من الآية 180 الى الآية 182
الآيــات
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (180ـ182).
* * *
معاني المفردات:
] بِالْمَعْرُوفِ[ : المعروف: هو المعروف المتداول من الصنيعة والإحسان.
] خَيْرًا[ : الخير: ضدّ الشر، وهو ما يرغب فيه الكلّ لما يشتمل عليه من المنفعة، والمراد به هنا: المال. قال الراغب: «المال ربما يكون خيراً لزيد وشراً لعمروٍ، ولذلك وصفه اللّه تعالى بالأمرين، فقال في موضع: ] إِن تَرَكَ خَيْرًا[ ، وقال في موضع آخر: ] أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ[ [المؤمنون:55ـ56]، وقوله تعالى: ] إِن تَرَكَ خَيْرًا[ أي: مالاً، وقال بعض العلماء: لا يُقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن مكانٍ طيّبٍ»[1].
] جَنَفًا[ : الجنف: الميل عن الحقّ على جهة الخطأ، وأصل الجنف ميل في الحكم.
] إِثْمًا[ : الإثم: الميل عن الحقّ على وجه العمد.
* * *
الوصية.. الصوم.. الدعاء..
هذه إحدى آيات الأحكام التي تضمنتها هذه السورة كجزءٍ من تنظيم المجتمع المسلم في المدينة في علاقاته الإنسانية، وذلك في نطاق مبدأ الوصية للوالدين والأقربين، فقد أراد اللّه للإنسان أن يعبّر عن شعوره بالمسؤولية تجاه أرحامه بعد الموت، كما أراد له أن يصلهم في حال الحياة، وذلك بأن يوصي لهم ببعض من ماله ـ في ما إذا ترك شيئاً منه ـ ليدلّل على عاطفته نحوهم، ما يحقّق لرابطة القرابة أساساً يمتزج فيه الجانب الروحي بالعطاء المادي في عملية إنسانية هادفة.
ولعلّ هذا ما يميّز الوصية عن الإرث، فإنَّ الإرث يمثّل وضعاً تشريعياً لا تتدخل فيه إرادة الإنسان وعاطفته، لأنه حكم شرعي لا خيار للإنسان فيه، فهو من فرض اللّه الذي يجب أن يُخضع له. أمّا الوصية، فإنها تنطلق من إرادة الموصي وتفكيره بحالة الموصى له بعد الموت، ومحاولته إيجاد فرصة مادية له في ما يوصي له به. ويأتي التشريع ـ بعد ذلك ـ ليؤكد هذه الإرادة، وليفرض تنفيذها على المكلّفين بشكلٍ دقيق لا مجال فيه للتغيير والتبديل تحت طائلة الإثم والعقاب.
* * *
هل الآية منسوخة؟
وقد حاول بعض الفقهاء والمفسرين أن يعتبر الآية منسوخة بآية الإرث. وقيل في وجه ذلك: «إنَّ الميراث في أول الإسلام لم يكن ثابتاً على الكيفية التي جُعلت في الشريعة بعد ذلك، وإنما كان الإرث يدفع جميعه للولد، وما يُعطي الوالدان من المال فهو بطريق الوصية، ولكن هذا الرأي غير دقيق من وجهين:
الوجه الأول: لأنَّ آية الإرث قد رُتّبت على عدم الوصية، الأمر الذي يجعلها مؤكدة لشرعية الوصية بدرجة متقدّمة، فكيف يمكن أن تتضمن إلغاءها ونسخها الذي يتوقف على أن يكون الناسخ منافياً للمنسوخ في دلالته؟!
الوجه الثاني: لأنَّ النسخ يفرض تأخر الآية الناسخة عن المنسوخة؛ ولم يثبت ذلك بدرجة قطعية، لأنَّ الخبر الدال على ذلك من أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً، مع أنَّ النسخ يحتاج إلى الدليل القطعي.
ونضيف إلى ذلك أنه لا يمكن أن تكون ناسخة للوصية للأقربين، لأنهم لا يرثون مع الولد ليكون الإرث بديلاً عن الوصية.
وحاول البعض اعتبارها منسوخة بالحديث المروي عن النبيّ (ص): «لا وصية لوارث»[2].. ولكن ذلك لا يتمّ لوجوه ذكرها أستاذنا السيِّد الخوئي قده في كتابه «البيان في تفسير القرآن» وهي:
1 ـ إنَّ الرواية لم تثبت صحتها، والبخاري ومسلم لم يرضياها. وقد تكلّم في تفسير المنار على سندهما.
2 ـ إنها معارضة بالرِّوايات المستفيضة عن أهل البيت (ع) الدالّة على جواز الوصية للوارث. ففي صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عن الوصية للوارث فقال: تجوز. قال: ثُمَّ تلا هذه الآية: ] إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[ وبمضمونها روايات أخرى.
3 ـ إنَّ الرواية لو صحت وسلمت عن المعارضة بشيء، فهي لا تصلح لنسخ الآية، لأنها لا تنافيها في المدلول. غاية الأمر أنها تكون مقيدة لإطلاق الآية، فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع، وبمن لا يرث من الأقربين. وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الآية، فقد تقدّم أنَّ خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخاً للقرآن بإجماع المسلمين، فالآية محكمة وليست منسوخة»[3].
وقد يخطر في البال، أنَّ ظهور الآية في أن الوصية فرض على الإنسان لا يتناسب مع فريضة الإرث، لأنَّ الاهتمام بالإيصاء ينطلق من مبدأ الحرص على مساعدة الموصى لهم بعد الموت، نظراً إلى فقدان رعايته الثابتة لهم حال الحياة. وهذا ما يمكن أن يحقّقه مبدأ الإرث. قد يخطر ذلك في البال على أساس الاستبعاد، لا على أساس الحجّة والاستدلال.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن يستوحي الإنسان منها أجواء النسخ، ولكن في ما تدل عليه الآية من الوجوب، فلا تنافي ثبوت الجواز في ما تدل عليه الأحاديث عن أهل البيت (ع). ولكنَّنا ألمحنا في بداية الحديث عن الآية، إلى أنَّ دور الوصية في مدلوله الإنساني، يختلف عن مدلول تشريع الإرث، ونضيف إلى ذلك أنَّ موارد الوصية لا تلتقي دائماً مع موارد الإرث؛ فقد تحدث بعض الحالات التي لا مجال للإرث فيها، ما يجعل للوصية دورها الفاعل الكبير؛ وقد تحدث بعض الأوضاع التي يحتاج فيها الوارث إلى مزيد من الرعاية المادية التي لا يحصل عليها من خلال نصيب الإرث... وعلى كلّ حال، فإنَّ الاستبعاد لا يصلح أساساً لتقرير فكرة أو رفضها في أي مورد من الموارد القرآنية التي لا بُدَّ لنا فيها من الاعتماد على الأسس الدقيقة للتفسير.
* * *
جولة مع مفردات الآية:
ولا بُدَّ لنا بعد ذلك من جولة تفسيرية تفصيلية مع الآية في مفرداتها ومضمونها العام.
] كُتِبَ[ بمعنى قضي من القضاء، وهو الحكم الذي قد يوحي بالإلزام، فلا بُدَّ من الالتزام به إلاَّ أن يدل دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على خلاف ذلك، لأنَّ اللفظ لا يخلو من قابلية لذلك، فالحكم بشيء على شخص قد يقترن بالظروف التخفيفية التي تجعل المضمون اختيارياً، وقد لا يقترن بذلك فيبقى على حاله. ولما كان إجماع المسلمين قائماً على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين، فلا بُدَّ من أن نلتزم بذلك فنحمل الكتابة على أصل التشريع والجعل.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: ] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ[ أي: سجل عليكم تأكيد الوصية ] إِن تَرَكَ خَيْرًا[ مالاً معتداً به.
والخير: كناية عن المال. وقد اختلفت الرِّوايات في تحديده، ولكن الظاهر منها هو المقدار المعتد به، الذي يمكن أن يبقى منه مقدار زائد على حصة الإرث ـ حسب حالة الورثة ـ كما ورد في الحديث عن عليّ (ع)، أنه «دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم، أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ قال: لا، إنما قال اللّه تعالى: ] إِن تَرَكَ خَيْرًا[ وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك»[4]. والظاهر منه المقدار الذي يتناسب مع طبيعة واقع الحال للموصي والموصى له والورثة، ] الْوَصِيَّةُ[ وهي التحليل لما بعد الموت ] لِلْوَلِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[ الذي يحسن الإنسان فيه إلى أقربائه.
] حَقًّا[ ثابتاً ] عَلَى الْمُتَّقِينَ[ لأنَّ التقوى تفجر في الإنسان طاقات الخير بما توحي به من الحصول على محبة اللّه ورضاه، والابتعاد عن غضبه وسخطه، ما يدفعه إلى القيام بالأعمال المحبوبة له، واجبةً كانت أو مستحبةً، لأنَّ ذلك هو سبيل القرب إليه والنجاة من عذابه.
] فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ[ . إنَّ تنفيذ الوصية وتحوُّلها إلى واقع عملي هو مسؤولية الوصي، في ما سمعه وعرفه من الوصية تحت طائلة العقاب في حالة التبديل والتغيير. وقد أكد اللّه على ذلك وشدّد الأمر فيه، لأنَّ غياب الموصي بالموت يجعل الوصي في أمن من جهته، على أساس أنَّ الإنسان لا يلتزم عادة بتنفيذ إرادة الآخرين، إلاَّ إذا كانوا في وضع خاص من القوّة المادية أو المعنوية التي تستتبع الحساب أو العقاب أو العتاب. فلهذا أراد اللّه أن يثير القضية في نطاق عذاب الآخرة، كوسيلة من وسائل التنفيذ الحاسمة. ] إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ لا يعزب عن سمعه وعلمه أيُّ شيء مما يخوض النّاس فيه في ما يريدون وما يفعلون... وفي الآية دلالة على أنَّ الميت لا إثم عليه في تبديل الوصي للوصية، لأنها مسؤولية الوصي لا مسؤوليته.
] فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ[ ربما تفسّر هذه الآية بما قبل موت الموصي، وذلك في الحالة التي يتصرف الموصي تصرفاً جائراً ـ وهو معنى الجنف ـ أو منحرفاً عن خطّ الحقّ ـ وهو معنى الإثم الذي يوحي بتعمد الظلم ـ فإنَّ للوصي أن يتدخل لإصلاح الأمر بين الموصي وبين الوالدين والأقربين؛ وذلك بإرجاعه عن الخطأ وإعادته إلى الحقّ، لئلا يحصل الخصام والنزاع من جراء ذلك، كما نشاهده في بعض الأوضاع الخاصة، عندما يحاول الموصي أن يحرم بعضاً ويعطي بعضاً كنتيجة لبعض الدوافع الذاتية.
وربما تُفسر بما بعد الموت، وذلك على أساس الاستثناء من حرمة التبديل، فإنَّ للوصي أن يبدل الوصية من حالة الباطل إلى حالة الحقّ، لأنَّ الإثم هو في تغيير الوصية المنسجمة مع خطّ الحقّ، لا المنحرفة عنه.
كما إذا كانت الوصية بما يزيد على الثلث للورثة، فللوصي إرجاعه إلى الثلث إذا رفض الورثة ذلك، أو إذا أوصى بتوزيع جميع ثروته على غير الورثة الشرعيين، فلا بُدَّ من ردّها إلى الثلث، وإذا كان في الوصية ما يؤدي إلى الظلم كإعانة مراكز الفساد أو فعل حرام أو ترك واجب، أو إذا أدّت الوصية إلى نزاع أو فساد يوجب إزهاق الأرواح، فللوصي أن يتدخل لمنع ذلك بنفسه أو بالاستعانة بالحاكم الشرعي.
وربما يوحي سياق الآية بالتفسير الثاني، لأنها وقعت بعد الآية الأخرى التي تتحدّث عن التبديل بعد الموت، باعتبار أنَّ التصرّف من صلاحية الوصي. أمّا حالة ما قبل الموت، فلا يملك الوصي أيّة صلاحية فيها.
ولكن دراسة الآية بدقة توحي بالمعنى الأول، لأنها واردة في تخطيط خطّ الوصية في ما هو تكليف الموصي في ما ينبغي أن يوصي به مما لا يتناسب مع خطّ الجور أو الظلم، فإذا انطلق في هذا الاتجاه الذي يثير الخصومة والنزاع، فإنَّ للوصي ـ باعتبار علاقته الأكيدة بالموضوع لأنها مهمته في المستقبل ـ أن يتدخل للإصلاح من موقع الإصلاح، لا من موقع السلطة ليُقال ـ كما سبق ـ إنه لا يملك صلاحية في الموضوع. وهذا التفسير هو المروي عن الإمامين الباقر والصادق (ع) في ما ذكره صاحب مجمع البيان[5]..
وقد جاء في كلمة الإمام عليّ (ع)، في نهج البلاغة: « يابن آدم كن وصي نفسك واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك»[6].
إنها توحي بأنَّ الإنسان قد يفكر بالخير في وصيته بماله بعد الوفاة، سواء أكان ذلك في ما يتعلّق بقضاياه الخاصة في عباداته أو معاملاته أو صدقاته، أم في ما يتعلّق بالآخرين، وهذا عملٌ جيّدٌ يدلُّ على روح الخير في نفسه. ولكن هناك مسألةً مهمّةً في عمق القيمة الروحية الأخلاقية في النظرة الواقعية إلى الأمور، فإنه عندما كان يوصي بماله بعد الموت، كان يودّع الحياة ويبتعد عن كلّ علاقة له بالمال، مما لا يجعله يواجه تضحية كبرى بإنفاقه في الخير لنفسه أو للآخرين؛ ولكنَّه عندما ينفقه في الحياة مع امتداد الأمل بالبقاء، فإنَّه يضحي به في الوقت الذي تكبر حاجته إليه ويعيش الارتباط به؛ الأمر الذي يؤكد عمق القيمة الإيمانية الروحية في الإخلاص للّه في عمله.
وقد ختم اللّه له الآية بقوله تعالى: ] إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ للإيحاء بأنَّ رعاية اللّه له لهذا الوحي كانت بإيجاد المصلح الذي يردّ الوصية إلى الخطّ المستقيم في الصلاح والإصلاح، من موقع المغفرة والرحمة اللّتين يمنحهما اللّه لعباده الصالحين إذا أذنبوا، فكيف هو الحال إذا أصلحوا ولم يكن هناك ذنب!؟
* * *
الإيحاءات والدروس:
إننا نستوحي من مبدأ الوصية في هذه الآيات أموراً:
1 ـ إنَّ الإسلام يريد أن يركز على مسؤولية المسلم في الاهتمام بأمور الآخرين ـ لا سيما أقربائه ـ فيفكر بأمورهم في حالة الحياة وفي ما بعد الموت، ويعمل على تحويل التفكير إلى ممارسة عملية حقيقية بما يوصي به إليهم من مال ليضمن لهم نوعاً من كرامة الحياة في ما بعد الموت.
2 ـ إنَّ في اعتبار هذا التوجه مظهراً من مظاهر التقوى دلالة على أنَّ قضية التقوى في الإسلام لا تتصل بالجانب الروحي العبادي فحسب، بل تتسع لتواجه حسَّ المسؤولية في الإنسان تجاه أخيه الإنسان في الحياة وفي ما بعد الموت، ما يؤكد على تنمية الجانب الإنساني للشعور في أعماق الإنسان.
3 ـ ربما نستوحي من فقرة ] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَلِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[ : أنَّ اللّه يريد للإنسان أن يستفيد من الفرصة الأخيرة في الحياة ليتقرّب إليه من خلال عمل الخير للنّاس الذين يحتاجون إليه ممن كانوا السبب في وجوده، أو الذين يرتبطون به برابطة الرحم من خلال إيحاءات القرابة التي تفتح كلّ مشاعر الخير في نفس الإنسان في الأجواء الحميمة المنسابة في روحه، الأمر الذي يجعله يفكر بطريقة موضوعية متوازنة بعيدة عن كلّ نوازع الطمع والجشع والذاتية، لأنه سوف يفارق المال كلّه والحياة كلّها بعد قليل فيفقد كلّ شيء، بينما توحي الوصية إليه الفرصة الإلهية في الحصول على العفو والمغفرة والرحمة في عمل الخير.
4 ـ إنَّ اللّه لم يعطِ الإنسان كلّ الحرية في الوصية، بل حدّد له الثلث كحدٍّ أقصى، حتى لا يجور على ورثته فيتركهم في فقر وحاجةٍ، يسألون النّاس إذا تجاوز ذلك، فخصَّ بعضهم بالمال كلّه أو أوصى به للمشاريع العامة أو لبعض النّاس الذين تربطه بهم علاقة خدمة أو إحسان أو نحو ذلك، فللورثة أن يرفضوا الزيادة على الثلث، فتبطل الوصية في الثلثين. وواضح ما في هذه النظرة من مراعاة كلا الطرفين: الموصي، والموصى لهم.
فالإجازة للموصي بالتصرّف بثلث التركة يشبع لديه الحاجة إلى التصرّف في تركته في السياق الذي يلبي شعوره بالواجب وإحساسه بالمسؤولية، فضلاً عن إشباع رغبته وأحلامه؛ فلا يحرم ـ لذلك ـ من التصرّف بماله في ما بعد الموت. وأمّا ترك الثلثين للموصى لهم فيندرج في سياق إعانتهم على تلبية حاجاتهم ومعالجة قضاياهم الخاصة. وقد جاء في الحديث عن الإمام محمَّد الباقر (ع) أنه قال: «من عدل في وصيته كان بمنزلة من تصدّق بها في حياته، ومن جار في وصيته لقي اللّه يوم القيامة وهو عنه معرض»[7].
وربما كان المراد بالجور هو الوصية بأكثر من الثلث، أو بالمقدار الذي يخلق للورثة مشكلة في حياتهم لحاجتهم إلى المال الذي أوصى به.
5 ـ إنَّ الوصية ليست ملزمة لصاحبها ما دام في الحياة، فله أن يرجع عنها أو يغيّرها بأيّ نحو كان، فلا حقّ لأحد عليه في ذلك.
6 ـ إنَّ على الإنسان أن يوصي بكلّ الواجبات والمسؤوليات المترتبة عليه، في حقوق النّاس عنده أو حقوق اللّه التي لا بُدَّ من قضائها، إذا خاف على نفسه الموت وفوات الفرصة في الأداء والقضاء. أمّا في غير ذلك فالوصية مستحبة.
ـــــــــــــــ
(1) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ت:نديم مرعشلي، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، ص:163
(2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، ط:الأولى، 1412هـ ـ 1992م، م:37، ج:101، ص:498، باب:35، رواية:5.
(3) الخوئي، الموسوي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، ط: السادسة، 1412هـ ـ 1992م، ص:298 ـ 299.
(4) السيوطي، جلال الدين، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1993م ـ 1412هـ، ج:1، ص:422 ـ 423.
(5) الطبرسي، أبو علي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، ط:1406هـ ـ 1986م، ج:1، ص:485.
(6) ابن أبي طالب، الإمام علي(ع)، نهج البلاغة، قصار الحكم/254.
(7) البحار، م:37، ج:100، ص:129، باب:54، رواية:17.
تفسير القرآن