الآية 189
الآيــــة
{يَسْـألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاس وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189).
* * *
معاني المفردات:
] الأَهِلَّةِ[ : جمع هلال، وهو القمر، يبدو دقيقاً في ليلتين أو ثلاث من أول كلّ شهر، ثُمَّ يزيد حتى يمتلىء نوراً. ثُمَّ يعود كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة كالشمس.
] مَوَاقِيتُ[ : جمع ميقات، وهو مقدار من الزمن جعل علماً لما يقدّر من العمل.
] الْبِرُّ[ : النفع الحسن.
] ظُهُورِهَا[ : الظهر: الصفحة المقابلة للوجه.
] أَبْوَابِهَا[ : الباب: المدخل.
* * *
مناسبة النزول:
جاء في أسباب النزول في قوله تعالى: ] يَسْـألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ[ قال ابن عباس: إنَّ معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة وهما رجلان من الأنصار، قالا يا رسول اللّه، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثُمَّ يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثُمَّ لا يزال ينقص ويدقّ حتى يكون كما كان، لا يكون على حالة واحدة[1]؟
وسيأتي الحديث في الجانب التفسيري أنَّ هناك اعتراضاً على هذا الوجه من الاحتمال في الآية، وقد ناقشنا في هذا الاعتراض.
وجاء في أسباب النزول ـ في ما رواه السيوطي في الدر المنثور ـ قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره. فأنزل اللّه: ] وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا[ [2].
وجاء في تفسير الكشاف: «كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب، فإذا كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلماً يصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم: ] وَلَيْسَ الْبِرُّ[ ليس البر بتحرجكم من دخول الباب ] وَلَـكِنَّ الْبِرَّ[ بر ] مَنِ اتَّقَى[ ما حرّم اللّه»[3].
وقد لا نجد مانعاً من التسليم بنزول الآية في هذا المورد، ولكن سبب النزول لا يحدّد مفهوم الآية بمورد نزولها، بل يكون منطلقاً للفكرة العامة.
* * *
الإسلام ينفتح على الاستجابة أمام إشارة التساؤلات:
وهذا أسلوب جديد من أساليب القرآن في التربية، وهو أسلوب إثارة السؤال من خلال ما يقدّمه الآخرون من القضايا التي تدور في تفكيرهم، فيحاولون معرفتها بهذه الطريقة، وقد أراد اللّه للنبيّ (ص) أن يهتم بكلّ الأسئلة التي تطرح عليه، لأنَّ من حقّ النّاس عليه أن يبتدئهم بالمعرفة إذا لم يسألوه، وأن يجيبهم إذا توجهوا إليه بالسؤال، لأنَّ اللّه قد أرسله من أجل أن يزكيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ويفتح لهم أبواب المعرفة على أوسع مدى وأرحب مجال.
وقد يكون هذا التأكيد على الأسئلة التي كانت توجّه إلى النبيّ محمَّد (ص) من المسلمين، والأجوبة التي كان يقدّمها إليهم، ونقل ذلك في القرآن، إيحاءً بأنَّ الإسلام ينفتح على كلّ علامات الاستفهام التي تدور في أذهان النّاس في القضايا التي تشغل تفكيرهم في حياتهم الخاصة والعامة، فمن حقّ النّاس أن يطلقوا كلّ الأسئلة أمام القيادة الإسلامية، حتى إذا كانت في مستوى النبوة المتمثّلة بالنبيّ محمَّد (ص)، لأنَّ ذلك هو الذي يحرّك الإنسان في خطوات المعرفة.
فقد ترد هناك بعض العناوين التي لا يملك الإنسان وضوح الفكرة فيها، وقد تنطلق بعض الأفكار المضادة للعقيدة، أو للشريعة، أو للموقف القيادي، أو للواقع العام، مما يثير التساؤل أو الرفض... ولا بُدَّ للقيادة الفكرية والسياسية من الاستجابة لذلك كلّه بكلّ انفتاح ورحابة صدر وسعة أفق، بعيداً عن كلّ تشنّج أو انفعال؛ فليست هناك محرّمات أمام أيّ سؤال، لأنَّ التحريم يعني سدّ باب المعرفة لدى النّاس ممّن لا يملكون الوضوح فيه، فيتحوّل الإسلام إلى حالةٍ معينةٍ متخلّفةٍ بعيدةٍ عن أيّة إمكانات للتقدّم والتطوير؛ ويجعل النّاس يعيشون حالة التعبّد في خطوط الفكر في الوقت الذي يقتصر فيه التعبّد على الجانب العبادي وبعض الجوانب العملية في التشريع، مع بعض الملاحظات التي تتحرّك لتتحدّث عن أسرار العبادة أو التشريع بطريقة قريبة إلى الوجدان.
إنَّ اللّه سبحانه يتحدّث دائماً لنبيه عن أنه أنزل الكتاب عليه (ص) ليبين للنّاس: ] وَما أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ [النحل:64]، ] وَما أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّه مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ [إبراهيم:4] ] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ[ [النحل:39]. وذلك يعني أنَّ على النبيّ أو الإمام أو العالم الداعية، أن يدخل مع النّاس في التفاصيل التي يختلفون فيها فتتعدّد آراؤهم حولها، ليعطيهم الحكم الفاصل في هذا الموضوع أو ذلك، لينطلق النّاس في المعرفة على أساس من الوضوح في المبدأ والتفاصيل.
إننا نلاحظ في الأسئلة التي بدأها القرآن في هذا الفصل، أنها لا تقتصر على جانب واحد، بل تتنوّع فيها الموضوعات، فقد سألوا عن الأهلة، وماذا ينفقون، وعن القتال في الشهر الحرام، وعن الخمر والميسر، وعن اليتامى، وعن المحيض، وعمّا أحل لهم، وأمثال ذلك مما يتصل بملاحظاتهم التأملية، وبأوضاعهم الإنفاقية والقتالية، وبما يشربون وما يلبسون، وبما يطرأ عليهم من حالات جسدية، وبما يتفشى بينهم من حالة اليتم والحرمان...
وسألوا عن الساعة وعن توقيتها، وعن الأنفال من يملكها، وعن الروح ما هي، وعن الجبال كيف يكون مصيرها عند نهاية الكون مما يتصل بالجوّ التأمّلي، وعن القلق المستقبلي والأشياء الموجودة في الطبيعة وعمق الذات الإنسانية...
فلا بُدَّ من أن تكون هناك حالات وأوضاع وأشياء أثارت هذه الأسئلة في أذهانهم مما بيّنه النبيّ (ص) ولم يكن واضحاً في تفاصيله، أو مما لم يبيّنه مما ترك للنّاس أمر السؤال عنه ليبين لهم ذلك في الجواب.
وإذا كان اللّه سبحانه يولي مثل هذه الأمور البسيطة الأهمية البالغة، فينزّل على نبيه الأجوبة عنها على حسب المستوى الذهني الذي كانوا يتمتعون به ليستريحوا إليه في ما يتأمّلونه أو يتعلّمونه؛ فهل يمكن أمام ذلك، أن لا يحمّل اللّه رسله والدعاة إلى دينه المسؤولية في أن يستجيبوا للأسئلة الصعبة التي تتصل بالعقيدة في أصولها وتفاصيلها، وعلى الخطوط العامة للمفاهيم الإسلامية لا سيما في الحالات التي يعيش فيها الواقع الإسلامي الصراع بين الإسلام والتيارات الأخرى المضادّة أو في داخل الإسلام في اختلاف المذاهب الكلامية والفقهية، بحيث تتحرّك من خلالها علامات الاستفهام في أكثر من موقع أو قضية مما يثيره الآخرون أو تفرضه أجواء الخلافات التي تثير الحيرة والقلق الفكري والروحي؟
إنَّ حركة الجواب في السؤال تستطيع أن تؤصّل للإنسان عقيدته وتفكيره، وتملأ بالصفاء روحه وعقله، وتقوّي قدرته على المواجهة والدخول في ساحات الصراع، ليحمي مواقعه عندما تحتدم الأفكار وتعنف الكلمات.
* * *
السؤال والجواب أسلوب تربوي:
وقد نلاحظ أنَّ أسلوب السؤال والجواب هو من أفضل الأساليب التربوية في تعميق الفكرة في وجدان الإنسان، لأنك في الجواب تحدّث السائل عن نفسه عندما تعالج أسباب حيرته، فتفتح له أبواب المعرفة في ما يجهله، ما يجعله ينجذب إلى الكلمة انجذاباً وجدانياً بفكره وشعوره، لأنها تمثّل ردّ الفعل لكلمته، ومفتاح الحل لمشكلته؛ فلا يستسلم في انفتاحه على الجواب لأية حالة شرود أو ذهول أو غفلة، لأنَّ الإنسان لا يسأل عادة إلاَّ عن الأشياء التي تضغط على وجدانه وتنطلق من عمق اهتماماته، بينما نجد هذا الإنسان لا يندفع بمثل هذا المستوى لسماع محاضرة أو درس أو نقاش بين اثنين... فقد يقف موقف اللامبالاة، أو يستسلم لبعض الشرود الفكري أو الذهول الروحي، أو يبتعد عن الجوّ كلياً من خلال قضايا أخرى أكثر أهمية من هذه القضية أو تلك.
ولهذا نجد أنَّ القرآن لم يكتف بالجواب عن الأسئلة التي يقدّمها النّاس إلى النبيّ، بل بادر إلى أن يطرح الأسئلة على الآخرين، فقد تعدّدت الآيات التي فرضت الأسئلة التي لو أطلقت أمام النّاس الذين قد يكفرون أو يشككون، لانطلق الجواب من عمق الفطرة في إجابة حاسمة تؤكد أصالة الإيمان في الفطرة كقاعدةٍ للمنهج في حركة التفكير، وذلك في قوله تعالى:
] وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ من خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ[ [العنكبوت:61].
وقوله تعالى: ] وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللّه قُلِ الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ[ [العنكبوت:63].
وقوله تعالى: ] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَْيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ[ [الأنعام:46].
وقوله تعالى: ] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ الليْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ[ [القصص:71ـ72].
وقوله تعالى: ] قُلْ أَرأيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ[ [الملك:30].
إنها الأسئلة التي تقتحم على الإنسان ذاته في الحالة التي لا يعيش فيها العقدة المرضية التي توحي له بالجحود والعناد، بل يعيش فيها عفوية حركة ذاته مع الآخرين، لينطلق الجواب مع عفوية الحقيقة في أعماقه من خلال فطرته التي ترى اللّه في كلّ شيء.
وتحدّثنا بعض الآيات كيف يطرح اللّه الجواب التفصيلي عن علاقته بعباده انطلاقاً من السؤال الذي يفرض أنهم يقدّمونه إلى النبيّ محمَّد (ص) أو إلى كلّ داعية، لأنَّ طبيعة الأمور في إيمانهم باللّه تدعو إلى مثل هذا السؤال الذي يحاول أن يستشرف أسرار الغيب في الذات الإلهية المقدسة في ما لا يملكون الوسائل العادية للوصول إلى معرفته، وهو قوله تعالى: ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[ [البقرة:186].
ولا بُدَّ للعاملين في حركة التربية والدعوة الإسلامية من أن يأخذوا بهذا الأسلوب التربوي في مناهجهم وأساليبهم، انطلاقاً من المنهج القرآني الذي ينفتح على أقرب الطرق للوصول إلى عقل الإنسان وروحه في الدعوة والحركة.
وقد اختلفت وجهة النظر عن المسؤول عنه في الآية، فاختار أكثر المفسّرين أنَّ مورده هو حالات القمر المختلفة، فإنه يبدو صغيراً ثُمَّ يكبر، ثُمَّ يصغر بعد ذلك، فأرادوا أن يفهموا السرّ في ذلك الاختلاف الذي يلفت النظر لدى كلّ إنسان. ولكن الجواب لم يكن على وفق السؤال، بل اتجه اتجاهاً آخر، وهو الحديث عن فوائد هذا الاختلاف، لأنه يحدّد للنّاس مواقيتهم ومواعيدهم في ما يحتاجون إليه من تحديد الوقت في قضاياهم العامة والخاصة، ولا سيما في موضوع الحج الذي له موعد خاص ـ وقد ركز عليه لأهميته عندهم ـ وقال بعض المفسّرين في التعليق على ذلك: إنهم لم يكونوا في مجال الاستفادة من المعرفة الفلكية، ما يجعل الدخول في ذلك اقتحاماً في عملية لا تتسع لها أفكارهم من جهة، ولا تخدم حياتهم من جهة أخرى؛ ولهذا أعرض عن الجواب حول الموضوع، لينتقل إلى السؤال عن فوائد ذلك وحكمته في الحياة، من حيث إنها تضبط لهم مواقيتهم في أعمالهم، وتحدّد لهم وقت الحج بالخصوص، في الوقت الذي تتميّز فيه عن الشهور الشمسية بسهولة تناول التاريخ القمري لكلّ النّاس، لأنه لا يحتاج إلاَّ إلى النظر والملاحظة؛ بينما يتوقف التاريخ الشمسي على الحساب، فلا يعرفه إلاَّ الحاسبون. ويعقبون على ذلك بأنَّ من مهمة الموجّه والمرشد أن لا يجيب عن كلّ الأسئلة، لأنَّ بعضها لا يتصل بحياة النّاس بالمستوى الكبير، بل ينبغي له أن يوجههم إلى القضايا المهمة التي يجب أن يسألوا عنها ليستفيدوا منها بشكل مباشر، وفي ضوء ذلك، كان تفسيرهم للتعقيب القرآني اللاحق للجواب: ] وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ فقد ذكروا أنه دعوة إلى أن يواجه الإنسان القضايا من أبوابها ولا يواجهها من ظهورها، بالأسلوب الكنائي الذي عبّر فيه عن ذلك بالبيوت.
وقد انطلق هؤلاء المفسّرون في هذه الاستفادة من الآية إلى ما روي «أنَّ معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم[4] الأنصاري قالا: يا رسول اللّه، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثُمَّ يزيد حتى يمتلىء ويستوي، ثُمَّ لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت»[5].
* * *
مع صاحب تفسير الميزان:
وذهب بعض المفسّرين ـ ومنهم صاحب تفسير الميزان ـ إلى أنَّ السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته، إذ لو كان كذلك، لكان الأنسب أن يُقال: يسألونك عن القمر لا عن الأهلة. وأيضاً لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكله الخاص، لكان الأنسب أن يُقال: يسألونك عن الهلال، إذ لا غرض حينئذ يتعلّق بالجمع، ففي إتيان الأهلة بصيغة الجمع دلالة على أنَّ السؤال إنما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالاً بعد هلال ورسمه الشهور القمرية، وعبّر عن ذلك بالأهلة لأنها هي المحققة لذلك، فأجيب بالفائدة»[6].
أمّا تعليقنا على ذلك، فإننا لا نرى رأي صاحب الميزان في ما استفاده، لأنه استند إلى إتيان "الأَهِلة" بصيغة الجمع، بدعوى أنها لا تتناسب مع السؤال عن القمر أو الهلال؛ ولكنَّنا نرى أنه يكفي في ذلك تكرر الظاهرة في الزمن، بحيث إنها تلفت النظر دائماً، ما يجعل السؤال عنها كشيء متكرر بصيغة الجمع… ويؤكد ذلك أنَّ السؤال كان عن الظاهرة، لا عن حقيقة القمر كما يوحي به كلامه في ما يستفيده من وجهة نظر الآخرين، ونحن نستقرب ما ذكروه، لأنه هو المناسب للسؤال، وهو المتبادر من الآية. فإنَّ اختلاف الشهور وتعدّدها لا يلفت أنظارهم كحالة ذهنية صعبة، لأنه من الأمور التي يسيرون عليها في حياتهم، بل الذي يلفت النظر هو اختلاف حالات القمر ـ كما ورد في الرِّواية ـ أمّا لماذا كان الجواب بما يعرفونه، فلأنَّ الآية أرادت أن ترشدهم إلى ما يجب أن يهتموا به من تنظيم أوقاتهم على حسب ما أراه اللّه لهم في ذلك، بما أوجده لهم من هذا التنظيم الكوني للوقت ليسيروا على هداه بطريقة منظمة مركزة؛ واللّه العالم بحقائق آياته.
* * *
يسألونك عن الأهلّة:
] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ[ في اختلاف أشكال القمر منذ خروجه من المحاق إلى أن ينتهي إليه، كيف كان صغيراً ثُمَّ يكبر ثُمَّ يعود صغيراً كما كان، كيف ذلك؟ ولماذا؟ وما الفرق بين القمر في هذا التنوّع في حجمه وبين الشمس في بقائها على حالةٍ واحدةٍ في الوضع الطبيعي في القانون العام؟ ] قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاس وَالْحَجِّ[ فللشمس وظيفة واحدة في النظرة العامة في رؤية النّاس الحسية، وهي تحديد الليل في عملية الغروب والشروق. أمّا القمر، فإنَّ وظيفته هي التوقيت المتحرّك على مستوى الأيام في بداية الشهر ونصفه وآخره، وعلى مستوى الشهور، ما يفرض هذا النوع من الاختلاف؛ فهي مواقيت للنّاس في كلّ قضاياهم المتصلة بنظام حياتهم، وهي ميقات للحج الذي يمثّل الاهتمام في الواقع الإسلامي وفي منطقة الدعوة.
وهذا ما يفرض اختلاف الأوقات الذي يمكن أن يشير إليه اختلاف الشكل للقمر؛ واللّه العالم.
* * *
البرّ من اتّقى:
] وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا[ فإنَّ ذلك يخالف الوضع الطبيعي الذي تقتضيه الفطرة الإنسانية في حركتها في الواقع على حسب الخصائص الذاتية المتمثّلة في عناصر وجوده، إذا أراد الإنسان أن يدخل بيته أو بيوت الآخرين، فإنَّ من الطبيعي بحسب نظام البيت أن يدخله من بابه الذي هو المدخل له.
وإذا كان هذا هو المفروض في الواقع المادي للبيوت والأبواب، فإنَّ من الممكن الاستيحاء المعنوي في القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، بأن ندخل إليها من مداخلها التي يمكن أن تكون نقطة البداية في التحرّك نحوها، إن من جهة طبيعة القضية أو من ناحية الوسيلة التي توصل إليها، والأسلوب الذي يتمثّل في طريقة التعامل معها.
وربما كانت الفقرة المذكورة «كناية عن النهي عن امتثال الأوامر الإلهية والعمل بالأحكام المشرّعة في الدِّين، إلاَّ على الوجه الذي شرّعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان، وهكذا... وكانت الجملة على هذا متمّمة لأول الآية، وكان المعنى: إنَّ هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرّعت فيها، ولا يجوز التعدّي بها عنها إلى غيرها، كالحج في غير أشهره، والصوم في غير شهر رمضان، وهكذا، فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد»[7]. ولكنَّنا نلاحظ على هذا الاحتمال أنَّ الحديث عن الالتزام بالمواقيت لا يمثّل أية مشكلة في الذهنية العامة للنّاس، فلا يفكر أحد أن يقوم بالعمل في غير وقته، كما لا يفكر مسلم بالإتيان بالحج في غير شهره، وبالصيام في غير شهر رمضان؛ الأمر الذي يجعل من إثارة هذا الموضوع في خصوصيته إثارة لأمر غير ذي موضوع، فيدخل في دائرة العبث ـ تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً ـ.
] وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى[ حيث تتحوّل التقوى إلى صورة إنسانية نموذجية في الواقع الإنساني، لينطلق الإنسان في مبادراته وأوضاعه وعلاقاته بالحياة وبالإنسان من موقع الخطّ الإسلامي المنفتح على وحي اللّه في أوامره ونواهيه التي تحمي الإنسان من نفسه، كما تحمي غيره منه، فيكون البر عنواناً للإنسان قبل أن يكون عنواناً للعمل، لأنَّ قيمة العمل تتحدّد بمقدار ما يكون تجسيداً للإنسان.
] وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا[ التي تفتح لكم كلّ مواقعها وجنباتها، سواء في ذلك البيوت المادية أو الروحية والعملية. وربما كان من أظهر مصاديقها الأبواب التي تفتح شخصيات النّاس، لأنَّ لكلّ إنسان باباً تدخل منه إلى عقله وقلبه وحياته، ما يجعل من الضروري أن ندرس المدخل إلى عمق الشخصية في نقاط ضعفها وقوّتها، وفي مستواها الثقافي، وتطلّعاتها الروحية والمادية. فقد نلاحظ أنَّ الكثير من المشاكل في المجتمعات الإنسانية انطلقت من عدم اكتشاف الأبواب الثقافية والروحية والاجتماعية التي تمثّل المداخل الطبيعية إلى الواقع الداخلي للنّاس، ما يجعل الإنسان بعيداً عن الفهم الحقيقي لإنسانية الآخرين في أوضاعهم الخاصة والعامة.
] وَاتَّقُواْ اللّه[ وراقبوه في كلّ أموركم في ما تفعلون وتتركون؛ ] لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ لأنَّ التقوى التي تربط الإنسان باللّه هي سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
* * *
من وحي الآية:
يمكننا أن نستوحي من الآية الفكرة التالية: وهي أنَّ على الإنسان الذي يريد أن يجعل حياته في طريق البر، أن ينظر إلى الأشياء الأساسية التي ترتكز على دراسة واعية لخطّ التقوى الذي يدفع الإنسان إلى الانطلاق في مجال الالتزام بأوامر اللّه ونواهيه والوقوف عند حدوده. وفي ضوء ذلك، يمكنكم أن تتجاوزوا هذا العمل الذي ألزمتم أنفسكم به بالدخول إلى البيوت من ظهورها في حال الإحرام، لأنه ليس أمراً مفروضاً عليكم من اللّه، فيمكنكم أن تأتوا البيوت من أبوابها من دون أي خوف أو حرج إذا التزمتم بالتقوى في ما حرّمه اللّه عليكم أو في ما أوجبه اللّه عليكم، ولكن التأمّل في الآية يجعلنا نتجاوز ما ورد في هذه الرِّوايات التي لم تثبت عندنا.
إنَّ الظاهر في قضية قوله: ] وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا[ أنها ليست واردة في مقام الرخصة بذلك، بل هي واردة في مقام تحديد الخطّ العام الذي يسير عليه الإنسان في حياته في كلّ ما يفيض فيه من حديث، أو يسأل عنه من أمر، أو ينطلق فيه من عمل، أو يتحرّك نحوه من هدف... وبذلك يكون مفاد الآية التأكيد على أن يتحرّك الموقف العملي للإنسان من الوجه الذي يجب أن ينطلق منه، فإنَّ اللّه قد جعل لكلّ شيء في الحياة باباً يدخل منه، فلكلّ غاية وسيلة معينة تنسجم مع طبيعتها وواقعها، ولكلّ فكرة أجواؤها التي تتحرّك فيها، ولكلّ حركة قيادتها التي تتحرّك من خلالها... وبذلك تلتقي فكرة إتيان البيوت من أبوابها مع خطّ التقوى، كما أنَّ إتيانها من ظهورها كناية عن الانطلاق من غير مواردها الشرعية بعيداً عن خطّ التقوى، ويكون البر وعدمه تابعاً لذلك.
ويؤيد هذا المعنى ما روي عن الإمام أبي جعفر محمَّد الباقر (ع) ـ في كتاب المحاسن للبرقي ـ في قوله تعالى: ] وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا[ قال: يعني أن يأتي الأمر من وجهه، أيّ الأمور كان[8]، ويمكن أن يكون ذلك على سبيل الاستيحاء أو التطبيق لا على سبيل التفسير. ولعلّ هذا هو الأقرب إلى الأجواء القرآنية العامة. وهو الذي يجب أن نستوحيه في حياتنا العملية عندما نريد أن ننطلق في أي مجال للدعوة، فنتحرّك معه بالأسلوب الذي يمكن أن يؤدي إلى الغاية، ويوصل إلى المطلوب، من خلال دراسة الواقع الفكري والعملي والمؤثرات التي تساهم في طبيعة الشخص أو الحالة، أو عندما نريد أن نعمل في أية حركة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية... فإنَّ علينا أن نواجه القضايا من بابها الذي ندخل من خلاله إلى كلّ المجالات التي تخلق من التحرّك حالة واقعية تساهم في تحقيق فرص النجاح وتبتعد عن كلّ أسباب الفشل، سواء في ذلك جانب الفكرة، أو الوسيلة، أو الأسلوب، أو القيادة، أو طبيعة الساحة التي تنطلق فيها الحركة، أو الظروف الموضوعية التي تحيط بها، أو الخلفيات التي تكمن وراءها، وهكذا في كلّ العناصر الحيّة التي تجعلنا نواجه الموقف من وجهه لا من ظهره. وذلك هو سبيل التقوى الذي يجعلنا نحسب حساب كلّ خطوة نخطوها على أساس رضى اللّه، الذي هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــ
(1) الواحدي، أبو الحسن، علي بن محمد، أسباب النـزول، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1414هـ ـ 1994م، ص:29.
(2) الدر المنثور، ج:2، ص:491.
(3) تفسير الكشاف، ج:1، ص: 340ـ341.
(4) كذا ورد، وفي الرواية الأولى في أسباب النـزول ورد: وثعلبة بن أعنمة.
(5) تفسير الكشاف، ج:1، ص:340.
(6) تفسير الميزان، ج:3، ص:56.
(7) تفسير الميزان، ج:2، ص:57.
(8) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:2، ص:59.
تفسير القرآن