تفسير القرآن
البقرة / الآية 188

 الآية 188

الآيــــة

{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النّاس بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}  

(188).

* * *

معاني المفردات:

] تَأْكُلُواْ[ : الأكل: كناية عن الأخذ والاستيلاء، أو مطلق التصرّف مجازاً.

] بِالْبَاطِلِ[ : الباطل: هو الذاهب الزائل يقال: بطل إذا ذهب، وقيل: الباطل هو ما تعلّق بالشيء على خلاف ما هو به خبراً كان أو اعتقاداً أو ظناً أو تخيّلاً. وربما كان إطلاق الكلمة على هذا باعتبار أنَّ ما كان على خلاف الحقّ والواقع لا ثبات له في مضمونه، فهو في معرض الزوال من النفس إذا انكشف الأمر على حقيقته.

] وَتُدْلُواْ[ : الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء، والمراد به هنا الإلقاء بالمال إلى الحكام رشوةً للحصول على الحكم. وربما كان وجه المناسبة بين معنى الكلمة وبين المقام ـ وهو إعطاء المال إلى الحكام ـ هو استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثّل لحال الماء في البئر بالنسبة إلى من يريده، كما يقول صاحب الميزان[1]. وقال الطبرسي في مجمع البيان: «وفي تشبيه الخصومة بإرسال الدلو في البئر وجهان:

أحدهما: أنه تعلّق بسبب الحكم، كتعلّق الدلو بالسبب وهو الحبل.

الثاني: أنه يمضي فيه من غير تثبيت، كمضي الدلو في الإرسال من غير تثبيت[2].

] فَرِيقًا[ : الفريق هو القطعة المعزولة من الشيء، سواء كانت من النّاس أم من غيرهم.

] بِالإِثْمِ[ : «الإثم»: الفعل الذي يستحق به الذم، كالظلم والتعدّي عن الحقّ، كما في شهادة الزور واليمين الكاذبة ونحوهما.

* * *

لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل:

جاء في الكافي عن الصادق (ع) في الآية: كانت قريش تقامر الرّجل بأهله وماله فنهاهم اللّه عزَّ وجلّ عن ذلك[3].

وفي الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه (جعفر الصادق (ع) قول اللّه ـ عزَّ وجلّ ـ في كتابه: ] وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ[ ؟ فقال: يا أبا بصير، إنَّ اللّه ـ عزَّ وجلّ ـ قد علم أنَّ في الأمّة حكاماً يجورون، إلاّ أنه لم يعنِ حكام أهل العدل، ولكنَّه عنى حكام الجور. يا أبا محمَّد، إنه لو كان لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلاَّ أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت؛ وهو قول اللّه عزَّ وجلّ: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ[ [النساء:60][4].

وفي المجمع قال: روي عن أبي جعفر محمَّد الباقر (ع): «يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الأموال»[5].

وهذا المنهج في التفسير جاء وفق الأسلوب الذي اتّبعه أئمة أهل البيت(ع) في التفسير بالمصداق للإشارة إلى المفردات التي ينطبق عليها العنوان العام، من دون تخصيص الآية بهذا المورد أو ذاك. وهذا ما نلاحظه في هذه الرِّوايات التي فسّرت الباطل بالقمار تارة واليمين الكاذبة أخرى، كما استوحت الرِّواية الثانية من الآية قضية التحاكم إلى حكام الجور والامتناع عن التحاكم إلى حكام العدل، لأنَّ أولئك قد يحكمون بغير الحقّ بالرشوة التي قد يطلبها الحاكم ويقدّمها المرتشي إليه.

] وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ[ أي: لا يتملك أيّ واحدٍ منكم المال الذي لا يستحقه، وذلك من خلال الوسائل غير الشرعية التي لا يرضاها الشرع ولا يقبلها العقلاء، سواء كان ذلك بالغصب والظلم أو القمار ونحوه، فإنَّ مسألة الحقّ في المال خاضعة لأسباب معينة جرى عليها العقلاء في الواقع الاجتماعي والاقتصادي في المعاملات العامة والخاصة، وأمضاها الشارع أو لم يردع عنها، ما يجعل الوسائل الأخرى تقع في حيّز الباطل الذي يحرم أكل المال والاستيلاء عليه من جهته، ] وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ[ أي: تلقوا بها إلى القضاة الذين ينظرون في قضايا النّاس لإصدار الأحكام فيها، وذلك قد يكون برشوة الحاكم الجائر المنحرف للحكم بالباطل، وقد يكون بتقديم القضايا للمحاكم من خلال الحجة الباطلة، والبينة الكاذبة، والضغط القاسي، واليمين الكاذبة، للوصول إلى أخذ المال من غير حقّ بفعل الأساليب غير المشروعة. وقد روى المفسّرون عن النبيّ(ص) أنه قال للخصمين: «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم ألحن[6] بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذن منه شيئاً، فإنما أقضي له قطعة من نار. فبكيا وقال كلّ واحد منهما: حقّي لصاحبي، فقال: اذهبا فتوخيا، ثُمَّ أسهما[7]، ثُمَّ ليحلّل كلّ واحد منكما صاحبه»[8].

وربما كان الظاهر من سياق الآية ـ على ما يخطر بالبال ـ أنَّ المشكلة تتصل بالإدلاء بالأموال إلى الحكام، بحيث تكون المسألة اتفاقاً بين الآكل والحاكم للحكم بالباطل بواسطة الرشوة ونحوها، لأنَّ الآية تدل على الإدلاء بالأموال إلى الحاكم بمعنى تقريبها منه وجعلها في تصرفه، ليحكم بها على مزاجه من خلال ما يقدّم إليه منها من الحصة أو الرشوة. وهذا هو المستفاد من رواية الإمام الصادق (ع) الثانية التي ذكرناها في صدر تفسير الآية. وفي ضوء هذا، لا مجال للاستدلال بالحديث المروي عن النبيّ محمَّد (ص) على عنوان الآية؛ واللّه العالم.

] لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النّاس بِالإِثْمِ[ من خلال الوسائل غير المشروعة في الاستيلاء عليه، ] وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ[ واقع الحال الذي يوحي إليكم بأنكم على الباطل من دون أية شبهة، ما يجعل جريمتكم أكبر، لأنَّ ارتكاب الحرام مع العلم أكثر خطورة وأعظم قبحاً من ارتكابه مع الشك.

* * *

بين الملكية الفردية وأكل الحرام:

وهذا تشريع جديد، يضاف إلى التشريعات الإسلامية التي يُراد من خلالها تنظيم الواقع الاجتماعي للمسلمين، ولكنّه تشريع يتعلّق بالعلاقات المالية بينهم، فإنَّ الإسلام يقرّ الملكية الفردية التي تقتضي اختصاص كلّ فرد بحصته من المال الذي أعدّه اللّه وخلقه للإنسان، ولكنَّه نظم له طريقة الاختصاص والتملك بطرق شرعية خاصة، فأحل له ذلك بأسباب وحرّم عليه بأسباب أخرى، واعتبر كلّ سبب لا يقرّه الشرع باطلاً لا يحقّق ملكاً ولا يبيح تصرفاً، ونهى الإنسان عن كلّ علاقة باطلة بكلّ ما تستتبعه من أوضاع وتكاليف، وكنّى عن ذلك بالأكل باعتبار أنَّ الأكل يمثّل أولى الحاجات الطبيعية التي يُقبل عليها الإنسان في وجوده لحفظ حياته. وربما كان التعبير بـ ] أَمْوَالَكُمْ[ إشارة إلى أنَّ المال للجماعة، ولكنَّ اللّه جعل لكلّ فرد منه حصة خاصة يتصرّف فيه بما يريد مما لا يسيء إلى مصلحة الآخرين، الأمر الذي يؤكد الصفة العامة للمال من موقع تأكيده على الصفة الخاصة، على أساس أنَّ لكلّ منهما وظيفة ودوراً لا يتعدّاه ولا يسيء في حركته العملية للآخر.

ولا بُدَّ لنا في هذا المجال من مواجهة كلّ علاقاتنا المالية بالوعي الشرعي الذي يميّز بين الحقّ والباطل فيها، في ما أباحه اللّه وما حرّمه منها، وذلك في ما يستحدثه النّاس من التشريعات المالية في توزيع المال من جهة، وفي أخذه من أصحابه من جهة أخرى، كما نراه في تشريعات التأميم في الأوضاع الثورية التي قد تتفجر بها التطوّرات السياسية، وفي ما ينحرف به السلوك في مجالات التطبيق الفردي والجماعي، فإنَّ على المسلم أن لا يندفع مع التيارات المتحركة في الساحة بعيداً عن حكم اللّه، انطلاقاً من الحالات الانفعالية في الثورة على الظلم والظالمين، فإنَّ تحطيم الظلم لا يمكن أن يحصل بظلم جديد آخر، بل لا بُدَّ من أن ينطلق من موقع العدل المتمثّل بالتشريع الإسلامي.

وقد تعرّضت الآية، في حركة التطبيق العملي لهذا الخطّ، إلى ما يتعارف بين النّاس من بذل الأموال لحكام الجور على طريق الرشوة، من أجل أن يحكموا لهم بالباطل في ما يتنازعون فيه من قضايا الأموال والحقوق، وما يقدّمونه ضدّ بعضهم البعض من دعاوى باطلة؛ فإنَّ الآية تشجب هذا السلوك وتنبّه النّاس إلى أن لا يقدّموا أموالهم إلى الحكام على سبيل الرشوة، من أجل أن يأكلوا فريقاً من أموال النّاس بالطرق غير الشرعية التي لا يكسب الإنسان منها إلاَّ الإثم والعذاب عند اللّه، الذي يعلمونه حقاً في ما أوحاه اللّه إلى أنبيائه ورسله.

وفي الآية لفتة موحية إلى الحكام بطريق غير مباشر، في أن يمتنعوا عن أخذ ذلك، باعتبار ما فيه من تزييف للحقّ بالباطل ومن الحكم بالمال إلى غير مستحقه، ما يؤدي بهم إلى عذاب اللّه من جهة وإلى ضمان المال من جهة أخرى. وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تفيد أن رسول اللّه (ص) قال: «لعن اللّه الراشي والمرتشي والماشي بينهما»[9] بالرشوة، وفي بعضها أنَّ الرشوة كفر باللّه العظيم، وفي بعضها أنها شرك.

وقد يكون من بين الموارد التي تشملها هذه الآية ـ ولو بالإيحاء ـ ما يتعارف عليه بعض النّاس من توكيل بعض المحامين، ليدافعوا عن الدعاوى الباطلة، وليجدوا لهم مخرجاً من القانون يمكنهم من خلاله ربح الدعوى على الإنسان البريء أو المظلوم، وقد يكون من بينها ما يلجأ إليه بعض النّاس من الرجوع إلى القانون الوضعي المدني، الذي يحلل للنّاس بعض ما حرّمه اللّه، كما في القوانين التي تساوي بين الذكر والأنثى في الميراث، وذلك للحصول على الحصة التي لا يحلها الشرع من المال، فإنَّ ذلك أكل للمال بالباطل من جهة، وإدلاء بالمال إلى الحكام ولو بالواسطة من جهة أخرى، في ما يتعلّق بالمحامين الذين يحرم عليهم أخذ الأجرة على ذلك كما يحرم على الآخرين دفعها إليهم، لأنَّ ذلك باطل بباطل.

 

ـــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:2، ص:53.

(2) مجمع البيان، ج:2، ص:506.

(3) الكافي، ج:5، ص:122، رواية:1.

(4) الكافي، ج :7، ص:411، رواية:3.

(5) مجمع البيان، ج:2، ص:506.

(6) ألحن: أفطن وأعرف وأقدر عليها من صاحبه.

(7) أسهما: اقترعا، أي: اقصدا الحق في القسمة وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من النصيب.

(8) تفسير الكشاف، ج:1، ص:340.

(9) البحار، م:37، ج:101، ص:436، باب:3، رواية:11.