من الآية 118 الى الآية 123
الآيــات
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّه أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْـألُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ * وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِى إِسْرَائيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (118ـ123).
* * *
معاني المفردات:
{بَشِيرً} : مبشّراً بالخير.
{وَنَذِيرً} : منذراً ومحذّراً من العاقبة قبل حلولها.
{مِلَّتَهُمْ} : الملّة: الديانة، ومثلها النِّحلة.
* * *
طلبات المشركين التعجيزية للنبيّ (ص):
اختلف المفسرون في طبيعة الفئة التي عبّر عنها القرآن بالذين لا يعلمون، فقال بعضهم: إنها النصارى، وقال بعضهم: إنها اليهود، وهو قول ابن عباس، وقال بعضهم إنهم مشركو العرب، كما عن الحسن وقتادة[1]، ولعلّه الأقرب، لأنه أشبه بالمصطلح القرآني في الحديث عنهم كما جاء في الآية السابقة {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]. وقد يتأكد ذلك من خلال دراستنا للطلبات التعجيزية التي كانت تقدّم إلى النبيّ محمَّد (ص) في استحداث آيات جديدة مقترحة من قبل المشركين، مما يلتقي بهذه الطلبات المذكورة في هذه الآية، وهي أن يكلمهم اللّه وجهاً لوجه أو تأتيهم آية من الآيات التي كانوا يسمعون عنها في قصص الأنبياء.
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّه} لنسمع كلامه، فنؤمن به من خلال حاسة السمع، إذا لم نتمكن من معرفته من خلال حاسة البصر، {أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ} معجزة لا يقدر البشر عليها لنعرف أنَّ محمَّداً رسول من اللّه، وليس بشراً عادياً كبقية بني البشر. ]كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} كما حدث ذلك لليهود، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} في الكفر والتعنت والعناد والمشاعر القلقة، التي لا تنفتح على الحقائق من موقع الجديّة الواعية التي تثير علامات الاستفهام في هذا الجانب أو ذاك للوصول إلى الحقيقة، بل تتحرّك من العقدة المرضية التي تعمل على التنفيس عن ذاتها بالأساليب التعجيزية، لأنهم لو عقلوا المسألة بطريقة واعية، لعرفوا أنَّ اللّه لا يستجيب للهو اللاهين، أو عبث العابثين الذين يقدّمون الاقتراحات من دون حاجة إليها في المجرى الكوني العام، أو في الخطّ الرسالي الشامل، لأنَّ خرق القوانين المألوفة مخالف لحكمة اللّه المتحرّكة في السنن الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون، أو في الوسائل الضرورية لإثبات صدق الأنبياء مما لا مجال فيها للتصديق العام.
فقد حفل تاريخهم بمثلها، إذ قال الذين من قبلهم من اليهود لموسى: {أَرِنَا اللّه جَهْرَةً} [النساء:153] وغير ذلك، ويضيف اللّه إلى ذلك قوله: {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، ليثير أمامنا القضية التالية: وهي أنَّ المشكلة التي تواجه الأنبياء أمام شعوبهم، هي أنهم ـ أي شعوبهم ـ لم يكونوا في موقف الذين يريدون الحصول على القناعات الذاتية في قضايا الرسالة الإلهية، ولهذا كانوا لا يفكرون في ما يقدَّم إليهم من آيات وبيّنات وبراهين، بل كانوا يتنقلون من طلب إلى آخر في عملية إلهاء وإشغال وتحدّيات لا معنى لها، لأنَّ النبيّ لم يأتِ ليغير ناموس الكون في قوانينه المودعة في الآفاق ليكون دوره الاستجابة لهم في كلّ ما يقترحونه عليه من هذه الأمور، ولم تجعل له هذه القدرة الذاتية لو أراد ذلك، بل الأمر للّه في ما يفعل وفي ما لا يفعل تبعاً لما يعلمه من الحكمة في ذلك كلّه، بل كان دور النبيّ الأساس هو أن يكون بشيراً ونذيراً بالحقّ ليهتدي النّاس من خلال التبشير والإنذار، وليس عليه إلاَّ أنْ يقدّم للنّاس ما فيه الحجة على الحقّ ثُمَّ يتجه إلى الحقّ في كلّ تفاصيله بشيراً ونذيراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرً} وتلك هي مهمته، وتلك هي مسؤوليته، فإذا استجاب النّاس له، فذلك هو ما يريده ويتمناه، وإذا انحرف النّاس عنه فاختاروا الجحيم على النعيم باختيارهم الضلال على الهدى، فلا {تُسْـألُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، فهذا ما لا يسأل عنه النبيّ، لأنه لم يحدث عن تقصير منه، بل عن عنادٍ منهم واختيار للطريق السيىء في قضية المصير.
* * *
حدود المسؤولية:
وقد حاول المفسرون أن يعتبروا هذه الآية وأمثالها تسلية للنبيّ، كما جاء في مجمع البيان، حيث قال ـ تعليقاً على الآية ـ: وفيه تسلية للنبيّ (ص)، إذ قيل له إنما أنت بشير ونذير ولست تسأل عن أهل الجحيم وليس عليك إجبارهم على القبول منك، ومثله قوله: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272][2].
أمّا نحن فلا نرى هذا الرأي، بل نعتقد أنَّ هذه الآيات واردة في مورد وضع القاعدة الثابتة للمسؤولية التي يتحملها النبيّ من حيث هو رسول وداعية، وتحديدها بالعناصر الاختيارية لأساليب الدعوة ووسائلها التي يملكها، من حيث طبيعة الفكرة والكلمة والأسلوب والجوّ العام؛ أمّا الجوانب الأخرى التي تخرج عن اختياره، وترجع إلى أشياء ذاتية في حياتهم النفسية، أو إلى ظروف موضوعية أخرى، فهذا ما لا يدخل في حساب مسؤوليته، وبذلك فلا مجال لأي حزن أو خوف أو حسرة، لأنَّ اللّه لم يرسل رسوله ليغيِّر الكون تغييراً تكوينياً بشكل غير طبيعي، بل كلّ مهمته هي السير في عملية التغيير من خلال وسائلها الطبيعية التي لا يملك كلّ عناصرها، فلا يكلّف إلاَّ بما يملكه في نطاق قدرته، وليس هذا مختصاً بالنبيّ محمَّد (ص) أو بالأنبياء من قبله، بل يشمل كلّ داعية إلى اللّه، في أي موقع من مواقع الدعوة، فليس عليه إلاَّ أن يفجر كلّ طاقاته ويستخدم كلّ الأساليب والوسائل التي يملكها للوصول إلى قناعة الآخرين وتغيير الواقع، فإذا فعل ذلك فقد قام بمسؤوليته... وتلك هي الطريقة الواقعية العملية التي تفرغ داخله من كلّ انفعال غير طبيعي، ما يجعله يواجه الفشل والهزيمة مواجهةً هادئة لا تنسحق أمام نتائج الهزيمة وعناصرها، بل تقف في ساحة الواقع لتجمع العناصر الجديدة الممكنة التي يمكن لها أن تحوِّل الهزيمة إلى نصر، والفشل إلى نجاح، من خلال دراسة الأسباب الواقعية لما حدث ومحاولة التغلب عليها في حركة المستقبل.
* * *
وعي هوية الصراع:
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} قال المفسّرون في أسباب نزول هذه الآية: إنَّ النبيّ كان مجتهداً في طلب ما يرضيهم ليدخلوا في الإسلام، فقيل له: دع ما يرضيهم إلى ما أمرك اللّه به من مجاهدتهم. وقالوا ـ في مجالٍ آخر ـ: كان اليهود يسألون النبيّ (ص) الهدنة ويُرونه أنه إن هادنهم وأمهلهم اتبعوه، فآيسه اللّه تعالى من موافقتهم[3].
إننا نعتقد أنَّ ما يذكره هؤلاء المفسرون هو نوع من أنواع الاجتهاد في استيحاء القصة التي يفرضون وجودها في كلّ آية من الآيات التي يخاطب اللّه فيها نبيَّه في كلّ قضية من القضايا المتعلّقة بموقف النبيّ من العلاقات المتصلة بالآخرين، ولكنَّنا لا نرى ضرورة في ذلك، بل الظاهر هو أنَّ اللّه كان يريد أن يقدّم للمسلمين ـ من خلال النبيّ ـ الوعي العميق للواقع الذي يحيط بهم، سواء في ذلك الواقع المتمثّل بالأشخاص الذين يخالفونهم في الدِّين، أو المتمثّل بالأحداث والأوضاع المحيطة بهم، ليكونوا على معرفة عميقة شاملة لما حولهم، ما يجنّبهم خطر الوقوع في تجربة المعرفة التي قد تعرّضهم للهلاك، وتدفعهم إلى السير في وضوح الرؤية بعيداً عن الانفعالات السريعة والأوهام الطائرة.
وقد يكون الأساس في اختيار النبيّ للخطاب، ثُمَّ اتباع أقسى الأساليب شدّةً في خطاب اللّه له، هو الإيحاء بأنَّ هذه القضية هي من القضايا التي تبلغ مرحلة كبيرة من الأهمية والخطورة، بالمستوى الذي لا يمكن فيها مراعاة جانب أي شخص، وإن كان في مستوى عظمة النبيّ محمَّد (ص)، لأنَّ عظمة الأشخاص وقداستهم مستمدة من طاعتهم للّه في ما يريد وفي ما لا يريد، فإذا انحرفوا عن الخطّ ـ ولن ينحرفوا عنه ـ سقطت عظمتهم وتحوّلوا إلى أشخاص عاديين خاطئين، لا يملكون لأنفسهم من دون اللّه ولياً ولا نصيراً.
ويعتبر هذا الأسلوب من الأساليب البارزة في القرآن في القضية التي تتخذ جانب الخطورة على أساس العقيدة وصدقها وسلامتها من الانحراف، وذلك كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44ـ47].
أمّا هذه الآية، فقد عالجت قضية من أخطر القضايا التي قد تواجه العاملين في سبيل اللّه في علاقتهم بالكافرين والمنافقين والفاسقين، فقد يستسلم العاملون لحالة نفسية طاهرة يعيشون فيها الأمل الكبير بهداية هؤلاء المعادين للإسلام من خلال الأساليب التي يتبعونها إزاء المسلمين في ما يقدّمونه من تبريرات، وفي ما يثيرونه من انفعالات وعواطف، وفي ما يوحون به من أفكار حميمة توحي بقربهم إلى الحقّ، وذلك من خلال بعض المواقف التي يتقدّمون بها في بعض مراحل الطريق، مما يخلق انطباعاً بأنهم يتقدّمون إلى الحقّ، وقد تخلق هذه الحالة حالة أخرى، وهي الرغبة في إرضاء هؤلاء ببعض الكلمات والمواقف طمعاً في الحصول على صداقتهم أو رضاهم، مما يستدعي من المسلمين تقديم تنازلات فكرية أو عملية في حالات معينة.
وقد وقع الكثيرون من العاملين في هذا الشرك الشيطاني الذي ينصبه أعداء اللّه، فاستطاعوا أن يجروهم إلى تقديم بعض التنازلات على حساب سلامة الإسلام في عقيدته وشريعته ومواقعه، ما أعطاهم ـ في نظر البسطاء من المسلمين ـ صفة الشرعية لمبادئهم، وأغراهم ـ بالتالي ـ بالمطالبة بتنازلات جديدة تبعاً لحاجة الظروف الموضوعية لذلك، وكانت النتيجة هي إعطاء أعداء الدِّين فرصة للتقدّم وللحصول على الشرعية، وخسارة المسلمين لكثير من المواقع الفكرية والعملية، من خلال الفكرة التي أوحت بها هذه التنازلات، وهي أنَّ من الممكن للمسلم المحافظة على إسلامه، مع التنازل عن بعض جوانب عقيدته وشريعته. وما زال الأعداء يساومون، وما زال الكثيرون منّا يقدّمون التنازلات، ليحصلوا على رضاهم من أجل الحصول على هدايتهم، ثُمَّ تحوّلت القضية إلى الهزيمة النفسية التي عاشها المسلمون، من خلال الهزيمة الفكرية والسياسية والعسكرية، ما جعلنا نلهث في سبيل الحصول على رضاهم، كما يلهث الضعفاء في الحصول على رضى الأقوياء للحصول على الحماية والمكاسب والحاجات الصغيرة في الحياة.
وتلك هي النتيجة التي حذّر منها القرآن في أسلوبه الحاسم في خطابه للنبي محمَّد (ص): {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، إنَّ عليك ـ يا محمَّد ـ أن لا تجعل هدفك في مسيرتك هو الحصول على رضاهم، لأنَّ القضية ليست قضية خصومة شخصية طارئة ليمكنك الوصول إلى تبديل حالة الخصومة بحالة الصداقة من خلال بعض التنازلات الشخصية، بل هي قضية اعتبار هؤلاء أنهم على الحقّ وأنك على الباطل، ما يجعل من تقديم التنازلات تشجيعاً لهم على موقفهم وإغراءً لهم بالثبات على عقيدتهم، ليجرّوك إلى مواقع جديدة من التنازلات، وهكذا، لارتباط الحصول على رضاهم بالوصول إلى التنازل الأخير وهو اتباع ملتهم، فذلك هو السبيل الوحيد لربح ثقتهم بك...
ثُمَّ يثير اللّه القضية من قاعدة المبدأ الذي لا يحتمل مساومة أو مجاملة أو تنازلاً {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى} وهي الصراحة في الإعلان عن الحقّ والهدى والإيحاء إلى الآخرين بأنه لا مجال لطريق غير طريق اللّه، ولهدى غير هدى اللّه الذي يجب أن يتبع وحده، ليعرفوا أنَّ الموقف حاسم لا مجال فيه للتراجع وللتنازل، مهما كلّف ذلك من خصومات ومن عداء ومن انفصال في العلاقات العامة والخاصة.
ثُمَّ يتصاعد الأسلوب قوّة وشدّة، ليخاطب الأمّة من خلال النبيّ بأسلوب القسوة الذي يوحي بالحسم في ما لو استسلم لنقاط الضعف النفسية، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءهُم} فانجذبت إلى جوّ الإغراء العاطفي الذي يثيرونه في نفسك، وسرت معهم في ما يريدونه {بَعْدَ الَّذِي جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأنك على الحقّ وأنهم على الباطل، {مَا لَكَ مِنَ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} وإذا فقد الإنسان رعاية اللّه ونصرته فمن ذا الذي ينصره من اللّه، ومن ذا الذي يرعاه بعده؟!
* * *
القراءة الواعية:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يختلف المفسرون هنا، كما اختلفوا في آيات مشابهة في من هم المقصودون بهذه الآية؛ فقال بعضهم: إنهم الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة؛ وقيل: هم من آمن من اليهود كعبد اللّه بن سلام وغيره؛ وقيل: هم أصحاب محمَّد (ص)، على أن يكون المراد بالكتاب القرآن، بينما يكون المراد منه في القولين الأوّلين التوراة، كما جاء في مجمع البيان[4].
ولكنَّنا نحسب أنَّ هذه الآراء المذكورة اجتهادية تنطلق من الاستنتاجات والملاحظات الذاتية لأصحابها، وليست نقلية كما نلاحظ من الآراء؛ ولعلّ الأغلب في الظنّ أنها ليست في مورد التركيز على جماعةٍ معينة، بل هي في مجال التنبيه على قاعدة أساسية عامة في باب الإيمان والكفر، وهي تلاوة الكتاب حقّ تلاوته التي يريد بها القراءة عن تدبُّر وتفكير وروحية واعية تتحرّك من موقع البحث عن الحقّ لا من موقع التعصب الأعمى، فإنَّ ذلك هو سبيل الانفتاح على آيات اللّه وما تشتمل عليه من دلائل الحقّ وبراهينه، حيث يقود ذلك إلى الإيمان.
ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ الكفر لا ينشأ من حالة فكرية مضادة، بل من حالة اللامبالاة والغفلة الناشئة من عدم التوفر على القراءة الواعية والفكر المسؤول، ما يجعل من الإنسان إنساناً يتحرّك في جوّ التعنّت والتعصب والعناد الذي لا يملك معه الانفتاح على الحقّ من قريب أو بعيد. وقد اكتفى القرآن بالحديث عن خسارة الكافرين ولم يتحدّث عن السبب في كفرهم، لأنَّ ذلك كان واضحاً في الحديث عن سبب الإيمان، وذلك كمحاولةٍ للإيحاء لهم بضرورة التوفر على السير في خطّ القراءة الواعية للحصول عى فرص النجاح في الدنيا والآخرة.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وانطلقوا من خلاله إلى آفاق المعرفة، وتحرّكت علامات الاستفهام في وجدانهم، ليلاحقوا كلّ مفردات القضايا الفكرية والعملية، ليحصلوا على الأجوبة الشافية من خلال القراءة الواعية: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} في فهم عميق للمضمون الفكري، وفي استيحاء للمشاعر الروحية، وفي دراسةٍ لكلّ جوانبها المتصلة باللّه وبالحياة والإنسان، ليحصلوا من ذلك على الثقافة الإيمانية في أجواء الإيمان المنفتح الباحث عن الحقيقة، لا الإيمان الأعمى الغارق في ضباب التقليد، فلا يقتصرون على الأداء اللفظي الذي يشغل البعض من النّاس أو على العنصر الأدبي البلاغي، بل يتحرّكون معه ككتاب عملٍ ووعيٍ وحركةٍ ومنهج للحياة، كما جاء في الإرشاد للديلمي «يرتلون آياته، ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأمره، وينتهون بنواهيه، ما هو واللّه حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه، وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبّر آياته، والعمل بأركانه، قال اللّه تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ} » [ص:29].
وربما كان المراد بالكتاب التوراة، وربما كان المراد به ما يشمل القرآن. وعلى كلّ حالٍ، فإنَّ الفكرة تنطلق من وظيفة الكتاب في الوعي الإيماني الذي يخرج به النّاس من الظلمات إلى النور، فلا فرق ـ في ذلك ـ بين كتاب وكتاب، فإنَّ كلّ كتاب يصدق الكتاب الذي بين يديه والرسول الذي أنزل به. {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأنَّ القراءة الواعية للكتاب الذي يتضمن إشراقة المفاهيم الروحية والفكرية والعملية، لا بُدَّ أن تعود إلى الإيمان للذين يتطلّعون إلى حقائقه وآفاقه، ليلتزموها عقيدة وسلوكاً وانتماءً. {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} من النّاس الذين لا يعيشون مسؤولية المعرفة، ولا جدية الحوار، ولا وعي القراءة، بل يعيشون الحياة على أساس الغفلة واللامبالاة واللاانتماء، ويسيرون مع كلّ ريح، فلا يتدبرون الكتاب، ولا يتفهمون آياته، {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا الدنيا التي يخطط الكتاب لها في خطّ التوازن الفكري والعملي، وخسروا الآخرة التي يريد الكتاب للإنسان أن يجعلها الهدف في حركته في الدنيا، لينال الدنيا والآخرة معاً.
* * *
تذكير اللّه بني إسرائيل بنعمه عليهم:
{يَابَنِى إِسْرَائيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} تقدّمت هاتان الآيتان في ما سبق وتقدّم الحديث عنهما، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو السبب في إعادتهما وتكرارهما، والظاهر هو أنَّ الحديث الذي بدأه القرآن مع بني إسرائيل كان محاولة لتذكيرهم بالميثاق وبنعم اللّه عليهم وبمسؤوليتهم عن هذه النعم بالسير مع الإسلام في دعوة النبيّ، وكانت الآيات المتتابعة بمثابة استعراض للنعم وانحرافهم عن الخطّ المستقيم للمسؤولية، من أجل تعميق الشعور بالمسؤولية في داخلهم في استحضار التاريخ الطويل المفعم بالحركة، ومن الطبيعي أنَّ ختام هذا الفصل بالتركيز على هذا الجانب يعتبر عنصراً فعالاً في تحقيق ذلك؛ واللّه العالم بحقائق آياته.
(1) يراجع: مجمع البيان، ج:1، ص:370.
(2) مجمع البيان، ج:1، ص:372.
(3) مجمع البيان، ج:1، ص:373.
(4) يراجع: مجمع البيان، ج:1، ص:374.
تفسير القرآن