الحياة الواسع، فإنها تجمع للإنسان كلّ خطوات الخير ووسائله وموارده ومصادره مما يحقّق له السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا ما لا يريده الكفّار للمسلمين بفعل حقدهم وعداوتهم وحسدهم، ولكنّ اللّه لا يتّبع أهواءهم في ما يريد وفي ما لا يريد، بل هو الحكيم الرحيم الذي يُجري الأمور على وفق الحقّ ويختص برحمته من يشاء، فلا ينسى عباده المؤمنين من فضله، واللّه ذو الفضل العظيم.

{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} والمراد بهم هنا اليهود، على حسب ما ورد في أسباب النزول، ومن خلال الأجواء الإسلامية المتحرّكة في واقع المسلمين في مرحلة نزول الآية التي كانوا يواجهون فيها الصراع مع المنطق اليهودي الذي كان يعمل على إرباك الدعوة، {وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} الذين كانوا يتربصون بالإسلام وبالمسلمين الدوائر ليكيدوا لهم، وليسقطوا مواقعهم، وليُدخلوهم في أجواء الاهتزاز والزلزال النفسي الذي يؤدي بهم إلى التراجع عن دينهم، {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ، لأنَّ المسألة لم تنطلق لديهم من حسابات فكريةٍ دقيقة، ولا من شبهات معقّدة، ولا من موقع يوحي بالرفض، بل كانت منطلقة من عقدة مَرَضيةٍ مستعصية، لأنهم اتّخذوا منكم موقف العداء؛ الأمر الذي جعلهم يحسدونكم على ما أنعم اللّه به عليكم من رسالته التي أنزلها على رسوله ليبلّغها لكم، {وَاللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} ، فهو يملك العطاء والمنع، وهو يعلم مصالح عباده في ما يعطيهم أو يمنعهم، ويطلع على خصائص أوضاعهم الداخلية والخارجية، فيصطفي من رسله من يشاء وينزل رسالته على من يشاء، تفضلاً منه وكرماً، في خطّ الحكمة الإلهية التي يختص بها عباده {وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الذي لا ينكر أحد فضله في كلّ نعمه التي يفيض بها على عباده الصالحين.

* * *

من وحي الآية في حركة الحاضر والمستقبل:

وإذا كان لنا استيحاء شيء من هذه الآية يتصل بحياتنا العملية في الحاضر والمستقبل، فقد نجد أنّ بإمكاننا الانطلاق إلى الواقع الذي يواجهه المسلمون في كلّ زمان ومكان في صراعهم مع الفئات الأخرى ممن ينتمون إلى الأديان الأخرى أو إلى المبادىء الكافرة الملحدة، فنلاحظ أنَّ علينا النفاذ إلى الأعماق في دراستنا للحالة النفسية التي يعيشونها تجاهنا، ومدى ما تمثّله من مواقف عملية في السرّ والعلن، مما يدخل في عداد المخططات التي تُعدّ ضدّ تقدّم المسلمين وتطوّرهم وامتدادهم في الآفاق الواسعة الصاعدة في الحياة، وبذلك نستطيع الوصول إلى النتائج الملموسة التي توضح لنا كيف يشعر الآخرون بالخطورة من قوّة الإسلام والمسلمين، لما في ذلك من انعكاساتٍ خطيرة على موقعهم الفكري والسياسي وعلى النطاق الحضاري بشكل عام، تماماً كما هي الحال في الكفّار القدامى من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخافون من قوّة النبيّ محمَّد (ص) وتعاظم الإسلام على امتيازاتهم الذاتية والطبقية ومواقعهم الفكرية.

وفي هذا الجوّ، نشعر بالحاجة إلى الحذر الإيجابي الواعي إزاء كلّ الأساليب المتنوّعة المغلّفة بغلافات ناعمةٍ من اللطف والرقة والعاطفة، الملوّنة بألوان من الحضارة والتقدّم والتنمية والتطوير... وما إلى ذلك من الأساليب التي يريد الآخرون من المستعمرين والكافرين، بشكل عام، أن ينفذوا منها إلى حياة الأمّة، ليدمروا قيمها الروحية من الداخل، وليسيطروا على مقدّراتها المادية والمعنوية كسبيل من سُبُل إضعاف كلّ طاقاتها الحضارية التي تتحرّك من أجل صنع حضارةٍ إسلامية جديدة في المستقبل، كما صنعت حضارة الإنسان في الماضي البعيد.

ومن النقاط المهمة التي ينبغي التركيز عليها في هذا المجال، هي أنَّ الحذر لا يعني السلبية التي تبعدنا عن الارتباط بالعالم من حولنا، بل يعني اليقظة والوعي والمراقبة لكلّ الأساليب والأوضاع والتحرّكات المحيطة بنا، بعينٍ يَقِظَةٍ نفّاذة ناقدةٍ، وبروحٍ واعيةٍ لا تعيش بساطة الفكر وسذاجته في عالَم لا يتعامل مع الحياة إلاَّ من خلال التعقيد، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نعيش عفويّة الروح وبساطتها في جوٍّ يحقّق للإنسان معنى إنسانيته في رحاب اللّه.

* * *

كيف نفهم النسخ؟

{مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . تدل هذه الآية على أنَّ اللّه عندما يرفع آية أو يزيلها لفظاً أو حكماً أو تلاوةً حسب اختلاف أنواع النسخ وأشكاله، أو عندما ينسيها فلا يتذكرها النّاس ليبعدها عن الوجدان الفكري لهم، لانتهاء دورها في المرحلة الجديدة، لأنَّ مضمونها كان صالحاً لفترة سابقة على صعيد التشريع والتوجيه؛ فإنه لا يترك النّاس بدون هدايةٍ جديدة، ولا يفوّت عليهم ما فيها من فوائد ومصالح، بل يأتي بخير مما رفعه عنهم أو أنساهم إيّاه، أو يأتي بمثلها في ما تفتح لهم من أبواب المعرفة، لأنه قادر على كلّ شيء.

ذلك هو المفهوم الحرفي من اللفظ، ولكن ماذا وراء ذلك؟ وما المناسبة فيه؟.

قد تكون القضية واردة في الأجواء الفكرية التي كان يعيشها اليهود في استنكارهم لنسخ الكتب والشرائع السَّماوية بكتاب جديد أو شريعة جديدة، كما ينادي به أتباع عيسى ومحمَّد(ص)، في ما جاء به عيسى من كتاب، وفي ما جاء به محمَّد من كتاب وشريعة، وكانوا ينطلقون في ذلك مما زعموه أساساً لاستحالة النسخ، لأنَّ ذلك يؤدي إلى نسبة عدم الحكمة إلى اللّه إذا رفع الحكم أو الآية مع بقاء الموضوع على ما هو عليه من المصلحة، أو يؤدي إلى نسبة الجهل إليه إذا كان يرى دوام المصلحة فتبيَّن عدم دوامها في حالة ارتفاع المصلحة السابقة. وعلى هذا الأساس، كانوا يستنكرون فكرة النسخ بشكل كلّي، فجاءت هذه الآية لتبيّن لهم وللمسلمين أنَّ اللّه يمكن أن يجري التشريع على مراحل، فيجعل الحكم على أساس مصلحةٍ موقتة بزمان من دون أن يبيّن ذلك للنّاس، بل يتركهم لتصوّرهم ليتخيّلوا استمراره لحكمةٍ في ذلك، ثُمَّ تنتهي المصلحة السابقة لتبدأ مصلحة جديدة بحكم آخر، أو لينزل آية أخرى مماثلة لما سبق في المصلحة أو أفضل منها فيرفع ما كان، وذلك على قاعدة الحكمة البالغة التي اقتضت الجعل في البداية والنهاية.

وربَّما تكون الآية واردة في نطاق الأجواء الإسلامية في نسخ آيات القرآن، بإزالتها حكماً وتلاوةً كما يدّعيه البعض، أو تلاوةً لا حكماً كما يدّعيه بعض آخر في آيات الرجم، أو حكماً لا تلاوةً كما ورد في بعض الآيات التي ادُّعِيَ نسخها في القرآن؛ وعلى هذا تكون الآية واردةً في تبرير ذلك، وبيان أنَّ اللّه بيده رفع الآيات ووضعها، وأنَّ الذي أنزل الآية قادر على أن يُنزل مثلها أو أفضل منها.

ونحن لا نوافق على نسخ التلاوة مع نسخ الحكم أو بدونه، لأنَّ ذلك يؤدي إلى الالتزام بتحريف القرآن ونقصانه، كما أنه لم يثبت إلاَّ بخبر الواحد الذي لا يثبت النسخ به على ما هو رأي جمهور المحقّقين مما هو مذكور في محله.

أمّا نسخ حكم الآية، فهو ممكن في ذاته، ولكنَّ هناك كلاماً بين العلماء في وقوعه في القرآن وعدمه، وهذا ما لا مجال لتفصيل الحديث فيه هنا، لأن مجاله في أبحاث علوم القرآن لا تفسيره، ويمكن للقارىء الرجوع إلى كتاب «البيان في تفسير القرآن» لأستاذنا المحقّق السيِّد أبي القاسم الخوئي، فقد وفّى هذا الموضوع حقّه.

* * *

علاقة الآية بالعصمة في سهو الأنبياء:

وقد ثار جدل كلامي حول الجانب المتعلّق بالنسيان في الآية، فتباينت الآراء، بين رأي لا يجوِّز ذلك لأنه يؤدي إلى التنفير عنه وعدم الثقة بكلامه، لإثارته الاحتمال في كلّ ما يبلغه للنّاس، فلا يبقى مجال للطمأنينة به، وهذا ما ذهب إليه المحقّق الشيخ أبو جعفر محمَّد ابن الحسن الطوسي في تفسيره «التبيان»، على ما نقله صاحب «مجمع البيان»[2]؛ وبين رأي يجوّز ذلك، وهو رأي جماعة من المحقّقين، فقد قالوا إنَّ من الممكن أن يكون النسيان لحكمة واستدلوا عليه بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللّه إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6ـ7] أي إلاَّ ما شاء اللّه أن تنساه... وهذا بحث من أبحاث الكلام المتصلة بعصمة النبيّ عن الخطأ والسهو والنسيان في الموارد التي أريد له أن يزيلها من التشريع في حياة النّاس، ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث، لأنَّ له مجالاً آخر. أمّا رأينا في هذا الموضوع، فهو أنَّ الآية بعيدة عن هذا البحث، لأنَّ النسيان وارد هنا على سبيل الكناية في ما يريد اللّه أن يزيله من التشريع بشكل غير مباشر، في مقابل ما يريد إزالته بشكل مباشر، وهو إبلاغ النبيّ بذلك عن طريق الوحي، ولهذا فإنَّ إنساء اللّه إيَّاه، ليس فيه محذور حتى على رأي من يرى عصمة النبيّ عن السهو والنسيان، لأنه يعتقد ذلك في الموارد التي تدخل في نطاق الشريعة والحياة العامة الطبيعية، لا في ما يدخل في نطاق الإرادة الإلهية التي تتدخل في نسخ الحكم بهذه الطريقة، مما يعدّ جزءاً من حركة الرسالة وطريقتها في إبلاغ الشريعة سلباً أو إيجاباً.

وهناك قراءة أخرى: «أو ننسأها»، من الإنساء وهو التأجيل والتأخير إلى أجل معين، وهذا ما نستبعده لأنها واردة في سياق الاستبدال الذي يعني الإزالة في المبدل منه أساساً؛ واللّه العالم.

وقد يخطر بالبال أنَّ المراد بالآية في هذا الموضوع، هو الآية التكوينية مما يدخل في عداد الظواهر الكونية، أو المعاجز الإلهية التي يرسل بها الأنبياء. وربما يكون ذلك أوفق بمفهوم الآية عرفاً، وأقرب إلى مدلول كلمة النسخ من حيث تعلّقها بالذات، بينما هي متعلّقة بالحكم على المعنى المتقدّم مع فرض بقاء الآية في موقعها من القرآن، كما أنها أكثر صلة بقدرة اللّه التي كانت ختام الآية... وعلى ضوء هذا، يكون مدلول الآية هو أنَّ اللّه قادر على أن يزيل الآيات التي يخلقها أو يرسل بها رسوله ويأتي بخير منها أو مثلها في الكون، أو على يد الرسل؛ وبذلك تكون بعيدة عن جوّ النسخ بمعناه المصطلح، ولكن كلمة «ننسها» قد لا تتناسب كثيراً مع هذا التفسير إلاَّ ببعض الوجوه البعيدة؛ واللّه أعلم بمعاني آياته.

* * *

مع صاحب الميزان في تفسير الآية:

وهناك وجه آخر في فهم الآية يرتكز على شموليتها للجانب التشريعي والتكويني والإنساني، فقد جاء في تفسير الميزان في تفسير كلمة الآية، قال: «إنَّ كون الشيء آية يختلف باختلاف الأشياء والحيثيات والجهات، فالبعض من القرآن آية للّه سبحانه، باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، والأحكام والتكاليف الإلهية آيات له تعالى، باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى، والموجودات العينية آيات له تعالى، باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه، وأنبياء اللّه وأولياؤه تعالى آيات له تعالى، باعتبار دعوتهم إليه بالقول والفعل، وهكذا، ولذلك كانت الآية تقبل الشدّة والضعف، قال اللّه تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18].

ومن جهةٍ أخرى، ربما كانت الآية ذات جهة واحدة، وربما كانت ذات جهات كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصوّر بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصوّر ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.

وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ} »[3].

وهذا المعنى طريف في ذاته، ولكن إرادته من هذه الآية غير ظاهر، لأنها واردة في الأشياء التي هي في معرض النسخ والإزالة مما يتعلّق بحياة النّاس، بالمستوى الذي يثير الجدل فيما بينهم، كما جاء الحديث به عن اليهود في حركة التشريع، أو في تأكيد قدرة اللّه في خلقه، بحيث لا تجري الحياة على شكل واحد، بل يمكن أن تتغيّر وتتبدل لتتحرّك ظاهرة في مرحلة معينة لتحل محلها ظاهرة أخرى مماثلة لها أو أفضل منها انطلاقاً من قدرة اللّه.

وقد لا نجد مناسبة للتعبير عن الأشخاص بالآية من خلال نشاطهم ودعوتهم أو الحديث عنهم بعنوان النسخ ونحوه.

إنها ـ واللّه العالم ـ إشارة إلى ما يكون في معرض الثبات والاستمرار، ليكون النسخ مفاجئاً للنّاس، فيحتاج إلى إزالة مضمون المفاجأة من أذهانهم، لأنَّ اللّه الذي يملك القدرة على الإيجاد قادر على التبديل، ولا دلالة في التعليل على ما ذكره، لأنَّ الحديث عن قدرة اللّه يكفي في مناسبته وجود موضوع له في مسألة التشريع أو التكوين.

* * *

نسخ الآيات للإتيان بخير منها:

{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي نزيلها من التشريع، باعتبار أنَّ تبديل مضمونها من التداول في حياة النّاس إلى مضمون آخر وحكم آخر يمثّل إزالة عمليةً للآية حتى لو بقيت في القرآن لفظاً، لأنها خرجت منه عملاً، لتبقى في مضمونها مجرّد تاريخ في التشريع؛ أو نزيلها من الوجود كظاهرةٍ كونية تتبدل بظاهرة أخرى، أو معجزة تنتهي لتأتي مكانها معجزة أخرى. أمّا معنى «الآية»، فهو العلامة الظاهرة وحقيقته لكلّ شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره، فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته، إذ كان حكمهما سواء، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات، فمن علم ملازمة العَلَم للطريق المنهج، ثُمَّ وجد العَلَم علم أنه وجد الطريق، وكذا إذا علم شيئاً مصنوعاً علم أنه لا بُدَّ له من صانع، كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني[4].

وقد تطلق على كلّ جملة من القرآن دالةٍ على حكم أية سورة كانت أو أي فصل من فصول السورة، وقد يُقال لكلّ كلام منفصل بفصل لفظي، وعلى هذا، اعتبار آيات السورة التي تُعدُّ بها السورة؛ وقد تطلق على المعجزة وعلى الظواهر الكونية الدالة على وجود اللّه والمعاد وعلى الأشياء البارزة الملفتة للأنظار.

{أَوْ نُنسِهَ} أي نهملها من الذاكرة أو نتركها، فلا يكون لها أيّ أثر أو اعتبار في الواقع. {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَ} في العناصر التشريعية التي قد تمنح النّاس نتائج أكبر من الأولى على مستوى حياتهم العامة أو الخاصة في التسهيل أو التيسير، أو في ملاءمتها للمرحلة الثانية بشكل أفضل من الأولى التي كانت تنسجم مع المرحلة الأولى، {أَوْ مِثْلِهَ} في مستوى العناصر الكامنة في الآية الأولى، وإن اختلفت في طبيعتها من حيث خصائصها، كأي شيئين متماثلين في الدرجة مختلفين في الخصائص.

وبهذا يُجاب عن السؤال الذي يفرض نفسه أمام الكلمة، وهو أنه إذا كان هناك تماثل بين الحكم النّاسخ والمنسوخ فما فائدة التغيير، بأنَّ الخصائص قد تختلف لتكون في زمن منتجة للغاية التي كانت من أجلها، وغير منتجة في زمن آخر لحاجتها إلى خصائص أخرى، لأنَّ للزمن دوراً في فعلية الخصائص مع وحدة الغاية. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَمَنْ يخلق الآية ويحرّكها في الوجود أو في التشريع الإنساني لمصلحة معينة في فترة معينة، وَمنْ يبدع آية أخرى في مكانها بعد إزالة الأولى، أو يشرّع حكماً تضمنته الآية بعد نسخ الحكم الأول؟! فإنَّ اللّه لا يعجزه شيء في خلقه، فإذا كان قادراً على الإيجاد، فهو القادر ـ في الوقت نفسه ـ على إعدام فعلية الوجود وتبديله بوجود آخر، فإنَّ الموجودات خاضعة له في البداية في أصل وجودها، كما هي خاضعة في النهاية بعد وجودها، فلا يعطّل الوجود قدرته.

* * *

الحضور الدائم للّه في حياة الإنسان:

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} ربما كانت هذه الآية تأكيداً للجوّ الروحي الإيماني الذي يريد القرآن ملء نفس الإنسان المؤمن به، في ما جاء في الآية السابقة من قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فكانت هذه الآية من أجل دفع الإنسان إلى عيش هذه الحقيقة الإيمانية، من خلال توجيهه إلى التفكير في ما حوله وفي ما فوقه من السَّماوات والأرض، ليعرف أنها ملك اللّه الذي يحب أن يذعن له العباد، ويخضعوا له، ويرجعوا إليه في كلّ أمورهم، ولا يتمرّدوا عليه، ولا ينحرفوا عن سبيله مهما كانت درجة قوّتهم ومهما كانت قوّة الآخرين، لأنهم سوف يواجهون الحقيقة الصارخة، وهي أنهم لا يملكون من دون اللّه ولياً يرعاهم ويقوم بأمورهم، لأنه القائم على الخلق كلّه، ولا يملكون من دونه نصيراً ينصرهم منه، لأنه خالق القوّة كلّها، فلا قوّة أمامه مهما بلغت... وهذه طريقة قرآنية جديرة بالوعي والتأمّل، وهي الإيحاء الدائم بعظمة اللّه، بالإفاضة في ذكر صفاته المليئة بأجواء العظمة في كلّ مورد يذكر فيه اسمه في القرآن، ليظلّ الإنسان مشدوداً إلى عظمته في عملية تفكير وتدبّر وتأمّل، وليعيش الحضور الروحي الدائم، فلا ينفصل عنه في أية حالة من الحالات.

] أَلَمْ تَعْلَمْ[ يا محمَّد، أو أيُّها الإنسان المؤمن، {أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَـواتِ وَالأَرْضِ} من موقع أنه الخالق لها والمدبّر لأمورها والمهيمن عليها، فهو ـ وحده ـ الذي يملكها بالخلق والسيطرة والقدرة المطلقة التي تحتويها وتحيط بها من كلّ جانب وتملك كلّ حركتها وكلّ ما فيها من المخلوقات... فكيف تعصونه وتعبدون غيره وتتمرّدون عليه ـ أيُّها النّاس ـ ولا تخافون عقابه، كأنكم تملكون الولي الذي يتولى حمايتكم، والناصر الذي ينصركم إذا أراد اللّه أن يأخذكم أخذ عزيز مقتدر؟! ألم تعلموا أيها النّاس أنه ما لكم من إله إلاَّ اللّه {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} ؟!

* * *

الطلبات التعجيزية ظاهرة تاريخية للكفر:

{أَمْ} هنا منقطعة بمعنى «بل»، في مقابل المتصلة التي لا بُدَّ من أن تعادلها الألف، لتكون واردةً في مجال التسوية بين شيئين. وتدل الآية على أنَّ قوم الرسول محمَّد (ص) سألوه شيئاً مشابهاً لما سأله قوم موسى، ولكنَّها تجمل طبيعة ذلك الشيء، فهل هو أن يروا اللّه جهرةً كما عن بعض، أم هو أن يضع لهم إلهاً على صورة آلهة الكفّار كما ذكره بعضهم، أم أن يحقّق لهم بعض الطلبات التعجيزية التي لا تبلغها قدرته الذاتية، أو مما يستحيل حدوثه بصفة طبيعية، كما حدّثنا اللّه عن ذلك في بعض الآيات التي أفاضت في الحديث عمّا كان يُقدَّم إلى النبيّ محمَّد (ص) من طلبات تعجيزية؟.

ونحن لا نريد أن نسترسل كثيراً في ما استرسل فيه المفسّرون من الحديث عن هذا الأمر، لأننا لا نجد الجانب التفصيلي في هذه القضايا موضع أهمية لاستيحاء الفكرة أو أخذ العبرة، فنجمل ما أجمله اللّه من القصة التي لم تتحدّث إلاَّ عن طبيعة هذا السؤال، وعلاقته باستبدال الإيمان بالكفر، ما يوحي بأنَّ الطلبات تتحرّك في اتجاه يقترب بهم إلى الكفر، ويخرجهم من خطّ الإيمان، فلنأخذ منها هذه الفكرة التي يريدنا اللّه أن نعرفها، لنعرف شدّة معاناة الرسول من قومه في ما أثاروه من قضايا تدخل في حساب الخطّة الشريرة التي استهدفت إشغاله عن مهمته، وتحدّيهم لشخصه أمام الجاهلين الذين لا يعرفون موازين الدور النبوي في حياة النّاس، أو محاولتهم السخرية منه بهذه الطريقة، ولندرك ـ من خلال ذلك ـ طبيعة المجتمع الذي عاش فيه النبيّ محمَّد (ص) كما عاشه الأنبياء من قبله، ومدى الجهد الذي بذله الأنبياء في تصحيح مسار الفكر ، وتقويم منهج التفكير، وفي رفع مستواهم... ثُمَّ نعرف مسؤوليتنا ونحن نسير في طريق الدعوة إلى اللّه، أن نصبر حيث صبروا، وأن نعاني حيث عانوا، وأن نواجه ما واجهوه من أساليب التعنّت والتعصب والسخرية، بالعقلية الواعية التي تدرس خلفيات المجتمع الفكرية والعاطفية، لتقف أمامه من موقع هذه المعرفة بالحجة القوية، والكلمة الحكيمة، والموقف المرن، كما وقف القرآن أمام ذلك المجتمع، فلم يخاطبهم في هذه الآية بالحكم الذي يترتب على العقلية التي أطلقت هذه الأسئلة، بل وضعهم وجهاً لوجه أمام القاعدة الكلية، وهي أنَّ كثيراً من الخطوات التي يسير عليها الإنسان في طريقة التفكير والممارسة هي خطوات تتحرّك في طريق الكفر، فلا بُدَّ له أن يعي جيداً، وهو يسير في هذا السبيل، أنَّ هذا يعني استبدالاً للإيمان بالكفر، ولا بُدَّ له أن يعي أن من يتبدل الكفر بالإيمان ـ في ما يوحيه كلّ منهما أو في ما يحقّقه للإنسان ـ فقد انحرف عن الطريق المستقيم وانطلق يتخبط خبط عشواء في مجال لا يعرف فيه أين يقف وأين يسير.

{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـألُواْ رَسُولَكُمْ} محمَّداً الأسئلة التعجيزية التي لا تمثّل انفتاحاً على المعرفة، بقدر ما تمثّل حركة لإثارة الغبار من حول النبيّ (ص)، أو لجلب الاستهزاء به وبرسالته، أو لإعطاء المبرر العلني للجحود من خلال ما يعلمونه من أنَّ النبيّ لن يجيب على مطالبهم بالإيجاب، لأنَّ الرسول لا يملك القدرة الذاتية عليه، ولن يستجيب اللّه لهم بذلك، لأنه قد يكون محالاً من جهة وقد يكون نوعاً من العبث من جهةٍ أخرى. {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} من الأسئلة المتعلّقة بالمحال انطلاقاً من كفرهم وعبثهم به. إنَّ هذا يمثّل انفتاحاً على الكفر في إيحاءاته وطروحاته {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} فيخرج عن خطّ الانتماء إلى الإيمان إلى خطّ الكفر بشكل مباشر أو غير مباشر، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} وابتعد عن خطّ الاستقامة الذي يؤدي إلى النجاة، ووقع في التيه الفكري والعملي الذي يؤدي به إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.

أمّا العبرة من ذلك، فهي أن يدرس المؤمنون المسلمون إيمانهم في خطّ الإسلام، ليتعرفوا عمقه وامتداده، وليلتزموا كلّ مفرداته العقيدية والمنهجية والشرعية، ليتحرّكوا في كلّ أوضاعهم من خلال هذا الوعي العميق الواسع، وليحدّدوا أسئلتهم في حركة المعرفة، بحيث لا تنحرف عن أصول العقيدة التي تمثّل العمق الوجداني في الانتماء، فإذا عرضت لهم شبهة طرحوها كمشكلة يبحثون عن حلّها بعيداً عن حالة التعنت والتمرّد والاستهزاء، لأنَّ ذلك يمثّل الانتقال العملي من الإيمان إلى الكفر، ويبتعد بهم عن صفاء إنسانيتهم في التصوّر والمنهج، لأنَّ الإنسان الذي لا يتحرّك من موقع الحاجة إلى المعرفة بطريقة جديّة، هو إنسان لا يحترم معنى الإنسان في ذاته، وطبيعة التوازن في حياته.

* * *

الموقف من حسد أهل الكتاب:

{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .

في هذه الآية جانبٌ من التوعية العملية، وجانبٌ من الأسلوب الرسالي في التخطيط السليم لحركة الدعوة الإسلامية في علاقة المسلمين بأهل الكتاب، فقد أراد اللّه لهم أن يفهموا أنَّ أهلَ الكتاب لم ينطلقوا في معارضتهم لهم من موقع الشبهة الفكرية التي تجعلهم يقفون موقف الرفض للدعوة التي يعتقدون خطأها، أو موقف الحيرة التي تجعلهم يتردّدون بين القبول والرفض، بل كان الدافع لذلك الحسد القاتل الذي يتحرّك من موقع المحافظة على الامتيازات الذاتية القديمة التي يخافون عليها من الزوال أمام قوّة الرسالة الإسلامية وتقدمها، ولهذا فإنهم يودون ـ في داخل أنفسهم ـ لو يستطيعون إرجاعكم إلى الكفر والشرك والوثنية مما يتنافى مع عقيدة التوحيد التي يزعمون الإيمان بها، فلو كانوا منسجمين مع هذه العقيدة، لكان خطّ الإسلام أقرب إلى خطّهم في أغلب الأمور التي يؤمنون بها، ويؤكد القرآن ـ في هذا المجال ـ أنَّ الحقّ قد تبيَّن لهم بأسلوب لا يرقى إليه الشك، الأمر الذي يبطل كلّ حجّة مضادّة لديهم في العقيدة.

ثُمَّ أراد اللّه للمسلمين أن يعفوا ويصفحوا، وذلك من موقع التخطيط العملي الذي يعتمد على سياسة المراحل في حركة القوّة، فلا يمارس القوّة إلاَّ بعد استنفاد الوسائل السلمية التي تفتح للكافرين والمعارضين باب الدخول في الإيمان والسير في خطّ السلم، وعرّفهم أنَّ عليهم أن لا يتشنجوا ويستسلموا للانفعال النفسي المنطلق من الرغبة في التدمير على أساس ما يملكون من قوّة، فإنَّ للقضية حداً لا بُدَّ أن تبلغه، وذلك عندما يأتي اللّه بأمره في تشريع القتال، سواءٌ في ذلك المشركون وأهل الكتاب، فإنّ اللّه لا يفوته أحد مهما امتدّ في قوّته وطغيانه لأنه على كلّ شيء قدير.

{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} من الذين لم ينفتحوا على الرسالة من موقع الإيمان، ولم يعملوا على مواجهة الوحي بذهنية الحوار، ولم يرتاحوا إلى الدِّين الجديد الذي لا يبقى معه مجال لدين آخر سابق، باعتبار أنه الدِّين الذي يجمع خلاصة الأديان السابقة ويزيد عليها بما يحقّق للحياة المتجدّدة الحل للمشاكل الطارئة التي اقتضاها تغيّر الزمن وتطوّره، والذي يضع حلولاً جديدة للمشاكل السابقة التي لم يعد الحل الموضوع لها متناسباً مع مرور الزمن، الأمر الذي يفرض تغييرها إلى الأفضل، وهذا ما يؤدي إلى زوال سلطانهم وتأثيرهم على المجتمعات، باعتبار أنهم من أهل الكتاب الذين هم المرجع للنّاس الذين يلتزمون الدِّين ممن يؤمنون باللّه، ليعودوا إليهم في كلّ ما يجهلونه من أمور الدين الذي يملك هؤلاء علمه. وهذا ما جعلهم يفكرون {لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارً} لتعودوا إلى الشرك الذي كنتم فيه، لأنَّ المسألة لديهم لا تنطلق من التزامهم الواقعي بالإيمان باللّه وبالرسالات وبالرسل مما يدعو إليه الإسلام ويؤمن به المسلمون، ليكون الإيمان أقرب إليهم في واقع المؤمنين من الشرك، بل هي عقدة ذاتية تربط الإيمان بهم في كلّ خصوصياته؛ فمن كان معهم كان خروجه من الشرك فضيلة، ومن لم يكن معهم كان خروجه مشكلةً لا بُدَّ أن يواجهوها بالرفض حتى لو كانوا مؤمنين من ناحية المبدأ.

{حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} كأي شخص يجد النعمة لدى غيره فيتمنى أن تكون له، فلا يقبلون أن تنتقل النبوّة إلى محمَّد (ص) ليكون كلّ مجدها وشرفها وحركيتها له ولأتباعه. إنها عقدة الحسد الذي ينهش قلوبهم فيتحوّلون إلى واقع العداوة، كما نقل في أسباب النزول عن حييّ بن أخطب وأخيه أبي ياسر اللذين دخلا على النبيّ محمَّد (ص) حين قدم المدينة، فلما خرجا قيل لحييّ: أهو نبيّ؟ فقال: هو هو. فقيل: ما له عندك؟ قال: العداوة إلى الموت[5]. وقد تطوّر أمره حتى أنه نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب. {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} ممّا عرفوه من دلائل نبوّته في التوراة، وكانوا يستظهرون به على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. ] فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ[ ولا تدخلوا معهم في حرب، بل سالموهم على أساس السلم الذي فرضته المعاهدة التي دخلتم فيها معهم، مما يلزمكم بالتغاضي عن كلّ نياتهم السيئة وعقدتهم العدوانية، على الرغم من قوتكم في المجتمع المسلم المدني الذي تملكون فيه القوّة التي تستطيعون من خلالها أن تنتصفوا منهم. {حَتَّى يَأْتِىَ اللّه بِأَمْرِهِ} عندما تأتي الساعة التي يأذن اللّه فيها بجهادهم من خلال نقضهم العهد من الناحية العملية، وإعلانهم العداوة للمسلمين بالتحالف مع المشركين ضدّكم، لتكون لكم الحجة عليهم في صعيد الواقع. {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يمهل عباده، فلا يعجل لهم العقوبة ولا يؤاخذهم بالعذاب من خلال أنه لا يخاف الفوت الذي يوحي لصاحب الحقّ بالاستعجال، ولأنَّ الحكمة قد تدعو إلى ذلك من خلال المصالح العامة المترتبة على ذلك في واقع التعايش الطبيعي بين المسلمين وأهل الكتاب ما داموا سائرين على العهد في خطواتهم العملية، لأنَّ الدوافع السيئة لا تكون أساساً للعقاب.

* * *

أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة:

{وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّه إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} في هذه الآية، يعقّب اللّه على أمره بالعفو والصفح عن أهل الكتاب، بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبالوعد الحقّ بأنهم سيجدون عند اللّه كلّ ما يقدّمونه أمامهم من خير، فإنه بصير بما يعملونه، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السَّماء. وهذه طريقة قرآنية تربوية، في كلّ مورد من الموارد التي يوجّه فيها اللّه بعض الأوامر أو النواهي للنّاس، فإنه يتبع ذلك بتكاليف أخرى تؤكد جانب الشخصية الإيمانية العملية في نفس المؤمن، وبالحديث عمّا يلاقيه أمامه من الثواب الموعود لدى اللّه، من أجل أن يظلّ منفتحاً على أعمال الخير بقوّة روحية تندفع إلى تحقيق إرادة اللّه من موقع الطاعة الواعية التي تواجه العقبات والمصاعب الداخلية والخارجية بروح إسلامية تعرف النتائج سَلَفاً، فلا تتزعزع ولا تضعف ولا تنهار. وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد، لنعرف انسجام الصلاة وإيتاء الزكاة مع الأمر بالعفو والصفح، لأنهما يفتحان قلب المؤمن على اللّه من نافذة العبادة، وعلى الإنسان من نافذة العطاء، فيحصل له ـ من هنا وهناك ـ الجوّ الروحي الداخلي الذي يعرف كيف يعفو ويصفح ويتسامح قربةً إلى اللّه تعالى.

{وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ} التي تقوّي عنصر الخير وتدفعكم إلى الصبر، وتفتح عقولكم وقلوبكم على الانقياد للّه في ما يأمركم به من العفو والصفح، لأنَّ الصلاة هي معراج روح المؤمن إلى اللّه، فيلتقي به في روحانية العبودية الخالصة التي تقرّبه منه، وترتفع به إلى الدرجات العلى، وتسمو به في آفاق اللّه حيث يتخفف من كلّ المشاعر الذاتية الانفعالية، ليعيش التأمّل والتفكير في تركيز العلاقات مع الآخرين على القاعدة الروحية الثابتة. {وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ} التي تعيشون فيها روحية العطاء في تأكيد العلاقات المسؤولة بالآخرين، في مواجهة المشاكل الصعبة التي يعانون منها، فتزدادون وعياً لمتابعة الواقع العام من حولكم في نظرتكم إلى هؤلاء، فلا تتحرّكون من داخل العقدة بل من داخل المصلحة العامة في مواقع رضى اللّه؛ وذلك هو ما تقدّمونه بين أيديكم للّه امتثالاً لأوامره، {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} من الطاعة والإحسان والخير المتحرّك في الإنسان الآخر، {تَجِدُوهُ عِندَ اللّه} ثواباً ورضواناً وجنّة ونعيماً. {إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لأنَّه الذي يعلم ما تسرّونه وما تعلنونه من قضايا الخير في الواقع الداخلي أو الخارجي من ذواتكم، فيمنحكم جزاء ذلك خيراً وإحساناً.

(1) مجمع البيان، ج:1، ص:343.

(2) يراجع: مجمع البيان، ج:1، ص:347.

(3) تفسير الميزان، ج:1، ص:247.

(4) مفردات الراغب، ص:28.

(5) البحار، م:4، ج:9، باب:1، ص:44.