تفسير القرآن
البقرة / الآية 158

 الآية 158

الآيــــة

{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158).

* * *

معاني المفردات:

] الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ[ : الصفا: في الأصل الحجر الأملس، مأخوذ من الصفو، واحده صفاة. والمروة: في الأصل الحجارة اللينة، وقيل: الحصاة الصغيرة، وقد صارا عَلَمين لجبلين صغيرين في مكة يفصل بينهما 430 متراً تقريباً، وارتفاع الصفا خمسة عشر متراً، والمروة ثمانية أمتار.

] شَعَآئِرِ[ : جمع: شعيرة، وهي العلامة، وشعائر اللّه العلامات التي تذكّر الإنسان باللّه وتوحي إليه بالمشاعر الروحية، وجاء في مجمع البيان: «والشعائر: المعالم للأعمال، وشعائر اللّه: معالمه التي جعلها مواطن للعبادة، وكلّ معلم لعبادةٍ من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك العبادة»[1].

] حَجَّ[ : الحج القصد على وجه التكرار، وفي الشريعة عبارة عن قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام، والطواف والسعي، والوقوف بالموقفين، وغير ذلك.

] اعْتَمَرَ[ : العمرة الزيارة، أخذ من العمارة، لأنَّ الزائر يعمّر المكان بزيارته. وهي في الشرع زيارة البيت بالعمل المشروع.

] جُنَاحَ[ : الجناح: الميل عن الحقّ. يُقال جنح إليه جنوحاً إذا مال.

] أَن يَطَّوَّفَ[ : الطواف الدوران حول الشيء، ومنه: الطائف. وفي الشرع: الدوران حول البيت.

] تَطَوَّعَ[ : التطوّع: التبرّع بالنافلة خاصة، والطاعة والتطوّع أصلهما من الطوع الذي هو الانقياد. ولعلّه المقصود بالكلمة هنا.

* * *

لقطات من التشريع:

الصفا والمروة جبلان في مكة فرض اللّه على حجّاج البيت الذين يقصدون أداء فريضة الحج، وعلى المعتمرين الذين يقصدون أداء العمرة التي يُراد بها زيارة البيت ضمن مناسك مخصوصة، أن يسعوا بين هذين الجبلين. وقد كان المسلمون في بداية عهد التشريع يشعرون بالحرج من ذلك، لأنهم يرون فيه مخالفةً لعقيدة التوحيد في الفكر والممارسة، لأنّ الأصنام كانت منصوبةً عليهما كما ورد عن الإمام الصادق (ع). حيث روى عنه بعض أصحابه قال: «سألته عن السعي بين الصفا والمروة فريضة هي أم سنّة؟ قال: فريضة. قلت: أليس اللّه يقول: ] فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا[ ؟ قال: كان ذلك في عمرة القضاء وذلك أنَّ رسول اللّه (ص) كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام. قال: فأنزل اللّه: ] إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ[ أي: والأصنام عليها»[2].

وجاء في حديث آخر يرويه صاحب الكافي عن الإمام الصادق (ع) "أنَّ المسلمين كانوا يظنّون أنَّ السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون، فأنزل اللّه عزَّ وجلّ: ] إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ[ "[3].

وفي الدرّ المنثور عن عامر الشعبي قال: «كان وثن بالصفا يدعى إساف ووثن بالمروة يدعى نائلة، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين، فلمّا قدم رسول اللّه (ص) قالوا: يا رسول اللّه، إنَّ الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنَيْن، وليس الطواف بهما من الشعائر! فأنزل اللّه: ] إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ[ الآية. فذكَّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأُنِّثَتْ المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنّثاً»[4].

وهكذا نجد أنَّ القضية تتصل باعتبار هذه الفريضة بعيدةً عن خطّ الإيمان، لأنها امتداد لأجواء الشرك والأصنام، فجاءت هذه الآية لتضع القضية في موقعها الطبيعي من عقيدة التوحيد وشريعته، لأنَّ وجود الأصنام وعدم وجودها لا يضر بذلك شيئاً ما دامت العبادة مرتبطة في وعي المسلمين وتفكيرهم باللّه، ومنطلقة من أمر اللّه ورسوله، كما كانت الكعبة البيت الحرام مطافاً للمسلمين قبل أن يفتح اللّه عليهم مكة مع وجود الأصنام التي نصبها المشركون فيها، لأنَّ المسلمين لم يحسبوا لها أيّ حساب في طوافهم وفي عبادتهم. أمّا إذا كانت العقدة ناشئة من أنها من شعائر المشركين ومناسكهم، فلا تضرّ شيئاً، لأنَّ مناسك الحج لم تكن تشريعاً جاهلياً إشراكياً، بل كانت تشريعاً إلهياً على يد إبراهيم (ع) ورسالته، كما نلاحظ ذلك في آيات الحج وأحاديثه، ولم يكن من الإسلام، إلاَّ أنّه أقرّها وزاد عليها بعض ما لم يكن فيها، وهذّب منها ما أدخله المشركون فيها من خلال بعض التفاصيل.

وهكذا عرفنا أنَّ كلمة ] فَلاَ جُنَاحَ[ لا تعطي معنى الرخصة بمعنى الإباحة، بل تعني عدم الحرج في ما اعتقدوه من منافاته لخطّ التوحيد كتأكيد لهم لعدم المنافاة. لذلك، كما أشرنا إليه، فإنها ليست من شعائر الشرك وإن نصبت الأصنام عليها، بل هي من شعائر اللّه التي جعلها للمؤمنين لتكون موضعاً لعبادته ومقصداً للقرب إليه، فكأنّه قال إنَّ وجود الأصنام لا يمنع من العبادة. ثُمَّ ختم اللّه هذه الآية بأنَّ اللّه يشكر للمتطوعين بفعل الخير عملَهم، وإن كانوا لا يستحقّون على اللّه ذلك، فإنَّ اللّه فرض على نفسه أن يشكر الطائفين والعاكفين والركّع السجود، ثُمَّ يوحي إليهم بأنه عليم بنواياهم ومقاصدهم عندما يقصدون اللّه في عبادتهم هذه أو يقصدون غيره. وبهذا تلتقي الرغبة في عمل الخير في نفس المؤمن وإحساسه بشكر اللّه له على ذلك، بالحذر من وجود بعض الحالات النفسية المنحرفة التي تفسد العمل في دوافعه ونتائجه، ليقف المؤمن من ذلك موقف الإنسان الذي يفحص عمله فحصاً دقيقاً، لتتم له جوانبه الإيجابية التي تنتهي به إلى رضوان اللّه وغفرانه.

وقد يثير البعض، في الجانب الفقهي من الآية، أنها تتحدّث عن التطوّع الذي يعني الإتيان بالعمل من خلال الحوافز النفسية من دون أن يكون هناك إلزام قانوني، فلا ينسجم مع اعتباره فريضة، ولذا ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى استحبابه وعدم وجوبه. ولكنَّنا نعتقد أنَّ هذه الكلمة لا تفيد المعنى الذي يقابل الإلزام، بل المعنى الذي يقابل الإكراه والإلجاء والضغط الخارجي، فيكون معناها العمل المأتيّ به طواعيةً واختياراً كنتيجة للشعور بالمسؤولية الناتجة عن الواجب إن كان هناك وجوب، أو عن المستحب إن كان هناك استحباب، فلا تدل على نفي الوجوب، كما لا تدل على تأكيد الاستحباب، واللّه العالم بأسرار أحكامه وآياته.

* * *

الصفا والمروة من شعائر اللّه:

] إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ[ وهما الجبلان الصغيران الواقعان في الضلع الشرقي للمسجد الحرام في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم ] مِن شَعَآئِرِ اللّه[ التي أراد اللّه للمؤمنين أن يتعبدوا فيها، فجعلها من مواضع نسكه وطاعته، ومن أعلام متعبداته التي يعيش فيها المؤمنون الأجواء التي تنفتح بهم على اللّه في مواسم عبادته ] فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ[ قاصداً أداء الفريضة الشرعية ذات المناسك المخصوصة، ] أَوِ اعْتَمَرَ[ أي أتى بالعمرة بالطريقة المعروفة في الشرع، ] فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا[ بأن يأتي إلى الصفا تارةً وإلى المروة أخرى في عملية دوران بينهما، فلا إثم عليه في ذلك من خلال وجود الصنمين عليهما، في عهد نزول الآية ـ كما يقال ـ مما تركه المشركون هناك ولم يرفعوه عن المكان، أو في أي زمان آخر من خلال التاريخ الوثني في عبادة الأصنام المنصوبة عليهما، لأنَّ المسألة هي إطاعة اللّه في الطواف بهما تقرّباً إليه في مناسك الحج والعمرة التي جعلت السعي شرطاً فيهما، تماماً كما كان المسلمون يطوفون بالبيت الحرام مع وجود الأصنام عليه من دون أن يترك ذلك تأثيراً على طبيعة العبادة وروحيتها لتقوّمها بالقصد إلى امتثال الأمر الإلهي في الطواف، أو السعي بعيداً عن كلّ الأشياء الوثنية الطارئة عليه، وعن الانحرافات العبادية من الوثنيين، فليس لما أحدثه النّاس في أماكن العبادة أيّ أثر سلبي في طبيعة المكان وفي العبادة.

] وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا[ أي جاء بالعمل من خلال اختياره الامتثال للأمر الإلهي ـ واجباً أو مستحباً ـ كتعبيرٍ عن روحية الانقياد إلى اللّه في فعل الخيرات التي يحبّها اللّه، والقيام بالطاعات التي أمر بها، وربما حمل البعض كلمة التطوّع على العمل الذي يؤديه الإنسان تبرعاً من دون إلزام إلهي، وذلك في فعل النافلة ـ بعد أداء الواجب أو في غياب وجوبه ـ ولكنَّه غير ظاهر، لأنَّ الآية، كما بيّنّا قبلاً، ليست في مجال الحديث عن الواجب والمستحب، بل في مجال الحديث عن الطبيعة العبادية للسعي الذي لا إثم على فعله من خلال ما أحدثه المشركون من وضع الأصنام على موقعه وعبادتهم لها فيه، وأنَّ الآتي به مستحق للثواب لما يعبّر عنه ذلك من معنى العبودية للّه التي هي محل الشكر الإلهي لعباده، ] فَإِنَّ اللّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ[ فهو الذي يشكر لعباده انقيادهم له من دون حاجة إليه، ويجزيهم على ذلك أحسن الجزاء، وذلك هو التعبير الحي عن الشكر الذي هو مقابلة من أحسن إليه بإظهاره قولاً وعملاً، وهو الذي يعلم ما في نفوسهم من الإخلاص له.


(1) مجمع البيان، ج:1، ص:438.

(2) تفسير الميزان، ج:1، ص:384.

(3) الكافي، ج:4، ص:245، رواية:4.

(4) السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993م ـ 1414هـ، ج:1، ص:385.