تفسير القرآن
البقرة / من الآية 142 إلى الآية 152

 من الآية 142 الى الآية 152

الآيــات

{سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النّاس مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاس وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعًا إِنَّ اللّه عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ للنّاس عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ولأتمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (142ـ152).

* * *

معاني المفردات:

{السُّفَهَآءُ} : الناقصو العقول، الحمقى الذين يفتقدون الميزان الصحيح في النظرة إلى الأمور والأحداث، وقال ابن عربي في تفسيره: «إن كلّ من لم يدرك حقيقة دين الإسلام فهو سفيه، لأنه خفيف العقل»[1].

{وَلَّـهُمْ} : ولاّه عنه: صرفه وفتله. وولى عنه خلاف ولي إليه، مثل قولك: عدل عنه وعدل إليه وانصرف عنه وانصرف إليه. فإذا كان الذي يليه متوجهاً إليه فهو متولٍّ إليه، وإذا كان متوجهاً إلى خلاف جهته فهو متولٍّ عنه.

{وَسَطً} : الوسط: السواء والعدل والنَّصفة، لأنَّ الوسط عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض، وقيل الخير. قال صاحب العين: الوسط من كلّ شيء أعدله وأفضله[2]. فكون الأمّة وسطاً ـ بناءً على هذا ـ لما تملكه من موقع أصيل يجعلها مرجعاً وميزاناً يؤهلها لممارسة دور الشهادة والقيادة، وقيل في صفة النبيّ محمَّد (ص): كان من وسط قومهم أي من خيارهم.

{شُهَدَآءَ} : من الشهادة التي هي الحضور مع المشاهدة، إمّا بالبصر أو بالبصيرة، والشهداء إمّا من شهادة الأعمال أو من الحجّة والبيّنة. قال العلامة الطباطبائي في الميزان: «معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الأمّة وسطاً، فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة والشهداء»[3].

{الْقِبْلَةَ} : مأخوذة من الاستقبال، وهي كلّ جهة يستقبلها الإنسان فيقابل غيره عليها، ثُمَّ صارت عَلَماً على الجهة التي تستقبل في الصلاة.

{عَقِبَيْهِ} : العقب: مؤخر القدم. والانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإنَّ الإنسان ـ وهو منتصب على عقبيه ـ إذا انقلب من جهةٍ إلى جهةٍ انقلب على عقبيه، وقد استُعير هنا لمن يكفر باللّه ورسوله، لأنَّ المنقلب على عقبيه يترك ما بين يديه ويدبر عنه، وحيث إنَّ تارك الإيمان هو بمنزلة المُدْبِر عمّا بين يديه، وصف بذلك.

{لَكَبِيرَةً} : ثقيلة وشاقة. قال الراغب: تستعمل الكبيرة في ما يشق ويصعب[4].

{لَرَءُوفٌ} : الرأفة أشدّ الرحمة. رأف به: أشفق عليه من مكروه يحل به.

{تَقَلُّبَ} : التحرّك في الجهات. قال الزمخشري: «{تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السَّماء»[5]، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} أي: صيرناك تستقبلها بوجهك.

{شَطْرَ} : جهة، ونحو، وشطر المسجد الحرام نحوه وتلقاءه، قال صاحب العين: شطر كلّ شيء نصفه، وشطره نحوه وقصده[6].

{الْمُمْتَرِينَ} : الشاكّين المتردّدين. قال الراغب: «المرية: التردّد في الأمر وهو أخص من الشك... والامتراء والمماراة المحاجّة في ما فيه مِرية... وأصله من مَرَيت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب»[7]. قال صاحب العين: المري مسحك ضرع الناقة تمريها بيدك لتسكن للحلب[8].

{حُجَّةٌ} : الحجة: الدلالة المبيِّنة للمحجّة أي المقصد المستقيم؛ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . [الأنعام:149]. قال الراغب في الآية: «يجوز أنه سُمِّي ما يحتجون به حجة»[9]. ولهذا فقد يراد من الحجة البينة الواضحة أو ما يحتج به ولو كان غير مبين، أو المحاجة والمنازعة.

{تَخْشَوْهُمْ} : الخشية: خوف يشوبه تعظيم.

{وَيُزَكِيكُمْ} : ينمّيكم ويطهركم، قال الراغب: «أصل الزكاة النمو الحاصل عن بركة اللّه تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدّنيويّة والأخروية. يُقال: زكا الزرع يزكو إذا حصل منه نموّ وبركة»[10]، ولهذا تشمل التزكية إزالة العقائد الفاسدة كالشرك والكفر، والملكات الرذيلة كالكبر والشح، والأعمال الشنيعة كالقتل والزنى وشرب الخمر.

{وَالْحِكْمَةَ} : قال الراغب: «إصابة الحقّ بالعلم والعقل، فالحكمة من اللّه تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عزَّ وجلّ: ] وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ[ »[11] [لقمان:12] قال الطبرسي: «الحكمة هي العلم الذي يمكن به الأعمال المستقيمة»[12]، وربما كانت الحكمة توحي بانسجام التطبيق العملي في حركة الإنسان مع النظرية التي تمثّل الخطّ الفكري الذي يؤمن به. ويلتقي هذا بالمأثور عن الحكمة بأنها وضع الشيء في موضعه.

{أَذْكُرْكُمْ} : قال الراغب: «الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكلّ واحد منهما ضربان، ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ»[13]. فذكر اللّه للنّاس هو أن يذكرهم بتسديده وتوفيقه وعفوه وغفرانه بعدما يذكرونه في الألسن والقلوب والمواقف.

{وَاشْكُرُو} : الشكر ثلاثة أضرب: شكر القلب، وهو تصوّر النعمة، وشكر اللسان، وهو الثناء على المنعم، وشكر سائر الجوارح، وهو مكافأة المنعِم بقدر استحقاقه. والشكر تصوّر النعمة وإظهارها، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.

* * *

المسلمون وتحدّياتهم لليهود والنصارى:

في هذا الفصل الذي يبدأ به الجزء الثاني من القرآن الكريم، يريد اللّه سبحانه أنْ يربي المسلمين في المجتمع الجديد الذي يعيشون فيه في المدينة، على مواجهة التحدّيات الآتية من الآخرين حول بعض التشريعات الإسلامية الصادرة من رسول اللّه أو بعض الأوضاع العامّة التي كانت تواجه المسلمين آنذاك، وتثير بعض التساؤل والحيرة واللغط، ممّا قد يؤثر على تماسك الجماعة المسلمة ويفسح في المجال لمزيد من الارتباك والاهتزاز.

وقد تبرز أهمية هذا الاتجاه في الملاحظة التالية، وهي أنَّ التحدّيات الكافرة قد تحدث في المراحل التي يعيش فيها المسلمون البساطة في الوعي والثقافة، والسذاجة الروحية والفكرية في مواجهة المشاكل المستجدّة، ولا سيما إذا كانت نظرتهم إلى تلك الفئات المتحدّية، نظرة تتّسم بالاحترام الداخلي لمعلوماتهم العامّة، من خلال الاعتقاد بأنهم يملكون المعرفة الشاملة بالكتاب المتضمن لأحكام اللّه وآياته، باعتبارهم أهل الكتاب، فقد يترك ذلك تأثيراً كبيراً على نظرتهم إلى القضايا المثارة أو المشاكل المطروحة، عندما يواجهون ذلك كلّه من خلال العجز الفكري عن المناقشة والتحليل.

أمّا القضية التي انطلقت هذه الآيات لمعالجتها، فقد شغلت المجتمع الإسلامي والمجتمع الكافر المضاد، لأنها كانت صدمةً لهم جميعاً، وذلك لأنَّ المسلمين كانوا يتجهون في عباداتهم منذ بداية الدعوة، إلى بيت المقدس الذي يتجه إليه اليهود والنصارى من أهل الكتاب، فجاء التشريع الجديد لينسخ ذلك ويحوّل القبلة إلى الكعبة، فأدّى ذلك إلى إثارة أهل الكتاب لأنهم كانوا يجدون في صلاة المسلمين إلى بيت المقدس نوعاً من أنواع التبعية العملية لهم، وسبيلاً من سُبل إضلال البسطاء من المسلمين بالإيحاء إليهم بأنَّ ذلك يدل على أنَّ الحقّ معهم، كما أنهم اعتبروه خسارةً لأحد مواقعهم العملية التي تؤكد أصالتهم ومواقعهم المتقدّمة من الكتاب والنبوّات.

أمّا المسلمون فقد عاشوا صدمة ذاتية، لاشتمال ذلك على أسلوب جديد غير مألوف لديهم في التعامل مع التشريع الذي ساروا عليه مدّة طويلة، بإلزامهم بالوقوف منه موقف الرفض العملي الذي يستبدل موقفاً بموقف، فيعتبر السير على التشريع ـ على أساس ذلك ـ انحرافاً عن الخطّ الصحيح، مما لم يكن لهم سابق معرفةٍ به، ولم يكونوا في إعداد نفسي له، بل جاء مفاجأةً كبيرةً لهم، وصدمةً نفسية إيحائيةً من خلال أساليب اليهود الذين حاولوا أن يثيروا أمامهم المشكلة الفكرية في النسخ، فإذا كان حكم اللّه هو التوجه إلى بيت المقدس، فمعنى ذلك أنَّه الحقّ وأنّ غيره هو الباطل، فكيف يتغيّر حكم اللّه إلى شيء آخر لتنقلب النظرة إليه في النظرة إلى الحقّ والباطل في القضية نفسها، وكيف يمكن أن ينسب ذلك إلى اللّه الحكيم في كلّ ما يفعله من أفعال وما يشرِّعه من أحكام ما دامت المصلحة لازمة للأشياء وما دام الحكم تابعاً للمصلحة التي تمليه؟! ولم يكن لدى المسلمين من المعرفة بأسس التشريع وطبيعة مساره ما يمكِّنهم من الدخول في جدل أو مناقشة حول ذلك مع هؤلاء.. وهكذا عاش المسلمون جواً من الريب والحيرة، وبدأوا يواجهون حالةً متوترة من الضوضاء والقيل والقال، بالمستوى الذي تحوّل الموقف فيه إلى عُقدة كبيرة تهدّد المسيرة الإسلامية في ذلك المجتمع.

وكان القرآن بالمرصاد لذلك؛ فقد خاض المعركة بكلّ الأساليب الضرورية التي يحتاجها الموقف، سواء في ذلك الأساليب الفكرية التي تواجه طبيعة التشريع، أو الأساليب العاطفية التي تخاطب مشاعر المسلمين وعواطفهم، أو الأساليب العملية التي تواجه المسلمين بالواقع الداخلي لأهل الكتاب في ما يمارسونه من أساليب اللف والدوران والتضليل ضدّ المسلمين، وتعرّفهم الموقع الذي يريد اللّه للأمّة أن تقفه في الكون في قيادة العالم إلى الشاطىء الأمين، ما يجعل من القضية مدخلاً قرآنياً لتربية المجتمع المسلم على مواجهة التحدّيات بالفكر والعاطفة والواقعية، ولتأكيد الخطّ القرآني الذي لا يترك المسلمين في حَيرة أمام علامات الاستفهام التي تثور في وجدانهم حول قضايا العقيدة والتشريع، بل يعمل على أن يجد لهم الأجوبة التي ترضي قناعاتهم الفكرية، وتمنحهم الشعور بالرضى والاطمئنان والثقة بما يعتقدون ويعملون، من أجل تركيز هذا التشريع في وعي النّاس، وتربية المجتمع المسلم على الانطلاق إلى الحياة من خلال القواعد الثابتة المنطلقة من أمر اللّه ونهيه في كلّ ما يريد اللّه أن يغيره أو يبدله من تشريع أو غيره، ليعي المجتمع من خلال ذلك طبيعة علاقته باللّه وحدودها، ويعرف أنَّ المسلم لا يملك أمام كلمة اللّه أيّة إرادة تقوده إلى الرفض أو التشكيك؛ بل هو التسليم المطلق في كلّ شيء كما توحي به الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِين} [الأحزاب:36].

وقد حدّثنا اللّه في هذا الفصل عن الكلمات التي يمكن أن تقال، وعن التصوّرات التي ينبغي للمسلم أن يعيشها أمام تلك الكلمات، وعن طبيعة هذا التبدل في التشريع، في حكمة اللّه، وفي نتائجه العملية على سير الدعوة، وعن التصوّرات والاهتمامات النفسية التي كانت تشغل بال النبيّ محمَّد (ص) قبل ذلك، وعن الدور الكبير الذي أعدّه اللّه لهذه الأمّة في حملها للرسالة وشهادتها على النّاس وشهادة الرسول عليها أمام اللّه.

وفي هذا الجوّ المتنوّع، ينطلق القرآن ليربط المسلمين بالخطّ الأصيل الذي يسيرون عليه، فلا يتزحزحون ولا ينحرفون عن الخطّ الإسلامي الحقّ إلى خطوط الآخرين، بحجّة أنَّ يجلبوا الآخرين إلى صفوفهم، مهما كانت نسبة الانحراف ضئيلة، وذلك بالعمل على الانطلاق بعيداً في تحليل واقع المجتمع المضادّ بالمقارنة مع الواقع الذي يعيشه النبيّ والمسلمون إزاء عقيدتهم، وتحليل طبيعة العلاقة التي تشدّهم إلى اللّه وتربطهم به، فهو الذي يجب أن يخشوه ويلجأوا إليه ويطلبوا رضاه.

ثُمَّ يتابع التأكيد في تكرار ملحوظ على المسلمين بالالتزام بهذا التشريع، ليكون ذلك رمزاً لوحدتهم في الموقف والشعور، لأنه يمثّل القاعدة الروحية التي يرتبطون بها ويتجهون إليها، وهي هذا البيت الذي انطلق بالتاريخ الديني الرسالي الأول من أجل أن تبدأ الرسالة منه من جديد في عهدها المحمَّدي الجديد.

هذه هي بعض الأفكار التي نقدّمها أمام الآيات الكريمة في هذا الفصل، كمقدمة للمزيد من الشرح والتفصيل.

* * *

السفهاء يثيرون المشكلة:

تصوّر الآية الأولى الحالة النفسية والذهنية التي كان يعيشها فريق من النّاس من أهل الكتاب إزاء هذا التشريع الجديد، مما يدفعهم إلى أن يطرحوا مثل هذا التساؤل في مرارة وإنكار... وفي ذلك إيحاء بانخفاض المستوى الثقافي الذي يمكنهم من خلاله مواجهة الأمور التشريعية من جانبها الفكري على أساس الركائز الثابتة التي تقدّم عليها قضايا التشريع.

وقد صاغت الآية الفكرة المضادة بصيغة التساؤل الذي يشوبه الاعتراض والإنكار، كأسلوب من أساليب إثارة الجوّ ضدّ التشريع بشكل بريء، فهي لا تطرح الفكرة بصورة الرفض المطلق لتوحي للآخرين بالموقف المضاد الذي تستثيره حالة المعارضة، بل تطرحها بصورة السؤال لتستطيع إثارة الشك والبلبلة في أذهان المسلمين، تماماً كأية قضية من القضايا التي يدور فيها الجدل من أجل الوصول إلى نتيجة حاسمة، في أسلوب إيحائي بإخراج الموضوع من جوّ القداسة التي تفرض الالتزام والتسليم المطلق.

وهذا ما نواجهه في كثير من الأساليب التي يستعملها الأعداء ضدّ الأحكام الشرعية من أجل وضعها في مواقع الشك والريب، وذلك بإثارة الجوانب السطحية التي تبتعد بالإنسان عن التعمّق في خلفيات التشريع البعيدة المدى، ليكون ذلك بداية للانفتاح على حالات الشك التي تبعد المسلم تدريجياً عن روحية التسليم المطلق للّه...

وقد لا يظهر الجانب السلبي في هذا العرض الاستفهامي، باعتبار أنَّ الإسلام لم يتنكر للشك كأساس للوصول إلى الحقيقة، ولم يواجه التساؤلات التي كان المسلمون يثيرونها أمام بعض الأحكام الشرعية بالردّ والرفض العنيف، بل عمل على أن يواجه الإنسانُ، كافراً أو مؤمناً، الفكرة العقيدية والفرعية، من موقع التساؤل البريء، لتتكون القناعة الفكرية في العقيدة والتشريع على أساس متين.

] سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النّاس[ الذين لا يفكرون في الأمور بطريقةٍ متوازنة، ولا يميّزون بين الوحي الإلهي في تشريعه المنطلق من المصلحة التي تتغيّر حسب تغيّر الأزمان والأحوال، ما يجعل الشيء ذا مصلحة اليوم بلحاظ عنوان أو ظرفٍ معين، ولا يكون ذا مصلحة في يوم آخر بلحاظ عنوان جديد أو ظرف طارىء؛ وبين الرغبة الذاتية التي تتحرّك من موقع الأهواء التي لا تخضع لقاعدة.

] مَا وَلاّهمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا[ في صلاتهم، فكيف تتغيّر القبلة بين وقت وآخر، وكيف يتبدل التشريع الإلهي إذا كانوا ينسبون القبلة إلى وحي اللّه، وهل يمكن أن يبدّل اللّه شريعته وهو العالم بحقائق الأشياء بعيداً عن كلّ الحالات الطارئة؟ فإذا كان التوجه إلى الكعبة مصلحة، فكيف كان بيت المقدس قبلةً في التشريع الأول؟

ولكنَّنا لو دقّقنا في هذا الموقف، لاكتشفنا الاتجاه السلبي الذي يتحرّك من خلاله السؤال، ولرأينا أنَّ السلبية تكمن في إعطاء الموقف جوّاً من الإثارة التي تدفع للاعتراض، بالإضافة إلى أنه يسيء إلى الجانب التربوي الذي ترتكز عليه الشخصية الإسلامية التي تعتبر تكوين الأساس العقيدي منطلقاً للالتزام الفكري والعملي بالتشريع، باعتباره صادراً من خالق الإنسان الذي يعرف ما يصلحه وما يفسده أكثر من الإنسان نفسه، وبذلك كانت الفكرة المطروحة إسلامياً لمن يحاول فهم الأحكام الشرعية: التزم واعمل ثُمَّ ناقش واسأل.

إنهم يتساءلون عن الأساس الذي صرف المسلمين عن قبلتهم، ويثيرون أمام هذا التساؤل نقطتين:

الأولى: إنهم يوجهون الحديث إلى المسلمين كما لو كانت القضية تعني سلوكاً شخصياً لهم.

الثانية: إنهم لا يحاولون التدبّر في طبيعة التشريع الأول والثاني، ليجدوا أنهما ينطلقان من اللّه في تعيين أيّة جهةٍ من الجهات ليتوجه النّاس إليها في عبادتهم، وليستا منطلقتين من خصوصيةٍ ذاتية لهذه الجهة أو تلك ليمتنع الانتقال من جهة إلى جهة على أساس ذلك.

وعلى ضوء ذلك، فلا مجال لأيّ اعتراض؛ فإنَّ اللّه يملك المشرق والمغرب معاً وليس له اختصاص بجهةٍ دون جهة، فله أن يعيّن المشرق لنتوجه إليه، وله أن يعيّن المغرب لنتوجه إليه، وذلك ضمن الخطّة التي يضعها للإنسان في تنظيم عباداته ومعاملاته، مما يمكن أن يختلف فيه وجه الحكمة والمصلحة حسب اختلاف الخطّة الموضوعة، فقد يكون في الاتجاه إلى جهةٍ ما مصلحة في داخل خطّة معينة، وقد لا يكون فيه مصلحة بلحاظ خطّة أخرى..

] قُل للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ[ فهو الذي يوجه عباده إلى هذه الجهة أو تلك، ليمنحها القداسة من خلال ذلك، فلا قداسة لجهةٍ دون جهة بعيداً عنه، وهو الذي يعلم صلاح عباده في كلّ مرحلةٍ من المراحل، فيوجب عليهم شيئاً في وقت ليبدّله بشيء آخر في وقت آخر، تبعاً للمصالح التي تتبدل مع التغيرات الظرفية المتنوّعة، وإذا كان بيت المقدس متميّزاً بأنه موطن الأنبياء، فإنَّ الكعبة هي أول بيت وضع للنّاس بأمر اللّه نبيّه إبراهيم (ع) ببنائه وبدعوة النّاس إليه للحج، فقد تتعلّق حكمته بإبقاء بيت المقدس قبلة للمسلمين كما كان قبلة لغيرهم في الماضي، للتدليل على اعتراف الدِّين الجديد بأهمية هذا المكان المقدس في وعي المسلمين، ليؤكد هذا التعبير في خطّهم الفكري، ثُمَّ يأتي التشريع الجديد ليجعل الكعبة قبلةً جديدةً من أجل تأكيد الخصائص العبادية التي تختزنها في وجودها القدسي، بالأمر الإلهي المباشر الصادر إلى خليله إبراهيم مما لا تملكه القبلة القديمة.

وخلاصة القضية، أنَّ على الإنسان أن يعرف أنَّ اللّه لا يريد له إلاَّ الخير ولا يأمره إلاَّ بالسير على الخطّ المستقيم، في ما يهديه إليه من تشريعات وأحكام، مما يقتضيه التسليم والإذعان المطلق للّه، فإنَّ اللّه الذي يملك المشرق والمغرب هو الذي يختار لعباده ما يصلحهم {يَهْدِي مَن يَشَآءُ} منهم {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، وهو الدِّين الحقّ الذي يؤدي بالنّاس إلى مواقع رضاه وإلى الجنّة الموعودة لديه.

* * *

لماذا وصفهم القرآن بالسفهاء؟:

وقد قدّم القرآن أمام عرض الفكرة سؤالاً وجواباً، صورةً عن طبيعة تكوينهم الداخلي، ما يوحي بأنَّ الفكرة لم تنطلق من أساس مشكلة فكرية لتبعث على الاحترام، بل انطلقت من واقع ذاتي منحرف يواجه فيه هؤلاء كلّ القضايا من موقع السفه الذي يعني فقدان الميزان الصحيح، الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يَزِنَ الأمور ويحاكمها في جانب الفكرة والممارسة معاً، ما يبعث على النظر إلى الفكرة بعيداً عن الاحترام.

وقد يثور أمامنا سؤال:

إنَّ استباق المناقشة بإعطاء مثل هذه الصفة يبعد الموقف عن الحياد الفكري الذي يفرضه الأسلوب العلمي في الحوار والمناقشة، لأنه يخلق جوّاً نفسياً مثيراً ضدّ أصحاب الفكرة في ما يشبه أسلوب القهر على طريقة حرب الأعصاب.

والجواب عن ذلك، أنَّ الموقف ليس موقف مواجهة المشكلة من موقع فكري فحسب، بل الموقف هو موقف إبعاد هؤلاء عن التدخل في حياة المجتمع المسلم من خلال الخطّة المرسومة لديهم في زلزلة المسلمين وإبعادهم عن الخطّ المستقيم، ما يستدعي العمل على إبعاد المسلمين عنهم نفسياً قبل إبعادهم عنهم فكرياً، ليواجهوا الموقف في المستقبل من موقع النظرة غير المحترمة عندهم، ليبتعد الجوّ بذلك عن الاهتزاز والارتباك، وقد لاحظنا في هذا النطاق الأسلوب الأمثل الذي يركز على تصوير طبيعة هؤلاء الذين يثيرون السؤال بصورةٍ غير محترمة، ليبعد الفكرة عن جانب التأثير الشخصي بالجماعة، إلى مواجهة الفكرة في نطاقها الفكري.

أمّا كيف وصفهم القرآن بالسفهاء، فلأنَّ شخصية السفيه تتمثّل في عدم استقامة العقل وعدم توازن الرأي، ما يجعل التصرّفات العملية في الفكر والعلاقة والمعاملة بعيدةً عن الاستقامة والاتّزان، ولا شك في أنَّ الانحراف عن خطّ اللّه الذي يؤدي إلى سلامة المصير في الدنيا والآخرة، لا يمثّل الاستقامة في أيّ خطّ من خطوطها، بل هو ـ على العكس من ذلك ـ يمثّل اختيار الخطّ الملتوي الذي يضر بالإنسان في كلّ مجالاته.

* * *

الأسلوب القرآني في صراعنا الحاضر:

وقد نشعر بالحاجة إلى اعتماد هذا الأسلوب في الواقع العملي، الذي يخوض فيه الإسلام صراع التحدّيات الفكرية والعملية مع التيارات الكافرة والمنحرفة، عندما تلجأ إلى مواجهة الإسلام بأساليب الإثارة، التي تعمل على خداع المسلمين وإضلالهم وإبعادهم عن الخطّ المستقيم، فنحاول أن نواجه الموقف كما واجهه القرآن، بالتركيز على الصفات الواقعية التي تكشف حقيقتهم، وتبعد المسلمين عن التأثر بهم والخضوع لأساليبهم، ثُمَّ مواجهة القضية من جانبها الفكري بعيداً عن التأثيرات الذاتية الضاغطة. ولا بُدَّ لنا ـ ونحن نثير هذا اللون من الأسلوب ـ من التدقيق جيداً في طبيعة الواقع الموضوعي الذي تنطلق فيه المشكلة وتتحرّك فيه عمليات الإثارة، لئلا نخطىء في استعماله في ما لا ينسجم مع المصلحة الإسلامية العليا في الدعوة والعمل.

* * *

الأمّة المسلمة هي الأمّة الوسط:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً} تقف في الموقع المميّز بين سائر الأمم من خلال الموقع القيادي للرسالة القائدة والدور القائد في الدعوة والحركة، كما كان الرسول كذلك بالنسبة إليهم في تبليغه وهدايته وقيادته. {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاس} بفعل المهمة الموكولة إليكم في حركتكم القيادية في اتجاه النّاس مما يستدعي المواكبة والمراقبة والمتابعة بالمستوى الذي يؤهلكم للشهادة عليهم من موقع الإشراف على حركتهم في الخطّ الفكري والعملي، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً} لأنه هو الذي صنع الأمّة في وجودكم عندما أطلق الرسالة لتكون عنواناً لكم، وحمّلكم مسؤوليتها لتحدّد لكم الدور القيادي، ليشهد عليكم أمام اللّه كيف كانت مواقعكم ومواقفكم وأوضاعكم ودعوتكم إلى دينه.

في هذه الآية حديث عن الأمّة المسلمة بأنها «وسط» في ما جعله اللّه للمسلمين من موقع قيادي في الحياة، وأنها شاهدة على النّاس، وحديث عن الرسول بأنه شاهد على الأمَّة.. فكيف نفهم هذه «الوسطية» وهذه الشهادة؟

جاء في مجمع البيان: «الوسط: العدل، وقيل: الخير ومعناهما واحد، لأنَّ العدل خير والخير عدل، وقيل: أخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه، وقيل: بل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي فالحق معه، قال مؤرّج: أي وسطاً بين النّاس وبين أنبيائهم، قال زهير:

هُمُ وَسَطٌ يرضى الأنام بحكمهم إذا طرقت إحدى الليالي بمُعظم

قال صاحب العين: الوسط من كلّ شيء أعدله وأفضله...»[14].

وقد جرى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية مجرى التفسير اللغوي البحت، فأخذوا منه معنى العدل والتوازن على أساس ما تمثّله الشريعة الإسلامية من الوسطية بين الاتجاه الروحي المتطرف الذي يمثّله النصارى، وبين الاتجاه المادي المتطرف الذي يمثّله المشركون واليهود، لأنَّ الإسلام يأخذ من الروح جانباً ومن المادة جانباً، لتكون الحياة ـ كما خلقها اللّه ـ نتيجة التزاوج بين الروح والمادة، وتتمثّل في التوازن بين الاتجاه الجماعي المتطرف الذي يلغي دور الفرد، والاتجاه الفردي المطلق الذي يلغي دور المجتمع في الحياة، فأعطى للفرد دوره في ما يحقّق ذاته من دون أن يغمط[15] حقّ الجماعة في نطاق قضاياها العامة، وأعطى للجماعة دورها في ما لا يلغي للفرد نوازعه الذاتية الطبيعية. ويمتد الخطّ الوسطي إلى التوازن بين الدنيا والآخرة؛ فللمسلم أن يُقبل على الدنيا ويستمتع بطيباتها من دون أن يسيء إلى خطّ الآخرة في السير مع شريعة اللّه في ما يفعل وفي ما يترك، وله أن يستغرق في الآخرة بما لا يمنعه من بناء الحياة والاندفاع معها على الأسس التي يريدها اللّه.. ويمضي الكثيرون في استيحاء الكلمة من خلال ما في الإسلام من توازن في مختلف جوانب الحياة من حيث العاطفة والعقل، ومن حيث التفكير العقلي والطرق التجريبية، ومن حيث الزمان والمكان... وهكذا...

وفي ضوء ذلك، يمكن للأمّة أن تؤدي دور الشهادة على النّاس باعتبارها تقف في نقطة التوازن التي ترجع إليها بقية الأطراف، كما يكون النبيّ شهيداً على الأمّة لأنه المثال الأكمل الذي يوزن به حال الآحاد من الأمّة.

ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا التفسير للآية، بأنَّ هذا المعنى «هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو من دقة، إلاَّ أنه غير منطبق على لفظ الآية؛ فإنَّ كون الأمّة وسطاً إنما يصحح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان، وميزاناً يوزن به الجانبان، لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين أو تشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة، وهو ظاهر على أنه لا وجه حينئذ للتعرّض بكون رسول اللّه شهيداً على الأمّة، إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمّة على جعل الأمّة وسطاً كما يترتب الغاية على المغيَّ[16] والغرض على ذيه»[17].

وإننا نتفق مع صاحب الميزان في هذه الملاحظة، لأنَّ قضية التفسير هي أن يدرس المفسِّر الكلمة من خلال الجوّ الذي تعيش فيه، ليتحقق الترابط بين الآيات في كلماتها وأجوائها. ونحن نرى أنَّ هذه الآيات تتحرّك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة من خلال الدور الذي أعدّه اللّه لهم في قيادة البشرية إلى الأهداف الكبيرة التي تتمثّل بالإسلام، الأمر الذي يجعلهم يتحرّكون في الحياة من هذا الموقع، ليكونوا شهداء على النّاس في أفكارهم وأعمالهم باعتبار أنهم يدخلون في ضمن مسؤوليتهم، كما كان الرسول شهيداً على المسلمين من خلال مسؤوليته الرسالية عنهم في ما بلّغهم إيّاه وفي ما أرشدهم إليه... وفي هذا الجوّ، لا نجد للوسطية معنى في ما حاوله هؤلاء المفسّرون من الحديث عن التوازن الفكري والتشريعي في المواجهة الإسلامية للحياة، لأنَّ القضية ليست قضية المضمون الإسلامي في صياغة الشخصية للإنسان المسلم، بل هي قضية الإيحاء للمسلمين بأنَّ عليهم أن لا يستسلموا للآخرين في الحصول على الثقة بالتشريع وبالمسار العملي، لأنهم لا يمثّلون التبعية للآخرين في مواقعهم، بل القضية هي أنَّ الآخرين يدخلون في نطاق مسؤوليتهم باعتبار أنهم يحملون الرسالة القائدة، والدور القائد في التبليغ والتنفيذ، كما كان الرسول بالنسبة إليهم في ما يبلّغه وفي ما يهدي إليه...

إننا نتصوّر الآية في هذا الموقع من خلال الأجواء العامة التي وردت فيها، ما يجعل من ذكر كلمة الوسط مقدّمة لتقرير فكرة الشهادة، ويوحي بأنَّ معناها يدخل في معنى العدل والفضل انطلاقاً مما ذكره صاحب كتاب العين: «إنَّ الوسط من كلّ شيء أعدله وأفضله»، فكأنَّ هذه الكلمة استُعيرت للأمّة المسلمة من أجل تأكيد الثقة في نفوسهم، على أساس ما حباهم اللّه من هداية إلى سبيله، لئلا ينهاروا أمام تضليل المضللين وتشكيك المشككين... وقد يوحي بذلك وقوع هذه الصفة بعد الحديث عن هداية اللّه لمن يشاء إلى صراط مستقيم، للتدليل على أنَّ اللّه أراد لهم هذه الهداية التي جعلتهم في هذا الموقع... ولعلّ طبيعة الشهادة على الآخرين أمام اللّه تقتضي أن يكون الشاهد في الموقع الأفضل من حيث الدور الذي أوكل إليه، ومن حيث السلوك الذي سار فيه، كما هي حال الأنبياء بالنسبة إلى أممهم. وهذا ما يؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه؛ وربما يؤكد ذلك ويوضحه ما ورد في الآية الكريمة: ] وَجَاهِدُوا فِي اللّه حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاس فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَءَاتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ باللّه هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].

فإننا نلاحظ تفريع شهادة الرسول عليهم وشهادتهم على النّاس إنما هي على أساس اجتباء اللّه لهم وانضباطهم على الخطّ وقيامهم بالدور الموكل إليهم في العمل لأنفسهم وللآخرين؛ أمّا الحديث عن التوازن في الإسلام، فهو حقّ، ولكن ذلك لا يعني أنَّ الآية تسير في هذا الاتجاه في مضمونها الفكري.

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان في معنى «الوسط»: «أنَّ كون الأمّة وسطاً إنما هو بتخلُّلِها بين الرسول وبين النّاس»[18]. ولكنَّنا قدّمنا أنَّ الوسطية هنا لا يُراد بها ذلك، بل يُراد بها ـ في ما نفهمه ـ الموقع الأفضل الذي وضع اللّه فيه الأمّة بالنسبة إلى النّاس؛ واللّه العالم بحقائق آياته.

* * *

شهادة الأمّة كيف نفهمها؟!

أمَّا الشهادة، فقد ذكر لها عدّة معان، منها: أنَّ المعنى: لتشهدوا على النّاس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحقّ في الدنيا وفي الآخرة. كما قال: {وَجِـيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ} ، [الزمر:69] وقال: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غافر:51]، وقال ابن زيد: الأشهاد أربعة؛ الملائكة والأنبياء وأمّة محمَّد (ص) والجوارح. كما قال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور:24] الآية.

ومنها: أنَّ المعنى: لتكونوا حجّة على النّاس، فتبيّنوا لهم الحقّ والدِّين، ويكون الرسول عليكم شهيداً مؤدياً للدّين إليكم، وسُمِّي الشاهد شاهداً لأنه يبين، ولذلك يقال للشهادة بيِّنة.

ومنها: أنهم يشهدون للأنبياء على أممهم المكذبين لهم بأنهم قد بلغوا وجاز ذلك لإعلام النبيّ (ص) إياهم بذلك[19]...

وإننا نستقرب من هذه المعاني المعنى الأوّل، لأنَّ الاتجاه العام في آيات الشهادة هو الإيحاء للنّاس بأنّهم مطوّقون في يوم القيامة بالشهادة على ما فعلوه في الدنيا من جميع الجهات، وذلك من الجهات المألوفة لديهم في الشهادة في ما يشهد به الأنبياء والمبلغون، أو من الجهات غير المألوفة لديهم وهي شهادة اللّه والملائكة والجوارح، ليشعروا في الدنيا بالحاجة إلى الانضباط في كلّ ما يعملونه أو يتركونه، وليتعمّق إحساسهم الداخلي بالرقابة الموجهة إليهم من جميع الجهات. وقد جاءت آيات الشهادة في سياق واحد حتى لا يشعر الإنسان بوجود فارق بين واحدة وأخرى مع اختلاف شخصية الشهود، كما نلاحظه في الآيات التالية:

{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاءِ شَهِيد} [النساء:41].

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل:84].

{وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِـيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الزمر:69].

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّه رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117].

وهكذا نلاحظ أنَّ القضية تتجه إلى يوم القيامة بين يدي اللّه، للإيحاء بالإحاطة الكاملة بالإنسان من جميع الجهات التي يتصوّر حضورها لديه من خلال المعاينة أو من خلال الإيمان، وذلك على أساس أنَّ الشهادة في تجربة الشهداء تتحرّك في الدنيا في الموقع القيادي الذي يتمثّل فيه الشاهد الواقع كلّه في حركة النّاس في الحياة ومدى التزامهم بالوحي الإلهي في خطّ الرسالات في دائرة السلب والإيجاب، ليقدّموها بين يدي اللّه في موقف الحساب، فلا تنافي بين مفهوم الشهادة في واقع الدنيا التي يتحرّك فيها الشهداء بين النّاس وبين حركتها الفعلية الأدائية في موقف القيامة أمام اللّه.

وفي ضوء ذلك، نفهم أنَّ المعنيين الآخرين لا ينسجمان مع الأجواء العامة للآيات، ولا سيّما المعنى الثالث الذي يركّز على حاجة النبيّ للشهادة على الأمم بأنّه بلَّغهم، إذا أنكرت الأمم ذلك، إذ لا معنى لحاجة النبيّ لذلك مع اعتباره شاهداً أساسياً تُطلب شهادته بشكل أصيل، ما يعني اعتبار شهادته قاعدةً للحكم على الأمم من خلال دخولهم ضمن مسؤوليته التي منحه اللّه الثقة في القيام بها بكلّ أمانةٍ وصدق.

* * *

اعتراض وجواب:

وقد أثار المفسرون اعتراضاً في هذا المجال، وخلاصته أنَّ الشهادة تفرض الموقع المتميّز للشاهد على المشهود عليه، ونحن نعلم أنَّ الأمّة تضم في جماعتها المطيع والعاصي والجاهل والعالم، فكيف يمكن أن يكون الجميع شهوداً في موقع الشهادة؟ والجواب أنَّ الأسلوب القرآني قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكلّ، باعتبار اشتمال الكلّ عليه، تماماً كما قد حدّثنا عن بني إسرائيل، مع أنَّ الصفات التي ذكرها كانت صفات البعض… وعلى هذا، فإنَّ كون الأمّة شاهدة يتحرّك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير، وهم الطليعة الواعية المؤمنة التقيّة المنضبطة التي تفهم الإسلام حقّ الفهم، وتعيه حقّ الوعي، وتمارسه حقّ الممارسة، وتحمله بروح رسولية رائدة. إنها النخبة الواعية الموجودة في كلّ زمان ومكان، التي يقف في طليعتها الأئمة الطاهرون والعلماء الواعون والأولياء الطيبون والمجاهدون العاملون الذين يحملون هذه الشهادة إلى اللّه، لأنهم يعيشون روح الرسالة، ويعيشون من خلالها الوعي لكلّ حياة النّاس، كما هو الرسول في رسالته وفي وعيه لأمّته.

* * *

تشريع القبلة امتحان لطاعة الأمّة:

ويستمر الحديث عن هذا التشريع الجديد من خلال التركيز على الطبيعة التربوية التي تحكم هذا التنوّع في التشريع من موقعٍ للقبلة في بداية الدعوة إلى موقع جديد في امتدادها الطويل... ويتجه الخطاب إلى النبيّ (ص) باعتبار أنه رسول اللّه إلى الأمّة، المكلّف بتوضيح الصورة لهم: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَ} وهي بيت المقدس، ] إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ[ .

فقد أراد اللّه أن يختبر المسلمين ليربيهم على الطاعة المطلقة له، التي تتمثّل في التسليم لأحكامه من دون أي ريب واعتراض؛ فأمرهم في البداية بالتوجه إلى بيت المقدس، ثُمَّ حوّلهم عنها ليبرز الأشخاص الذين يعيشون الإسلام فكراً وشعوراً وممارسة وطاعة مطلقة... وليتميّزوا عن الأشخاص الذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم، ويواجهون الرسالة كأيّة فكرة بشرية قابلة للأخذ والردّ، ويفهمون الإيمان ارتباطاً شكلياً باللّه وبالرسول، حتى إذا وقفوا في مواقع البلاء، تحوّلوا عن مواقفهم ومواقعهم الإيمانية إلى مواقع الكفر والنفاق. ولا نريد أن نخوض طويلاً في ما خاض فيه المفسرون من إثارة التساؤل حول كلمة {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في الآية، حيث إنَّ اللّه لا يحتاج إلى أية وسيلة عملية لمعرفة طبيعة الأشخاص، لأنَّ هذا التعبير جار على الأسلوب القرآني الذي يتحدّث عن الوسائل التي توضح الأشياء الخفية وتُظهرها باعتبارها أساساً للعلم الذي يريد اللّه أن يحصل عليه من خلال ذلك، وذلك على سبيل الاستعارة لقيام الحجّة على الإنسان بذلك، للتدليل على أنَّ اللّه لا يعاقب النّاس ولا يحاسبهم إلاَّ على أساس ما يظهر له من أفعالهم وأقوالهم، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى:

{الـم * أَحَسِبَ النّاس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1ـ3].

وهكذا كانت القبلة الجديدة اختباراً للإيمان المستقر في قلوب المؤمنين الذين يسلّمون أمرهم للّه، فلا يعترضون على ما يأتيهم الرسول به من تشريعات، لأنهم يؤمنون بأنه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3ـ4]، ليتميّز هؤلاء عن غيرهم...

{مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} هذا كناية عن الذين يتراجعون عن خطّ الإيمان ويسقطون أمام التجربة وتثيرهم الشكوك وتنحرف بهم عن الخطّ، لأنهم لا يعيشون الإسلام تسليماً فكرياً وروحياً وعملياً، ولا ينفتحون على الرسول التزاماً وطاعة.

{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه} . الظاهر أنها إشارة إلى هذه الحادثة التي تتمثّل في تحويل القبلة إلى الكعبة، باعتبار أنها هزّت المجتمع المسلم من ناحية فكرية وعملية، فأثارت في داخله الشعور باهتزاز التشريع وعدم ارتكازه على أساس متين من المصلحة والحكمة الثابتة التي لا تغيِّرها الظروف والأحوال في ما كان يوحيه اليهود للمسلمين من نظريتهم حول النسخ، كما كانوا يوسوسون لهم بأنَّ صلاتهم التي كانوا يتوجهون بها إلى بيت المقدس قد ضاعت عليهم، لأنها كانت إلى غير القبلة الحقيقية، فأشبهت حالهم حال الذين لا يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة الآن، ولكن الذين هداهم اللّه وعرّفهم حقيقة شريعته وطبيعة ارتباط التشريع، وهو الذي يعرف وجه الحكمة في ما يحرِّم وفي ما يحلِّل، انطلاقاً من اختلاف المصلحة في بعض الأشياء حسب اختلاف الظروف والأحوال، انطلقوا في الموضوع انطلاق تسليم وانقياد وطاعة مطلقة، ووعي منفتح على خلفيات التشريع الحكيمة.

أمّا قضية ضياع إيمان المؤمنين، في ما تمثّله الصلاة من روح الإيمان، فليس وارداً في حساب اللّه، {وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، لأنهم قاموا بالصلاة على أكمل وجه؛ فإنَّ العبرة بحصول الشروط في حال القيام بالصلاة، فلا يتبدل الحال من هذه الجهة إذا تبدلت الشروط، لأنَّ الشرط الجديد لا يترك أثراً رجعياً على الأعمال السابقة، بل يقتصر تأثيره على الصلوات المقبلة، وهذا ما ينسجم مع رأفة اللّه ورحمته بعباده، حيث يحفظ لهم أعمالهم ويثيبهم عليها إذا كانت واجدةً لشروطها الكاملة {إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .

وقيل: إنَّ المراد «بالقبلة التي كنت عليها» هي الكعبة، «لأنَّ رسول اللّه(ص) كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثُمَّ أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفاً لليهود، ثُمَّ حوّل إلى الكعبة؛ فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أوّلاً بمكة، يعني وما رددناك إليها إلاّ امتحاناً للنّاس وابتلاءً، لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه، ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد»[20].

وفي ضوء هذا، فإنَّ النبيّ (ص) كان مأموراً بالتوجه إلى الكعبة، ثُمَّ حوّل إلى بيت المقدس، ثُمَّ أعيد إلى الكعبة، فكان الابتلاء موجهاً إلى العرب أو إلى قريش الذين كانوا متعلقين بالكعبة، ما يجعل من تحويلهم إلى بيت المقدس اختباراً لهم، باعتبار أنَّ ذلك يصطدم بمشاعرهم الحميمة تجاه الكعبة.

ولازم ذلك أنَّ اللّه جعل الكعبة قبلةً مرتين، ونلاحظ على ذلك:

أولاً: إنه لا دليل على تشريع الصلاة إلى الكعبة في البداية، ولا ظهور في الآية على ذلك.

وثانياً: إنَّ الظاهر من قوله تعالى في الآية التالية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَ} أنَّ الكعبة كانت تمثّل رغبة النبيّ (ص) في أن يوجهه اللّه إليها لتكون قبلة المسلمين في صلاتهم، ما يوحي بأنه لم يسبق لها أن كانت قبلةً سابقاً.

وثالثاً: إنَّ عملية التشريع أولاً، ثُمَّ النسخ، ثُمَّ التشريع ثانياً لا يتناسب مع طبيعة استقامة التشريع.

ورابعاً: إنَّ تشريع الكعبة كقبلة كان مقدّراً له أن يستقر في نهاية التشريع، ولكنَّ اللّه أخَّر ذلك للحكمة المذكورة في هذه الآية، وهي أن تكون المسألة مادة اختبار وامتحان للمسلمين، من دون أن تكون هناك أيّة سلبيةٍ في طبيعة الصلوات التي صلوها إلى بيت المقدس، لأنها كانت القبلة الشرعية قبل النسخ، ما يجعل الحكم مطابقاً للواقع، لأنَّ النسخ لا يرفع الحكم من أصله، بل يرفعه من وقته.

وخامساً: إنَّ الظاهر من الآية أنَّ التجربة كانت تتحرّك نحو المنافقين الخاضعين لليهود، في إثارتهم للمشاكل الفكرية ضدّ الإسلام وأهله، وليست متحركة في الواقع العربي أو القرشي الذي كان لا يمثّل مشكلةً كبرى في الواقع الإسلامي، ولذلك لم نجد هناك أي حديث تاريخي عن مسألة العلاقة الحميمة بالكعبة التي كانت تمثّل الخطّ الفاصل بين الثبات على الإيمان والانحراف عنه على أساس تشريع القبلة.

وسادساً: روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النبيّ (ص) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال: ثُمَّ وجّهه اللّه إلى الكعبة، وذلك أنَّ اليهود كانوا يعيِّرون رسول اللّه (ص) ويقولون له: أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا، فاغتمّ رسول اللّه (ص) من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السَّماء ينتظر من اللّه تعالى في ذلك أمراً، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرائيل (ع)، فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليه[21]؟.

* * *

الامتحان وسلامة المسيرة:

وقد نستوحي من هذه الآية أنَّ اختبار القاعدة الإسلامية في حركتها في الواقع مع القيادة، من حيث صدق انتمائها وجدّية إيمانها وصلابة التزامها، قد يكون حاجة مهمة لسلامة المسيرة الإسلامية ونجاح الخطط المرسومة، باعتبار أنَّ ذلك يتكفل بمعرفة القوى المنحرفة التي قد تدخل في الحركة الإسلامية أو في جهاز المرجعية، أو في المواقع الاجتماعية الحساسة، ليرصد كلّ خطواتها ويعرّيها ويفضحها حتى لا تكيد للمسيرة، ولا تربك الواقع، ولا تعبث بالطيبين الساذجين من النّاس المؤمنين لتوظفهم بطريقة سلبية ضدّ الأهداف الإسلامية، ولا تعيث في الأرض فساداً، وذلك بالطريقة التي جرى عليها التشريع في القبلة بأن تتحرّك التعليمات الحركية بالأسلوب الذي يثير الارتباك والتعقيدات، ولكن مع الحذر في اختيار المضمون والأسلوب والمرحلة، بالمستوى الذي لا يؤدي إلى النتائج السلبية على الحركة في الوقت الذي تتحرّك فيه للحصول على إيجابيات الواقع. وهذا ما عبّرت عنه الآية.

* * *

وحدة القبلة: وحدة الأمّة والاتجاه:

كان النبيّ (ص) في ما توحي به الآية الكريمة وفي ما تتحدّث به الرِّوايات، يعاني أزمة نفسية في موضوع القبلة؛ فقد كان يواجه التحدّي اليهودي للمسلمين، الذي يتمثّل في تعييرهم لهم بتبعية قبلتهم وفي تفاخرهم بذلك عليهم، مما كان يترك تأثيراً سلبياً على نفسية المسلمين. ولم تكن القضية قضية انفعال مضاد ضدّ التشريع بالتوجه إلى بيت المقدس، بل كان تطلّعاً روحياً إلى قبلة جديدة تنسجم مع أجواء الرسالة الإسلامية التي انطلقت من البلد الحرام والمسجد الحرام، واعتُبرت امتداداً للخطّ الإسلامي الذي بدأه إبراهيم في مُنطَلقِه الروحي من الكعبة... وكانت مشاعره تتصاعد في ابتهال داخلي كمثل الدعاء الصامت الذي يعبّر عن نفسه بالنظرات الخاشعة التي توحي وكأنها تنتظر شيئاً كمثل الهاجس الداخلي الذي يشبه الوحي.

] قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ[ في تطلع ابتهالي ينفتح في روحية دعائية على ربه، في تعبير عن الرغبة العقلية التي تنطلق من حسابات دقيقة في مصلحة الرسالة ومن إيحاءات شعورية في وعي التحدّي اليهودي ضدّ الإسلام، وذلك في دعاءٍ هادىء يرتفع إلى اللّه، من دون اعتراض على تشريعه للقبلة الأولى، وتوسل إليه أن يبدلها إلى القبلة الجديدة ـ وهي الكعبة ـ التي تنسجم مع موقع الرسالة الذي يتجذر في حركة الأمّة، من خلال الإحساس بأنَّ الدِّين الجديد بحاجة إلى قبلة جديدة تمثّل رمز الوحدة الحركية للأمّة.

فإنَّ اللّه الذي أراد لإبراهيم أن يؤذّن في النّاس بالحج إلى الكعبة، أعطاها معنى الطهارة والقداسة والخصوصية المميّزة في اعتبارها بيته المحرّم الذي طهَّره ـ من خلال إبراهيم ـ للطائفين والعاكفين والركّع السجود، كما جعله مثابةً للنّاس وأمناً، وغير ذلك من الخصوصيات الداخلية والخارجية التي تميّزه عن بيت المقدس. فقد صنعت الكعبة على عين اللّه ولم يكن ذلك لبيت المقدس.. وهكذا تقبّل اللّه ابتهالاته ودعواته، وجاء الوحي ليقرّر التشريع للقبلة الجديدة التي يرضاها اللّه كما رضيها رسوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ} يا محمَّد {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، أي حوِّل نفسك في توجهاتك العبادية نحو المسجد الحرام الذي يحتوي الكعبة ـ القبلة باعتبارها جزءاً منه؛ {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} أيها المسلمون، {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وتوجهوا إليه، ليكون رمز وحدتكم في اتجاهكم نحو بيت اللّه الذي هو المسجد العالمي، سواء كنتم في البحر أو في البر، أو في السهل أو في الجبل، أو في الجوّ أو في الشرق أو في الغرب، ولا تنحرفوا عنه إلى غيره يميناً أو شمالاً ولا تستدبروه. وقد انطلق التدقيق بالقبلة من خلال التحديد الصريح في ضرورة التوجه إلى المسجد الحرام حتى أصبح هناك ما يقارب تأسيس علم القبلة.

وهكذا كانت القبلة الجديدة في حركة التشريع استجابةً للتطلّعات الروحية النبوية بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من المصالح الإلهية التي يريد اللّه للنّاس أن يحصلوا عليها من خلال ذلك... وهكذا وجه اللّه نبيه إلى جهة المسجد الحرام لاشتماله على الكعبة، وهو قائم يصلي في مسجد بني سالم في ما تنقله روايات أسباب النزول، ودعا المسلمين إلى التوجه إليه في أي مكان كانوا... وأثار أمامه قضية أهل الكتاب الذين لا ينطلقون من الواقع في ما ينطلقون فيه من حديث وإثارة، بل ينطلقون من العناد والمكابرة والكذب...

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} ولا سيما اليهود الذي بادروا بالاعتراض وأوحوا للمنافقين أن يرفعوا الصوت عالياً بذلك، بعد أن كانوا يتحدّون النبيّ ويستعلون عليه لتوجهه إلى قبلتهم نحو بيت المقدس، {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} . قال في مجمع البيان: «أي يعلمون أنَّ تحويل القبلة إلى الكعبة حقّ مأمور به من ربهم، وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبيّ من صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أنه يصلّي إلى القبلتين. ورُوي أنهم قالوا ـ عند التحويل ـ: ما أُمِرتَ بهذا يا محمَّد وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا، ومرّةً إلى هنا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وبيّن أنهم يعلمون خلاف ما يقولون»[22]. وربما كان وصفهم بأهل الكتاب في الآية إيحاءً بأنَّ تحويل القبلة موجود في الكتاب، لأنهم يعلمون أنَّ الخطّ الذي تسير عليه في العقيدة وفي التشريع هو الحقّ من ربهم، وذلك في ما تحدّثت به التوراة التي يعرفونها جيّداً ويخفونها عن النّاس، وهم يظنون أنَّ اللّه يغفل عنهم في ما يدبِّرون من مكائد، ولكنَّ اللّه لا يغفل عنهم وعن أعمالهم في أيّ حال،{وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} من الخطط التخريبية العدوانية التي يخططونها في حركتهم المضادة للنبيّ، من أجل أن يصدّوا عن سبيل اللّه ويفتنوا النّاس عن دينهم الحقّ.

فهو المطّلع على كلّ شيء من أمور عباده.

* * *

موقف العناد والجهود الضائعة:

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} لأنهم لا يريدون الانفتاح على رسالتك، فقد أغلقوا كلّ النوافذ الروحية والفكرية التي تطلّ على الحقّ، ولذلك فإنَّ الجهد الذي تصرفه معهم من أجل أن تقنعهم بالحقّ الذي معك، هو جهد ضائع لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة؛ فالقضية ليست قضية الدلائل والبينات التي تقدّمها إليهم كثرةً أو قلّة، بل هي الباب المغلق الذي يقفون خلفه ولا يريدون الخروج منه، فلو أنك قدّمت لهم كلّ الآيات ما اتبعوا قبلتك.

كما أنَّك ـ من خلال الحقّ الذي تؤمن به ـ لا تتبع قبلتهم. ثُمَّ إنَّ القضية ليست قضية العناد الذي لا يلين للحقّ معك، بل إنَّ الموقف الذي يحكم علاقة بعضهم ببعض يتخذ الأسلوب نفسه، فإنَّ اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، أمّا النصارى فيستقبلون المشرق أينما كانوا دون أن يتنازل أحدهم للآخر، {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} .

وتنطلق الآية أخيراً في مواجهة الموقف بأسلوب التهديد لأيّة حالة من حالات الاستسلام للضغوط المتنوّعة التي يمكن أن يخضع لها المسلمون في مثل هذه المجالات... وتزداد المواجهة حدّة وتأكيداً بتوجيه الخطاب إلى النبيّ محمَّد (ص) كأسلوب من أساليب القرآن في الإيحاء للأمّة بخطورة القضية، فإنَّ القوم لا ينطلقون من موقف فكري للحقّ بل يتحرّكون من خلال أهوائهم.

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} الذين يظلمون أنفسهم فيبتعدون بها عن الحقيقة الأصيلة التي انفتحوا عليها من خلال المعرفة العميقة الواسعة، ويظلمون العقل الذي يمثّل القاعدة لوجودهم الإنساني، الذي يركز لهم كلّ خطواتهم في الحياة ويضعها على الدرب المستقيم، ويظلمون مصيرهم الذي يتحرّكون به إلى النّار بدلاً من الجنّة.

فكيف يمكن لمن يملك وضوح الرؤية للموقف أن يستسلم لأهواء الآخرين؟! إنَّ النتيجة ستكون استسلاماً لنوازع الظلم للذات وللقضية وللأمّة، ما يجعل المصير في اتجاه مصير الظالمين.

* * *

أهل الكتاب يعرفون النبيّ ورسالته حقّ المعرفة:

ويؤكد القرآن من جديد أنَّ أهل الكتاب لا يعيشون حالة جهل للنبيّ ولرسالته، فقد عرّفتهم التوراة صفاته جيداً، فعرفوه في وضوح من الرؤية كما عرفوا أبناءهم، ولكنَّهم يكتمون الحقّ وهم يعلمونه نتيجة عنادهم وتمرّدهم وضلالهم. ويختم الموقف بأنَّ الحقّ من اللّه، فلا مجال فيه للشك والريب، والتوقف أمام أيّ موقف من مواقف التحدّي الذي يمارسه الباطل ضدّ الحقّ؛ ثُمَّ يحدّد القضية بشكل حاسم، فلكلّ إنسان وجهة في حياته يصرف وجهه إليها ويتجه نحوها؛ فأهل الباطل يتجهون إلى رموز الباطل وعلاماته، وأهل الحقّ يتجهون إلى رموز الحقّ وعلاماته. ولكلّ واحد منهم عمل، فأهل الخير يتحرّكون في اتجاه الخير ويتسابقون نحوه، وأهل الشر يتحرّكون في اتجاه الشر ويستبقون إليه.

ثُمَّ يطرح النداء الحاسم للمؤمنين أن يستبقوا الخيرات في كلّ موقف وفي كلّ منعطف، ليعرفوها ويعيشوها فكراً وشعوراً وعملاً، وستكون نهاية الجميع عند اللّه، فإنَّ اللّه لا يفوته أحد ولا يعجزه مطلوب؛ مهما ابتعد ومهما نأى، فسيأتي به اللّه لأنه على كلّ شيء قدير.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وهم العلماء منهم، {يَعْرِفُونَهُ} أي رسول اللّه في صدقه في نبوّته، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} في وضوح الرؤية وإشراقة اليقين من خلال بشارة التوراة والإنجيل به، وحديثهما عنه بأوصافه ودلائله التي تشير إليه، وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، وقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِى إِسْرَائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف:6].

واحتمل بعضهم أن يكون الضمير في {يَعْرِفُونَهُ} عائداً إلى الكتاب، ولكنَّه غير ظاهر لأنه لا مناسبة له في السياق العام في موضوع الجدال الذي يدور حول النبيّ والنبوّة أمام مفردات التشكيك التي تُوجّه إليه، كما أنَّ تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء قد يوحي بذلك، فإنه يُقال في الإنسان إنَّ فلاناً يعرفه كما يعرف ولده ولا يُقال ذلك في الكتاب.

{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} الذي قامت الحجّة عليهم به بمعرفته اليقينية {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} لأنهم لا يملكون أساساً لأية شبهةٍ في ذلك.

{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} الذي أنزله إليك وبيّنه لك في وضوح الوحي وإشراقته، {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكّين في أيّ شأن من شؤونه.

والظاهر أنَّ الخطاب ـ كما ذكرنا ـ موجّه لرسول اللّه الذي جاء بالصدق وصدّق به، وهو جارٍ على أسلوب خطاب الأمّة من خلال خطاب الرسول، ما يوحي بأنَّ على الأمّة أن لا تقع تحت تأثير عناصر الشك التي يحاول الكافرون من أعداء الإسلام إثارتها في وجدانهم الفكري.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَ} أي أنَّ لكلّ قومٍ وجهةً يتجهون إليها من خلال القاعدة الفكرية الإيمانية التي يرتكزون عليها في ما يأخذون به أو يتركونه، أو ينطلقون به من مواقع ومواقف وعلاقات بالحياة وبالإنسان، سواء في ذلك الأنبياء الذين ينطلق كلّ واحدٍ منهم بملّته ووجهته التي تختلف في خصوصياتها فتتعدّد جهاتها، ولكنَّها تلتقي في الإسلام الذي يجمع الرسالات كلّها عند الانقياد للّه في كلّ شيء، وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يتحرّكوا فيه في انفتاحهم على الكعبة التي أراد اللّه لهم أن يتوجهوا إليها، بعيداً عن كلّ عناصر الشك التي يثيرها اليهود والمنافقون في عملية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ليعرفوا أنه ليس من الضروري أن يتبعوا القبلة التي شرّعها الأنبياء من قبلهم، لأنه من الممكن أن يختلف اتجاه القبلة بين رسالةٍ وأخرى، وبين نبيّ وآخر، ]فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} فهذا هو الوجه الذي أراد اللّه لكم أن تستقبلوه في كلّ مواقع حياتكم في رسالتكم التي حمّلكم اللّه إياها من خلال رسوله بالمسارعة إلى الخيرات التي تمثّل حركة الحياة في إيجابياتها الروحية والأخلاقية في الإنسان بعلاقته بالإنسان الآخر، وبالكون من حوله، عندما يقدّم من عقله وقلبه وروحه وجهده الكثير من الأفكار والمشاعر والعواطف والأعمال التي تفتح آفاقه على عوالم جديدة كما توجّه خطواته إلى دروب جديدة، وترتفع بحياته إلى الدرجات العليا على مستوى تطوير طاقاته وتنميتها وتحويلها إلى عناصر حيّة في كلّ اتجاه من اتجاهات الحركة في الحياة.

إنها الخيرات، العنوان الكبير لاستقامة الحياة على الخطّ الصالح الذي يربط بين اللّه والإنسان والحياة في دائرة المسؤوليات العامة التي يريدها اللّه للحياة من خلال الإنسان، لتكون على الصورة التي أراد لها أن تتمثّل فيها على أساس الحقّ الذي أقام عليه الكون كلّه. وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يتنافسوا فيه ويلتقوا عليه ليواجهوا مسؤوليتهم أمام اللّه غداً، فيحاسبهم على ما قدّموه من الخيرات التي أمرهم اللّه بالسعي إليها والعمل بها، عندما يقوم النّاس لربّ العالمين.

{أَيْنَ مَ} في أيّ مكان وموقع {تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جميع} حيث يبعثكم كما خلقكم، وأماتكم {إِنَّ اللّه عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا شيء خارج قدرة اللّه تعالى، وليس البعث بأصعب من الخلق، وليس الجمع بأصعب من التفريق.

* * *

لا مجال للتراجع:

وتعود الآيات مع التشريع الجديد في خطابٍ حاسمٍ للنبيّ، لتؤكد له أنه الحقّ من ربِّه، فلا مجال للتراجع عنه مهما حشد اليهود من ضغوط ومهما اتبعوا من أساليب التضليل، فإنَّ اللّه لا يغفل عمّا يعمله عباده إزاء تكاليفه من طاعة أو معصية... ويعود الخطاب من جديد للنبيّ أولاً وللمسلمين ثانياً بالقوّة الآمرة نفسها، وبتعليل جديد؛ فإنَّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية تتحدّث عن تعاليم واردة في الكتب الدينية السابقة التي تذكر أنَّ النبيّ سيصلي إلى الكعبة، ما يجعل من الانحراف عن ذلك حجّة للآخرين على المسلمين، لأنه يكشف أنهم ليسوا الأمّة الموعودة في الكتب السَّماوية...

ثُمَّ استثنى من هؤلاء النّاس الظالمين الذين لا يريدون أن يستسلموا للحقّ الذي يعرفونه في كتبهم، بل يسيرون في طريق العناد والظلم للحقيقة وللمؤمنين، فلا تخشوهم أيُّها المؤمنون، لأنهم لا يستطيعون أن يوقفوا المسيرة ولا يملكون أن يضرّوكم شيئاً، بل اجعلوا خشيتكم من اللّه الذي يملك لكم كلّ شيء...

وتلتقي الآية بالنعمة التي يريد اللّه أن يُتمَّها على المسلمين من جهة إكمال التشريع الذي يبني لهم حياتهم على أساسٍ من الاستقرار والطمأنينة والسعادة الروحية والمادية. وفي هذا دلالة على أنَّ تدرّج التشريع وتطوّره يعتبر تدرّجاً بالنعمة، فكأنَّ اللّه لا يريد أن يعطي النعمة دفعة واحدة، بل يريد أن يجعل من كلّ نعمة ينزلها على الإنسان في تشريعه إعداداً لنعمةٍ جديدة في الطريق الأرحب نحو التكامل.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} من أيّ موقعٍ من البلدان التي تبتعد بك عن المسجد الحرام أو عن مكة، {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} في صلاتك وفي كلّ عمل مشروط باستقبال القبلة؛ {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} فهو القبلة التي شرّعها اللّه وجعلها القاعدة التي تتوحدون فيها وتتوجهون إليها في موقع من مواقع الإلزام الشرعي الذي لا مجال للانحراف عنه تحت تأثير أية حالة ذاتية أو أي ضغط خارجي، {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلا تغفلوا عن الحقيقة الإيمانية في مراقبة اللّه لكم في كلّ الأمور.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فهذا هو التشريع المؤكّد الذي يزداد تأكيداً على مستوى الفريضة اليومية التي يجب عليكم أن تنفتحوا عليها في وعي الفكرة، وتلتزموا بها في وعي العمل، لتتحوّل لديكم إلى عادةٍ جديدة تنسخ العادة السابقة، لتشعروا بأنَّ التشريع الجديد قد تحوّل إلى واقع جديد، وتلك هي مهمة التشريع في حياة المسلمين، بأن يتحوّل إلى حالةٍ تغييرية في حياة الأمّة لتكون في حجم العادة التاريخية المتجذرة في وجودها العملي، لا مجرّد حالة طارئة في الواقع، ليلتقي الخطّ في فريضة النبيّ الذي لا بُدَّ من أن يكون أوّل مسلم في وعي التشريع وحركته، وفي فريضة الأمّة {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} في صلاتكم وعباداتكم الأخرى المشروطة بالتوجّه إلى القبلة، وعليكم أن تتابعوا ذلك وتلتزموه دائماً، {لِئَلاَّ يَكُونَ للنّاس عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} من خلال التاريخ الذي كان يتحدّث به اليهود ـ كما روي ـ أنَّ النبيّ الموعود يصلّي إلى قبلتين، أو ما كان يتحدّث به المشركون ـ كما قيل ـ ويتساءلون كيف ترك محمَّد الكعبة وهو المؤهل ـ كما يقول ـ لإحياء ملّة إبراهيم التي سار عليها، فإذا التزمتم بالكعبة قبلةً أبطلتم حجّة هؤلاء المضادة ممن ينفتح على الحوار ويقف أمام الحجّة، {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ممن يعيش في مواقفه المضادة على أساس العناد الذي لا ينطلق من حجّة أو برهان، بل من ذهنية العدوان الذاتي من خلال العقدة المستحكمة في نفسه ضدّ الحقّ وأهله. فليست المشكلة عندهم نوعية الاتجاه إلى بيت المقدس أو الكعبة، بل المشكلة هي التزامكم بالدعوة الجديدة والدِّين الجديد الذي يلغي امتيازاتهم الناشئة من الفكر الباطل والخطّ المنحرف، فهم الظالمون في مواقفهم وفي كلّ اتجاهاتهم الفكرية والعملية، {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} لأنهم لا يملكون لكم ضرّاً ولا نفعاً، {وَاخْشَوْنِي} لأني ربّكم الذي يملك وجودكم ومصيركم كلّه، ما يفرض عليكم الالتزام بالدِّين الذي أنزلته والرسول الذي أرسلته، {وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} في استقامة التشريع على الخطّ الذي تتكامل فيه قضاياكم ومواقفكم وخطواتكم في الحياة، باعتبار أنَّ اللّه يريد للنّاس أن يتابعوا نعمه في تشريعاته، كما يتابعونها في أوضاعهم العامة والخاصة؛ {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بما يوفره اللّه لكم من وسائل الهداية في امتحانه لكم واختباره لثباتكم على الإيمان، وذلك إذا أخذتم بأسباب الهدى في ما يشرعه اللّه لكم من أحكامه ويوضحه لكم من مفاهيمه.

* * *

الرسول الكريم نعمة عظيمة:

ثُمَّ يعطي للمسلمين الصورة الكاملة المتجسدة للنعمة التامة الشاملة في هذا الرسول العظيم الذي جاء من أجل أن يرفع مستوى الإنسانية في ما يتلوه من آيات اللّه، ويزكي ضمائر النّاس وحياتهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة وما لم يعلموه من حقائق الحياة في الدنيا والآخرة... وينتهي الفصل بأمرهم لأن يذكروا اللّه في وجدانهم وفي ألسنتهم، وفي وعيهم لمسؤوليتهم أمامه في الحياة ليذكرهم بنعمه وعفوه وغفرانه، ودعاهم إلى أن يشكروا نعمته عليهم ولا يكفروا بها ويجحدوها لئلا يعاقبهم اللّه بإزالتها عنهم.

{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ} فهذه هي النعمة الكبرى التي تتفرع عنها كلّ النعم الصغيرة في تفاصيل التشريع، لأنه يفتح لكم الأفق الكبير الذي يطلّ بكم على كلّ جمالات الحقّ وروائع الإيمان، ]يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَ} التي توحي إليكم بكلّ الحقيقة الصافية، وترتفع بكم إلى الدرجات العليا من المعرفة، وتمهّد لكم سبل الحياة القويمة، وتعرّفكم ما يصلح أمركم أو يفسده، وتقرّبكم إلى اللّه وإلى الخطّ المستقيم للسعادة في الدنيا والآخرة.

{وَيُزَكِيكُمْ} وينمّي أرواحكم بالخير، ويربي نفوسكم على الطهر والنقاء، ويبتعد بكم عن كلّ الرذائل والنقائص الأخلاقية.

{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} الذي أنزله اللّه على رسوله ليكون المنهج الذي تأخذون به في كلّ خطواتكم في الحياة، ] وَالْحِكْمَةَ[ التي تعرِّفكم كيف تركزون أقدامكم على الصراط المستقيم وتضعون كلّ شيء في موضعه، فلا تخطئون في موقع، ولا تنحرفون في طريق، {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} من فنون المعرفة في عالم الغيب والشهادة، مما لم يسبق لكم معرفته في تجاربكم الماضية.

{فَاذْكُرُونِي} في كلّ ما يفتح عقولكم وقلوبكم على معنى الألوهية والربوبية في ذات اللّه، ليدفعكم ذلك إلى الوعي العميق للحضور الشامل للّه في كلّ حياتكم العقلية في معنى الفكر، وفي حياتكم العملية في خطّ الواقع، لتذكروا كلّ صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، ونعمه الوافرة، وآياته الكثيرة، ولتتحرّكوا في اتجاهه في كلّ موقع وموقف، فهو الذكر الذي يخرجكم من الغفلة ويفتح لكم أبواب المعرفة، لتعيشوا معه في عالم الشهود من خلال الوعي الروحي المنطلق من عالم الغيب، وهو الذكر الذي يجعل الإنسان قريباً إلى اللّه بروحه وجسده، ليكون اللّه معه في كلّ حال وليراه مع كلّ شيء وخلف كلّ شيء.

] أَذْكُرْكُمْ[ بالرحمة والنعمة والمغفرة والرضوان، ما يجعلكم تحت رعايتي بشكل مباشرٍ أو غير مباشر، {وَاشْكُرُواْ لِي} نعمتي التي أنعمت عليكم بالكلمة والفعل والموقف، ليكون الشكر باللسان في الكلمة المعبّرة، وبالفعل في الطاعة للّه وامتثال أوامره ونواهيه، وبالموقف في موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وإعزاز الحقّ وإذلال الباطل، وفي غير ذلك مما يكون موقعاً لرضوان اللّه.

{وَلاَ تَكْفُرُونِ} ولا تجحدوا النعمة بأساليب التمرّد والطغيان والمعصية، فإنَّ ذلك يعرّضكم للغضب الإلهي والعذاب الشديد، بينما يؤهِّلكم الشكر للزيادة في أعماركم وأرزاقكم وكلّ أوضاعكم المتصلة بكلّ شؤونكم في الحياة.

* * *

الذكر والشكر بين الكلمة والموقف:

وقد جاء كثير من الأحاديث المأثورة ـ إلى جانب المدلول الحيّ للآية في الموقف القوي أمام الكافرين والمنافقين من خلال الموقف الخاضع للّه ـ لتخرج الذكر للّه والشكر له من مدلوله اللفظي إلى موقف عملي يتمثّل فيه ذكره بالانضباط العملي في حالات الاهتزاز النفسي التي يتعرّض فيها الإنسان لضغوط الانحراف الروحية والعملية، فيكون الشعور العميق بحضور اللّه في نفسه، من خلال الإحساس بحضوره المهيمن على الكون كلّه، دافعاً للإنسان إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، ومانعاً له عن الانسياق وراء تيارات الضلال والانحراف؛ وهذا ما عبّر عنه الحديث المروي ـ في عدّة الداعي ـ عن رسول اللّه (ص) أنه خرج على أصحابه، فقال: «ارتعوا في رياض الجنّة، قالوا: يا رسول اللّه وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند اللّه، فلينظر كيف منزلة اللّه عنده، فإنَّ اللّه تعالى ينزّل العبد حيث أنزل العبد اللّه من نفسه، واعلموا أنَّ خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر اللّه تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان»[23]..

وعن الحسن البزّاز قال: «قال لي أبو عبد اللّه (ع): ألا أخبرك بأشدّ ما فرض اللّه على خلقه (ثلاث)؟ قلت: بلى، قال: إنصاف النّاس من نفسك، ومواساتك أخاك، وذكر اللّه في كلّ موطن، أمّا إني لا أقول: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاَّ اللّه واللّه أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر اللّه في كلّ موطن إذا هجمت على طاعة أو على معصية»[24] ... وليس معنى التأكيد للجانب العملي للذكر، هو التهوين من الجانب الآخر الذي يتمثّل في الذكر باللسان في كلمات التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، بل قد يكون هذا مقدِّمة لذاك، لأنَّ الاستمرار في ذكر آلاء اللّه ونعمائه وعظمته يخلق لدى الإنسان حالةً رائعة منفتحةً على اللّه حتى ليحسّ به في كلّ شؤون حياته، ما يؤدي به إلى الإحساس بضرورة طاعته في كلّ شيء...

وفي ضوء ذلك كلّه، نفهم أنَّ المقابلة بين ذكر اللّه لعبده وبين ذكر العبد للّه تعطينا الفكرة الإسلامية التي توحي للعبد بأنَّ استحقاقه لرعاية اللّه له بنعمه وألطافه، مشروط بانضباطه العملي أمام أوامره ونواهيه كما هي الحال في ميثاق اللّه لعباده، وعهد العباد أمام ربهم في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].

وإننا نشعر في هذا التأكيد على ذكر اللّه في الكلمة والموقف، بأنَّ حركة الإيمان في داخل نفس المؤمن وحياته، تحتاج إلى الارتباط العميق باللّه، ليكون للإيمان أصالته في نفسه، فتتركز القاعدة على أساسه، وتنطلق الأعماق من خلاله بعفوية وبساطةٍ ووعي.

* * *

ذكر اللّه وشكره في أساليب التربية الإسلامية:

وقد نحتاج، في سبيل الوصول إلى هذا الهدف، إلى إفساح المجال للأساليب التربوية التي تريد صنع الشخصية الإسلامية لدى الأطفال والشباب والشيوخ، لنؤكد ذكر اللّه من خلال الكلمة في إطارٍ من الوعي لمعانيها، وذكره من خلال الموقف في تدريب الإنسان المسلم على أن يمارس التجارب اليومية لأوضاع حياته في هذا الجوّ المنفتح على ذكر اللّه، وذلك بإعطاء الدروس الفكرية والعملية من خلال موجهين واعين يعرفون كيف يحرّكون الكلمة في اتجاه الموقف، ويدفعون الموقف نحو الإحساس باللّه...

أمّا الشكر، فهو الدعوة الثانية التي يختم بها اللّه هذه الآيات، ليوجّه النّاس إلى أن يشكروه ولا يكفروا به، وليست الدعوة لكلمة الشكر، بل هي دعوة إلى موقف الشكر؛ وذلك بأن يقوم بالطاعة ويجتنب المعصية، ويعبد اللّه كما ينبغي له، وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عن رسول اللّه (ص) في ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر (ع) قال: «كان رسول اللّه (ص) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول اللّه لِمَ تتعب نفسك وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟ قال: وكان رسول اللّه (ص) يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل اللّه سبحانه: {طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} »[25] [طه:1ـ2].

وقد رُوي عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرّجل: الحمد للّه ربّ العالمين»[26]، ورُوي عنه، في ما رواه أبو بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع): «هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: نعم، قلت: ما هو؟ قال: يحمد اللّه على كلّ نعمة عليه في أهل ومال، وإن كان في ما أنعم اللّه عليه في ماله حقٌّ أدّاه»[27]... وهكذا يلتقي الشكر في الكلمة بالشكر في الممارسة، ليتأكد الأسلوب الإسلامي التربوي الذي لا يحوّل العلاقة باللّه إلى كلماتٍ تقليدية ربما ينتهي الأمر فيها إلى الجمود، بل يبعث فيها الروح الذي يجعل منها تجسيداً حياً للمبادىء الروحية في خطوات الإنسان العملية في كلماته وأفعاله.

وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أنَّ شكر اللّه يمتد حتى يتمثّل في شكر الإنسان للنّاس على ما قدّموه له من خدمات في حياته الخاصة والعامة، حتى أنَّ الإنسان الذي لا يشكر النّاس لا يشكر اللّه، فقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) أنه قال: «إن اللّه يحبّ كلّ قلب حزين، ويحبّ كلّ عبد شكور، يقول اللّه تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثُمَّ قال: أشْكَرُكُمْ للّه أشْكَرُكُم للنّاس»[28].

ولعلّ من المعروف لدينا أنَّ هذا الاتجاه التربوي في اعتبار شكر الإنسان على عمله شكراً للّه، يتحرّك في الخطّ الإسلامي الذي يدعو النّاس إلى تشجيع المحسنين على إحسانهم، لأنَّ من طبيعة الإنسان العامل في الخير أنه يحبّ أن يجد صدى عمله في مواقف الآخرين منه، وإن لم يكن ذلك عن عقدة ذاتية، فإذا لم يحصلوا على ذلك، بل وجدوا إهمالاً وجحوداً، كان هذا موجباً لتثبيطهم عن السير بعيداً في هذا الاتجاه، وقد ورد في وصية الإمام عليّ (ع) لمالك الأشتر (رض): «ولا يكونَنَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواء، فإنَّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان»[29]...

ولا يتنافى ذلك مع الروح الإسلامية التي تدعو الإنسان إلى أن يعتبر اللّه هو السبب الأعمق في الأشياء، فلا يملك العبد من أمره إلاَّ ما ملّكه، لأن اللّه يريد ـ في الوقت نفسه ـ أن لا يغفل الإنسان دور الواسطة التي جعلها اللّه أداة لإيصال نعمه إليه، ولهذا أمر الإنسان بأن يشكر والديه كما يشكر ربّه في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]..

وقد يكون من أسباب التركيز على هذا الجانب، أنَّ الإنسان عادةً يحسّ بتأثير الأشياء المحسوسة لديه أو القريبة من إحساسه، فإذا لم يتأثر أو ينفعل بالخدمات المباشرة المحسوسة لديه ممن يعيش معهم، فإنَّ ذلك يكشف عن فقدان حسّ الشكر لديه، الأمر الذي يؤدي إلى أن يفقد روح الشكر للّه سبحانه في نهاية المطاف.

* * *

الإيحاءات والدروس:

وفي ختام هذا الفصل، نقف عدّة وقفات لنتأمّل الأفكار الأساسية فيه في عدّة نقاط:

1 ـ إنَّ أعداء اللّه في بداية الدعوة كانوا يحاولون إثارة كلّ نقاط الضعف لدى المسلمين من أجل أن يدفعوهم نحو الانحراف عن الإسلام...

2 ـ إنَّ الإسلام ـ في القرآن الكريم ـ قد واجه القضية المثارة أمام التشريع الجديد مواجهة حاسمة في ما حشده من الأساليب المتنوّعة التي تكشف الخلفيات الذاتية والفكرية المنحرفة الكامنة وراء ذلك كلّه.

3 ـ إنَّ الفصل بأكمله وحدة متكاملة، نجد فيها القرآن يتحرّك في اتجاه تشويه صورة أعداء اللّه من جهة وتحليل طبيعة التشريع من جهة، ثُمَّ يدفع بالأمّة إلى الواجهة ليوحي لها بموقعها من بقية الأمم، ومنهم اليهود الذين يستدعي منهم التحرّك من موقع الفعل لا الانفعال... وتتحرّك من جديد لتفلسف التشريع ولتربطه بالجانب التربوي للأمّة وبالتطلّعات الروحية للنبيّ محمَّد (ص)، وتتنوّع الأساليب التي تكشف للنبيّ الصورة الحقيقية للموقف اليهودي بالمستوى الذي لا يبقى معه مجال للتجربة... ويظل الفصل مشدوداً للتشريع في عملية إصرار وتأكيد، ليظل المسلمون معه بعيداً عن كلّ اهتزاز وارتباك.

4 ـ إنَّ المسيرة الإسلامية المعاصرة تلتقي بكثير من الأساليب المماثلة التي يثيرها خصوم الإسلام وأعداؤه ضدّ التشريعات الإسلامية في بعض الحالات وضدّ الأساليب العملية المتنوّعة المتغيرة للعاملين في سبيل اللّه، حسب حاجة العمل إلى التغيير والتبديل، مما يشابه كثيراً الأجواء التي كان يثيرها اليهود أمام النبيّ (ص).

5 ـ إنَّ علينا التوفر على دراسة هذا الفصل كنموذج للأساليب الإسلامية العملية في مواجهة حالات التشكيك والتضليل والإثارة، واعتباره أسلوباً رائداً في هذا المجال من خلال التأكيد على ملاحظة الطبيعة المشابهة للظروف الموضوعية هنا وهناك، بالمقارنة مع الظروف المختلفة في كلتا الحالتين.

6 ـ إنَّ دراستنا لأسلوب المعالجة للحالة الصعبة التي عاشها المسلمون أمام هذا التحدّي الكبير، تؤدي بنا إلى التركيز على حيوية الأسلوب الإسلامي للعمل ومرونته الحركية، فلا يقف أمام عنصر واحد من عناصر المواجهة، ولا يتجمد عند حالة عاطفية أو عقلانية واحدة، بل يحاول أن ينتقل من جوٍّ إلى جوٍّ ومن عنصر إلى عنصر، لتتكامل كلّ العناصر وتتجمع كلّ الأجواء التي تساعد على حل المشكلة ومواجهة التحدّي.

وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نقرر خطأ الفكرة التي تعمل على إخضاع أسلوب الدعوة أو أسلوب المواجهة للقواعد الفنية الموضوعة للأسلوب من وحدة الموضوع ووحدة الجوّ، وما إلى ذلك مما قد يتفق مع الموضوعات التي تريد أن تعالج فكرة واحدة أو موضوعاً محدّداً، ولكنه لا يتفق مع القضايا التي يُراد من خلالها التأثير على الحالة الداخلية المعقّدة للإنسان وعلى الأجواء الخارجية المحيطة به. فإنَّ مشكلة التعامل مع الإنسان تختلف عن التعامل مع الفكرة المجرّدة، لأنَّ الإنسان كائن متغيّر متنوّع في عواطفه وتأثراته، ما يقتضي منّا التحرّك معه في كلّ الاتجاهات التي يمكن أن تهبّ منها الريح، أو تتأثر بها الأجواء.

7 ـ إنَّ الطابع العام لكلّ هذا الفصل هو التذكير الدائم بموقع الإنسان ـ في كلّ أعماله وأقواله ـ من اللّه في ثوابه وعقابه، ما يعطي الموقف جوّاً روحياً يتحرّك فيه الإنسان في مواجهة الحالة من موقع المسؤولية الإيمانية، لا من موقع التفكير المجرّد الذي يخاطب فيه الإنسان الحالة كقضية موضوعية مجرّدة لا مجال فيها إلاَّ للحسابات الفكرية الجافة..

(1) التفسير الكاشف، م:1، ص:221.

(2) مجمع البيان، ج:1، ص:414.

(3) تفسير الميزان، ج:1، ص:318.

(4) مفردات الراغب، ص:418.

(5) الزمخشري، جار الله، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، ج:1، ص:319.

(6) مجمع البيان، ج:1، ص:418.

(7) مفردات الراغب، ص:486 ـ 487.

(8) مجمع البيان، ج:1، ص:224.

(9) مفردات الراغب، ص:106.

(10) (م.س)، ص:218.

(11) م.ن، ص:126.

(12) مجمع البيان، ج:1، ص:249.

(13) مفردات الراغب، ص:181.

(14) مجمع البيان، ج:1، ص:414.

(15) غمط الحق: جحده.

(16) المغيَّا: الموضوع له الغاية.

(17) تفسير الميزان، ص:315.

(18) تفسير الميزان، ج:1، ص:319.

(19) مجمع البيان، ج:1، ص:416.

(20) تفسير الكشاف، ج:1، ص:318.

(21) مجمع البيان، ج:1، ص:413.

(22) مجمع البيان، ج:1، ص:420.

(23) البحار، م:32، ج:90، ص:334، باب:1، رواية:42.

(24) م.ن، م:26، ج:72، ص:286، باب:53، رواية:29.

(25) البحار، م:6، ج:16، ص:443، باب:9، رواية:59.

(26) (م.ن)، م:24، ج:68، ص:264، باب:61، رواية:29.

(27) (م.ن)، م:24، ج:68، ص:257، باب:61، رواية:7.

(28) (م.ن)، م:24، ج:68، ص:262، باب:61، رواية:25.

(29) نهج البلاغة، كتاب/53.