تفسير القرآن
البقرة / من الآية 135 إلى الآية 141

 من الآية 135 الى الآية 141

الآيــات

] وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُواْ ءَامَنَّا باللّه وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ * قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّه وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّه وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْـألُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ (135ـ141).

* * *

الإسلام يجادل اليهود والنصارى:

في هذا الفصل من السورة، يلتفت القرآن إلى تحديد الخطّ المستقيم الذي أراد اللّه للحياة أن تسير فيه في العقيدة والعمل، ويشجب الخطوط المتعرِّجة المنحرفة في صعيد الواقع الذي يسير عليه النّاس، فقد واجه هؤلاء الذين ينغلقون على أنفسهم ليجعلوا من الدين انتماءً فئويّاً لا ينفتح إلاَّ على جماعةٍ معيّنةٍ وأفق ضيّق، فكانوا يقولون للنّاس إنَّ طريق الهدى لا يتّسع لغير اليهود، في ما يقوله اليهود، أو لا يتسع لغير النصارى في ما يقوله النصارى، وكان الجواب أنَّ طريق الحقّ أوسع من ذلك؛ فإذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بإبراهيم وملّته، فإنَّ ملّة إبراهيم هي الملّة التي تلتقي عليها كلّ الخطوط، باعتبارها تمثّل خطّ التوحيد الخالص الذي يستوعب كلّ الرسالات ويحتضن كلّ الأنبياء، فلا يضيق عن أحد ولا ينغلق على فئةٍ، فهو الدِّين الحقّ الذي يهتدي المؤمنون به، أمّا الذين يعرضون عنه، فهم الذين لا يريدون للحياة أن تهدأ وتطمئن وتسير في الطريق المستقيم، بل يثيرون فيها الشقاق والخصام الذي لا ينتهي إلى أية نتيجة مما يحاولونه من الأهداف الشريرة، مهما عملوا ومهما امتدوا في أساليبهم، لأنَّ اللّه سيتكفل بهم في الدنيا والآخرة، فقد وعد نبيّه بأنه سيكفيه عدوانهم وشرّهم، وهو السميع لكلّ ما يفيضون فيه من قول وما يثيرونه من مشاكل وهو العليم بسرّهم وعلانيتهم.

ويلاحظ في هذه الآيات أنَّ القرآن يعتبر القياس في صحة سلوكهم هو انسجامهم مع ملّة إبراهيم، باعتبار أنَّ رسالة موسى وعيسى كانت سائرةً في هذا الاتجاه، فإذا كان هناك انحراف عنها، فمعنى ذلك أنهم يسيرون على غير هدى هاتين الرسالتين.

ثُمَّ يعود الحديث عن الإسلام باعتباره الصفة التي لا تعادلها صفةٌ والميزة التي لا تقاربها ميزة في ما تشتمل عليه من المعاني الكبيرة التي ترفع مستوى الإنسان في الدنيا والآخرة، لأنها تمثّل خطّ العبادة للّه سبحانه في أصدق معانيها وأوضح خطوطها في استقامةٍ وإيمان، ثُمَّ يواجههم بالحقيقة التي أرادوا أن يتهربوا منها، وهي أنَّ اللّه لا يكون لجماعةٍ دون جماعةٍ، ولا لشعبٍ دون شعب، بل الخلق كلّهم متساوون أمامه في عبوديتهم له وربوبيته لهم، فلا معنى لمحاجّتهم في اللّه على أساس ما يزعمونه من العلاقة الخاصة التي تربطهم به وتشدّهم إليه في ما يعبّرون عنه بأنهم «شعب اللّه المختار»، وفي ما يتخيلونه من أنَّ الطريق إليه لا بُدَّ من أن تمر بهم، فهو {رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}...

وفي هذا الاتجاه، تتحرّك الحقيقة الثانية من خلال الحقيقة الأولى؛ وهي أنَّ الأعمال هي القاعدة التي ترتكز عليها العلاقة القوية بين العبد وربّه، ليواجه فيها الإنسان مسؤوليته أمام اللّه من خلالها من دون أن يتحمّل أحدٌ مسؤولية أحدٍ في عمله، فلكلٍّ عملُه، ولكلٍّ مسؤوليته في هذا الاتجاه، {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}ثُمَّ يحدّد الموقف الحقّ الذي يلتزم به المسلمون كطابعٍ بارز للشخصية التي تتميّز بالإخلاص للّه في النية والعمل.

ويعود الحديث من جديد إلى شخصية إبراهيم؛ فاليهود يعتبرون ـ أو هكذا يوحي أسلوبهم العملي ـ بأنَّ إبراهيم كان يهودياً، والنصارى يعتبرون ـ أو هكذا يوحي أسلوبهم العملي ـ أنَّ إبراهيم كان نصرانياً... ويحسم القرآن الموقف بإثارة التساؤل في معرض الإنكار، فينفذ إلى مواجهة معلوماتهم عن إبراهيم ليتساءل في إنكار: هل أنتم أعلم أم اللّه؟... ومن البديهي أنهم لا يستطيعون إلاَّ الإقرار بأنَّ اللّه أعلم من خلال إيمانهم الذي يزعمون... وفي هذا الجوّ يتحرّك الموقف من حركة الرسالة في الحوار، ليوحي بأنَّ اللّه قد عرّفنا، بما لا يقترب منه الشك، أنَّ إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، بل كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين.

ثُمَّ يواجههم بالحقيقة الصارخة، وهي أنهم يعرفون ذلك تمام المعرفة، ولكنَّهم يكتمون هذه المعرفة ويمتنعون عن أداء الشهادة، وهذا يعتبر من أشدّ أنواع الظلم، لأنه تمرُّدٌ على اللّه، وظلمٌ للحقيقة واعتداءٌ على النّاس وعلى الحياة. ثُمَّ يختم الآية بما يشبه التهديد، فإنَّ اللّه ليس بغافل عمّا يعملون، فهو الرقيب عليهم في الدنيا والحاكم عليهم في يوم القيامة..

وتصل القصة إلى نهايتها لتواجه المسلمين بالفكرة الأساسية التي يتحرّك في نطاقها التاريخ في حياة النّاس، فإنَّ التاريخ لا يحمّل الفئات اللاحقة مسؤولية الفئات التي عاشت فيه، كما أنَّ الفئات السابقة لا تتحمّل وزر الفئات اللاحقة، لأنَّ المسؤولية لا تتحرّك إلاَّ في المجال الذي يتحرّك فيه العمل وتنطلق معه الحياة... أمَّا التاريخ، فهو كتاب الحياة الذي يحمل الدروس والعبر من جيل لآخر، لتعيش الأجيال الفكرة الحقّة من خلال تجاربها وتجارب الآخرين في السير الواعي لحركة الحضارات...

* * *

ملّة إبراهيم من الإسلام:

{وَقَالُو}أي اليهود والنصارى: {كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُو}، فقد انطلق كلّ فريق من أتباع هذين الدينين ليؤكد صحة دينه في مقابل الإسلام الذي دخل فيه النّاس هناك، على أساس أنَّ اليهودية من وجهة نظر اليهود، أو النصرانية من وجهة نظر النصارى، هي الوسيلة الوحيدة التي تقود إلى الهدى في قضايا الدنيا والآخرة انطلاقاً من دعواهم بأنهم هم الذين يمثّلون شريعة إبراهيم في خصوصياتهم العقيدية والشرعية والأخلاقية التي أصبحت جزءاً من هذا الدِّين أو ذاك، مما يختلف عن خصوصيات الدِّين الإسلامي الذي جاء به النبيّ محمَّد (ص)، {قُلْ}يا محمَّد، أو من يقف مثل هذا الموقف في ساحة المواجهة من المسلمين: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفً}التي تمثّل الملّة المستقيمة على منهج اللّه في امتداد وحيه، المائلة عن كلّ الاتجاهات الباطلة من الأديان المنحرفة بسبب الأهواء والأغراض والأطماع الإنسانية... ومن المبادىء التي أبدعها الإنسان من فكره الذاتي وتجربته الشخصية مما لا علاقة له باللّه ورسله.

وقد اختلف المفسرون في تفسير «الحنيفية» التي هي {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}بين تفسير يحصرها في دائرة تشريع معين، وبين قائل: بأنها حجّ البيت كما عن ابن عباس والحسن ومجاهد[1]؛ وبين قائل: إنها الطهارة وهي عشرة: خمسة في الرأس، وخمسة في البدن، فأمّا التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطمّ الشعر «جزّه وتوفيره» والسواك والخلال، وأمّا التي في البدن، فأخذ الشعر من البدن والختان وقلم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولن تنسخ إلى يوم القيامة، كما عن تفسير القمي[2]؛ وبين تفسير يتسع بها إلى أي موقع يمثّل «اتباع الحقّ» أو ينفتح بها على الإخلاص للّه وحده في الإقرار بالربوبية والإذعان بالعبودية، مما يختزن في داخل مفهومه كلّ المفردات التي تفرضها حركة العبودية في الإنسان أمام الربوبية الإلهية.

وهناك القول الذي يتسع لكلّ الشريعة التي جاء بها إبراهيم (ع)، مما يتصل بالحياة الروحية العقيدية أو الحياة العملية السلوكية، وكما جاء عن الإمام محمَّد الباقر (ع): «ما أبقت الحنيفية شيئاً، حتى أنَّ منها قص الشارب، وقلم الأظفار، والختان»[3].

والظاهر أنَّ القول الأخير هو أقرب الأقوال إلى المنهج الرسالي الذي يتصل بالحياة الروحية والمادية للإنسان مما يعتقده أو يعمله أو ينفتح عليه، واللّه العالم.

وهكذا يريد اللّه للنبيّ ولمن اتبعه أن يؤكد لهم أنَّ ملّة إبراهيم الحنيفية هي الملّة الجامعة التي تمثّل الخطّ العريض المستقيم للهدى، فمن اتبعها اهتدى، وليس الهدى بالأهواء والخصوصيات الذاتية أو الفئوية التي تؤدي إلى التفسيرات والتأويلات والتخيّلات التي تتحوّل إلى طوائف ومذاهب، فقد أنزل اللّه على إبراهيم رسالته التوحيدية التي تعبّر عن توحيد اللّه في كلّ شيء، في العقيدة والشريعة والعبادة والحياة مما فصله الأنبياء من بعده، من خلال وحي اللّه الذي يعطي كلّ مرحلة حاجاتها، التي مهما تنوّعت فإنها تلتقي على التوحيد الذي آمن به إبراهيم {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}فلا مجال لكلّ هذه الزوائد التي استحدثوها مما قد يلتقي بالشرك من قريب أو من بعيد، فإنَّ كلّ ما عدا اللّه مما يلتزمه النّاس هو عنوان من عناوين الشرك.

* * *

المسلم مؤمن بكلّ رسالات اللّه :

] قُولُواْ[ أيها المسلمون لكلّ الذين يجادلونكم في الدِّين: {ءَامَنَّا باللّه وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}فنحن نؤمن باللّه الواحد ونؤمن بكلّ ما أنزل إلينا وإلى هؤلاء {وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى}من التوراة والإنجيل ]وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ}مما أنزله اللّه عليهم وكلّفهم به {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ}، لأننا نؤمن بالرسل كلّهم مهما اختلفت خصوصياتهم ومراحلهم، كما نؤمن بالكتاب كلّه مهما تنوّعت آياته، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، فإننا نسلم إلى اللّه كلّ حياتنا وكلّ أمورنا، لأنَّ الإسلام هو دين اللّه في كلّ مواقعه في حركة الرسل في التاريخ.

* * *

الحوار المنفتح على القلب ومواطن اللقاء:

ولنا في التعليق على هذه الآية كلمتان:

الأولى: أنها تمثّل أنموذجاً لأسلوب الحوار في الإسلام، وخلاصته البحث عن مواطن اللقاء في بداية الحديث من أجل الإيحاء بوجود قاعدة مشتركة للفكر المتنوّع، وأرض مشتركة للموقف المتعدّد، ما يوحي للآخر بأنك إذا اختلفت معه في إيمانك بما أنزل إليك من القرآن، فإنك لن تختلف معه في إيمانك بما يؤمن به ـ من ناحية المبدأ ـ من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، وتعاليم النبوّات المشتركة بين الأديان من خلال الأنبياء الذين يلتقون على رسالات اللّه، فيلتقي المؤمنون على الإيمان بهم.

وهذا الأسلوب من أوضح الأساليب وأكثرها حكمةً وانفتاحاً، لأنه يخلق جوّاً نفسياً ملائماً يؤدي إلى حالةٍ حواريةٍ حميمةٍ تفتح العقل من خلال النافذة المطلة على القلب، باعتبار أنَّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو الطريق الذي يؤدي إلى قلبه، لأنه إذا أحبّك أحبَّ فكرك، وإذا انفتح عليك ـ من الناحية الشعورية ـ انفتح عليك من الناحية العقلية.

ولعلّ مشكلة الكثيرين من النّاس أنهم يركزون على مواقع الخلاف التي تغلق القلوب بدلاً من مواقع الوفاق التي تفتحها، لأنهم لا يعيشون المحبة للآخرين في الرسالة، بل ينطلقون بها من موقع العقدة والحقد والانفعال، حتى أعطوا الحقد ـ الذي لا قداسة له ـ معنى القداسة.

* * *

بين إنزال الرسالات وإيتائها:

الثانية: إنَّ هناك اختلافاً في التعبير في الآية، فقد عبّر عمّا عندنا وعمّا عند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال، وعند موسى وعيسى والنبيين بالإيتاء وهو الإعطاء، كما أشار إلى ذلك في تفسير الميزان، فهل هناك نكتة في ذلك؟

يذكر العلامة الطباطبائي أنَّ النكتة هي أنَّ اليهود والنصارى يعتبرون «إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من أهل ملتهم، فاليهود من اليهود، والنصارى من النصارى، واعتقادهم أنَّ الملّة الحقّة من النصرانية أو اليهودية هي ما أوتيه موسى وعيسى، فلو كان قيل: وما أوتي إبراهيم وإسماعيل، لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملّة بالوحي والإنزال، واحتمل أن يكون ما أوتوه هو الذي أوتيه موسى وعيسى (ع) نسب إليهم بحكم التبعية، كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل، فلذلك خصّ إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال، وأمّا النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله: وما أوتي النبيون شيئاً يجب دفعه»[4].

وخلاصة الفكرة هي أنَّ المطلوب هو بيان استقلالية إبراهيم ومَنْ بعده عن موسى وعيسى، ما يفرض اختلاف التعبير الذي يوحي بتعدّد المواقع. ولكنَّنا نلاحظ أنَّ ذلك لا يدلّ على اختلاف فريق الإيتاء وفريق الإنزال في طبيعة الرسالة، فلا مانع من أن يكون ما أوتيه إبراهيم وفريقه هو نفسه الذي أوتيه موسى وعيسى مع إنزال الوحي على هذا أو ذاك مع وحدة المضمون الرسالي في تنوّع الخصائص؛ وهذا ما يريد اللّه تأكيده في القرآن من الإيمان بالكتاب كلّه وبالرسل كلّهم الذين يلتقون على الخطوط العامة، حيث يكون الإيمان بأحدهم إيماناً بالآخر.

هذا مع ملاحظة أخرى، وهي أنَّ فريق إبراهيم لم يعلم أنه أوحي إليه غير ما أنزل على إبراهيم، ولا سيما الأسباط الذين ذكر أنَّ المراد بهم يوسف وإخوته الذين لم يكونوا أنبياء، لأنَّ الذين تآمروا على يوسف لا يمكن أن يكونوا في مستوى النبوّة، فيكون الإيتاء لهم باعتبار أنهم من الأمّة التي يؤتى نبيّها الرسالة التي تؤمن بها. إننا لا نرى في اختلاف التعبير إلاَّ التنوّع فيه الذي يمنح الكلام حيويّةً وحركةً مع اتّحاد الفكرة.

* * *

اللّه يكفي نبيّه والمؤمنين معه شرّ الكافرين المعاندين:

{فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ}من الشمولية في الإيمان للأنبياء كلّهم وللكتاب كلّه، {فَقَدِ اهْتَدَو}إلى الطريق الحقّ الذي يؤدي بهم إلى الجنّة. وربما كان التعبير بكلمة «مثل» ـ مع أنَّ المقصود المضمون الإيماني نفسه بالمحافظة على شخصية المحاور الآخر الذي لا يريد أن يلغي ذاته بالسقوط تحت تأثير الآخر ـ للإيحاء بأنَّ المسألة مسألة توافق في الرأي الواحد بحيث يصدر من كلّ واحدٍ منهما بشكل مستقلّ، على نهج توارد الأفكار أو الخواطر؛ {وَّإِنْ تَوَلَّوْ}وأعرضوا عن الإيمان وأنكروا مضمونه الحقّ وجحدوه، {فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ}ونزاع لإثارة الجدال المعقّد الذي لا يريد أن يصل بالحديث إلى نتيجةٍ حاسمة، بل يريد أن يربك الأجواء بالمزيد من عناصر الفرقة والاختلاف، للإبقاء على خطّ الكفر من دون أن يتحوّل السائرون عليه إلى خطّ الإيمان. {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه}ويحميك من شرّهم وينصرك عليهم لتكون كلمتك التي هي كلمة اللّه هي العليا، وكلمتهم التي هي كلمة الشيطان السفلى. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}الذي يسمع أقوالهم ويعلم أعمالهم، فلن يصلوا إليك بسوء ما دمت في حماية اللّه ورعايته.

{صِبْغَةَ اللّه}إنه الإيمان الذي يمنح صاحبه اللون المميّز، الذي يطبع الذات بطابعه في جميع خصائصها، تماماً كما هو الصبغ عندما يطبع الثوب أو الجسد فيلوّن كلّ جزئياته.

{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً}لأنه الخالق الذي يعطي الإنسان وجوده ويمنحه أفضل الامتيازات المعنوية والروحية التي تمنحه حسناً وإشراقاً. {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}وسائرون على النهج الذي أرادنا أن ننهجه في الحياة في تأكيد معنى عبوديتنا له التي هي سرّ التوحيد والفطرة التي تنطلق في الذات بالإسلام في جميع إيحاءاتها وألوانها، وذلك خلافاً لمن يرون الصباغ أمراً مادياً، كما هي المعمودية لدى النصارى، في دخول الإنسان في دين اللّه.

* * *

أتحاجّوننا في اللّه ؟!

{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّه}لأنكم الأقرب إليه دوننا، باعتبار أنكم شعب اللّه المختار، أو أبناء اللّه وأحباؤه، أو لأنَّ لكم إلهاً يختلف عن إلهنا، وكلّ ذلك باطل؛ {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}فهو ربّ العالمين جميعاً لا فرق في موقع ربوبيته بين إنسان وآخر، ولا ميزة لأحدٍ على أحدٍ إلاَّ بالأعمال. وهو الذي يحدّد للنّاس وظائفهم ومهماتهم ومسؤولياتهم في تدبير أمورهم وأمور من حولهم وما حولهم... {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}فهي التي تحدّد لكلٍّ منّا موقعه منه وقربه إليه، {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}في إيماننا به وتوحيدنا له وعبادتنا إياه؛ وهذا ما يجعلنا في الخطّ المستقيم الذي أرشدنا إليه وهدانا له.

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى}لتؤكدوا بذلك شرعية أوضاعكم بانتساب خطّكم إلى خطّ إبراهيم، الذي كان الرمز العظيم للقاعدة الرسالية الممتدة في حركة الرسل والرسالات، لتحصلوا على غطاء رسالي لانحرافاتكم الفكرية والعملية. {قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه}، وقد أخبركم بأنَّ التوراة والإنجيل اللتين تنتمي إليهما اليهودية والنصرانية قد أنزلتا من بعدها، فكيف يكون انتماؤه إليهما من خلال الصفتين اللتين تلصقونهما به، وذلك هو قوله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[آل عمران:65]. وهذا الاستفهام للتوبيخ لا للحقيقة، إذ لا معنى لها في الموضوع، فوزانه وزان قوله تعالى: {أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَـهَ}[النازعات:27].

ومعناه كما يقول صاحب مجمع البيان: قل يا محمَّد لهم: أأنتم أعلم أم اللّه، وقد أخبر سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية وزعمتم أنهم كانوا هوداً أو نصارى فيلزمكم أن تدّعوا أنكم أعلم من اللّه وهذا غاية الخزي[5].

* * *

كتمان الشهادة ظلم وبهتان:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّه[ مما يعلمه من شؤون الرسل والرسالات، لأنَّ ذلك يؤدي إلى تشويه الحقيقة وتزييف الواقع وإيقاع النّاس في الضلال؛ وهو من أبشع أنواع الظلم، لأنه يسلب الإنسان حقّه في وعي الحقيقة الرسالية التي تتوقف عليها استقامة الإنسان في حياته، {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}من كلّ هذه الانحرافات الفكرية والعملية، فيحاسبكم عليها تبعاً للنتائج السلبية التي تترتب عليها في حياتهم وحياة النّاس من حولهم، ]تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}من أعمالها التي تتحمّل مسؤولياتها، {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}من أعمالكم التي تواجهون حساباتها يوم القيامة، {وَلاَ تُسْـألُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. إنَّ القاعدة الإسلامية تفرض المسؤولية الفردية في حركة الإنسان كما جاء في قوله تعالى: ]أَلاَّ تَزِرُ وَزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[النجم:38ـ39].

وقد كرر الآية ليؤكد ـ بعد كلّ قصة من قصص التاريخ ـ هذه الحقيقة الحضارية القائمة على خطّ التوازن العملي في مضمون العدل الإلهي في حياة الإنسان، ليمنع الإنسان من الاستغراق في كهوف الماضي وفي خلافاته، لتكون حياته انفتاحاً على مسؤولية الحاضر والمستقبل اللذين يصنعهما بفكره وعمله في دوره في بناء الحياة على أساس متين.

(1) مجمع البيان، ج:1، ص:403.

(2) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:1، ص:310.

(3) البحار، م:26، ج:73، ص:601، باب:2، رواية:4.

(4) تفسير الميزان، ج:1، صك307.

(5) مجمع البيان، ج:1، ص:410.