من الآية 153 الى الآية 157
الآيــات
{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للّه وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(153ـ157).
* * *
معاني المفردات:
{بِالصَّبْرِ}: الصبر: الإمساك في ضيق، قال الراغب: "والصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عمّا يقتضيان حبسها عنه، فالصبر لفظ عام وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة سُمّي صبراً لا غير ويضادّه الجزع، وإن كان في محاربة سُمّي شجاعة ويضادّه الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سُمّي رحب الصدر ويضادّه الضجر، وإن كان في إمساك الكلام سُمّي كتماناً ويضادّه المذل"[1].
{سبيل}: طريق، وسبيل اللّه، طريق مرضاته، وإنَّما قيل للجهاد سبيل اللّه، لأنَّه طريق إلى ثواب اللّه عزَّ وجلّ.
{تشعرون}: الشعور: هو ابتداء العلم بالشيء من جهة المشاعر وهو الحواس، ولذلك لا يوصف اللّه بأنَّه شاعر، ولا بأنَّه يشعر، وإنَّما يوصف بأنَّه عالم ويعلم. وقيل: إنَّ الشعور هو إدراك ما دقّ للطف الحسّ، مأخوذ من الشعر لدقته، ومنه الشاعر لأنَّه يفطن من إقامة الوزن وحسن النظم لما لا يفطن له غيره.
{ولنبلونَّكم}: البلاء: الاختبار، يكون بالخير والشر.
{الخوف}: انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر.
{والجوع}: ضدّ الشبع، وهو المخمصة والمجاعة، وحقيقة الجوع الشهوة الغالبة إلى الطعام، والشبع زوال الشهوة.
{ونقصٍ}: النقص: نقيض الزيادة، والنقيصة: الوقيعة في النّاس، والنقيصة: انتقاص الحقّ، وتنقصه: تناول عرضه، وأصل النقص: الحطّ من التمام.
{والثَّمرات}: الثمرة: أفضل ما تحمله الشجرة.
{مُصيبةٌ}: المصيبة: المشقة الداخلة على النفس لما يلحقها من المضرّة، وهو من الإصابة، كأنَّها تصيبها بالنكبة.
{راجعون}: الرجوع: مصير الشيء إلى ما كان، يُقال: رجعت الدار إلى فلان إذ ملكها مرة ثانية وهو نظير العود.
{الْمُهْتَدُونَ}: الاهتداء: الإصابة إلى طريق الحقّ.
* * *
الثبات أمام التحدّيات:
ربما يوحي جوّ هذه الآيات وأسلوبها، بالتفاتة قرآنية توجّه الإنسان المسلم إلى استثارة إيمانه الكامن في أعماقه في حركة معاناة عميقة تتصل بالواقع الذي يضج بالتحدّيات والمشاكل والمآسي المتنوّعة التي تقتحم حياته فتهزها في دائرة القلق والاهتزاز، فيقف أمام ذلك كلّه وقفة إيمان واعٍ يعرف قصة الحياة على أساس السنن التي أودعها اللّه فيها، فليست هي عُسراً كلّها وليست يُسراً كلّها، بل هي العُسر في طريق اليُسر، واليُسر في نهايات العُسر ونتائجه. فإذا واجه الإنسان بعضاً من العُسر في طريقه إلى اللّه، أو ثقلت عليه الأعباء في دروب الأهداف، فلا بُدَّ له من الاستعانة بالصبر ليدعم إرادته ويقوّيها ويبعث فيها روح التماسك والصلابة من أجل الحصول على الموقف الصلب والشخصية المتماسكة، ولا بُدَّ له ـ في نطاق ذلك ـ من الاستعانة بالصلاة، لأنها تفتح للقلب النوافذ الواسعة المضيئة على اللّه القادر الحكيم الرحيم، الذي تنطلق حكمته لتخطّط للإنسان حياته على أساس من المصلحة والحكمة، وتتحرّك رحمته لترفرف على روحه بالرضى واللطف والحنان، فلا يثقله البلاء بالمستوى الذي لا يستطيع احتماله، بل يظلّ الإنسان معه في جوّ رحيب يستريح فيه إلى التجربة ويعيش آفاق الأمل، وتحتضن قدرته الحياة بكلّ ما فيها من طاقات وقوى لتذلل كلّ صعب، وتقهر كلّ قدرة، فيخرج الإنسان من ذلك كلّه إلى الأجواء الرحبة التي لا تضيق معها الروح بالمشاكل، ولا تنهزم أمام التحدّيات، ولا تضعف أمام العقبات، بل تظلّ في أمل حيٍّ متفجر بالتفاؤل، يملأ الإرادة بالحياة، والحركة بالقوّة والإيمان.
وبذلك تتحوّل القيم الروحية، كالصبر، والأعمال العبادية، كالصلاة، إلى قوى فاعلة يستعين بها الإنسان على تقوية نقاط ضعفه، تماماً كما يستعين بالقوى الخارجية عندما تهجم عليه قوى الأعداء، بدلاً من أن تكون عناصر ضعف وتخدير، كما يحاول البعض من النّاس أن يفسّرها، أو عناصر تجميد وتأخّر، كما يحلو للبعض أن يعالجها، باعتبار أنَّ الصبر يمنع الإنسان من الحركة ويجمّده في نطاق الإذعان للأمر الواقع، وأنَّ الصلاة تغرق الإنسان في غيبوبة صوفية حالمة يدخل معها الإنسان في غياهب الغيب، فينسى دوره ومسؤوليته في حركة الواقع، فتتخدر أحاسيسه وتضعف تطلّعاته المندفعة نحو الحياة.
إننا نستوحي ذلك كلّه من إثارة الخطاب في جوّ صفة الإيمان، للإيحاء بأنَّ المضمون الحيّ العميق للإيمان يحمل للإنسان كلّ عوامل الوعي والامتداد، ومن الدعوة إلى الاستعانة بالصبر والصلاة لتأكيد الطبيعة المتحرّكة للقيم الخُلُقية وللتعاليم الإلهية العملية في صنع القوّة لحياة الإنسان، فإنَّ الكثيرين من النّاس قد يغفلون عن الطاقات الروحية الكامنة في القيم التي يؤمنون بها وفي الأعمال التي يمارسونها، فيستسلمون إلى حالات الضعف في الوقت الذي تضج فيه الحياة من حولهم بالقوّة، لو أرادوا أن يستثيروها بذكاء...
{يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْر} الذي هو من عزم الأمور من خلال ما يؤكده في الذات من القوّة في الموقف والموقع أمام التحدّيات والزلازل، انطلاقاً من التحمّل القاسي الذي يفرضه الإنسان على نفسه أمام كلّ حالات الحرمان الروحي والجسدي، لذلك كانت له الأهمية الكبرى في القرآن حتى تكرر فيه إلى ما يقارب السبعين موضعاً، وقد أطلق اللّه ثوابه، فلم يجعل له حدّاً معيناً فقال: {قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللّه وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
والاستعانة به، هي اللجوء إلى القوّة الأخلاقية الكامنة في أعماق الذات من أجل استنفارها للسيطرة على كلّ المشاعر السلبية التي يمكن أن تثير الاهتزاز في الموقف أو الموقع، للحصول على الأرض الصلبة في ساحات الصراع، حيث الأهوال الشديدة والمعارك الحاسمة.
{وَالصَّلاةِ} التي هي معراج روح المؤمن إلى اللّه، فهي التي تفتح قلبه على ربّه وتشدّه إليه وتربطه به، حتى يحسّ أنَّ اللّه معه في كلّ مواقفه، فلا يخاف، ولا يحزن، ولا يضعف، ولا يتزلزل، ولا يعيش الاهتزاز النفسي، والقلق الروحي في وجدانه الإنساني، وهكذا يعطي الصبر للصلاة قوّة الإرادة، وتعطيه الصلاة قوّة الروح، فيتكاملان في حماية إنسانية الإنسان من السقوط، في آفاق الصبر الممزوج بالصلاة في حركة عروج الإرادة إلى اللّه لتلتقي به في الثبات على رسالته.
وقد ختم اللّه الآية بقوله: {إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ} ليؤكد لهم أنَّ اللّه لا يترك الصابرين وحدهم في مواجهة التحدّيات والأهوال والعقبات، بل يقف معهم ليمنحهم من روحه الروح الطيبة، ومن قوّته القوّة الكبيرة، ومن رحمته اللطف والرضوان والحبّ والسَّلام.
{إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ} الذين يحرّكون الإيمان في عقولهم في خطّ الوعي والإرادة، وفي كيانهم في خطّ القوّة، والثبات في أقدامهم في خطّ التوازن. وروي أنَّ علياً (ع) كان إذا هاله أمر، قام إلى الصلاة ثُمَّ تلا هذه الآية: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِين}.
* * *
الشهادة امتداد للحياة:
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّه أَمْوَاتٌ} من خلال الصورة الظاهرية التي تتطلّع إلى الجانب المادي في الجسد من حيث دوران الحياة مدار حركته وحيويته، فإذا فقدهما فقد الحياة، فإنَّ ذلك شأن الماديين الذين لا يتصوّرون وجود حياة خارج نطاق هذا العالم في غيب اللّه، الذي أكد في كتابه أنَّ الإنسان لا يموت موتاً أبدياً عندما تنطفىء الحياة في الجسد، ولكنَّه يحيى بعد ذلك ليعيش حياةً جديدةً في عالم الآخرة الذي يقوم النّاس فيه لربّ العالمين، لينالوا جزاء أعمالهم من خير أو شرّ، أمّا المؤمنون الذي يؤمنون بالغيب وبالآخرة، فإنهم يواجهون الموت وفي وجدانهم التطلّع إلى ما بعده من الحياة، ولذلك فلا ينبغي لهم أن يطلقوا كلمة «الأموات» على الشهداء الذين يقتلون في سبيل اللّه، بما يوحي بالفناء المطلق ويؤدي إلى الإحساس بالمرارة في شعور المجاهدين أو أهلهم وإخوانهم، {بَلْ أَحْيَاءٌ} تضج الحياة في وجودهم الجديد في عالم الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ اللّه، لأنه غريب عن عالم الشعور. ولذلك فإنكم لا تملكون القدرة على إثباته من ناحية التجربة الذاتية لافتقادكم وسائل الإحساس بهذا النوع من الحياة {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} من خلال هذا العالم الذي ينطلق فيه الشعور من موقع الحسّ لا من موقع الغيب في علم اللّه.
وقد تكون هذه الآية واردة في نطاق تفريغ النفس من المشاعر الإنسانية الساذجة بالوحشة القاسية أمام حالة الموت التي تمثّل فقدان الحياة، ما يؤدي إلى الموقف السلبي إزاء الدعوة إلى الجهاد في سبيل اللّه في مجالات الصراع مع الكفر والطغيان والانحراف، لأنَّ النفوس مجبولة على حبّ الحياة والامتداد فيها والرغبة في كلّ ما يتصل بها، والبُعد عن كلّ ما يسبّب فقدانها...
وهكذا كانت هذه الآية للإيحاء بامتداد الحياة للشهداء الذين يُقتلون في سبيل اللّه، ولكنَّها تتحرّك في أجواء غير الأجواء التي يعيشها النّاس في هذه الحياة، ولذلك فإنهم لا يشعرون بها ولا يتحسسونها، لأنَّ الإنسان لا يملك الوسائل الحسية التي يمكنه من خلالها أن يدرك طبيعة الحياة الأخرى. وتلتقي هذه الآية بسياق آيات أخرى واردة في موردها، وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّه وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّه لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169ـ171].
فقد نلاحظ أنَّ الاتجاه في هذه الآيات هو إثارة الرغبة في الجهاد في سبيل اللّه، وذلك من خلال إثارة الإحساس بامتداد الحياة في السير في هذا الطريق بشكل أفضل وأوسع مما في هذه الحياة الدنيا... وقد يلاحظ الاختلاف بين آية سورة البقرة وبين آية سورة آل عمران من حيث التركيز هناك على أصل المبدأ وهو الحياة هنا، بينما كان التركيز هناك على طبيعة الحياة عند اللّه وما فيها من نعيم وفرح وفضلٍ واستبشار. وربما كان السبب في ذلك أنَّ الآية هنا واردة في سياق الآيات التي تدعو إلى التماسك والصبر، ما يقتضي مواجهة الحالة النفسية التي يثقلها الشعور بالموت، بالحالة التي تنفتح أمامها نوافذ الحياة، تماماً كما هي القضية في تبديل صورة قاتمة بصورة مضيئة من دون حاجةٍ إلى الدخول في التفاصيل، لأنَّ الموضوع الذي يلحّ على النفس هو قضية الظلمة والضياء...
أمّا الآية الأخرى، فقد انطلقت في سياق آيات الجهاد التي كانت تواجه المنافقين الذين كانوا يثيرون نوازع القلق والحيرة والخوف في نفوس المؤمنين المندفعين إلى الجهاد، ويحشدون أمامهم صورة القاعدين الذين يستمتعون بالحياة في مواجهة صورة المجاهدين الذين استسلموا لظلام العدم ووحشته عندما اندفعوا للموت والقتال، فكانت المناسبة أن يفيض القرآن الحديث حول تفاصيل الحياة التي تنتظر المجاهدين لدى اللّه...
* * *
ما معنى الحياة للشهداء؟
وقد حاول بعض المفسرين أن يدخل في تفاصيل هذه الحياة، وقد برز في هذا المجال اتجاهان:
الاتجاه الأول: الذكر الجميل:
باعتبار أنه يمثّل امتداد الحياة في الدنيا في وعي النّاس وتفكيرهم على الطريقة التي يفكر بها بعض الشعراء، حيث يقول:
دقاتُ قلبِ المــرءِ قائلـةٌ لـهإنَّ الحيـاة دقائقٌ وثواني
فاحفظْ لِنَفْسِكَ بعد موتِك ذكرهفالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثانِي
ويفلسفون هذا الرأي بأنَّ الخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين يعتقدون بالحياة الآخرة، فلا معنى لإثارة ذلك في وجدانهم في أسلوب الردّ على فكرة انتهاء الحياة بالموت، لأنَّ ذلك لا يتناسب مع حقيقة الإيمان... ويضيفون إلى ذلك أنَّ الآية مختصة بالشهداء مع أنَّ الحياة في الآخرة حقيقة شاملة للجميع، فلا بُدَّ من أن تكون الحياة متناسبة مع طبيعة الإيمان وموضوع الاختصاص، وليس هناك إلاَّ الذكر الجميل الخالد على مرّ العصور والأزمان.
الاتجاه الثاني: الحياة البرزخية:
وهناك فريق آخر يراها إشارة إلى الحياة البرزخية، وهي ما بين الموت والحشر، لأنها مما يمكن أن يغفل عنها المسلمون، لأنها ليست من ضروريات الدّين، كأصل عقيدة البعث في الحياة الأخرى، فهناك من ينكرها من المسلمين حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجرّدة عن المادة وأنَّ الإنسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثُمَّ يبعثه اللّه إلى القضاء يوم القيامة.
* * *
مناقشة الاتجاهين:
ولكنَّنا نرى أنَّ الآية ليست في سياق التركيز على طبيعة الحياة لننطلق في الاتجاه الذي ذهب إليه هؤلاء المفسرون، بل هي واردة في سياق تفريغ النفس من الشعور بالوحشة القاتلة أمام ظلام الموت، ليملأها الشعور بالحياة الذي يحشد الوجدان بالفرح والرضى والاطمئنان، في أسلوب قرآني يجدّد للإنسان طاقته على الصبر والامتداد.
وقد نجد من المناسب أن نناقش التفسير الأول للحياة، بأنَّ اعتبار الذكر حياةً لا يتناسب مع طبيعة معنى الحياة الذي يقهر الشعور بالموت في نفس الإنسان، بل هو نوع من أنواع الخيال الروحي الذي يتخذ صفة الإيحاء للنفس بامتداد الاسم الذي يحمله الإنسان في قافلة الأسماء التي يتداولها النّاس، ما قد يدفع الإنسان إلى بعض الأعمال التي تشارك في ذلك، ولكنَّه لا يستطيع أن يزيل مرارة الموت من النفس ووحشة الإحساس بالعدم، بل كلّ ما هناك أنه يمثّل أسلوباً من أساليب الهروب من قسوة هذه الحقيقة لدى الغافلين عن الإيمان باللّه واليوم الآخر في عملية تعويضية.
وإننا لا نجد في التراث التشريعي الإسلامي مثل هذا التأكيد على الاهتمام بامتداد الذكر للإنسان في ما بعد الموت، إلاَّ بالمقدار الذي يكون العمل الذي يمتد به الإنسان مفيداً ونافعاً للبشرية بالمستوى الذي يعتبر امتداداً لحياته العملية بعد الموت، فيستحق عليه الثواب الكبير من اللّه، كما في الحديث المأثور عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «لا يتبع الرّجل بعد موته إلاَّ ثلاث خصال: صدقة أجراها للّه في حياته فهي تجري له بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد وفاته، وولد صالح يدعو له»[2]. فليست القضية قضية ذكر صالح خالد، بل القضية هي العمل الصالح الذي يمتد في حياة النّاس كامتداد عملي لحياتهم.
وإذا كان البعض يرتكز في قيمة الذكر الخالد على بعض الآيات القرآنية، فإننا لا نجد فيها دلالة على ذلك، فقد أشير إلى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، ويذكر في تفسيرها أنَّ إبراهيم يدعو اللّه أن يخلد له ذكره من ناحية الطموح الذاتي للخلود في الحياة، ولكنَّنا نلاحظ أنه كان يتحدّث عن لسان الصدق الذي يتضمن رسالته ودعوته الشاملة إلى الإسلام للّه، فليست القضية ـ لديه ـ قضية رغبة في خلود الذكر، بل في خلود الرسالة التي تمثّل كلّ اهتماماته حتى بعد الموت مما يجعله يوصي أولاده بذلك.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح:4] فقد يُستدَل بها على الاهتمام بالذكر الخالد بعد الموت، ولكن الظاهر أنها واردة في الحديث عن نعمة اللّه على نبيّه في رفع ذكره وانتشار رسالته، وعلوّ موقعه في الحياة، بعد أن كان إنساناً عادياً في مجتمعه، فلا تعرّض فيها لما بعد الموت، ومنها: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:79]، أو {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:109]، وهما لا يدلان إلاَّ على أنَّ اللّه ترك السَّلام عليهما في الحياة لتبقى الروح الإيمانية الرائعة والصبر العظيم عنوانين كبيرين لكلّ من أراد الاقتداء بهما والسير على منهاجهما.
وقد لا يتناسب هذا التفسير مع كلمة {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} لأنَّ قضية الذكر الجميل هي مما يلتفت إليه النّاس ويعرفونه ويحسبون حسابه في كثير من أعمالهم كما أشرنا إليه، كما أنه لا يتناسب مع آية سورة آل عمران، التي تتحدّث عن الحياة الحقيقية فيما بعد الموت.
أمّا التفسير الآخر الذي يربط الحياة بالحياة البرزخية، فقد لا نجده منسجماً مع سياق الآية التي في سورة آل عمران، لأنها تتحدّث عن نوع الحياة التي وعد اللّه بها عباده المؤمنين في الجنّة في الدار الآخرة، في مقابل الحياة الدنيا التي يعيشون فيها الآن، وإذا فرضنا أنَّ القضية ليست بهذه المثابة، فلا نتصوّر ظهوراً للآية في ما ذكره، لأنه انطلق في ذلك من استبعاد إرادة الحياة الآخرة من كلمة «الحياة»، لأنَّ الخطاب للمؤمنين الذين يؤمنون بها ولا يتصوّر فيهم غفلتهم عنها.. وقد ذكرنا أنَّ القضية ليست قضية عقيدة مضادة، بل القضية هي الشعور الداخلي المضاد الذي يُراد تحويله إلى شعور آخر منفتح، واللّه العالم.
* * *
الآية وتجرّد النفس:
وقد ذكر صاحب تفسير الميزان، أنَّ الآية تدل على «تجرّد النفس، بمعنى كونها أمراً وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الإدراكية»[3].
ولكننا لا نتفق معه في هذا الاستدلال، لأنَّ الآية لا تزيد على تقرير مبدأ الحياة للشهداء في ما بعد الموت، ولكنَّها لا تدل على أن الحياة هل تبقى للنفس فلا تموت بموت البدن، أم أنها تبعث من جديد في بدن مماثل أو مغاير للبدن السابق في ما بعد الموت، بل ليس هناك إلاَّ الإشارة البعيدة التي لا تثبت حقيقة العقيدة وأصالتها، فلا بُدَّ لنا من البحث عن ذلك في آيات أخرى أو براهين عقلية في ما ليس مجال بحثه الآن، فليطلب في مظانه من التفسير في مواضع أخرى من القرآن أو من كتب علم الكلام والفلسفة، لأننا لسنا في مقام البحث في تجرّد النفس من الناحية الفكرية، بل في مقام بيان عدم دلالة الآية على ذلك من خلال المفردات التعبيرية الخاصة.
* * *
البلاء مدرسة وامتحان:
ويتصاعد الجوّ وتتحدّد الأوضاع القلقة التي تحكم حياة الإنسان ومسيرته، فتبعث فيها الاهتزاز في المشاعر والمواقف، والارتباك في الخطى والخطط العملية؛ ويطرح القرآن للإنسان المشكلة التي تتحدّاه في قوّة إنسانيته وصلابتها، ويشير إلى الموقف الذي يخلق الجوّ الملائم للحلّ في نطاقٍ من الروح الإيمانية التي لا تنسى اللّه في المواقف الحرجة والتحدّيات الصعبة، بل تعيش حضوره المهيمن العميق في فكرها ووجدانها وتطلّعاتها للحياة، لتلتقي به ـ من خلال هذا الجوّ الروحي ـ فتجد لديه الصلوات الإلهية التي تغدق الرحمة والمغفرة والرضوان على الإنسان الذي يعرف الهدى في طريقه ويسير عليه..
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} أي نختبركم في حجم الإرادة التي تملكونها وصلابتها أمام المخاوف والأهوال لتعيشوا التجربة الصعبة التي ينجح فيها الأقوياء في عزيمتهم وإرادتهم وإيمانهم، ويفشل فيها الضعفاء الذين لا يملكون عناصر الوعي للواقع، والتوازن للحركة، والإرادة للقرار، {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ} الذي يتحدّى عنصر الأمن الداخلي في نفوسكم فلا تملكون الطمأنينة الروحية والأمن الخارجي في حياتكم، فتعيشون الاهتزاز الجسدي في كيانكم والخطر السياسي والاقتصادي والعسكري في نظامكم، حيث تفقدون أمامه التوازن في المواقف، والانسجام في الخطى، والثبات في المواقع، الأمر الذي قد يدفعكم ـ بفعل ضغط الذين يصنعون الخوف في الواقع ـ إلى تقديم التنازلات من إيمانكم والتزامكم وحريتكم واستقلالكم وإنسانيتكم، {وَالْجُوعِ} الذي يمثّل الحرمان من الغذاء الضروري في الحاجات الطبيعية للإنسان كشرط لاستمرار حياته، ما يؤدّي إلى إضعاف قوّته وضراوة الآلام في جسده، ووصوله إلى مرحلة الخطر على حياته، {وَنَقْصٍ مِّنَ الأمَوَالِ} في الخسائر المتنوّعة التي تؤدّي إلى ذهاب الأموال ونقصها بفعل الحوادث الاجتماعية، والكوارث الطبيعية، والحروب الشديدة، {وَالأنفُسِ} من رجالكم ونسائكم وأطفالكم الذين تقضي عليهم الحروب والأمراض والزلازل والبراكين والفيضانات ونحوها، [وَالثَّمَرَاتِ] قيل: إنَّ المراد بها ذهاب حمل الأشجار وقلة النبات وارتفاع البركات، وقيل: أراد به الأولاد لأنَّ الولد ثمرة القلب، وعلّله بعضهم بأنَّ تأثير الحروب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، ولكن الظاهر من الآية أنها غير مختصة بحالات الحرب، بل هي عامة لكلّ واقع البلاء في حياة الإنسان.
وإذا كان الهدف من الآية هو توجيه المؤمنين إلى أن يتحملوا نتائج الدعوة إلى اللّه والجهاد في سبيله بما يؤدي إلى النتائج السلبية على حياتهم العامة والخاصة، فإنَّ ذلك لا يعني الاختصاص بهذا الجوّ الخاص، بل المقصود هو الصبر في الخطّ العام للوصول إلى النتائج الإيجابية في الصبر في المورد الخاص. ]وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[ الذين يعيشون صلابة الموقف، وقوّة التحمل، والتمرّد على الحرمان والثبات في مواقع الزلازل، حيث تبقى إنسانيتهم في صمود عزيمتهم، ليتابعوا رسالتهم في الحياة من دون تراجع أو انهيار أو انحراف.
إنَّ اللّه يمتحن إيمان الإنسان في ما يمرّ عليه من الخسائر والمصائب والمحن، ليرى كيف يواجه ذلك كلّه؛ أبالصبر أم بالجزع، أبالرضى أم بالاحتجاج؟.. وكيف يفهم البلاء الذي ينزل به في مختلف صوره وجهاته، هل هو عذاب وانتقام، أم رحمة إلهية في نطاق النظام الكوني الذي يربط المواقف بأضدادها من خلال التحدّيات الصعبة التي تواجه العاملين السائرين على الخطّ المستقيم في الحياة؟ فإنَّ للاستقامة ضرائبها الثقيلة في مختلف جوانب الحياة، حيث تتحرّك قوى الانحراف وعوامله لتقف حاجزاً بين الخطّ المستقيم وبين الامتداد في اتجاهه السليم.. وهنا يأتي دور الصبر الذي يمنح الإنسان قوّة الثبات والصمود والتماسك أمام العقبات التي تقف في مجالات التحدّي، فلا ينهار ولا يتخاذل ولا يضيع ولا تتبعثر خطاه في الرمال المتحرّكة للبلاء، بل يمتص ذلك كلّه بروحه الرسالية الإيمانية التي تنفتح على الواقع لتعرف أنَّ الطريق ليس مفروشاً بالورود، فتتعلم كيف تتعامل مع الأشواك الحادّة في لغة الجراح النازفة، وفي أسلوب الآلام العميقة، فلا تسمح للجراح بأن تبكي ولا ترضى للآلام بأن تصرخ، بل تحاول أن تعلّمها كيف تبتسم في فرح الرسالة وهي تتقدّم على الرغم من كلّ الأشواك والآلام.
وهكذا أراد اللّه للمؤمنين الذين ينطلقون في رسالتهم أن يقفوا أمام قوى الكفر والشر والطغيان في العالم من أجل أن يغيّروا العالم على أساس شريعة اللّه وتعاليمه، فدعاهم إلى أن لا يواجهوا البلاء الذي يصيبهم بنقص {مِّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ} مواجهة الأشياء المفصولة المعزولة عن جذورها وأسبابها، بل يواجهونها من خلال طبيعة حركة التغيير التي تنطلق في حياة النّاس لتكون اختباراً لقوتهم الذاتية ولمبادئهم ولمواقفهم العملية عندما تتعرّض للتحدّي من القوى المضادة، فإنَّ من الطبيعي أن يتحرّك الآخرون ليدمّروا وليقتلوا وليضغطوا ويحرقوا الأخضر واليابس انتقاماً وثأراً وحقداً، ولكن خطوات الحقد والثأر والانتقام ليست طويلة، بل هي قصيرة جداً، لأنها تعبّر عن ردّات انفعالية حماسية لا تلبث أن تتبخّر في الهواء، فلا بُدَّ من الصبر الذي يدفع المؤمنين إلى المقاومة والتحمّل والثبات من أجل أن يصلوا إلى نهاية المطاف، ليصعدوا إلى القمة عندما تتهاوى دعوات الباطل على أقدام السفوح.
* * *
البلاء ونسبته إلى اللّه:
وقد يتساءل البعض: هل البلاء الذي يتحدّث اللّه عنه في هذه الآية وغيرها فينسبه إلى نفسه ويعتبره اختباراً وامتحاناً لإيمانهم وثباتهم على الخطّ، هو من صنع اللّه بشكل مباشر، بحيث إنَّ اللّه يوجهه إلينا من دون أن تكون هناك ظروف موضوعية تقتضيه، أم القضية هي أن يكون امتحاناً تماماً كما هي الأعمال التي يكلف بها النّاس في فترات التدريب والامتحان؟
وقد نستطيع الجواب عنه، بالقول إنَّ الحياة في كلّ ما يحدث فيها، من أرباح وخسائر وأفراح وآلام، مشدودة إلى إرادة اللّه وقضائه وقدره من خلال الأسباب والقوانين الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون، فلكلّ عمل من الأعمال التي يقوم بها الإنسان في هذه الحياة نتائج سلبية أو إيجابية على مستوى حياته الفردية أو الاجتماعية، سواء في ذلك جانب الممارسات الذاتية أو العلاقات الخاصة والعامة، فلا بُدَّ للإنسان من أن يتألم إذا عاش في الظروف التي تفرز مثل هذه الآلام، ولا بُدَّ له من أن يجوع إذا تحرّكت الأسباب التي تنشر المجاعة في الكون، ولا بُدَّ له من أن يخاف إذا عاشت الحياةُ أجواء الخوف... فليست النتائج معزولة عن مقدّماتها، بل هي وليدة تلك المقدّمات.
* * *
ما معنى البلاء في الأوضاع الطبيعية؟
وهنا يثور سؤال: إذاً ما معنى أن يكون مثل ذلك ابتلاءً بعد أن كان أمراً طبيعياً تماماً كما هي مظاهر الطبيعة الكونية الموجودة في الحياة؟
والجواب عن ذلك: إنَّ القضية، كلّ القضية، هي في موقف الإنسان أمام هذه الظروف الطبيعية التي تفرزها حركة المبادىء والرسالات في الحياة، فذلك هو سرُّ البلاء في حياته. فهل يتجاوز المرحلة التي تتحرّك فيها الآلام والخسائر والمخاوف بأعصاب هادئة ومواقف ثابتة بعيداً عن كلّ اهتزاز وانحراف، أم يسقط صريعاً أمام ذلك كلّه لتسقط معه رسالته ومبادئه كنتيجة لاهتزاز نقاط الضعف في كيانه وانسجامها مع قوى الانحراف والتحدّي المضاد؟ إنَّ الواقع بأسبابه الطبيعية يعتبر امتحاناً واقعياً للإنسان، تمتحن به إرادته ورسالته. وقد نستوحي من كلمة [وَلَنَبْلُوَنَّكُم] ـ في ما تعطيه كلمة البلاء من معنى ـ أنّ الموقف يحمل للإنسان قيمة التجربة في تركيز شخصيته وتقوية إرادته، في ما يثيره لديه من مشاعر القوّة في داخله من خلال الإيحاء له بما يحمله الامتحان له من نتائج على مستوى الدنيا والآخرة، ولا سيّما إذا لاحظنا أن طبيعة هذا الامتحان ليست شكلية يمكن للإنسان أن يقوم فيها بدورٍ تقليدي ساذج من دون وعي أو روح، بل هي طبيعة حقيقية أساسية تقتحم كلّ حياته الداخلية والخارجية لتحوّلها إلى ما يشبه حالة الطوارىء في ما تثيره من نقاط الضعف والقوّة، وفي ما تخلقه من عوامل الإثارة والتحدّي، وبذلك تتحوّل نتائج الامتحان من عملية اكتشافٍ للقدرات الذاتية إلى عملية تنمية هذه القدرات وتقويتها في خطّة عملية لصنع الإنسان.
* * *
الصابرون وعلاقتهم بالحقيقة الإيمانية:
وتنطلق الآيات لتثير أمام الصابرين الذين لا تهتز مواقفهم أمام التحدّيات، البشارة من اللّه من دون أن تدخل في تفاصيل البشارة في البداية، إمعاناً في الإبهام الذي يثير المشاعر في عملية انفتاح على ألوانٍ متنوّعة من ألطاف اللّه ورضوانه، ثُمَّ تحدّد لنا بعض ملامح الصابرين لتربط الصبر بالوعي للعقيدة والإيمان باللّه، فلا يخضع لضغط الأمر الواقع في عملية استسلام للمصائب من دون رضى واقتناع، بل يرتفع في إيمانه ليثير في نفسه الحقيقة الإيمانية الكونية التي تربط الخلق كلّه باللّه، فالخلق كلّه ملك اللّه، والإنسان هو بعض من هذا الخلق الذي يملكه اللّه، ما يجعلنا نحسّ أننا لا نملك من أمرنا شيئاً، لأنَّ الملك كلّه للّه، فله الحقّ كلّ الحقّ في أن يبتلي خلقه بما يشاء، وعليهم أن يشعروا أنَّ في ذلك كلّه المصلحة كلّ المصلحة والخير كلّ الخير، لأنه الحكيم الرحيم الذي يدبّر أمر عباده بالحكمة والرحمة..
ثُمَّ يثير في نفوس هؤلاء الصابرين بعد ذلك الحقيقة الكونية الإيمانية الأخرى، وهي أنَّ العباد سيرجعون إلى اللّه وستنتهي الحياة كلّها ليعود الملك إليه ـ تعالى ـ من دون أن يملك الإنسان أي نوع من أنواع القدرة على مواجهة هذا المصير.. فإذا كان الإنسان ملكاً للّه فما معنى الاعتراض؟ وإذا كانت الحياة ستنتهي بكلّ آلامها إلى اللّه ليلتقي الإنسان برضوانه وثوابه، فما معنى السقوط والجزع؟ لا بُدَّ من الصبر والرضى والقناعة بقضاء اللّه ليلتقي الإنسان باللّه عند رجوعه إليه ليلقى عنده الرحمة والمغفرة والثواب الجزيل، حيث الصلوات التي تمثّل الحنوّ والعطف والرأفة، وحيث الرحمة المنسابة في مشاعر الإنسان وحياته انسياب الضوء في قلب الكون، وحيث تنطلق الشهادة التي تعبّر عن حقيقة إنسانية هي أنَّ الصبر الواعي الذي يعرف قيمة الرسالة والإيمان وما تتطلبه من تضحيات وآلام وما تنتجه من خير وبركات على صاحبها في الدنيا والآخرة، هو السبيل الحي للهدى كلّ الهدى الذي يمنح أتباعه ذلك الوسام الرائع {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الطريق من خلال الرسالة، وذلك هو سبيل الذين يسيرون وعيونهم تحدّق بالشمس المتدفقة بالدفء والحياة والضياء.
{الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} من مصائب الحياة في أنفسهم وأموالهم وأوضاعهم، {قَالُواْ إِنَّا للّه} فنحن ملك اللّه من موقع أننا خلقه، فله أن يتصرّف بنا كما يشاء وعلينا أن نتقبّل ذلك بكلّ رضى من دون اعتراض، وأن نؤمن بأنه ـ في موقع رحمته ـ لا يريد بنا إلاَّ خيراً مما يقرّبنا إلى المصلحة ويبعدنا عن المفسدة، {وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فسنصير إلى اللّه في نهاية المطاف ونتخفف من كلّ هذه الآلام، فنجد عنده الخير الكثير الذي نحصل فيه على كلّ السعادة التي يذوب معها كلّ حزن وألم مما عشناه في الحياة، وبذلك لا يبقى لآلام الحياة قيمة في إحساسنا الذاتي، لأنَّ انتظار لقاء اللّه في روح رضوانه ونعيم جنته يطرد كلّ المشاعر الذاتية الخائفة والحزينة والقلقة في أجواء المصائب. وقد جاء عن الإمام عليّ (ع) في نهج البلاغة: «إنَّ قولنا: «إنا للّه» إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: «وإنّا إليه راجعون» إقرار على أنفسنا بالهلك»[4].
{أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ} والصلاة من اللّه لعباده ـ على ما قيل ـ الانعطاف إلى العبد بالرأفة وذلك بالمغفرة والرعاية له، والتفريج لكربته وقضاء حاجاته، وشفاء مرضه، مما يدخل في الحنوّ والتعطف الصادر من اللّه الذي يوحي بالشمول الرعائي للعبد بكلّ ما يخفف عنه قلقه وحزنه ليمنحه الطمأنينة الروحية في الدنيا والآخرة. وقد ورد الحديث عن صلاة اللّه وملائكته على عباده في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيم} [الأحزاب:43]، وفي هذا دلالة على أنَّ الصلاة تفتح حياة الإنسان المؤمن على النور بعد أن تحاصره الظلمات لينقذه منها برأفته وعطفه وحنانه ورحمته، وهي العطية الإلهية المطلقة، والموهبة العامة الربانية التي انطلقت من ذات اللّه وصفاته العليا، فأعطت الإنسان ـ كما أعطت الكون ـ وجوده، وأفاضت عليه بالنعم، وفتحت له أبواب الهداية، ووجهته إلى الأخذ بأسباب السعادة للحصول على رضوان اللّه ونعيمه في جنته، {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين اكتشفوا طريق الحقّ وساروا فيه، وتحمّلوا كلّ مصاعبه وآلامه، وتقرّبوا إلى اللّه في ذلك كلّه، ليصلوا إلى مواقع القرب عنده، ومواطن الرضى لديه، وذلك هو الهدى كلّ الهدى الذي لا يضل سالكه ولا يخيب المنطلق إليه.
* * *
ومما نستوحيه من هذه الآيات:
القيم الأخلاقية قوّة روحية:
1 ـ إنَّ القرآن يعتبر القيم التي يؤمن بها الإنسان، لوناً من ألوان القوّة الروحية التي يمكن للإنسان أن يستثيرها ويستعين بها عندما تثور أمامه نوازع الضعف... وبذلك يوجّه الإنسان إلى أن يدرس كلّ خصائصه الروحية والفكرية في عملية إحصاء دقيقة، ليعرف مقدار القوّة التي يملكها في مواجهة القوى الشريرة الأخرى، سواءٌ في ذلك القوى المضادة الكامنة في داخل نفسه كالشهوات والأطماع، أو القوى البارزة على ساحة الصراع في الحياة. ثُمَّ يمتد الموقف في إثارة إيحائية ليعرف من خلال ذلك أنّ القوّة لا تنحصر في ما تعارف عليه النّاس من القوّة المادية المتمثّلة بالسلاح والرجال والمال والمراكز وغيرها، بل هناك القوّة الروحية التي تتمثّل بالقيم والتعاليم الكبيرة التي يؤمن بها الإنسان في داخل ذاته، فهي التي تحميه من نقاط الضعف في نفسه، كما تحميه من وسائل القوّة التي يثيرها الآخرون ضدّه لتجتاح إيمانه ورسالته وموقفه، حيث تتحفز تلك القيم لتوحي له بالثبات مع الخطّ مهما كانت السلبيات والخسائر الصعبة.
* * *
دور الشعور بالآخرة في تربية الوجدان:
2 ـ إنَّ من الأساليب القرآنية المرتكزة على أساس من العقيدة الإسلامية الحقّة في ما بعد الموت، محاولة إثارة الشعور بالحياة الآخرة كحالة وجدانية في نفس المؤمن، من أجل تفريغ الفكر والقلب والوجدان من الإحساس بالخوف والوحشة من ظلام الموت وهوله الذي يمنع الإنسان من الحركة في ما يعرّض الحياة للخطر، وذلك في حالات الجهاد في سبيل اللّه، ولا بُدَّ لنا من التركيز على هذا الأسلوب لتحقيق هدفين:
الأوّل: تنمية العقيدة في داخل المؤمن بتعميق الإحساس بتفاصيلها، بالأسلوب الذي يجعلها حالة وجدانية كما لو كان الإنسان يواجه الموقف بالإحساس البصري المباشر، فيحوّلها ـ أي القرآن الكريم ـ عن الحالة الفكرية المجرّدة التي قد لا تثير المواقف الحاسمة في أغلب الحالات.
الثاني: التغلّب على نقاط الضعف التي تثور في داخل الإنسان من خلال النوازع النفسية الذاتية المتصلة بحبّ الحياة، ومن خلال الأجواء الخارجية التي يثيرها الآخرون في مجالات الصراع من حالات الخوف والفزع...
وفي ضوء ذلك، يتحرّك الأسلوب القرآني في إحساس عميق بالحياة كأفضل ما تكون الحياة في كلّ ما تجسّده من المتع واللذات الحسية والمعنويّة، فيتحوّل الموقف من حالة الهروب من الموت إلى شوق كبير له ولما يحمله من فرصة الحياة الأفضل والأنقى والأصفى.
* * *
البلاء للمؤمن عامل تنمية واختبار:
3 ـ التركيز على إثارة روح التحدّي للبلاء والمصائب في نفس المؤمن من خلال اعتباره تجربة حيّة من تجارب الحياة الطبيعية بعيداً عن كلّ إحساس سلبي بالألم والعذاب، أو النظر إليها كمظهر من مظاهر العقوبة الإلهية كما هي في عقيدة بعض المؤمنين الساذجين، وبذلك يبتعد الإنسان عن الشعور بالانسحاق أمام البلاء، ليكون، بدلاً من ذلك، عامل تنميةٍ واختبار للقوّة من أجل الحصول على النتائج الكبيرة في مجال تربية الشخصية الإسلاميّة، وارتفاعها في منازل القرب من اللّه سبحانه.
وهذا ما نحتاجه في الصراعات التي يخوضها العاملون في سبيل اللّه ضدّ قوى الكفر والانحراف في كلّ المجالات، حيث يتعرّض هؤلاء لما كان يتعرّض له المسلمون الأولون في بدايات الدعوة الإسلامية من النقص في الأموال والأنفس والثمرات، ليصبروا على ذلك كما صبر أولئك، وليحصلوا على نتائج النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة ، لأنَّ ذلك هو سبيل الوصول إلى الأهداف الكبيرة التي يستهدفها أصحاب الرسالات السَّماوية.
* * *
علاقة الصبر بالجانب الروحي للعقيدة:
4 ـ إنَّ الدعوة إلى الصبر في الشدائد والأهوال لا تشبه الدعوات التي يوجهها الآخرون في أساليبهم المتنوّعة، حيث تؤكد المعاني الإنسانية الذاتية في الحديث عن النتائج السلبية والإيجابية، بينما نجد القرآن يربط الموضوع بالعقيدة ودلالتها وإيحاءاتها وعلاقة ذلك كلّه بالجوّ الروحي الذي يتطلّع إلى رضى اللّه ومحبته ورحمته، لئلا يتجمد الإنسان في مواقفه على النوازع المادية التي تربطه بالحياة الدنيا، فيخلد إليها في استسلام مهين، ويبتعد بذلك عن أخلاقية الإسلام المتصلة بالحياة من خلال اتصالها باللّه، المرتكزة على الأسلوب الإسلامي التربوي الذي يجعل الهدف الإنساني مرتبطاً بالعلاقة الحميمة باللّه، في سير الإنسان الأخلاقي، الأمر الذي يدفعه إلى التغلّب على كلّ النتائج السلبية على مستوى الحياة الدنيا إذا كانت النتائج إيجابية على مستوى الحياة الأخرى في رضوان اللّه وعفوه وغفرانه، لتبقى الحوافز الدافعة إلى الالتزام والانضباط حيّةً قوية في مختلف الظروف والأوضاع من دون الاستسلام لأيّة نقطةٍ من نقاط الضعف الإنساني.
(1) مفردات الراغب، ص: 281.
(2) الكافي، ج:7، ص:56، رواية:3.
(3) تفسير الميزان، ج:1، ص:346.
(4) نهج البلاغة، قصار الحكم/99.
تفسير القرآن