تفسير القرآن
البقرة / الآية 170

 الآية 170

الآيــــة

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّه قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}(170).

* * *

معاني المفردات:

] أَلْفَيْنَا[ : وجدنا وصادفنا. قال الزمخشري: «وألفينا بمعنى وجدنا، بدليل قوله: ] بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا[ [1] [لقمان:21].

* * *

التعصب الأعمى للماضي:

وهذا نموذج من نماذج النّاس الذين يتبعون خطوات الشيطان في منهج التفكير وفي طبيعة الفكرة، فإنهم لا ينطلقون، في ما يعتقدون وفي ما يتبعون من نهج في الحياة، من موقع القناعة الفكرية المرتكزة على أساس البحث والتأمّل والتفكير، بل يتحرّكون من عاطفةٍ ساذجة وعصبية ذاتية تدفع الإنسان إلى تقديس الماضي الذي ينتسب إليه في عاداته وتقاليده وأفكاره ومقدّساته، ما يجعل من ذلك أساساً للقناعة الفكرية والسلوك العملي في ما يتفق معه، وللرفض الفكري والعملي في ما يختلف عنه، بالمستوى الذي لا يقبل فيه الدخول في أيّ حوار أو نقاش حول تلك القضايا، كما لو كانت من البديهيات والمسلَّمات الفكرية.

وقد كان هذا المنهج في طبيعة سلوك الشخصية سبباً من أسباب التعقيد الذي يواجه أصحاب الرسالات من الأنبياء ومن السائرين في خطّهم في الدعوة إلى اللّه، لأنه يغلق على الإنسان نوافذ التفكير، ويحوّله إلى إنسان منغلقٍ على ذاته، بعيدٍ عن التفاعل مع الآخرين في ما يثيرونه من قضايا ويدعون إليه من أفكار ومبادىء، ويدفع المجتمع إلى أن يبقى مشدوداً إلى عجلة الماضي من دون أن يفكر في الانطلاق إلى المستقبل بأجنحته الطائرة إلى العلاء، ما يجعله يبتعد عن تطوير حياته، وتغيير مسيرته نحو الأفضل في جميع شؤون الحياة، ويتجمّد في عملية تقديس للأخطاء وللانحرافات الفكرية والعملية باسم الإرث المقدس للآباء والأجداد. وقد حارب القرآن بقوّة هذا الاتجاه في مواجهة القضايا والأفكار، فدعا إلى الانطلاق في الفكر وفي العمل، من قاعدةٍ فكرية ثابتة ترتكز على الحرية الفكرية البعيدة عن الضغوط العاطفية على أساس الدعوة إلى دراسة شخصية هؤلاء الآباء في مستواهم العقلي، وفي مسيرهم العملي، ليكتشف الإنسان أنَّ كثيراً من هؤلاء لا يعقلون شيئاً، ولا يهتدون، لأنهم عاشوا في ظلّ العقليات الخرافية المشبعة بالخرافات والأساطير، وانطلقوا في ظل أمِّيةِ الحرف والثقافة، ليخططوا لحياتهم في جميع ألوانها وقضاياها، فكيف يمكن للإنسان الذي يحترم فكره ومصيره أن يجعل حياته تحت رحمة أفكار هؤلاء ومسيرتهم في الحياة؟

* * *

دعوة القرآن إلى عقلنة الموقف من الماضي:

] وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ[ للكافرين الذين انطلقت الدعوة الإسلامية الرسالية لتفتح عقولهم على الإسلام فكراً وعقيدة ومنهجاً للحياة، ] اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّه[ من الآيات التي تخطّط لكم منهج المعرفة، ومنهج الحركة في الحياة، وشريعة السلوك العملي في أوضاع الإنسان في قضاياه العامة والخاصة، وحاجاته الأساسية، ونظرته إلى الواقع، وتطلّعه إلى الأفق الأعلى في الإيمان باللّه والالتزام بشرائعه وأحكامه، واتباع رسله والانفتاح على الإيمان باليوم الآخر، والقيام بمسؤولية الإنسان في الخلافة عن اللّه في إدارة الواقع الكوني المتحرّك، وتفجير طاقات الحياة في نفسه، وفي الأرض التي يسير عليها، والأجواء التي يعيش في داخلها، ليكون الإنسان سيِّد الكون في دوره القيادي من أجل تحقيق إرادة اللّه في حركته في كلّ عمره، ] قَالُواْ[ في موقف احتجاج واستنكار للدعوة التي تفصلهم عن الماضي الجاهل المتخلّف لتدفعهم إلى الحاضر الواعي المنفتح على تطلّعات المستقبل للتقدّم والنموّ والازدهار، ومن موقع إصرار على الواقع الجامد الذي يعيشون في داخله: ] بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ[ من أفكار وعادات وتقاليد ومنهج للعلاقات وللمشاعر والمواقف، مهما كانت طبيعته وقيمته وصلاحه وفساده، لأنَّ المسألة هي مسألة الإرث المقدس الذي يأخذ قداسته من قداسة الآباء في وجدان الأبناء، ويثير القرآن التساؤل أمام هذا الموقف الجامد الذي يفتقد المنطق العقلاني الذي يحترم الإنسان فيه عقله ووجوده، ] أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ[ فليدرسوا المستوى العقلي لهؤلاء الآباء، وليدرسوا طبيعة المرتكزات الفكرية التي استندوا إليها في ما اختاروه وساروا عليه، فقد يكتشفون أنهم لا يملكون عقلاً، ولا ينفتحون على هدى، بل ربما كانت عقول الأبناء أكثر انفتاحاً وقوة من عقول الآباء، فكيف يتبع العاقل من لا عقل له، وكيف يسير الضال وراء من لا هدى له؟!

إنه سؤال للتحدّي وللمعرفة وللوصول بالقضية إلى الموقف الإنساني الذي ينطلق من البعد المعرفي للإنسان في حياته وفي حركة الانتماء عنده.

* * *

بين الحقّ والصلات العاطفية:

وهكذا نرى أنَّ القرآن يريد أن يقرر للإنسان المنهج في الوصول إلى القناعات الفكرية، ويريد أن يثير قضية الارتباط بالآباء كنموذج من نماذج الضغوط العاطفية التي تضغط على الإنسان لتقوده إلى الخضوع للخطّ الذي يسير عليه الأشخاص الذين يرتبط بهم عاطفياً، سواء كانوا آباءً أو أبناءً أو أصدقاء أو غيرهم ممن تشدّهم إليهم الصلات العاطفية الحميمة. تلك هي القضية. إنَّ الصلات العاطفية لا تعني الحقّ، ولا تمثّل التبرير للارتباط الفكري، مهما كانت الظروف والأوضاع والأشخاص، لأنَّ هذه «الظاهرة الآبائية» التي تضغط على الوجدان العام في الجانب الفكري مما اختزنه الآباء من أفكار، أو في الجانب الشعوري مما عاشوه من مشاعر العداوة والصداقة والحبّ والبغض، لا تمثّل أي بُعدٍ عقلاني في الاختيار الإنساني، باعتبار أنَّ المسألة العاطفية في الرابطة الإنسانية قد تتدخل في بعض العلاقات الذاتية في نطاق العلاقات الاجتماعية أو الذكريات التاريخية من خلال الأجواء الحميمة التي تترك آثارها في النفس. أمّا المسائل الفكرية فإنها تتحرّك من موقع الأسس العلمية والمفردات الموضوعية التي قد تختلف نتائجها وأبعادها باختلاف المراحل الزمنية أو الخصوصيات المكانية أو المؤثرات الذاتية، أو الضغوط الاجتماعية المحيطة بالإنسان والواقع، ما يفرض التبدل في طبيعتها بين وقت وآخر، أو بين بيئة وأخرى، هذا إلى جانب المستوى الثقافي الذي قد يجعل النتيجة متخلّفة من خلال ذهنية التخلّف، أو متقدّمةً من خلال عناصر التقدّم، الأمر الذي يفرض إعادة النظر دائماً في كلّ الأمور الخاضعة لتلك المؤثرات، بل قد تفرض على الإنسان ـ في بعض الحالات ـ إعادة النظر في قناعاته الفكرية أو الشعورية بين وقت وآخر عندما تكون الأمور خاضعة للحالات الطارئة في حياته، ليجدّد نظرته فيها لاكتشاف ما يمكن أن يجد فيها من ضعف أو خطأ أو انحراف، فكيف إذا كان الموضوع متصلاً بقناعات الآخرين.

وإذا كان القرآن يركّز على المسألة في نطاق الآباء، فليس ذلك من أجل اختصاص الظاهرة بهم، ولكن الواقع الذي يعيشه النّاس ـ غالباً ـ في الاتباع الأعمى في تقليد الماضي، هو واقع اتباع الآباء والأجداد الذين يمثّلون في الوجدان العائلي أو العشائري العمق الذاتي للإنسان في جذوره التاريخية، بالدرجة التي يشعر معها بأنَّ امتداداتهم الفكرية في حركته تمثّل العنوان الكبير لوجوده، فتكون القضية قضية الحالة الشعورية في طبيعة الانتماء الفكري، وقد تكون القضية في بعض نماذجها متمثّلة في الآباء الحزبيين أو القوميين أو المذهبيين أو الطائفيين الذين يرتبط بهم الإنسان من خلال الحزب أو القومية أو المذهب أو الطائفة، بحيث تكون أفكارهم عنواناً مقدّساً للدائرة التي تحرّكوا فيها، حتى أنَّ أي ضعف في مفردات هذه الأفكار قد ينعكس على ضعف عنوان الانتماء.

إنها مسألة العصبية التي لا ترى الأشياء إلاَّ من خلال ذاتية النسب أو العنوان الذي يطبع النّاس بطابعه، لتكون القداسة للعنوان بعيداً عن المضمون في قيمته الفكرية والحضارية. وهذا ما يعطّل عملية التجديد والتغيير ويحبس الفكر في دائرة ضيقة تتصل بالماضي ولا تنفتح على الحاضر والمستقبل، الأمر الذي يجعل منها سجناً للعقل وللحركة وللحوار، وخنقاً للحرية في كلّ الموارد التي يختلف فيها قادة الحاضر عن قادة الماضي.

وقد رأى القرآن في هذه «الظاهرة الآبائية» الممتدة إلى كلّ العناوين المتصلة بالرموز التي يخضع الإنسان لها عاطفياً ويرى أن فكرها يمثّل فكره، وعنفوانها يمثّل عنفوانه، وأنَّ الانتقاص من قيمتها الفكرية يمثّل انتقاصاً من مجده، رأى فيها خطراً كبيراً على حركة الرسالات التي تصطدم دائماً بذهنية التخلّف في تقديس الماضي بما يؤدي إلى التعصب له ولكلّ مفاهيمه وعاداته وتقاليده، وإلى تجميد الفكر الذي يمنعه من التحرّك بعيداً عن المفردات الكامنة في وجدانه التاريخي الموروث، فيمتنع عن الاستماع إلى أي فكر جديد فضلاً عن التفكير فيه بأسلوب المناقشة والحوار، ويتحوّل الموقف في رموز هذا الاتجاه إلى حالةٍ طاغوتية تعمل على قهر كلّ حركة جديدة في أفكارها ورموزها، لأنها تخاف منها على الامتيازات الشعبية التي اكتسبتها من خلال التخلّف الشعبي، وعلى المقدسات السخيفة التي لا تملك أية قيمة مقدّسة.

* * *

القرآن ومعالجة «الظاهرة الآبائية»:

وقد نستوحي من الآيات القرآنية الواردة في هذا الموضوع بعض خصائص هذه الظاهرة في جمودها الفكري، وفي ذهنيتها العدوانية، وذلك كما في قوله تعالى: ] وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ[ [الزخرف:23] وقوله تعالى: ] قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللّه لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ في السَّمَـوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ[ [سبأ:22] ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّه قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ[ [لقمان:21]. وقوله تعالى: ] قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ[ [الشعراء:74] وقوله تعالى: ] قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ[ [يونس:78] وقوله تعالى: ] قَالُواْ يا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ[ [هود:62]، وقوله تعالى: ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللّه وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ[ [المائدة:104].

إنَّ المنطق الذي يحكم تفكير هؤلاء هو اعتبار الطريقة التي جرى عليها الآباء من العبادة والعادات والتقاليد أساساً للاقتداء وللاهتداء، من دون أن يقدّموا أي أساس فكري على شرعية ذلك من الناحية الفكرية، بل كلّ ما هناك أنهم يتعقّدون من دعوة التغيير لأنها تخرجهم من دائرتهم التي عاشوا فيها واستغرقوا في خصوصياتها، ولذلك فإنهم لم يدخلوا مع الطرح القرآني في جدل فكري حول الموضوع في مضمون عقيدة الآباء مقارناً بمضمون الدعوة القرآنية، بل أطلقوا كلمة الإصرار الجامد، والاستغراب القاسي للمحاولة الرسالية في إبعادهم عمّا وجدوا عليه آباءهم وعمّا يعبد آباؤهم، وأطلقوا كلمة الجمود التي تريد أن تختصر حركة الحياة في الماضي، فلا مجال لأية حركةٍ جديدة في الحاضر والمستقبل، لأنَّ مسؤوليتهم أن يعيشوا في إرث التاريخ الذي تركه الآباء، فالزمن وقف عندهم، والتطوّر انتهى إليهم، وهذا ما تعبّر عنه كلمتهم التي نقلها اللّه عنهم: ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللّه وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ[ [المائدة:104] فلن نفكر في أي شيء خارج تلك الدائرة من أية جهةٍ كانت، ومن أي شخص كان. إنه منطق التعصب الأعمى الذي يواجه الأشياء بالنظرة العمياء.

أمّا القرآن الكريم فقد أطلق الحوار معهم من موقع عقلاني متحرّك فقال في آية موحية في قوله تعالى: ] أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ[ [المائدة:104] وفي الآية التي نحن بصدد تفسيرها: ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّه قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ[ [البقرة:170] فإنَّ مسألة الاقتداء والاهتداء لا بُدَّ لها من أن تنطلق من الموقع الذي يملك أساس القدوة من خلال أنه يملك مسؤولية الفكر وقوّته، ويلتزم أساس الهدى من خلال العلم الواسع العميق، والعقل المنفتح الدقيق، والرؤية الواضحة الواسعة، والهدى المشرق، تماماً كما هو الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة الذين تطمئن النفس إليهم، ويستريح العقل والعلم والهدى عندهم، بل ربما كان آباؤهم أكثر علماً وأوسع عقلاً وأكثر تجربة منهم، ما يجعل من تقليدهم واتباعهم لهم أمراً لا يرتكز على أساس ما يرتبط بالشكل لا بالمضمون، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: ] مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللّه بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لاَ يَعْلَمُونَ[ [يوسف:40] فهي مجرّد أسماء ترنّ في أسماعكم بعيداً عن مضمونها الحقيقي الذي تناقشه عقولكم.

وهكذا نجد أنَّ القرآن لا يطرح عليهم الرفض المطلق لعقائد آبائهم في البداية، بل يقول لهم ـ في عملية دعوة للدخول في مقارنة بين ما يعبد آباؤهم، وما يفكرون به ويسيرون عليه، ودعوة النبيّ للإسلام في عقيدته وفكرته وعبادته ومنهجه، وذلك قوله تعالى: ] قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ[ [الزخرف:24].

إنه يدعوهم لمناقشة هذا المنهج المتعالي في الهداية والوعي ليرفضوا الفكر الأدنى وليختاروا الفكر الأهدى. وهكذا أراد القرآن لهم أن يفكروا ويحاوروا ويختاروا من موقع ذلك، لكنَّ التعصب الأعمى أغلق عقولهم وجمّد حركتهم وجعلهم يغرقون في الظلام والجهل والتخلّف.

إنَّ المنهج القرآني يرتكز على حرية الإنسان في تفكيره من خلال مسؤوليته عن قناعاته التي يريد اللّه له أن ينطلق بها من قاعدة فكرية صلبة، فلا ضغط من موقع العاطفة والقوّة، ولا خضوع للعاطفة وللمصالح، بل هي الحقيقة التي تدعو الإنسان إلى ملاحقتها بالتأمّل والتفكير والبحث، بعيداً عن تراث الماضي وعن هيمنة الحاضر.

* * *

موقف الإسلام من المسلمين الذين يقلّدون الآباء في إسلامهم:

وقد يثير البعض في هذا المجال سؤالاً حول الاتجاه الديني في حياة النّاس، فإنَّ من الملحوظ أنَّ التديّن عند أغلب النّاس لا ينطلق من فكرٍ يبحث ويتأمّل ويدقق، بل يعيش في وجدان أتباعه كعقيدةٍ مقدسة من تراث الآباء والأجداد، ولهذا نرى الكثيرين من المتدينين يرثون الدين الذي يعتنقه آباؤهم ويخلصون له، من دون أيّة دراسة للمضمون، أو وعيٍ للتفاصيل في ما هو الحقّ والباطل ، تماماً كما هو الانتماء النسبي أو القومي، عندما يمنح الإنسان شخصية لا يملك معها إرادةً واختياراً، بل هي مفروضة عليه من خلال الظروف الموضوعية أو الطبيعية المحيطة به. وقد يجد هذا تشجيعاً لدى المؤسسات الدينية المتنوّعة التي تحوّلت إلى كيانات رسمية لا تسمح للفكر أن يتحرّك، وللحوار أن يطرح علامات الاستفهام أمام مواطن الشك.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو الفرق بين واقع النّاس الديني الآن، وبين واقع النّاس الذين يتحدّث عنهم القرآن في هذه الآية؟

والجواب: إنَّ المنهج القرآني يوجه النّاس إلى اعتبار الفكر أساساً للعقيدة بعيداً عن الطرق غير العلمية مما يعتمد على الحدس والتخمين والاحتمال. وعلى ضوء ذلك، فهو يعتبر الاتجاهات المعتمدة على التقليد في العقيدة انحرافاً عن الخطّ الإسلامي في طريق الوصول إلى الحقّ، ولهذا فإنَّ الإسلام لا يعتبر الإنسان معذوراً أمام اللّه إذا قاده هذا الطريق إلى الخطأ في العقيدة، بينما يرى الإنسان الذي يستفرغ وسعه وجهده في سبيل الوصول إلى الحقيقة معذوراً إذا لم يصل إلى الحقّ كنتيجةٍ للظروف الخارجة عن إرادته، ولكنَّه في الوقت نفسه يرحب بالإنسان الذي يلتقي بالحقّ كنتيجة للطرق التقليدية المشار إليها في السؤال، كأيّ دين يريد أن يمتد في حياة النّاس لتمتد قيمه ومفاهيمه من خلال قناعاتهم الفكرية، بل ربما نجد أنه يشجّع الكثيرين الذين دخلوا فيه رغبةً أو رهبةً في عهد الدعوة الإسلامية الأوّل، لأنه يشعر بأنّ دخولهم في مساره وأجوائه يمنحهم الفرصة للتفكير من جديد، وللعيش في الواقع الإسلامي الذي يفتح لهم مجالات اكتشاف الإسلام من الداخل بدون أيِّ تعقيد أو حواجز نفسية سلبية، ليتعرفوا من خلال ذلك على خطّ الحوار في الإسلام في آيات القرآن وحركة الشريعة في الحياة.

وفي ضوء ذلك، نعرف أنَّ الإسلام لا يشجع التقليد في العقيدة عندما يشجّع الآخرين على الدخول فيه بدون استدلال برهاني، بل يعمل على أن يحقّق هدفين:

أحدهما: تحطيم الحواجز النفسية التي تفصل النفس عن الانفتاح على الإسلام، وذلك بإيجاد روح الإلفة بين الإنسان وبين الأجواء الدينية في الإسلام، ليستطيع ـ من خلال ذلك ـ أن يلتقي بالمفاهيم الإسلامية ببساطة خالية من التعقيد.

ثانيهما: التخطيط للتربية الفكرية من الداخل لتعميق العقيدة من موقع الشعور بالحاجة إلى العمق كنتيجةٍ لتعميق الانتماء إليها على أساسٍ من جدية الإحساس ومسؤولية التفكير في نطاق الشخصية الإسلامية التي تعيش في داخله، وتمتد في حياته. ومن خلال ذلك، نعرف الفرق بين الموقف الذي ترفضه الآية لأنه يسجن الإنسان في نطاق العصبية العمياء، وبين الموقف الذي يشجع عليه الإسلام لأنه يفتح الطريق للالتزام الفكري في نطاق خطّة مدروسة ثابتة.

ــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف، ج:1، ص:328.