الآية 177
الآيــــة
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ باللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(177).
* * *
معاني المفردات:
] الْبِرَّ[ : التوسع في فعل الخير.
] وَابْنَ السَّبِيلِ[ : المسافر المنقطع إذا كان في سفره محتاجاً وإن كان في بلده ذا يسار. قال الزمخشري: وجعل ابناً للسبيل لملازمته له[1].
] وَالسَّآئِلِينَ[ : المستطعمين الطالبين للصدقة. ويعبّر عن الفقير إذا كان مستدعياً لشيء بالسائل.
] وَفِي الرِّقَابِ[ : جمع رقبة، وهي أصل العنق، ويعبّر به عن جميع البدن، يقال: أعتق رقبته، ومنه: ] وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[ [المجادلة:3]، قال الطبرسي: ] وَفِي الرِّقَابِ[ فيه «وجهان: (أحدهما) عتق الرقاب بأن يشتري ويعتق، (والآخر) في رقاب المكاتبين»[2]. وقال الزمخشري: «وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم وقيل: في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل: في فك الأسارى»[3].
] الْبَأْسَآءِ[ : الفقر والشدّة.
] والضَّرَّاءِ[ : المرض والسقم والوجع.
] وَحِينَ الْبَأْسِ[ : وقت القتال وجهاد العدو، فالبأس: الشدّة في الحرب، ورجل ذو بأس: شجاع.
* * *
مناسبة النزول:
جاء في مجمع البيان، في سبب نزول هذه الآية: «لما حوّلت القبلة وكثر الخوض في نسخها، وصار كأنه لا يُراعى بطاعة اللّه إلاَّ التوجه للصلاة، وأكثر اليهود والنصارى ذكرها، أنزل اللّه سبحانه هذه الآية...»[4].
* * *
البر كملمح أساس في الشخصية الإسلامية:
وفي أجواء الآية التي تشير إلى بعض هذا الجوّ، نستوحي ملامح الشخصية الإسلامية في ما ترتكز عليه من فكر وإيمانٍ وممارسةٍ في السلوك الذاتي، وفي العلاقة بالنّاس، وبالمواقف الصعبة في الحياة، وذلك من خلال تحديد طبيعة البر الذي يعني التوسع في الخير والإحسان، كما يذكر أهل اللغة، لأنه يمثّل سرَّ الشخصية لدى المؤمن في ما تنفتح عليه من آفاق التصور، وبما تتحرّك فيه من مجالات عملية.
ولعلّ القيمة في مضمون هذه الآية أنها تجاوزت المفهوم الضيق الذي يتحرّك فيه البر ليرتبط بالجانب العملي للحياة، فانطلقت به ليشمل الجانب الفكري والروحي الذي يحتضن الفكر والإيمان، فيعتبر ـ من خلال ذلك ـ أنَّ في الفكر خيراً وشراً، تماماً كما هو العمل خير وشرّ، بل ربما كان الأساس في البرّ العملي، البرّ الفكري والعقيدي، لأنه هو الذي يعطي العمل دوافعه ونوازعه، وهو الذي يحدّد له مضمونه وطبيعته. ولهذا انطلق القرآن ليحدّد للإنسان شخصيته من خلال تحديد ملامحه الفكرية والعملية، فلم يكتف بالعمل وحده في مجال التقييم بعيداً عن الإيمان، كما لم يكتف بالإيمان بعيداً عن العمل، فبالإيمان والعمل تتكامل الشخصية وتنطلق.
* * *
بين البرّ والإيمان:
] لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ[ لأنَّ قضية النفس الخيّرة لا ترتبط بالشكل بعيداً عن المضمون، فما قيمة الصلاة إلى القبلة، أيّة قبلةٍ كانت، إذا لم تتحرّك من إيمان عميق بأصول الإيمان، ولم تنطلق في حركة الإيمان سبيلاً وغايةً، لأنها إذا لم تكن كذلك، تتحوّل إلى إحساس يطفو على السطح ولا يلامس الأعماق، ما يجعل من الموقف موقف استعراضٍ لا موقف ارتكاز، وبهذا، فليس من الضروري أن يثور هذا اللغط الكثير حول تغيير طبيعة القبلة إلى الشرق أو إلى الغرب، فهي لا تزيد عن أن تكون مجرّد تشريع جزئي كبقية التشريعات الجزئية المتعلّقة بأحكام العبادة في تفاصيلها الخاصة الكثيرة، ومن الطبيعي أن يخضع المؤمنون للتشريع في سلبياته وإيجابياته، فلا يعترضوا عليه في قليل أو كثير إذا أحرزوا انطلاقه من مصدر التشريع وهو اللّه، بل لا بُدَّ من أن يتركز الاهتمام والجدل حول الأسس التي يرتكز عليها البناء الداخلي للنفس البارّة الخيّرة التي تعيش البر موقفاً شاملاً لجميع مجالات الحياة.
ونلاحظ في هذا المجال أنَّ الآية قد غيّرت أسلوبها التعبيري؛ فبينما كان النفي يتجه إلى استبعاد الشكل عن معنى البرّ، نرى الإثبات ينطلق في الحديث عن شخصية البارّ وصفته، للتدليل على أنَّ الإسلام ينظر إلى الفكرة من خلال المفكر، وإلى الخير من خلال النموذج الحيّ المتجسد بالفكرة شكلاً ومضموناً، ليبتعد الجوّ النفسي عن التركيز على المفهوم النظري بعيداً عن الواقع التطبيقي للنظرية، وهذا هو ما نلمحه في تكملة الآية في قوله تعالى: ] وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ[ فلا بُدَّ من الإيمان بالأسس العامة للعقيدة، وهي الإيمان ] باللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[ لأنها تمثّل الحقائق الدينية التي لا يمكن أن يجهلها أو يهملها أيُّ إنسانٍ مؤمن، لأنَّ جميع الرسالات السَّماوية قد قررت ذلك.
* * *
الإيمان العميق قاعدة الشخصية الإسلامية:
وقد لا نحتاج إلى تحليل واسع لنعرف أنَّ هذا الإيمان الذي تعتبره الآية أساساً للبرّ الروحي والفكري، يمثّل الامتداد والحركة في الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم، لأنَّ الإيمان باللّه يتصل بالشعور العميق بانطلاقة الحياة من قوّة حكيمة رحيمة عادلة تخطّط للإنسان حياته كما تخطّط للكون قوانينه، وبذلك يشعر الإنسان بمسؤوليته أمام هذه القوّة الخالقة التي تربي له وجوده، وتنمي له جسده وعقله وروحه، ويعيش الإحساس بارتباطه الدائم باللّه من خلال حاجته المطلقة له في كلّ شيء، وتتساقط أمام هذا الإيمان كلّ مشاعر الانسحاق والضعف والضياع واليأس والفراغ وعدم الانتماء، لأنَّ مثل هذا الإيمان، يملأ في حيويته المتحركة حياة الإنسان بكلّ المفاهيم الإيجابية المضادَّة لتلك المفاهيم السلبية، لما يوحيه من الشعور بأنه يعيش في كون يرعاه خالقه في رحمته وحكمته وقوّته المطلقة، وينتمي إليه كلّ ما فيه من مفردات الوجود.
وبذلك نستطيع أن نقرر أنَّ المؤمنين الذين يعيشون المفاهيم السلبية التي تغرق شعورهم بالضياع والفراغ واللاانتماء، يعيشون في غفلةٍ من إيمانهم ويقعون تحت تأثير أجواء البيئة المنحرفة التي تحتضن هذه المفاهيم. أمّا الإيمان باليوم الآخر، فيُثير في داخله الشعور بالمسؤولية وما يترتب عليها من ثواب أو عقاب، ما يجعل الإنسان واعياً لحياته بشكلٍ أعمق، فلا يعتبرها رحلةً ساذجةً تخضع للمزاج الذاتي وللشهوة الطارئة، بل يراها خطّاً مستقيماً تحكمه بداية المسؤولية ونهايتها في نتائجها العامة والخاصة.
وفي هذا الجوّ من الإيمان ينتفي من داخل الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم الشعور بالعبث في مسار حياته عندما يواجه كثيراً من الأوضاع التي توحي بمثل هذا الشعور إذا انفصلت عن طبيعة النتائج العملية عند اللّه، فيتحوّل الموقف إلى إحساس عميق بالجدية المرتبطة بالهدف في كلّ شيء حوله، وهذا ما تمثّله الآية الكريمة ] أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ[ [المؤمنون:115].
أمّا الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين، فيمثّل الإيمان بالحقائق الروحية التي ترتبط بالغيب من جهة وتواجه الواقع من جهة أخرى، وذلك من خلال التصوّر الإسلامي للموجودات غير المرئية المتمثّلة في الملائكة عندما يشعر بحفيف أجنحتها في وعيه الديني وهو يتصوّرها في حركة دائبة في أجواء السَّماء والأرض، وخضوع مطلق للّه في ما يوكله إليها من مهمات كونية تتصل بالحياة والإنسان، فيتعاظم الإحساس بعظمة التدبير من خلال الأشياء المرئية وغير المرئية، وبروعة هذه الصورة الملائكية التي تمنح الوجود معنى روحياً ينساب فيه انسياب اللطف والرحمة في المشاعر والأعماق.
والإيمان بالكتاب يعني الإيمان بالرسالة الإلهية الواحدة التي تنـزلت في كلّ عهود النبوات، في كتاب واحد بمفاهيمه التوحيدية العامة، وإن اختلفت تفاصيله تبعاً لاختلاف حاجة كلّ عصر إليها. فالوحدة تبقى أساساً للتصوّر الديني في معنى الكتاب و الإيمان به وبالنبيين، كلّ النبيين، منذ آدم حتى محمَّد (ص)، أي الإيمان بوحدة المسيرة في طريق الرسالة الطويلة، فلا اختلاف بين الرسل في الفكر وفي الهدف، لأنَّ الفكرة واحدة، وهي الإيمان باللّه الواحد، والهدف واحد هو الحصول على رضاه في ما يحبه وفي ما لا يحبّه، وهذا ما يحكم الطريق الذي يسيرون فيه، ولكن مراحل الطريق تختلف، ومواقفه تتنوّع، فلا بُدَّ لكلّ مرحلة من رسولها الذي ينسجم مع طبيعتها، ولا بُدَّ لكلّ موقف من دور يجسّده السائر الذي يقود النّاس إليه، وبذلك كانت الفكرة الإسلامية عن الأنبياء فكرة متكاملة من خلال الشعور بأنَّ بعضهم يكمل دور البعض الآخر ولا يعارضه، تماماً كما هي الخطوات المتلاحقة في الدرب الواحد نحو الهدف الكبير.
أمّا اختلاف الأديان الذي يحكم عالمنا هذا، فإنّه يمثّل الخطأ في فهم المرحلة، حيث يُعتبر ما هو مرحلة في طريق الغاية، غاية بذاته.
ويبقى الإسلام في كلّ آياته يجسّد هذه الحقيقة التوحيدية للرسالات، حيث يدعو إلى الإيمان بالكتاب الواحد الذي يجمع الكتب، والإيمان بالنبوّة الواحدة التي تحتضن جميع الأنبياء: ] ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كلّ ءَامَنَ باللّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[ [البقرة:285]. وتظلّ الشخصية الإسلامية مع هذا التصوّر الإيماني بعيدة عن التشنّج إزاء أيّ كتابٍ أو رسول، فكلّها وحي اللّه، وكلّهم رسل اللّه.
* * *
العطاء أحد عناصر الشخصية الإسلامية:
] وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ[ والعطاء، أحد عناصر الشخصية الإسلامية، ونموذج حيٌّ للبرّ العملي، فإذا كان الإنسان يملك المال، فإنَّ الإسلام يعتبر الملكية وظيفة ومسؤولية، لا امتيازاً وشرفاً ذاتياً، ولذلك جعل العطاء سرّ الشخصية، لأنه يعني انفتاحها على آلام الحياة ومشاكلها وحالاتها الصعبة وتطلّعاتها الكبيرة، في محاولة متواضعة، فردية أو جماعية، لإعطاء بعض الحلول وتسهيل بعض الصعاب وتحقيق بعض التطلّعات، في شعور بأنَّ ذلك هو من حقّ الآخرين عليه في ما يتحمله من مسؤولية الآخرين.
وجاءت كلمة ] عَلَى حُبِّهِ[ لتؤكد عمق هذا العطاء في النفس، على أيّ المعنيين كان مرجع الضمير، فإذا أردنا من الحبّ حبَّ اللّه فإنه يمثّل العطاء من أجل اللّه بعيداً عن المنافع الذاتية الطارئة، وإذا أردنا منه «حبّ المال»، فإنه يمثّل العطاء من موقع الانتصار على الذات عندما يبذل الأشياء التي يحبّها ويتعلّق بها فلا يمنعه ذلك من العطاء في سماحٍ ومحبّة.
أمّا الذين يستحقون العطاء، فهم ذوو القربى، لأنَّ صلة الرحم توجب على الإنسان التعبير عنها في أسلوب عملي، وهو أسلوب العطاء الذي يعني المشاركة، واليتامى الذين هم في كفالة المجتمع الإنساني بعد غياب الكافل المباشر لهم، والمساكين الذين لا يجدون الفرصة الكريمة للعيش الكريم فلا يملكون قوت سنتهم قوّة وفعلاً، وابن السبيل الذي انقطعت به الطريق فلم يجد من المال ما يكمل به سفره، وإن كان غنياً في بلده، والسائلين الذين لم يتخذوا السؤال حرفةً ومهنةً، بل انطلقوا به من واقع الحاجة إلى ذلك، وفي الرقاب التي أثقلها الرق وضغطت عليها العبودية، فأراد الإسلام، للذين يجدون المال، أن يصرفوا أموالهم في طريق تحريرها لتعيش الكرامة في الحرية الإنسانية والقانونية.. وتلك هي الفئات المسحوقة التي يعتبر العطاء بالنسبة إليها مسؤولية إنسانية وإسلامية، ليعيش المجتمع في نظام إنساني متوازن طبيعي شامل.
* * *
الصلاة تفجر المعاني الروحية في الإنسان:
] وَأَقَامَ الصَّلاةَ[ فإنَّ الصلاة تفتح قلب الإنسان ووجدانه على اللّه سبحانه، لتشرق في داخله كلّ المعاني الروحية الطاهرة التي تحوّله إلى كائن حيّ، تتفجر مشاعره بالخير، وتنبض بالطهر، وتنطلق أفكاره بالحقّ، فيعيش مع النّاس والحياة، من خلال ذلك كلّه، إنساناً يشعر بمسؤوليته عن النّاس والحياة من خلال انفتاحه على اللّه سبحانه.
* * *
الزكاة عطاء عبادي عملي:
] وَآتى الزَّكَاةَ[ التي تمثّل العطاء من حيث هو عبادة عملية للّه، وقد يلفت النظر أن يذكر اللّه إيتاء الزكاة بعد إيتاء المال على حبّه، وقد يفسّرها البعض بأنها إجمال بعد التفصيل، ولكن الظاهر أنه عموم بعد التخصيص، لأنَّ موارد الزكاة أشمل مما ذكر في الفقرة السابقة، لا سيما إذا فسرنا الزكاة بكلّ الضرائب الشرعية المفروضة، بما فيها الخمس، كما هو رأي البعض من المفسّرين، فإنها تتسع لكلّ سُبل الخير في الحياة.
* * *
العهد ومسؤولية الكلمة:
] وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ[ فإنَّ الوفاء بالعهد الذي يلتزم به الإنسان في نفسه يمثّل الشعور بمسؤولية الكلمة، في صدق الالتزام الداخلي، وفي الوقوف مع العلاقات القائمة على التعاقد موقف الانضباط والاتّزان، وذلك هو سرُّ سلامة المجتمع في العلاقات الخاصة والعامة التي تحكم أفراده، سواءٌ في ذلك العلاقات القائمة على التعاقد الشخصي، أو العلاقات القائمة على التعاقد في نطاق المبادىء العامة والنظام الكلي للمجتمع وللأمّة، ومن الطبيعي للمؤمن أن يخلص لالتزاماته لأنه يعتبرها مظهراً حيّاً من مظاهر إيمانه باعتبارها عهداً وميثاقاً بينه وبين النّاس أمام اللّه.
* * *
الصبر أساس تماسك الشخصية وثباتها:
] وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ[ وهي حالة الضيق والفقر، ] والضَّرَّاءِ[ ، وهي حالة المرض والألم، ] وَحِينَ الْبَأْسِ[ حالة الحرب، فإنَّ الصبر، كما ورد في بعض الآيات، هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، كما جاء في حديث الإمام عليّ (ع)[5]. وهو العنصر الأساس في تماسك الشخصية وثباتها أمام التحدّيات، ولا سيما التحدّيات التي تواجه الإنسان في عقيدته والتزامه بالخطّ العملي الإيماني في الحياة، فإنَّ الضعف الذي يقود إلى الجزع والانهيار في الموقف قد يقود إلى الانحراف، ويبعث على الاهتزاز، ويدفع بالتالي إلى إعطاء صورة مشوّهة عن طبيعة المجتمع المؤمن في قوّته وصموده، ما ينعكس سلبياً على صورة الإيمان نفسه في نفوس الآخرين.
وقد يتساءل عن الوجه في نصب كلمة: ] وَالصَّابِرِينَ[ مع أنها معطوفة على كلمة: ] وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ[ ما يفرض الرفع فيها؟
وأجاب صاحب مجمع البيان على ذلك فقال: «وأمّا قوله: "والصابرين" فمنصوب على المدح أيضاً، لأنَّ مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها بالمدح أو الذم ليميّزوا الممدوح أو المذموم، وتقديره: أعني الصابرين. قال أبو علي: والأحسن في هذه الأوصاف التي انقطعت للرفع من موصوفيها والمدح أو الغض منهم والذم، أن يخالف بإعرابها ولا تجعل كلّها جارية على موصوفيها، ليكون ذلك دلالة على هذا المعنى وانفصالاً لما يذكر للتنويه والتنبيه، أو النقص والغضّ مما يذكر للتخصيص والتمييز بين الموصوفين المشتبهين في الاسم المختلفين في المعنى»[6].
* * *
الصدق من لوازم الإيمان:
] أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا[ في عقيدتهم وفي كلماتهم، وفي التزاماتهم، وفي علاقاتهم، وفي مواقفهم العملية في الحياة، وفي مواجهتهم لقضايا الحاضر والمستقبل في ما يؤيدون وفي ما يرفضون وفي ما يتحرّكون على المدى الطويل في حياة الفرد والمجتمع والأمّة كلّها، فإنَّ الإيمان هو صنو الصدق، لأنَّ الإيمان يرتبط بالحقّ، والصدق يجسّد الحقيقة، ولهذا ورد في بعض الكلمات المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع)، بأنَّ المؤمن قد يكون جباناً أو بخيلاً ولكنَّه لا يكون كذّاباً. وقد ورد في كلمات أخرى، أنَّ طريق اختبار الإيمان هو النظر إلى صدق الإنسان في كلماته. ولذلك جاءت هذه الصفة لتكون أساساً للشخصية الإسلامية الصادقة.
وربما كان اختصار كلمة الصدق لكلّ تلك الصفات انطلاقاً من أنَّ حركة هذه الصفات المتصلة بالجانب الإيماني والعملي، كانت نتيجةً للجدية التي تفرضها الشخصية الإسلامية في انفتاحها على الحقيقة في الفكر والسلوك بحيث يكون الموقف متطابقاً مع الخطّ المستقيم في دائرة الحقّ، وذلك هو سرّ اتصاف الشخصية في هؤلاء بكلمة الذين صدقوا. واللّه العالم.
* * *
المتقون هاجسهم رضى اللّه دوماً:
] وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[ الذين يخافون اللّه ويخشونه بالغيب، فتتحوّل خشيتهم له إلى خطّ عملي في حياتهم وفي دوافعهم، فيقفون عند ما حرّم اللّه عليهم من مال حرام، أو أكل حرام، أو شرب حرام، أو لعب حرام، أو عرض حرام، أو علاقة محرّمة، أو غير ذلك مما نهى اللّه عنه، ويندفعون بالتزام مؤكّد في ما فرضه اللّه عليهم وألزمهم به من الواجبات في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم في البيت وفي العمل وفي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فيخلصون للّه في ذلك كلّه، ولا يستسلمون لشهواتهم وأنانياتهم، وأطماعهم بل يبقى رضى اللّه هو الهاجس الدائم الذي يعيش في داخل نفوسهم، يقظة في الضمير، والتزاماً في القلب والفكر، وانضباطاً في الخطى العملية في الحياة.
تلك هي عناصر الشخصية الإسلامية التي تمثّل الخير كلّه في مجال الفكر والعمل. وتلك هي الأسس الثابتة التي تنطلق من خلالها قضايا الحياة الخيّرة في كلّ تطلّعات الإنسان وتوجهاته في حركة الحياة.
ــــــــــــــــ
(1) تفسير الكشاف، ج:1، ص:330.
(2) مجمع البيان، ج:1، ص:477.
(3) تفسير الكشاف، ج:1، ص:331
(4) مجمع البيان، ج:1، ص:475.
(5) يقول الإمام علي(ع): "وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه". [نهج البلاغة، قصار الحكم/82].
(6) مجمع البيان، ج:1، ص:474 ـ 475.
تفسير القرآن