من الآية 161 الى الآية 162
الآيتــان
{إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـئِكَ عَليْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُون}(161ـ162).
* * *
الكفر انحراف لا موقف فكري:
إنَّ الكفر ـ في نظر الإسلام ـ لا يرتكز على حجّة؛ بل يمكن أن يخضع في بعض الحالات إلى شبهةٍ طارئة، أو شكٍ سريع مما يمكن معه الوصول إلى قناعة تزيل الشبهة وتذهب بالشك، وذلك من خلال الفكر الهادىء العميق، والحجة العقلية القوية، وفي ضوء ذلك، يُعتبر الكافرون الذين يستمرون على الكفر حتى يموتوا، من المعاندين المتمرّدين الذين لا يريدون أن يواجهوا القضية من موقع البحث والتحليل الذي يقود إلى الإيمان، لأنهم لا يشعرون بأهمية قضية الإيمان والكفر في حياتهم.
ثُمَّ إنها من القضايا التي تتصل بموقف الإنسان من اللّه خالق الحياة في الكون والإنسان، وبشكر نعمه من خلال السير في خطّه المستقيم، وليست من القضايا الطارئة التي تقف على هامش حياة الإنسان، وليست من القضايا الفردية التي تتصل بحياة الإنسان كفرد، بل هي من القضايا العامة التي تبني المجتمع أو تهدمه، ما يجعل من الاستهانة بها دليلاً على الاستهانة بالحياة العامة للنّاس. وفي هذا النطاق، نجد الكافرين باللّه يحملون في شخصيتهم الكفر بالنعمة إلى جانب الكفر باللّه، ويعيشون اللامبالاة بقضايا الحياة من خلال طبيعة اللامبالاة التي يواجهون بها قضايا الإيمان.
ومن هذا المنطلق، كانت هذه الآية نذيراً للذين يكفرون ولا يتراجعون عن خطّ الكفر بل يموتون وهم كفارٌ، بأنهم يواجهون اللعنة من اللّه والملائكة والنّاس أجمعين، جزاءً لما يتضمنه الكفر من الإساءة إلى قداسة اللّه وقيمة الحياة والإنسان. ولا تكتفي الآية الثانية بهذا المقدار من الجزاء الذي تضمنته الآية الأولى، بل تؤكد خلودهم في النّار حيث يلاقون العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم منه شيء، ولا يمكن أن يعطوا مهلة يقدِّمون فيها الاعتذار، لأنَّ عظمة الجريمة لا تسمح بذلك.
* * *
كفر الجحود لا حجّة له يركن إليها:
] إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ[ من دون حجّة على كفرهم، لأنَّ الكفر المتمثّل بالجحود والتكذيب لا يملك أيّة حجة علمية أو عقلية؛ فليس هناك أيّ أساس للنفي الفكري للألوهية أو للرسول، بل كلّ ما هناك مما قد يحصل لبعض النّاس، الشك الذي يمنع الإنسان من أن يدين بدين الحقّ لعدم تبينه له وثبوته عنده، فيكون حاله حال الذين لا يجحدون بالحقّ ولا يؤمنون به.
وفي ضوء ذلك، كان الكفر المعاند دليلاً على إرادة العناد والتمرّد والمواجهة للحقّ، وهكذا يكون المراد بالكافرين المكذبين المعاندين الذين يتعمدون الإيحاء بواقعية الباطل في خطّ الكفر، وبطلان الحقّ في خطّ الإيمان، كما يعملون على إخفاء ما يعلمونه من الحقّ إمعاناً في التضليل والتخريب والتشويه، وبهذا لا يتحوّل موقفهم إلى موقف فكري مضاد، بل يتحوّل إلى موقف عدواني ضاغط على الواقع كلّه، إيحاءً وعملاً، الأمر الذي يبلغ فيه مستوى الجريمة التي يستحق صاحبها اللعن الحاسم: ] أُولَـئِكَ عَليهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ[ لأنهم ابتعدوا عن اللّه فأبعدهم عن رحمته، وانحرفوا عن الحقّ الذي قامت السَّماء والأرض عليه، وانطلقت الملائكة في تسبيحها وتقديسها من خلاله، وفطر النّاس على السير عليه، والأخذ به، كشرط لسعادتهم في انتظام حياتهم، وتوازن وجودهم، لذلك كانت لعنة الملائكة والنّاس أجمعين مسألة طبيعية في هذا الواقع الكافر، ] خَالِدِينَ فِيهَا[ في اللعنة التي تختزن العذاب في مضمونها العملي على مستوى النتائج، وتوحي به، ] لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ[ فليس هناك أية مهلة للاعتذار أو للتبديل والتغيير.
تفسير القرآن