تفسير القرآن
البقرة / من الآية 190 إلى الآية 193

الآية 190-193

الآيــات

{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَنَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (190ـ193).

* * *

معاني المفردات:

] وَقَاتِلُواْ[ : القتال والمقاتلة محاولة الرّجل قتل من يحاول قتله.

] وَلاَ تَعْتَدُواْ[ : الاعتداء: مجاوزة الحدّ. يُقال عدا طوره: إذا جاوز حدّه.

] ثَقِفْتُمُوهُمْ[ : أي: وجدتموهم وأدركتموهم على نحو الأخذ والغلبة.

] وَالْفِتْنَةُ[ : أصلها الاختبار، ثُمَّ ينصرف إلى معان منها: الابتلاء، نحو قوله تعالى: ] وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً[ [طه:40] أي: ابتليناك ابتلاءً على أثر ابتلاء. ومنها: العذاب، كقوله: ] وَمِنَ النّاس مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّه جَعَلَ فِتْنَةَ النّاس كَعَذَابِ اللّه[ [العنكبوت:10] ومنها: الصدّ عن الدِّين، نحو قوله: ] أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّه إِلَيْكَ[ [المائدة:49] والمراد بها في الآية: الشرك باللّه ورسوله.

* * *

تشريع القتال في الخطوات الأولى:

في هذه الآيات، يضع القرآن الخطوات الأولى لتشريع القتال في الإسلام، ويثير أمامنا الفكرة التي يستند عليها هذا التشريع في بداياته. فقد كانت قريش هي البادئة بالقتال والعدوان على المسلمين، فليس من الطبيعي أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمامها، ينادون بالسلام والمحبة والعفو والمغفرة، لأنَّ مثل هذه المفاهيم الروحية الأخلاقية لا يفهمها المعتدون الذين يحرّكون سيوفهم في هوى أطماعهم وشهواتهم وظلمات أنفسهم، فلا بُدَّ من الحديث معهم باللغة التي يفهمونها جيداً، من موقع الجوّ الذي يعيشونه في اعتبار القوّة أساساً للحقّ وللسيطرة. وكان الإسلام واقعياً في نظرته إلى طبيعة الموقف، فأذن للمسلمين في القتال في سبيل اللّه لمن يقاتلهم.

] وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ[ فلم يأذن لهم أن ينطلقوا من موقع الثأر الشخصي الذي يستجيب للنوازع الذاتية، التي قد تضعف وقد تقوى تبعاً للحالة النفسية التي تحكم الواقع الداخلي للإنسان، بل أذن لهم أن يعتبروا الخطّ القتالي سائراً في سبيل اللّه، لأنَّ هؤلاء يعملون على أساس إبعاد النّاس عن اللّه وعن سبيله، ومجابهة المؤمنين به، العاملين بطاعته، وأرادهم أن لا يعتدوا، بل أن يواجهوا الموقف بروحية الدفاع عن الحقّ وعن أصحابه، ليكون الإسلام هو القوّة البديلة، لأنَّ قوّته لا تمثّل خطراً على الحياة، بل هي على العكس من ذلك تدفع الخطر عن القيم الأصيلة للإنسان ابتداءً من الحفاظ على وجوده الخيِّر إلى كل خطوة من خطواته العملية الخيِّرة في بناء الحياة.

] وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[ إنَّ الكافرين هم الذين بدأوا العدوان والقتال، فليتحملوا نتائج أعمالهم وعدوانهم، وليتحرّك المسلمون في اتجاه تهديم القوّة الطاغية، وصنع القوّة البديلة من مواقع الحقّ؛ وليلاحقوهم حيث وجدوهم، لأنَّ ذلك هو السبيل لإذلالهم وإضعافهم والسيطرة عليهم... ] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ[ أي: وجدتموهم وأدركتموهم وتمكنتم من السيطرة عليهم.

فكلّ الساحات التي يوجدون فيها هي ساحات حرب شرعية ضدّهم، فلا مأمن لهم في أي مكان، ولا ملاذ لهم في أي ملجأ ليعيشوا الخوف الدائم الذي لا يترك لهم مجالاً للشعور بالأمن في أي موقع من مواقع وجودهم... إنه قانون المعاملة بالمثل. ] وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ[ فقد اضطهدوا المسلمين وأبعدوهم عن مكة حتى تفرّقوا في بلاد اللّه في هجرات متعدّدة. فللمسلمين الحقّ في أن يعاملوهم بمثل ما عاملوهم به، ولم تكن قضيتهم قضية قتال للمسلمين وإخراجهم من ديارهم، بل كانت القضية هي ممارسة أقسى أنواع الضغوط ضدّ المسلمين من أجل فتنتهم عن دينهم تحت تأثير الضغوط الصعبة من التهديد والتعذيب والإغراء والإبعاد والتشريد.

* * *

الفتنة أشدّ من القتل:

] وَالْفِتْنَةُ[ عن الدِّين ـ في نظر الإسلام ـ ] أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ[ ، لأنَّ القتل يعني الموت الجسدي، بينما تمثّل الفتنة عن الدِّين الموت الروحي الذي يفقد الإنسان معه نفسه، ويتحوّل إلى عنصر ضار للحياة بدلاً من أن يكون عنصراً نافعاً لها، ما يجعل من الجريمة جريمةً تتصل بالجانب الشخصي للإنسان، وبالجانب العام لحياة المجتمع كلّه.

وعلى ذلك الأساس أعطاها الإسلام طابع التحدّي للحياة، لأنها تحمل التحدّي لكلّ ما تحمله الحياة التي يريدها اللّه للإنسان من الخير الشامل، والمحبة المرتكزة على العدل، والتصوّر الإيجابي لكلّ ما يواجه الإنسان من مشكلات على أساس الفكر الواقعي الإنساني المسؤول الذي لا يهرب من المشكلة بل يواجهها بشجاعة، ولا يخضع للتاريخ بل يناقشه بمسؤولية، ولا يتعبد للمحدود، بشراً كان أو حجراً، بل يتمثّل فيه سرّ إبداع الخالق المطلق بعيداً عن كلّ نظرة ذاتية خاشعة للمخلوق... وهكذا يتحرر الإنسان في أجواء الدِّين السمح الذي يبني للإنسان شخصيته على أساس الحرية أمام كلّ شيء حوله، ليجعله عبداً للّه وحده، ويركز للحياة قواعدها على أساس العدل الذي يتجاوز الطبقية للمساواة، والتمييز بين النّاس للتنوّع، ولتوزيع الفرص على أساس الأدوار التي تحتاجها الحياة.. وفي هذا الجوّ، أراد الإسلام للإنسان أن يقاتل الذين يحاربون فيه هذا التوجه الحر للحياة وهذه الحرية الخاشعة في محراب عبوديتها للّه. ولا يعتبر الإسلام مثل هذا القتال عدواناً على الآخرين، بل دفاعاً عن الإنسان والحياة ضدّ الذين يريدون قتل إنسانية الحياة في الإنسان.

وإذا كانت الفتنة ـ وهي الصدّ عن الدِّين ـ تتمثّل بالضغط النفسي، والتعذيب الجسدي، والتجويع الغذائي، والحصار الاقتصادي، ونحو ذلك مما مارسته قريش وحلفاؤها ضدّ المسلمين الذين دخلوا في الإسلام آنذاك من النساء والرجال، وكانت قمة ذلك ما قامت به ضدّ آل ياسر وبلال الحبشي وبني هاشم في حصار الشعب، وإلجاء المسلمين إلى الهجرة فراراً من شدّة التعذيب، فإنها قد تتمثّل في الأوضاع الفاسدة الضاغطة على الجوّ الأخلاقي العام، المانعة من السعي نحو إيجاد المجتمع المسلم في أخلاقيته وروحانيته ومناهجه الإسلامية بمختلف وسائل الاضطهاد الروحي، ما يدفع بالنّاس إلى الانحراف عن الحقّ، وقد يتمثّل بمصادرة الحريات الفكرية والسياسية والإعلامية من قبل القوى المستكبرة لمصلحة تيارات مضادة كافرة، تتحرّك في حرياتها الضاغطة على الدِّين وأهله، بحيث تمنع الجيل الجديد من الثبات على الإسلام، وتنحرف بالجيل الحاضر عن الخطّ المستقيم؛ سواء كان ذلك على مستوى الحكومات أو الشخصيات أو الأحزاب المستبدة.

* * *

القتال في المسجد الحرام:

] وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ[ وجاءت هذه الآية لتدلل على أنَّ للمسجد الحرام حرمته الكبيرة عند اللّه، لأنَّ اللّه جعله قاعدة السلام للإنسان في الأرض، فلا يحل فيه القتال مهما أمكن الامتناع عن ذلك، ولا يجوز لأحد أن يبدأ أحداً بقتال فيه؛ ولكن الدفاع عن النفس حقّ مقدس، فللإنسان حقّ الوقوف بقوّة ضدّ الذين يقاتلونه في هذا المكان الآمن، لأنَّ انتهاك الحرمة لم يكن من قبل المدافعين، بل من جانب المهاجمين، ولذلك فإنَّ على المسلمين أن لا يشعروا بالحرج أمام حالة اضطرارهم للدفاع عن أنفسهم بقتال المشركين في المسجد الحرام، لأنَّ ذلك هو السبيل لحماية المسجد الحرام من القوّة الطاغية الباغية التي تشوّه روحية المعاني الكبيرة في المسجد، وتهدّم أجواء السلام في داخله، فلا بُدَّ من قتالهم وإبعادهم عنه حتى يخلو الجوّ للخير والمحبة والتقوى والسَّلام في نهاية المطاف، ليستمر قاعدة للأمن لكلّ النّاس في ظلّ الدعوة التي تؤمن بهذه الحقيقة، انطلاقاً من إيمانها باللّه في شريعته الممتدة في رحاب الحقّ والعدل والأمان.

وقد كان المسلمون يتحرجون من ذلك في بعض المواقف التي كانت تتفجر بالحرب بينهم وبين قريش، وذلك في ما روي في مجمع البيان عن ابن عباس في قوله تعالى: ] وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه[ ـ الآية ـ نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، ذلك أنَّ رسول اللّه(ص) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، فصاروا حتى نزلوا الحديبية؛ فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبية. ثُمَّ صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه، ويعود العام القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره. فلمّا كان العام المقبل، تجهز النبيّ (ص) وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام، ويقاتلوهم، وَكَرِهَ رسول اللّه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل اللّه هذه الآية[1]..

ومن خلال هذه الآية نعرف واقعية الإسلام في التشريع في ما يحرّمه ويحلله من أشياء، فإنَّ حرمة الأشخاص والأمكنة والأزمنة تفرض نفسها على واقع التشريع والممارسة، ما دامت في حدودها الخاصة التي لا تصطدم بحرمة أشياء أعظم منها في مقياس القضايا الكبيرة، فإذا اصطدمت بها في بعض المواقف، بحيث كان الحفاظ عليها موجباً لسقوط الحرمة الأعظم، وهي حرمة الإنسان المؤمن في نفسه ودينه، كان للمسلمين الحقّ في تجاوز الحرمات العظيمة أمام الحرمة الأعظم، على ما هي القاعدة الإسلامية التي يغلب فيها الجانب الأقوى في المصلحة على الجانب الأضعف. ومن هنا تأتي الاستثناءات التي تخرج بعض الأمور من القاعدة العامة في أي حكم شرعي. ولولا ذلك لأمكن للفئات الباغية أن تستغل حرمة بعض الأمكنة والأزمنة، لتحارب الإسلام في قوّته انطلاقاً من عدم قدرة المسلمين على الردّ نظراً لحرمة الشهر أو المكان، ما يوجب تقدّم تلك الفئات في مواقع القوّة على الإسلام والمسلمين. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: ] وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ[ .

ولما كانت هذه الحالة التي يمارس فيها المسلمون القتال في المسجد الحرام دفاعاً عن أنفسهم، استثناءً، فلا بُدَّ من أن تقدّر بقدرها، وذلك في مجال عدوانهم على المسلمين. ] فَإِنِ انتَهَوْاْ[ وكفوا عن القتال في هذا المكان المقدس، فيجب أن يتوقف القتال عند ذلك لزوال السبب الذي أباحه في هذا المكان الحرام. ويمكن أن يكون التعليل بقوله: ] فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ على أساس وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلّة الحكم ـ كما في تفسير الميزان[2] ـ فإنَّ غفران اللّه ورحمته هما الأساس في جواز أي عمل يريده اللّه في أي شأن من شؤون الحياة، أي يجوز لكم الامتناع عن قتالهم، لأنه لا يبقى بعد ذلك أي سبب له، فكان اللّه يغفر لكم ويرحمكم بالكف عنهم واللّه العالم. وربما فسّر قوله: ] فَإِنِ انتَهَوْاْ[ بالانتهاء عن الكفر بالتوبة منه، فيكون قوله: ] فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ دالاً على أن اللّه يقبل توبة المشرك ويغفر له ذلك ويرحمه بعده، ويكون مسلماً، له ما لهم وعليه ما عليهم.

* * *

كيف نفهم القتال من موقع الجهاد؟

ثُمَّ انطلقت الفكرة، لتجعل من قضية القتال ضدّ الشرك والمشركين قضية تدخل في حساب تهديم الأسس التي يرتكز عليها الكفر في قوّته التي يحارب من خلالها الإسلام، ويضغط بها على حرية المسلمين ليفتنهم عن دينهم، ويقف على أساسها ضدّ كلّ تحرّك للإسلام في العالم. إنَّ القضية ليست نزاعاً على مستوى الأشخاص أو القبائل أو الفئات المتخاصمة، لتحل على أساس الهدنة أو إنهاء النزاع في نطاق المعاهدات القائمة على التجميد المؤقّت للمشكلة؛ بل هي نزاع على مستوى رسالة اللّه التي أراد أن تقوم الحياة على قاعدتها الصلبة الممتدة بالحقّ والعدل؛ ولذا فإنَّ وجودها يعتبر نقيض وجود الكفر الذي يعمل على العدوان والبغي والطغيان... ولذلك فلا بُدَّ من قتال الشرك والمشركين، حتى لا يبقى هناك أساس للضغط الذي يفتن المؤمنين عن دينهم، وحتى يكون الدِّين كلّه للّه؛ فلا يبقى للشيطان وللطاغوت موطىء قدم في الأرض. ] وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه[ من دون أي ضغط أو تهديد أو مصادرة للحرية، ما يمنع المسلمين من ممارسة دينهم براحة وطمأنينة.

إنَّ القضية هي قضية مصلحة الإنسان؛ فلا بُدَّ من الجهاد الشامل بشروطه الإسلامية الشرعية من أجل أن تبقى للإنسان حريته الحقيقية في الحياة القائمة على الحقّ والعدل، بعيداً عن أوهام الحرية في ظلّ سيادة الكفر والظلم والعدوان باسم حرية الفكر والموقف. ومن الواضح أنَّ قضية الجهاد ليست قضية سيطرة سلطة غاشمة تضغط على إرادة الإنسان، فلا تمنحه الحرية ليناقش أو يحاور أو يسأل من أجل الوصول إلى الحقيقة الإيمانية، بل هي قضية تحديد حرية الكفر وتجميد دوره، وذلك بإعطاء الإنسان الحرية في الوصول إلى القناعة من خلال الحوار الإيجابي المنفتح في نطاق خاص. فإذا تمرّد كان الحقّ للحياة الرسالية أن تعبّر عن نفسها بفرض سلطتها على الواقع من أجل الإنسان. وقد نعرف، من خلال دراسة الشروط الشرعية للجهاد، أنه لا يهدف دوماً إلى تغيير عقيدة الإنسان بالقوّة، بل نراه يحافظ على إبقاء الآخرين على عقيدتهم في ما يتصل بالديانات السَّماوية الأخرى إذا حافظوا على شروط العهد والذمة، أو في ما يتصل بالفئات الأخرى غير المؤمنة ـ في بعض الحالات ـ في نطاق المعاهدات التي تقتضي مصلحة الإسلام إقامتها معهم. إنَّ القضية هي أن لا تكون هناك فتنة، وأن يكون الدِّين كلّه للّه، بحيث تكون له الكلمة العليا في الأرض، فلا تبقى هناك كلمة للكفر في موقع السيادة الشاملة. وتلك هي قضية كلّ فكر ودين يريد أن يجعل الحياة على صورته.

] فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ[ . فسِّر الانتهاء في هذه الآية بإيمانهم بالإسلام والابتعاد عن خطّ الكفر، فإنهم إذا أسلموا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وذلك في ما روي عن النبيّ(ص): «إنَّ ربي أمرني أن أقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ اللّه، فإن قالوها اعتصموا مني دماءهم وأموالهم»[3].. وفي ضوء ذلك، يعتبر القتال بعد الإسلام مخصوصاً بالظالمين الذين يعتدون على النّاس ويبغون عليهم بغير الحقّ.

ويمكن أن تكون الآية واردة في اتجاه آخر، وهو التأكيد على تحطيم قوّة الكفر، وتركيز سيادة الدِّين وقوّته من خلال القتال الذي يحقّق هذا الهدف، بالمستوى الذي لا يستطيع المشركون والكافرون معه الممارسة العدوانية على المسلمين؛ وذلك إمّا بالإيمان بعد الكفر، وإمّا بالمعاهدات التي تنظم قواعد السَّلام القائم على احترام حرية المسلمين في دينهم وفي الدعوة إلى الدِّين.

وعلى ضوء ذلك، لا تكون الآية واردة في مجال انتهائهم عن الكفر، بل عن الظلم والعدوان. وليس معنى ذلك أنَّ الإسلام لا يبرر الجهاد من أجل تحطيم واقع الكفر في الحياة، بل كلّ ما نريد أن نقرره هو إمكانية أن يكون للآية معنى غير ما يذكره المفسرون.

ـــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:509 ـ 510.

(2) تفسير الميزان، ج:2، ص:63.

(3) البحار، م:26، ج :73، ص:793، باب:67، رواية:30.