تفسير القرآن
البقرة / الآية 187

الآية 187

الآيــــة

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه آيَاتِهِ للنّاس لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(187).

* * *

معاني المفردات:

] الرَّفَثُ[ : وأصله كلام متضمن لما يستقبح ذكره كالجماع ودواعيه، وجعل كناية عنه.

قال الطباطبائي في تفسيره: «وهو من أدب القرآن الكريم، وكذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن، كالمباشرة والدخول والمسّ واللمس والإتيان والقرب، كلّها ألفاظ مستعملة عن طريق التكنية»[1].

ويمكن أن نلاحظ على ذلك، أنَّ التعبير بهذه الكلمات الكنائية الإيحائية كان منطلقاً من استعمالها في كلام العرب للدلالة على هذه المعاني الفاحشة، تماماً كما هو التعبير بالكلمات الصريحة. وقد جاء في السيرة النبوية الشريفة أنَّ النبيّ(ص) كان يتحدّث عن الجماع بالكلمات الأكثر وضوحاً عندما تمسّ الحاجة، ما يوحي أنَّ مسألة الاستقباح تابعة للعرف الحضاري الذي يختلف بين مرحلةٍ وأخرى، فإنَّ الفحش في المعنى لا في الكلمة.

] لِبَاسٌ[ : الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان. ولعلّ هذا التعبير ينطلق من استعارة لطيفة، فإنَّ كلاً من الزوجين يمنع صاحبه من اتباع الفجور، فكأنَّ كلاً منهما لباس لصاحبه بحيث يواري به سوأته، ومنه جعل التقوى لباساً باعتبار أنه يمنع الإنسان من إظهار عيوبه بإبعادها عن حياته. وقد يكون للتعبير وجهٌ آخر.

] تَخْتانُونَ[ : تخونون عن قصد واختيار. قال الزمخشري: والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدّة»[2]. أمّا الراغب فيقول في مفرداته: «والاختيان: مراودة الخيانة، ولم يقل: تخونون أنفسكم، لأنه لم تكن منهم الخيانة، بل كان منهم الاختيان. فإنَّ الاختيان تحرُّك شهوة الإنسان لتحرِّي الخيانة»[3].

] الْخَيْطُ الأَبْيَضُ[ : بياض النهار، وأصل الخيط هو الخطّ الممتد المستقيم.

] الْخَيْطِ الأَسْوَدِ[ : سواد الليل.

] تُبَاشِرُوهُنَّ[ : المباشرة الإفضاء بالبشرتين من خلال إلصاق البشرة ـ وهي ظاهر الجلد ـ بالبشرة. وكنّي به عن الاتصال الجنسي.

] حُدُودُ[ : الحدّ هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، يُقال: سميت أحكام اللّه وشرائعه حدوداً لمنعها عن التخطي إلى ما وراءها.

* * *

مناسبة النزول:

وقد جاء في رواية عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه رفعه إلى أبي عبد اللّه ـ جعفر الصادق (ع) ـ قال:«كان الأكل محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول اللّه (ص) يُقال له مطعم بن جبير، أخو عبد اللّه بن جبير الذي كان رسول اللّه وَكَلَهُ بفم الشِّعب يوم أُحُد في خمسين من الرماة، وفارقه أصحابه وبقي في اثني عشر رجلاً، فقتل على باب الشِّعب، وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخاً ضعيفاً وكان صائماً، فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر. فلمّا انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول اللّه (ص) فرقّ له. وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سراً في شهر رمضان، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر»[4].

* * *

الصوم وحدود العلاقات الجنسية في شهر رمضان:

في هذه الآية تحديد للأوقات التي تحرم فيها العلاقة الجنسية على الصائمين. فقد ورد في بعض الأحاديث أنها كانت محرّمة عليهم في الليل والنهار، وكان هذا التحريم حرجاً عليهم، حتى أنَّ بعض الشباب كانوا يمارسونها سراً في الليل، فيجدون في أنفسهم الشعور المهين بالخيانة. فجاء هذا التحليل في هذه الآية ليرفع ذلك عنهم، في ما يأتي، ويتوب عليهم ويعفو عنهم في ما مضى.

وربما كان في جوّ الآية ـ كما ورد في أسباب النزول ـ ما يوحي بالتشجيع على هذه الممارسة، من أجل أن يفرّغ الصائمون أنفسهم من كلّ المشاعر الشهوانية التي تثقل وجدانهم، فتشغلهم عن روحانية الصوم وأسلوبه العملي في التربية على التقوى، لأنَّ اللّه لا يريد للتقوى أن تتحرّك في حياة الإنسان على أساس منهج القسر والضغط والشدّة، الذي لا يترك مجالاً للإنسان ليتنفس أو ينفتح أو يواجه الموقف من موقع الطبيعة البشرية، بل أرادها أن تنطلق على أساس الإرادة المرتكزة على الانفتاح على الشهوات من بعض الجهات، لتنغلق عنها في الجهات الأخرى التي حرّمها اللّه، فيكون الالتزام بخطّ التحريم قريباً إلى طبيعة الإنسان في حركته في صعيد الواقع.

وفي ضوء هذا، كان الصوم في النهار أسلوباً واقعياً عملياً، لأنه لا يشل الحاجة الغريزية في الإنسان تماماً، بل يترك لها المجال لتشبع جوعها في الليل. وبهذا جاءت الفقرة القرآنية في قوله تعالى: ] هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ[ للإيحاء بشدّة العلاقة التي تربط الرّجل والمرأة ببعضهما البعض، ما يوجب قلة الصبر عن الامتناع والاجتناب عن الحاجة الجنسية لأحدهما تجاه الآخر. وقد كنى عن الجماع بالرفث، لأنَّ الرفث هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، ولا يخلو الجماع من ذلك، كما في الكشاف[5].

] عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ[ أي: تنقصونها حظّها من اللذة بامتناعكم عن الجماع في الليل، وخيانة النفس تكون في ظلمها بمنعها عمّا ترتاح إليه، أو تكون بمعنى ممارسة المعصية تمرّداً على التحريم الذي كان مفروضاً في ليالي الشهر بالإضافة إلى نهاراته، فلا تؤدون الأمانة الإلهية بالامتناع عن الجماع، ] فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ[ تخفيفاً لما اشتدّ عليكم، بإباحته لكم أو بالغفران لكم ] فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ[ بالليل لتحصلوا على حاجتكم الجنسية من دون تحريم ولا حرج. والأمر هنا بمعنى الإباحة لا الوجوب، لأنه وارد بعد التحريم مما يكون قرينة على أنَّ المراد به رفع التحريم لا الوجوب.

] وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ[ الظاهر منه الولد باعتباره الغاية من العمل الجنسي غالباً، بالإضافة إلى قضاء الشهوة، أو للتشجيع على التناسل واعتباره غاية مطلوبة لذلك.

وهناك احتمال آخر وهو أنَّ المراد: اطلبوا ما كتب اللّه لكم من الحلال الذي بيّنه بكتابه، فإنَّ اللّه يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه. ] وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ[ فقد أباح اللّه لكم ذلك في الليل، ] حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ[ أي: يظهر ويتميّز لكم على التحقيق في وضوح الرؤية، ] الْخَيْطُ الأَبْيَضُ[ وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، ] مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ[ ما يمتد معه من غبش الليل، كما في الكشاف[6] ] مِنَ الْفَجْرِ[ الذي يبدأ طلوعه بالبياض، الذي يبدو في الأفق.

] ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الّليْلِ[ هذا تحديد لنهاية موعد الصيام، وعدم تشريع صوم الوصال الذي يصل به الصائم ليله بنهاره بنية واحدة. ] وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ[ هذا استثناء من جواز الجماع والمباشرة في ليل الصوم، فإنه لا يجوز للإنسان المعتكف في المسجد أن يمارس ذلك، سواء كان ذلك في شهر رمضان أو في غيره. والاعتكاف عبادة خاصة، يحبس الإنسان فيها نفسه في المسجد للعبادة، فلا يخرج إلاَّ لضرورة. ومن شروطها الصوم، والاستمرار فيها ثلاثة أيام. وأحكامها مذكورة في كتب الفقه.

* * *

لا تقربوا حدود اللّه:

] تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه آيَاتِهِ للنّاس لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[ إنَّ في هذه الآية إشارة إلى أنَّ المحرّمات هي حدود اللّه التي يجب أن يقف النّاس عندها فلا يقربوها بممارستها والإقبال عليها، وربما كان المقصود بحدود اللّه هي شرائعه في ما أحل وفي ما حرّم، فتكون الآية كناية عن الوقوف عند الحاجز بين الحلال والحرام، لئلا يصل الإنسان إلى الانتهاك للمحرّمات كما ورد في بعض الكلمات المأثورة: «المحرّمات حمى اللّه، فمن حام حول الحمى أوشك أن يرتع فيه».

وربما كان التعبير بكلمة: ] فَلاَ تَقْرَبُوهَا[ بدلاً من «ولا تتعدّوها» للإيحاء بعدم الاكتفاء بتركها بل بالابتعاد عنها. قال الزمخشري في الكشاف: «فإن قلت: كيف قيل: ] فَلاَ تَقْرَبُوهَا[ مع قوله: «فلا تتعدوها ومن يعتدّ حدود اللّه»؟! قلت: من كان في طاعة اللّه والعمل بشرائعه فهو متصرّف في حيّز الحقّ، فنهى أن يتعداه لأنَّ من تعداه وقع في حيّز الباطل، ثُمَّ بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحدّ الذي هو الحاجز بين حيّزي الحقّ والباطل لئلا يداني الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلاً عن أن يتخطّاه»[7].

ولا بُدَّ للإنسان من أن يعي جيّداً كيف يثير اللّه أمامه حدوده التي لا يريد له أن يتجاوزها ويتمرّد عليها، من أجل أن يفهمها ويعرف كيف ينفذ إرادة اللّه في ما يرضيه وما يسخطه، ليكون ذلك باعثاً له على الالتزام والانضباط وبناء شخصيته على الأسس الشرعية التي تعطيه صفة التقوى في كلّ مجالات حياته الخاصة والعامة. وهذا ما يجب أن نتوفر عليه في مجالات التوجيه والتربية في بناء الشخصية الإسلامية، وذلك بالتأكيد على الجانب الشرعي في قضايا الإنسان الصغيرة والكبيرة معرفة وتطبيقاً، لأنَّ الاكتفاء بالمفاهيم العامة يجعل الإنسان غارقاً في الضباب، بعيداً عن الحدود الفاصلة بين الحقّ والباطل، والكفر والإسلام.

ـــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:2، ص:45.

(2) الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:1، ص:338.

(3) مفردات الراغب، ص:162.

(4) مجمع البيان، ج:2، ص:503.

(5) انظر: تفسير الكشاف، ج :1، ص:337 ـ 338.

(6) انظر: م.ن، ج:1، ص:339.

(7) تفسير الكشاف، ج:1، ص:340.