تفسير القرآن
البقرة / من الآية 178 إلى الآية 179

 سورة البقرة الآية 178-179
 

الآيتــان

{يـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أليم* ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتقون}(178ـ179).

* * *

معاني المفردات:

] كُتِبَ[ : فرض، وأصل الكتابة: الخطّ الدال على معنى، فسُمّي به ما دل على الفرض، قال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرّ الذيول

] الْقِصَاصُ[ : يُقال: قصّ أثره: أي تلاه شيئاً بعد شيء، ومنه: القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه. وقيل: أن يفعل بالثاني مثل ما فعله بالأول مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئاً بعد شيء.

] الْحُرُّ[ : نقيض العبد، والحر من كلّ شيء أكرمه.

] عُفِيَ[ : العفو: الترك، عفت الدار: تركت حتى درست، والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها، وقيل: معنى العفو ها هنا: ترك القَود بقبول الدية من أخيه.

] أَخِيهِ[ : الأخوة إذا كانوا ينتسبون لأب، أو لأم.

] وَأَدَآءٌ[ : التأدية تبليغ الغاية.

* * *

 

في القصاص حياة:

في هذا الفصل من القرآن، نلتقي بالجوّ التشريعي الذي بدأه القرآن في هذه السورة ليشرع للنّاس الأحكام التي تتصل بحياتهم العامة في الواقع الجنائي وفي واقع العلاقات المتنوّعة التي تحكم تصرّفاتهم تجاه أنفسهم، وتجاه ربهم، وتجاه غيرهم من الذين يرتبطون بهم في الحياة.

فمن هذه الأحكام حكم القصاص، الذي تعرّضت له هذه الآية في موضوع جناية القتل، التي تُعتبر من الجرائم الكبيرة في حياة النّاس لأنها تمثّل الاعتداء على الحياة، وبذلك كانت تشكل خطراً عظيماً على مسار الوجود الإنساني، ما جعل من قضية معالجتها ومواجهتها قضية حيوية في مجالات النظرة الواقعية للمشكلة في إطار التشريع، ليمكن من خلالها المحافظة على سلامة الفرد والمجتمع.. فكان القصاص هو العلاج الحاسم للجريمة من وجهة النظر الإسلامية، كحقّ يملكه وليّ المقتول، فله أن يقتل القاتل جزاءً على جريمته، وله أن يعفو عنه في مقابل الدية التي يدفعها إلى أولياء المقتول، وله أن يعفو عنه بدون مقابل. ويلتقي الجانب التفسيري بنقطتين:

* * *

التماثل في القصاص هل يؤكد الطبقية؟

1 ـ إنَّ الآية قد أكدت أن القصاص يعتمد على قاعدة التماثل، فالحر يقتل بالحر، والعبد يقتل بالعبد، والأنثى بالأنثى، لأنَّ ذلك ما ترتكز عليه القاعدة الإسلامية في التماثل في الاعتداء ورد الاعتداء بمثله. وربما تكون القضية مرتكزة على أنَّ النّاس عندما تختلف أوضاعهم القانونية تبعاً لاختلاف صفاتهم الجسدية أو المعنوية، فإنَّ ذلك يفرض الاختلاف في تقييم العقوبة، وإلاَّ كانت القضية تمثّل إلغاءً للاختلاف في الوضع التشريعي القانوني، وليس معنى هذا التأكيد على الطبقية في القصاص، لأنَّ هذا ليس وارداً في الحساب، فإنَّ الغني يقتل بالفقير والشريف يقتل بالحقير، والقوي يقتل بالضعيف، أمّا الحرية والعبودية والذكورة والأنوثة، فإنَّ لها أحكاماً خاصة في التشريع، فلا بُدَّ من مراعاتها في هذا الجانب، ففي مثل الرّجل إذا قتل المرأة، يمكن لأولياء المرأة القتيل أن يقتلوا الرّجل بها مع دفع نصف ديته انطلاقاً من مبدأ التصنيف في القضايا المالية في موضوع الرّجل والمرأة، وكذلك الحر إذا قتل العبد، فإنه يمكن أن يقتل به إذا كان ذلك أمراً معتاداً له، ولسنا، هنا، في مجال التفصيل الفقهي لهذه الأحكام، ولكنَّنا في مجال الإشارة إلى طبيعة التركيز على المماثلة لدى من يقول بها من المسلمين، فقد نجد في بعض الاجتهادات الإسلامية من لا يقول بها استناداً إلى اعتبار هذه الآية منسوخة بالآية الكريمة: ] وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّه فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ [المائدة:45].

حيث لم يفصّل بين حر وعبد وذكر وأنثى، ولكن هذا الرأي قابل للمناقشة، وسنتعرّض له في تفسيرنا لتلك الآية إن شاء اللّه تعالى.

2 ـ إنَّ الآية تؤكد إفساح المجال للعفو عن القاتل من قبل وليّ المقتول، وتعتبر العفو ملزماً له في نطاق العلاقة المرتكزة على المعروف والوفاء بالحقّ الذي يتمثّل بالدية ليؤدي إليه بإحسان، فلا يجوز له العودة إلى المطالبة بحقّه بالقصاص، لأنَّ الحقّ قد سقط بالعفو فلا يرجع من جديد، فإذا عاد ولي القتيل للانتقام فإنه يعتبر قاتلاً معتدياً، ويستحق العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.. وتشير الآية الكريمة إلى أنَّ تشريع العفو في موقع تشريع القصاص، تخفيف من اللّه لعباده، ورحمة بهم، حيث لم يحصر التشريع في زاوية ضيقة لا يملك الإنسان معها أمر التحرّك بمرونة.

* * *

بين القصاص والعفو:

] يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى[ فقد فرضه اللّه عليكم قانوناً يحفظ لكم حياتكم ليخلصكم من شريعة الغاب التي تتحوّل الحياة معها إلى فوضى لا يأمن الإنسان فيها على حياته، أو يعيش النّاس فيها بعيداً عن الضوابط القانونية في شريعة الأخذ بالثأر، التي قد يقتل فيها أولياء المقتول عدداً كبيراً من النّاس، لا سيّما إذا كان المقتول شريفاً في الموقع الاجتماعي، وكان القاتل وضيعاً، حيث لا يرضى الأولياء بأن يكون القاتل بدلاً من القتيل، وربما أدّى الواقع غير المتوازن إلى حروب طاحنة بين القبائل يسقط فيها الكثير من القتلى، الأمر الذي يجعل إيجابيات هذا التشريع أكثر من سلبياته، بينما تكون السلبيات في إهماله وإلغائه كبيرة جداً، فلا تمثّل الإيجابيات أمامها شيئاً.

ولا بُدَّ في القتل الذي يستوجب القصاص من أن يكون عمداً، بحيث يقدم القاتل عليه قاصداً له، سواء كان قاصداً للفعل القاتل والقتل، أو كان قاصداً للفعل القاتل وإن لم يقصد القتل بعنوانه، كمن طعن إنساناً في قلبه ولكنَّه لم يقصد قتله، فإنَّ طبيعة السبب القطعي للموت تمثّل قصداً للقتل بشكل ذاتي من خلال ما يختزنه الفعل من علاقة السبب بالمسبب.

] الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ[ ، فهذا هو الخطّ القانوني الذي يراعي التماثل في الخصوصيات الإنسانية بحسب التعدّد في مفردات التشريع وخطوطه في هذا الجانب بعيداً عن المسألة الطبقية أو الانتقاص من إنسانية الإنسان في معناه الإنساني، ] وَالأنثَى بِالأنْثَى[ فالمرأة تقتل بالمرأة، وفي الآية إيحاء خفي بأنَّ الحر لا يقتل بالعبد، وأنَّ الرّجل لا يقتل بالمرأة، ولكنَّه ليس صريحاً في ذلك، ولهذا انطلق بعض المفسّرين ليستفيدوا حكم التخالف في الصفة، في الحرية والعبودية والذكورة والأنوثة من أدلة أخرى من السنّة أو الإجماع، وقد نقل الخلاف فيه بين المسلمين، فقال مالك والشافعي وابن حنبل إنَّ الحر لا يقتل بالعبد. وقال أبو حنيفة: بل يقتل الحر بعبد غيره ولا يقتل بعبده، واتفق الأربعة على أنَّ الرّجل يقتل بالمرأة وبالعكس، وقال الإمامية: إذا قتل الحر عبداً لا يقتل به، بل يضرب ضرباً شديداً، ويغرم دية العبد، وإذا قتلت المرأة رجلاً عمداً كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية إن رضيت هي، وبين أن يقتلها، فإن اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئاً وإذا قتل الرّجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية إن رضي القاتل وبين أن يقتله الولي، على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرّجل خمسمائة دينار.

] فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ[ وهذا هو السلوك البديل الذي شجع عليه القرآن بطريقة الإيحاء، وهو عفو صاحب الحقّ عن حقّه من موقع قدرته ـ من خلال التشريع ـ، ليكون من باب العفو عند المقدرة، باعتبار أنَّ القضية إذا انطلقت من اختيار أولياء الدم فإنها لا تضعف الهدف، ولا تلغيه، على أساس انطلاقه من تأكيد المبدأ، في الوقت الذي يمكن للعفو أن يحقّق نتائج إيجابية في المسألة الاجتماعية، وفي القيمة الأخلاقية التي ترتفع بصاحب الحقّ إلى مستوى الإنسان الذي يملك القوّة الروحية في الانتصار على نوازعه الذاتية أو العائلية، فيتحرّك للانفتاح على القاتل من موقع المحبة الإنسانية التي تتجاوز الجريمة لتتذكر أخوّة هذا الإنسان من الناحية الإيمانية مما يوحي به التعبير بكلمة ] أَخِيهِ[ في الآية، لتكون النتيجة عفواً بدون بدل، وهذه هي قمة العطاء والسمو الروحي، أو المطالبة بالدية، وهي تمثّل التعبير عن هبة الحياة للقاتل بعد أن ملكها وليّ الدم في التشريع، والاكتفاء بالتعويض عمّا لحق به من خسارة من جهة، وإيجاد بديل واقعي يمتصّ المشاعر السلبية من جهةٍ أخرى، لينطلق الصلح من خلال الواقعية الذاتية الإنسانية.

وقد أراد اللّه لمن عليه الحقّ أن يؤدي الحقّ من دون مماطلة ولا تعقيد، ليتحسس المعروف في العفو عنه وينطلق الأداء بإحسان، كما ينبغي لمن يملك الحقّ أن لا يُعسر أخاه إذا كان قد اتفق معه على الدية، وقد جاء هذا التفسير في رواية الكافي عن الحلبي عن الصادق (ع) قال ـ أي الحلبي ـ: «سألته عن قول اللّه عزَّ وجلّ: ] فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ[ قال: ينبغي للذي له الحقّ أن لا يُعسِرَ أخاه إذا كان قد صالحه على دية، وينبغي للذي عليه الحقّ أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي إليه بإحسان»[1].

] ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ[ والإشارة إلى تشريع العفو بدلاً من القصاص، فقد أراده اللّه تخفيفاً على النّاس، فلا ينغلقوا على الأخذ بحقّهم في قتل القاتل بعيداً عن التسامح والعفو اللذين قد يفتحان للإنسان أكثر من نافذةٍ على الحلول الهادئة السلمية التي تنزع عن النفس كلّ المؤثرات السلبية في عملية احتواء لكل الآثار النفسية المؤلمة، لتلتقي الأوضاع الاجتماعية بالطريقة الحكيمة التي يتخفف فيها الإنسان من ذاتيات الألم والانتقام في شخصيته، وذلك هو التخفيف الإلهي من حدّة الحل الحاسم ] وَرَحْمَةٌ[ لهم في هذا الأسلوب الرحيم في العفو، واستبدال القتل بالتعويض المادي، والاكتفاء به عن العنف القاسي. ] فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ ربما كان ذلك حديثاً عمّا كان يفعله بعض أهل الجاهلية في الانتقام من القاتل بقتله بعد العفو وأخذ الدية، حيث يجمعون بين التعويض المادي والقصاص الجسدي كتعبير عن الثأر المزدوج الذي يؤكد عنفوان وليّ الدم وإخلاصه للقتيل ضدّ القاتل وأهله، ليكون ذلك انتقاماً منه ومن أهله، ما يحقّق لهم شفاء الغيظ بأعمق المشاعر الداخلية. وهذا يمثّل حالة من حالات الاعتداء على النفس كما لو كان عدواناً ابتدائياً، لأنَّ العفو الذي يرتكز الصلح عليه مع الدية أو بدونها يمثّل محو آثار الجريمة واعتبارها شيئاً لا امتداد له في المستقبل في آثاره المضادة على طريقة ردّ الفعل، ما يجعل من هذا القتل عدواناً غير مسبوق بشيء، فلولي الدم قتله قصاصاً، أو العفو مع الدية أو بدونها.

] وَلَكُمْ[ أيها النّاس ] فِي الْقِصَاصِ[ الذي يجتثّ جذور الجريمة من عمق النفس المفجوعة في الحالة الشعورية التي تتطلب الثأر وتستسقي الدم، لتقتصر على التنفيس عن مشاعرها بقتل القاتل وعدم تجاوزه إلى غيره، وليكون ذلك عملية ردعٍ لكلّ من تسوّل له نفسه أن يقوم بجريمة جديدة ضدّ إنسان جديد عندما يجد أن التشريع يفسح في المجال لوليّ الدم أن يقتص منه، وليحمي المقتص من أيّ أثر سلبي.

وهذه هي الوسيلة المثلى للسيطرة على الجريمة المستقبلية التي يختزنها الواقع الاجتماعي في تعقيداته الفردية والاجتماعية بشكل جنينيّ، من دون أن يكون المال أو السجن كافياً في تحقيق ذلك.

] حَيَاةٌ[ من خلال حصول الحياة على رصيدٍ كبير في المستقبل الإنساني، حيث يغلق على الموت العدواني أبواب النوازع الذاتية في حرية الحركة للعدوان، ما يفسح في المجال لامتداد الحياة بشكل طبيعي حتى يكون قتل القاتل بمثابة المنتج للحياة التي لولا ذلك لماتت وسقطت تحت تأثير الجريمة المرتقبة.

إنها العملية الجراحية التي تستأصل العضو الذي يشكل الخطر على الحياة، لتمتد الحياة من خلاله، ولو ببعض النقصان في مفردات الواقع، ] يا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ أي يا ذوي العقول الذين لا تفكرون بعواطفكم ومشاعركم، بل تفكرون بعقولكم التي تدفعكم إلى الدخول في عملية الموازنة والمقارنة بين المصالح والمفاسد في الجوانب السلبية والإيجابية.

* * *

القصاص في خطّ سير الديانات:

ولم يكن هذا الحكم بالقصاص، حكماً إسلامياً في خطّ سير الديانات، بل هو حكم ديني تلتقي فيه كلّ الديانات، وقد جاء القرآن ليحدّثنا في آيات أخرى أنَّ هذا التشريع من أحكام التوراة، وذلك في قوله تعالى:

] وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّه فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ [المائدة:45].

وقد أعطى الفكرة حجمها الطبيعي في تعليقه على قصة ابني آدم قابيل وهابيل في قوله تعالى: ] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النّاس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النّاس جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ[ [المائدة:32].

فقد نستوحي منها أنَّ القاعدة التي تحكم التشريع هي إبعاد الحياة عن مواقع الخطر؛ فلا مجال للتلاعب بالحياة كمبدأ، وذلك بالمستوى الذي يجعل الاعتداء على حياة الفرد اعتداءً على حياة النّاس كلِّهم، لأنه يمثّل الاعتداء على المبدأ، فلا فرق في قيمة الحياة وقدسيتها بين فرد وآخر، كما أنَّ الحفاظ على حياة الفرد يمثّل في القيمة المحافظة على حياة النّاس جميعاً، لأنه يمثّل احترام الحياة كمبدأ ما يؤدي إلى امتداده في حياة الآخرين.

أمّا المسيحية فقد يخيّل للبعض أنها لا تعترف بالقصاص كمبدأ، بل إنها شرعت بدلاً منه العفو والتسامح، فقد ورد عن السيِّد المسيح (ع) أنه قال: «من ضربك على خدِّك الأيمن فأدِرْ له خدَّك الأيسر»، وقد نقل بعض المفسّرين أنَّ النصرانية قد فرضت الدية كفريضة حتمية بدلاً من القصاص.

* * *

موقع العفو في المفهوم المسيحي للتشريع:

ولكن هذه النسبة غير دقيقة في ما نظنّ، لأنَّ الحديث عن التسامح والعفو في المسيحية لم ينطلق ليكون قاعدة وحيدة في التعامل الاجتماعي مع الجريمة والمجرمين، بل انطلق من أجل أن يخفف الجوّ القانوني المادي الذي سار عليه النّاس في ذلك العصر الذي رافق إرسال السيِّد المسيح، فاعتبرت العلاقات القائمة بين النّاس خاضعة للعوامل الذاتية التي لا تجد في الساحة أي أساس روحي للتنازل عن الحقّ، لأنَّ المقاييس الروحية لم تكن واردة في حساب العلاقات الخاصة والعامة، كما حدّثنا القرآن في أكثر من حديث عن واقع بني إسرائيل، فكانت شريعة التسامح تحاول أن لا تجعل الإنسان ذاتياً في المطالبة بحقوقه، فلا تكون القيمة كلّ القيمة أن يأخذ الإنسان بحقّه، سواء في ذلك الميزان الفردي أو الاجتماعي، بل تريد التأكيد على أنَّ القيمة الروحية الكبرى هي أن يتنازل عن حقّه ليتحقّق للإنسان التوازن الداخلي والعملي بين أسلوب المطالبة بالحقّ من خلال كون الشريعة مرتكزة على أساس تشريع الحقّ القانوني، وبين أسلوب التنفيذ للحقّ، من خلال اعتبار التسامح قيمة روحية في حساب علاقة الإنسان باللّه والإنسان. ولا تختلف المسيحية في هذا عن الإسلام الذي شرّع الحقوق في جميع المجالات الإنسانية للعلاقات العامة والخاصة، ولكنَّه قرن ذلك بالدعوة إلى التسامح والعفو والصبر، معتبراً ذلك خيراً وأقرب للتقوى.

* * *

النظرة الخاطئة إلى الدِّين اليهودي والمسيحي:

ومن هذا المنطلق، نريد أن نشير في هذا الاتجاه إلى رفض التحليل الذي يتحدّث به بعض الكتاب الإسلاميين عن اعتبار اليهودية قريبة إلى المادية في التشريع في مقابل اعتبار النصرانية قريبة إلى الروحية في المفهوم، ليخلص من ذلك إلى الحديث عن عظمة الإسلام، لأنه حقّق التوازن التشريعي والمفهومي والعملي بين المادة والروح، فلم يَمِلْ إلى أحدهما أكثر من الآخر، انطلاقاً من واقعية الإنسان الذي كان كيانه مزيجاً من المادة والروح.

إننا نرفض هذا الاتجاه التحليلي في تقييم الديانات، لأننا نلاحظ في حديث القرآن عن الرسالات السابقة أنها تسير في خطّ واحد من ملاحظة مصلحة الإنسان، وذلك من خلال التركيز على علاقته باللّه التي تمثّل الجانب الروحي الذي يلتقي في نطاقه بالإنسان في جانبه المادي، فلا يبتعد أحدهما عن الآخر في قليل أو في كثير. وقد نستفيد ذلك من الآية الكريمة التي يقدّم اللّه إلينا فيها صورة عيسى بن مريم (ع) في بيانه الذي قدّمه إلى بني إسرائيل في بداية رسالته: ] وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَني إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ[ [الصف:6].

وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ] وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّه وَأَطِيعُونِ[ [آل عمران:50].

فإنَّ هاتين الآيتين تؤكدان على أنَّ النصرانية لم تأتِ لتنسخ الخطّ العام الذي ارتكزت عليه شريعة التوراة، بل تحرّكت في اتجاه إقرارها بشكل عام مع بعض الاستثناءات في جانب التحليل والتحريم مما اقتضاه التطوّر الزمني لمواجهة المشاكل المستجدة مما لم يعد التشريع فيه عملياً في مستوى الحل الواقعي للأشياء.

وقد نستطيع استيحاء الفكرة التي قررناها في شمولية هذا التشريع لكلّ الديانات من خلال الآية الكريمة التي أرادت أن تفلسف التشريع بالتأكيد على قيمة الحياة في جانبها السلبي والإيجابي، فإنَّ مثل ذلك لا يختص بزمان أو بمكان، بل إنه يشمل الحياة كلّها، فلا بُدَّ منه في كلّ موقف يُراد من خلاله تعميق الإحساس بقيمة الحياة في الجانب الفكري والعملي من حياة الإنسان، وفي ضوء ذلك لا نستطيع الموافقة على أنَّ النصرانية تكتفي بالدية فلا تتجاوزها إلى القصاص، لأنَّ الدية لا تنسجم مع تقرير مبدأ احترام الحياة كحل للمشكلة، بل يمكن أن تكون كما شرّعها الإسلام بديلاً عن القصاص في مجالات العفو والتسامح، لا بديلاً مطلقاً في كلّ الأحوال.

وقد يتحدّث البعض عن وجود هذا التشريع في غير الديانات من الشرائع التي كانت مطروحة لدى بعض الشعوب، كشريعة حمورابي وغيره، ولكنَّنا لا نستبعد أنَّ كثيراً من تلك الشرائع كانت مستمدة من الرسالات السَّماوية التي حدّثنا القرآن أنها كانت السبّاقة في معالجة قضايا الإنسان ومشاكله العامة والخاصة.

* * *

فلسفة التشريع في القصاص:

ونحن هنا، في حركة التفسير، نريد دراسة التشريع في الإطار الإسلامي، من خلال امتداده في الحياة، هل هو من التشريعات الصالحة للحياة، مع التطوّرات الجديدة التي طرأت على أساليب العقوبات، وعلى تطوّر الحياة في مواجهة العلاقات الاجتماعية والتكوين الجديد للمجتمعات، أم أنه من التشريعات التي تجاوزها الزمن فلم تعد صالحة لمعالجة مشاكله المتنوّعة المعقدة؟

ربما يحتاج الجواب إلى مزيد من التفصيل والتبسيط في آن.

لا بُدَّ لنا عند دراسة أي حكم شرعي، من الانطلاق من نقطة أساسية؛ وهي أنَّ التشريعات الإسلامية لا تتحرّك من قاعدة القيم التي تعيش في السَّماء، بعيداً عن الأرض، لأنَّ الإسلام ليس ديناً مثالياً يطرح القيم العليا والأهداف الكبيرة التي يتطلّع إليها النّاس وهم مسحورون بها من دون أن يستطيعوا الاقتراب منها فضلاً عن الوصول إليها، تماماً كأية لوحة فنية لا يملّ الإنسان من التطلّع إليها والتحديق بها في وقفة جمالية رائعة، بل هو دين يتحرّك من قاعدة القيم التي تعيش في الأرض في ساحة الواقع الإنساني الذي يتعامل مع الإنسان كبشر يملك في داخله الكثير من الغرائز والشهوات والعناصر المتضادة، لا كملاك يحلق في أجواء الروح المتحرّكة في نطاق التجريد والمجردات.

إنه يتعامل معه كبشر ليقرّبه من أجواء الملاك من دون أن يفقده خصائص بشريته، ليبقى يعيش مع الأرض حتى وهو يتطلّع إلى السَّماء، وإذا كانت الأرض ليست سماءً، وإذا كان الإنسان يعيش في الأرض، فلا بُدَّ للتشريع من أن يكون للأرض لا للسَّماء، وبذلك فلا بُدَّ له من أن يتأثر في طبيعة تكوينه بمراعاة النوازع الأرضية في طبيعتها المادية، وملاحظة الأساليب الواقعية في الوصول بالإنسان إلى القيم الروحية.

تلك هي النقطة التي ينبغي لنا أن نواجهها في فهم التشريع؛ وهي النـزعة الواقعية في طبيعته وحركته، التي تواجه الإنسان من موقع نقاط الضعف ونقاط القوّة.

وفي ضوء هذا، نتحرّك في اتجاه معالجة الجريمة في شريعة القصاص، فنبدأ، أولاً، في تقديم الصورة التوضيحية، وذلك بأن نتصوّر مجتمعاً لا قصاص فيه، فنجد القتلى تتساقط كنتيجة لعقدة أو نزوة أو مزاج أو خلاف طارىء، ويقف المجتمع جامداً أمام القاتلين ليحمي لهم حياتهم، فلا يُمكِّن أحداً من الاعتداء على حياتهم، بل يكتفي المجتمع بالسجن والغرامة وغير ذلك، كما تفعل بعض المجتمعات الأوروبية التي ألغت عقوبة الإعدام. إننا نريد أن نتصوّر هذا المجتمع، ونتصوّر إلى جانب ذلك، أنَّ المجتمع يريد أن يضمن حياته وسلامته ونظامه، فهل يستطيع تحقيق هذا الضمان بإلغاء عقوبة الإعدام أو بتثبيت هذه العقوبة وتأكيدها؟.

إنَّ الجواب ـ في نظرنا ـ هو في التأكيد على النقطة الثانية من السؤال، وهي اعتبار الإعدام للقاتل أساساً لمنع الجريمة، وذلك من دون حاجة إلى فلسفة فكرية مجرّدة، بل يكفي لأجل ذلك القيام بعملية مسح ميداني للجريمة في حياة النّاس، وذلك من خلال القيام بعملية استقرائية لتبيّن الأمر.

* * *

عقوبة الإعدام ودورها في تخفيف الجريمة:

من الناحية الاستقرائية، نلاحظ أن البلدان التي تطبق عقوبة الإعدام، تمنع الجريمة في مجتمعاتها بنسبة كبيرة جداً قد تقارب المئة في المئة، في الوقت الذي قد تكون متخلّفة أو بدائية في ثقافتها أو في نظامها، بينما نجد بلداناً أخرى بلغت الحدّ الأعلى من الحضارة والرّقيّ في المقياس العام المعاصر، وشرّعت إلغاء عقوبة الإعدام، ومع ذلك لا تزال ترزح تحت عبء الجرائم اليومية التي تتصاعد وتتنوّع باستمرار في دوافعها الذاتية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد نلاحظ في هذا المجال، أنَّ القضية قد تتطوّر إلى الحياة العامة للمواطن من خلال اهتزاز حالة الأمن جرّاء نموِّ الجريمة التي تصاعدت كنتيجة واقعية لشعور المجرم بالأمن، فنجد الإنسان لا يستطيع التجول في بعض الساعات في بلد مثل أميركا إلاَّ إذا كان مسلحاً أو خاضعاً لحراسة مشدّدة، بينما نجده يشعر بالأمن المطلق في بلدان متخلّفة كبلدان الخليج التي تطبق عقوبة الإعدام بنسبة جيدة.

إننا نضع أمامنا مجتمعاً متحضراً ومتقدّماً في أرقى مجالات التقدّم المعاصرة، ومضموناً بكلّ أنواع الضمان الصحي والاجتماعي والثقافي وغير ذلك، ونضع إلى جانبه مجتمعاً متخلّفاً بدائياً لا يملك الفرد فيه أي نوع من أنواع الضمان، ثُمَّ نجد الجريمة تتسع في المجتمع الأول حتى تصل إلى مستوى الكارثة، مع إلغاء عقوبة الإعدام، ونجدها تتقلص في المجتمع الثاني وهي لا تصل إلى أي مستوى مهما كان متدنياً على أساس تنفيذه لعقوبات الإعدام. فماذا يفسر لنا ذلك؟

* * *

الإنسان عقل وإرادة:

أمّا من الناحية الفكرية التي تنفذ إلى دراسة الإنسان من موقع إنسانيته الواقعية، فنلاحظ أنَّ الإنسان ليس مخلوقاً على أساس هندسي في عواطفه ومشاعره وأفكاره ونوازعه، كما هو الحيوان الأعجم الذي خلق اللّه له غرائز منظمة بشكل دقيق لا يملك فيه أي لون من ألوان الاختيار في أغلب الحالات، بل إنَّ الإنسان مخلوق على أساس ما لديه من غرائز وشهوات متحرّكة متنقلة في أكثر من اتجاه، بحيث يستطيع أن يوسعها ويضيقها ويعمقها، ما يجعل منه مخلوقاً معقداً في أغلب القضايا، فإذا كان الإنسان كذلك، فما الذي يحتاجه لكي ينطلق في الحياة ويمارس عملية الانضباط في انطلاقته تلك؟.

إننا نشعر بحاجته إلى عنصرين؛ هما العقل والإرادة، ولا بُدَّ للعقل من العلم والتجربة والمعاناة، ولا بُدَّ للإرادة التي تحوّل الفكر إلى ممارسة من تربية داخلية وخارجية. فإنَّ من الملحوظ أنَّ المجتمع يحتاج إلى جهد كبير في هذا السبيل، لأنَّ حركة الإرادة ترتبط بالحرمان الذي يحتاج الفرد إلى أن يتحمّله، وتلتقي بالصعوبات التي يواجهها، وبالتحدّيات التي تواجهه، وبكثير من المشاكل التي تتجمع في أجواء العمل، ما يسبب للإنسان الكثير من الجهد والمشقة والتعب، فلا بُدَّ من التربية الطويلة المستمرة التي تدفعه إلى أن يقف المواقف الصعبة التي ترفضها نفسه، وذلك بالتركيز على العامل الداخلي الذي يوحي للذات بالمفهوم في نطاق القيمة، لتكون القيمة عنصراً ذاتياً تندفع الذات إليه بعفوية وبساطة في حركة تلقائية، وليكون ذلك بمثابة القاعدة النفسية التي تلتقي فيها العاطفة بالفكر.

* * *

لا بُدَّ للإرادة من العوامل الخارجية:

ولا بُدَّ ـ بالإضافة إلى ذلك ـ من العامل الخارجي الذي يحمي الإرادة من نقاط الضعف الداخلية، لأنَّ الإنسان قد يستسلم إلى حالات الضعف التي تهزم إرادته في مجالات الصراع، في ما لو ترك الإنسان لمفاهيمه بعيداً عن النتائج السلبية والإيجابية التي تترتب عليها.

ومن هنا، كان للثواب والعقاب دور كبير في إيجاد الضوابط الفردية والاجتماعية ضدّ الانحراف، سواء منه الثواب والعقاب في الإطار الاجتماعي من خلال التقاليد الضاغطة على الفرد التي قد توقف الإنسان عند حدّ معيّن من السلوك في حالة توجه الإرادة إلى الانحراف لأنه يخاف من سطوة المجتمع، أو ما كان منهما في الإطار القانوني في ظلّ سيطرة القانون، أو في الإطار الأخروي في ظلّ ثواب اللّه وعقابه، وذلك باعتبار أنَّ المفاهيم والقيم المعنوية قد تسقط أمام نوازع الذات الداخلية، أو مطامعها الخارجية، فتأتي الضوابط الاجتماعية والقانونية والأخروية لتحفظ الإرادة من الانسحاق والانهيار في مواطن الضعف، لأنها تخلق في داخل النفس جوّاً داخلياً وخارجياً يفسح لها المجال الطبيعي للنمو والقوّة والحركة، ولا فرق في الحاجة إلى ذلك بين الشعوب المتخلّفة والشعوب المتحضرة، لأنَّ التخلّف والتحضر لا يختلفان في هذا المجال، وإنما يختلفان في طبيعة الوعي للحياة والحركة، وفي أسلوبهما العملي. أمّا الانحراف، وأمَّا الجريمة والضعف الذاتي، فإنهما يلتقيان فيه ولكن بأسلوب مختلف.

فللحضارة أساليبها المتقدّمة في الانحراف وفي الجريمة، وللتخلّف أساليبه البدائية في ذلك، وقد يختلفان في طبيعة مواطن الانحراف تبعاً لحاجتهما إلى ذلك، ولكن الإنسان يظلّ في حاجة إلى السوط الذي يلوّح له بالعقوبة، ليستقيم على الخطّ، وليبقى في الجوّ الطبيعي السليم، ولسنا نقرر ذلك من وجهة نظر فكرية مجرّدة، ولكنَّ القراءة الواعية لتاريخ الشعوب المتحضرة، ولحركتها المعاصرة، تعرِّفنا أن الحضارة قد استطاعت أن تعطي الجريمة مفهوماً حضارياً بأساليب حضارية لا يرقى إليها ما تعارف لدى الشعوب المتخلّفة من مفاهيم وأساليب.

وعلى ضوء ذلك، أقامت المدنيات نظاماً تفصيلياً للعقوبات بالمستوى الذي لا تعرفه قوانين الشعوب البدائية تبعاً للطبيعة المعقدة المتنوّعة لجرائم الحضارة. إذاً فلا بُدَّ من العقوبة، ولكن كيف نعاقب القاتل، بالسجن، أم بالضرب، أم بالقتل؟ من خلال كلّ ذلك نعرف أن موقع التشريع الإسلامي هو في حركة العدالة في الحياة.

* * *

شبهات حول تشريع الإعدام للقاتل:

ربما يطرح البعض من المفكرين أفكاراً حول رفض عقوبة الإعدام كحل للمشكلة من خلال التساؤل عن إنسانية هذه العقوبة وانسجامها مع الخطّ الأفضل للحياة، ويمكن أن نثير هذه الأفكار ضمن نقاط:

1 ـ فهم يقولون: إنه لا يجوز أن نعالج الجريمة بجريمة مماثلة، أو نحل المشكلة بمشكلة مثلها، فإذا كانت فظاعة الجريمة الأولى ناشئة من فظاعة فكرة إعدام الحياة، فإنَّ العقوبة تتحرّك في الاتجاه نفسه، فإننا نقوم حينئذ بالعمل نفسه الذي يتمثّل في إعدام حياة ثانية، تفرض قدسية الحياة حمايتها والمحافظة عليها في كلّ موقع من مواقعها مهما أمكن ذلك.

2 ـ إنَّ عقوبة القصاص لا تنسجم مع النتيجة التي نخرج بها في دراستنا لشخصية المجرم، فإنَّ الجريمة لا تنشأ من عقدة متأصلة ذاتية في نفسه، بل تنشأ من خلال ظروف داخلية وخارجية طارئة في محيط حياته، فتشكل لديه عقدة نفسية تتحكم في سلوكه وتضغط على واقعه الفردي والاجتماعي. وفي جميع الأحوال، تعتبر الجريمة لدى المجرم حالة مرضية، وإذا كانت كذلك فلا بُدَّ للمشترع من مواجهتها في هذا الموقع تماماً كما يواجه حالةً مرضية نفسية أو جسدية، وعلاجها بقتل المرض لا بقتل المريض، وذلك باتباع الأساليب التي تشفيه من مرضه ليتحول إلى عنصر صحيح فاعل يشارك في خدمة المجتمع.

3 ـ إنَّ الرحمة التي انطلق الإسلام بها من خلال رسوله وفي رسالته، فكان الرسول رحمةً للعالمين، وكانت الرسالة باباً من أبواب الرحمة، ومن فوق ذلك كانت الصفة البارزة التي يصف اللّه بها نفسه هي الرحمن الرحيم، إنَّ هذه الرحمة التي تعبّر عن عمق المعاني الإنسانية للشريعة لا تتناسب مع عقوبة الإعدام للقاتل، بل المناسب أن يفتح أمامه باب العفو والتسامح والتراجع عن الخطأ.

* * *

مناقشة هذه الشبهات:

لعلّ هذه النقاط من أبرز الأمور التي أثيرت حول الموضوع، أمَّا تعليقنا عليها فبتأكيد عدّة ملاحظات:

1 ـ إنَّ الكثير من هذه الأفكار كان نتيجة للتربية الفردية الخاضعة للفكر الرأسمالي الذي يستغرق في الفرد ليعتبره كلّ شيء، فهو الأساس الذي يحصل المجتمع على سلامته وتطوّره من خلاله، وبذلك كان التركيز على سلامة القاتل كفرد لا بُدَّ لنا من أن نحمي حياته، أو كمريض لا بُدَّ لنا من معالجته، أو كإنسان لا بُدَّ لنا من أن نرحمه. وتبقى النتائج العملية الخطيرة التي تنعكس على حياة المجتمع من خلال تصرّفات هذا الفرد وأمثاله، تتفاعل من دون أن تثير اهتماماً أو تحرّك واقعاً في مجال التشريع أو في مجال العمل.

2 ـ إنَّ الإسلام يتحرّك في مفاهيمه وتشريعاته من موقع التفكير الإنساني الواقعي الذي يعمل على حماية الفرد، حتى من نفسه، وعلى حماية المجتمع، حتى من أفراده؛ فلم يترك للفرد الحرية حتى في مجال الإساءة إلى حياته الخاصة، ولم يعط المجتمع حرية الاعتداء على الفرد. وعلى ضوء ذلك، كان احترامه للفرد في المجالات التي لا تهدّد المجتمع في سلامته، لأنَّ سلامة المجتمع أكثر أهمية من سلامة الفرد في حالات التزاحم، وبذلك كان إعدام القاتل عقوبة ذات اتجاهين؛ فهي من جهة ترتبط بحصر المشكلة في إطارها المحدود بالنسبة إلى أولياء المقتول، لأنها تنفس عنهم المشاعر الحادة التي يمكن أن تنفجر في مساحة أكبر، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: ] وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا[ [الاسراء:33]. وهي من جهة أخرى تمثّل عنصراً رادعاً للآخرين الذين يفكرون في القيام بجريمة القتل ضدّ أفراد آخرين، أو الذين يستسلمون لبعض حالات الانفعال التي يفقدون معها التوازن في التصرّف، فإنَّ هذه العقوبة تصلح لأن تدفع بالإنسان إلى التفكير طويلاً قبل الإقدام على الجريمة.

وربما نضيف إلى الموضوع بُعداً ثالثاً، وهو التشديد على الموقف المبدئي ضدّ الظلم بالتحرّك لمعاقبة الظالمين كأسلوب عملي من أساليب إزالته من الأرض.

3 ـ إنَّ التركيز على العقلية الفردية في العمل وفي التشريع، يجعلنا نعيد النظر في كثير من المبادىء التي يسير عليها النّاس في مختلف أوضاعهم، فنحن نرى أنَّ الأمّة تضحّي بالآلاف من الجنود من أجل الحفاظ على عزّتها وكرامتها وسلامتها، وذلك في الحالات التي تتعرّض فيها للخطر من القوى الظالمة الغاشمة التي تريد أن تستعبدها وتستعمرها.

ولا يمكن الانسجام مع ذلك إلاَّ على أساس التفكير الاجتماعي الذي يفرض نفسه على الحياة في حالات الحرب والسلم، لأنَّ التفكير الفردي لا يوافق على أن تضحي بنفسك من أجل الآخرين، ولا فرق في هذا المجال بين أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيل الآخرين باختياره، وبين أن يضحي المجتمع بالفرد إذا كانت التضحية به شرطاً لسلامة المجتمع في ما إذا كان عنصراً فاسداً أو عضواً مشلولاً. أمَّا السلبيات التي تحدث من خلال ذلك فإنها طبيعية في كلّ تشريع تتقدّم فيه الإيجابيات على السلبيات، لأننا لا نجد أيَّ حل لأية مشكلة إلاَّ ونجد هناك مشاكل صغيرة تتجمع في طريق الحل.

الإسلام يرى القضية على النحو التالي؛ إنَّ إعدام القاتل قد يُفقدنا عدّة أفراد من المجتمع، ولكنَّه يحمي لنا حياة المجتمع كلّه في الحاضر والمستقبل، سواء منهم الذين يفكرون في القتل، أو الذين يفكر الآخرون في أن يقتلوهم، ما يجعل المعادلة سليمة من ناحية العدالة. وهذا ما عبّرت عنه الآية تعبيراً دقيقاً في قوله تعالى: ] وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ .

4 ـ إنَّ الفكرة التي تقول: إنَّ إعدام القاتل يضيف إلى الجريمة جريمة ثانية، لأننا نقوم بما يقوم به المجرم من الاعتداء على الحياة، فهو قد أعدم حياة المقتول، ونحن نعدم حياة القاتل، إنَّ هذه مغلوطة، لسبب بسيط جداً، وهو أنَّ القاتل قد أعدم حياة المقتول بغير حقّ، لأنَّ هذا هو المفروض في موضوع القصاص، فقد كانت تلك الحياة وديعة مسالمة بريئة، فهي حياة محترمة تبعث على الاحترام، أمّا حياة القاتل فهي حياة باغية ظالمة معتدية. فليست القضية واحدة في الحساب، لأنَّ مثل هذه الحياة لا تبعث على الاحترام والتقدير.

ولعلّ من الطريف أن ننقل في هذا المجال الحوار الذي دار بين شاعر مشكك وشاعر مؤمن حول موضوع قطع يد السارق، وقطع يد غير السارق، فإنَّ الأولى تقطع بسرقة ربع دينار، بينما تدفع دية الأخرى خمسمائة دينار.

قال الأول:

يدٌ بخمس مئين عسجد وُدِيتْ ما بالُها قُطِعَتْ فـي رُبْع دينار

تَحكُّمٌ ما لنا إلا السكوت له وأن نعـوذ بـمولانا من النّار

فأجابه الثاني:

عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها ذُلُّ الخيانَةِ فانْظُرْ حكمة الباري

5 ـ أمَّا الفكرة التي تنظر إلى الجريمة من حيث هي مرض نفسي يحتاج إلى علاج، كأي مرض آخر من الأمراض النفسية، التي قد تفرض علينا أن نفتح مصحات للعلاج النفسي؛ هذه الفكرة غير دقيقة أولاً، وغير مانعة من البقاء في نطاق هذا التشريع كعلاج حاسم يفرض نفسه على الواقع.

أمّا أنَّ الفكرة غير دقيقة، فلأنَّ الجريمة ليست نتيجة مرض نفسي في كلّ حالاتها، بل قد تكون ناشئة من حالات طارئة، كوضع انفعالي يتحرّك في اتجاه العدوان، أو من أوضاع لا شعورية، وقد تكون استهتاراً بالحياة وبالآخرين، كنتيجة لفقدان الضوابط الرادعة في المجتمع، وقد تكون ـ كما تفرض الفكرة ـ ناشئة من عقدة في الطفولة أو في العلاقات العامة والخاصة التي قد تترك آثارها السلبية على حياة الفرد ونفسيته.

وأمَّا أنها غير مانعة من بقاء التشريع كحلّ يفرض نفسه، فلأننا في مواجهتنا للعقدة النفسية المرضية نقف أمام طرحين للحل؛ الطرح الفردي، والطرح الاجتماعي. أمّا الطرح الفردي فإنه ينظر إلى حالة الفرد كحالة تستوجب العلاج من أجل الحصول على الصحة النفسية التي تبقيه في المستقبل كعنصر حي فاعل في الحياة، وربما كان هذا أمراً سليماً جداً من وجهة نظر إنسانية فردية، ولكنَّه لا يعتبر سليماً من ناحية اجتماعية، لأنَّ هذا الأسلوب سوف يشجع المجرمين على الجريمة بشكل عام، لأنه يعلم ـ مقدّماً ـ أنه سيواجه الكثير من أسلوب الرعاية والحماية والتكريم، ما يدفعه إلى المزيد من الاستهتار بالجريمة وإلى العزم على مواصلتها.

وقد لا نحتاج في تأكيد هذا الموضوع إلى المزيد من التحليل الفكري، بل يكفينا الالتفات إلى الحالات التي تطبق فيها قواعد العلاج النفسي في بعض السجون الحديثة في الدول المتقدّمة، فقد كانت برامجها مليئة بالأجواء التربوية التي تشتمل على المحاضرات والأساليب الحديثة في علم النفس بإشراف علماء النفس والاجتماع، في الوقت الذي كان المجرم يبادر إلى إعادة الجريمة فور خروجه من السجن، لأنَّ الجانب الفكري ليس كلّ شيء في حياة الإنسان، بل هناك أكثر من عامل داخلي أو خارجي يعتبر نقطة ضعف في حياة هذا الشخص أو ذاك، ولعلّ طبيعة التعقيد الاجتماعي في العلاقات تفرض كثيراً من التأثيرات، ما يجعل من عملية التوجيه بعيداً عن هذه الأجواء، جهداً ضائعاً، لأنَّ المناعة التي يشعر بها الإنسان خارج نطاق التجربة لا تفيده عندما يعيش في قلب التجربة التي توحي بالانحراف.

وعلى ضوء هذا، فإنَّ الطرح الفردي للحل لا يعتبر سليماً من ناحية اجتماعية. أمَّا الطرح الاجتماعي، فإنَّ قيمته أن يجعل الحقّ للمجتمع ممثَّلاً بأولياء المقتول، أو بالسلطة الشرعية في الاقتصاص من القاتل، من دون أن يغلق الباب عن البدائل السلمية للقضية، وذلك بالعفو من دون مقابل، أو بالعفو على أساس دفع الدية، لتكون بمثابة التعويض المادي عن الخسارة التي تلحق بالورثة من خلال ضياع الفرصة التي كانت تمنحهم الاكتفاء المادي بوجود القتيل، وبذلك استطاعت العدالة الإسلامية أن تقف في الموقع المتوازن الذي لا يتنكر للسلامة العامة في التشريع، ولا يلغي حقّ العفو وإمكانات السلامة للقاتل في بعض الحالات.

6 ـ إنَّ الجريمة قد تكون مرضاً، ولكنَّه لا يلغي طبيعة الاختيار في التصرّف، لأنَّ العقد النفسية قد تشكل لوناً من ألوان الدوافع الشريرة في النفس، ولكنَّها لا تسيطر على الإنسان بالمستوى الذي يفقد معه إرادته واختياره، وإذا وجدت الإرادة وجدت المسؤولية التي تفرض نفسها عليه، ما يجعل للفعل الصادر عنه صفة الجريمة الخاضعة للعقاب. ولكن ما هو مستوى العقوبة؟

إننا نعتقد أنَّ المعالجة المرضية لن تنفع في هذا المجال بالنسبة إلى المجرم؛ بل لا بُدَّ لنا من الانطلاق في المعالجة في جوانب أخرى لدى غير المجرمين، فنربي أفراد المجتمع على الأسس الصحيحة التي تمنع من وجود أفراد مجرمين. أمَّا المجرم، فلا مجال لإلغاء مسؤوليته في العقوبة الشديدة التي هي الإعدام، لأنَّ الإلغاء إذا كان يعتمد على الناحية المرضية فينبغي أن نلغي العقوبة رأساً، على أساس أنَّ العقدة تعفي من المسؤولية، وقد تمتد القضية إلى أبعد من ذلك فنقرر إلغاء العقوبات رأساً، لأنَّ أي انحراف في أي جانب من الجوانب لا بُدَّ من أن ينشأ من انحراف مرضي في داخل النفس، من دون فرق بين الجريمة الكبيرة والجريمة الصغيرة، حتى الحبس لا يعود له مجال في هذا المقام بل لا بُدَّ من إدخاله المصح، كأي مريض آخر. إنها مشكلة التفكير الفردي الذي لا ينظر إلى المشكلة من خلال حجمها الكبير؛ بل ينظر إليها من خلال النطاق المحدود الذي تتحرّك فيه.

7 ـ إنَّ الرحمة التي يثيرها الإسلام في مفهومه الروحي والعملي، لا تعني الانفعال الذي يرتبط بالشفقة؛ بل تعني مواجهة الواقع بما يحقّق مصلحة الإنسان في المستوى الشامل، تماماً كما هي الحال عندما يضطر الجرّاح إلى بتر أحد الأعضاء لحماية الحياة للجسد كلّه، فإنَّ ذلك يمثّل الرحمة للإنسان المريض. إنَّ الرحمة للذين يعيشون الحياة من موقع الرحمة لحركة الحياة، لا للذين يقضون على الحياة ويطعنونها في الصميم.

إنَّ التشريع لا يتعامل مع العاطفة، بل يتعامل مع المصلحة العامة للإنسان، ولهذا جاءت الآية لتقرر الحقيقة الشاملة في قوله تعالى: ] وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ .

ولعلّ في الإشارة إلى أولي الألباب دعوة إلى العقل لكي يتحرّك في داخل ذوي العقول، ليعرف كيف يحفظ التشريع حياة النّاس على أساس من التقوى والإيمان، بعيداً عن كلّ عاطفة وانفعال ذاتي.

هذا ما أردنا الإشارة إليه في تفسير هذه الآية، واللّه أعلم بحقائق أحكامه وأسرار آياته، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ــــــــــــ

(1) الكافي، ج:7، ص:357، رواية:1.