من الآية 194 الى الآية 195
الآيتــان
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (194ـ195).
* * *
معاني المفردات:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ}: هو الذي يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه.
{ الْحَرَامُ} : هو القبيح الممنوع من فعله، ويقابله الحلال المطلق المأذون فيه.
{ وَالْحُرُمَاتُ}: جمع حرمة، وهي ما يجب حفظه ويحرم هتكه.
{ قِصَاصٌ}: الأخذ للمظلوم من الظالم لظلمه إياه.
{التَّهْلُكَةِ} : التهلكة والهلاك بمعنى واحد، وقيل: التهلكة، كلّ ما يصير عاقبته الهلاك، وأصل الهلاك: الضياع، وهو مصير الشيء بحيث لا يدرى أين هو.
* * *
القتال في الشهر الحرام:
كان الحديث في الآية المتقدّمة حول القتال في المسجد الحرام الذي كان المسلمون يتحرجون منه، فأباحه اللّه لهم دفاعاً عن النفس. وفي هذه الآية يتحدّث اللّه عن القتال في الشهر الحرام الذي كان المسلمون لا يجرؤون على القتال فيه احتراماً لحرمته، فأباح اللّه لهم ذلك على أساس المقابلة بالمثل، في الوقت الذي لا يملك الإنسان فيه أي خيار، لأنَّ القضية قضية حياة أو موت بالنسبة للأمّة وللرسالة. وهذا هو قوله تعالى: ] الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ[ .
وإذا كانت قريش قد انتهكت حرمة هذا الشهر، فلم يحترموا حقّ الإنسان فيه بالسَّلام، فللمسلمين الحقّ في أن لا يحترموهم فيه. وعقب على ذلك بقوله: ] وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ[ ، فلكلّ إنسان الحقّ في أن يقتص لحرمة ما انتهكه الآخرون منه، وذلك بانتهاك حرمتهم. وأوضح الفكرة بأنَّ من حقّ المعتدى عليه أن يردّ العدوان بمثله، فلا يتجاوزه إلى أكثر من ذلك التزاماً بخطّ العدل الذي يتركز على المماثلة في العقاب: ] فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ[ أي: عاملوه بالمثل، جوازاً لا إلزاماً. ولا بُدَّ من أن يلاحظ أن ردّ الاعتداء ليس اعتداءً، لأنه من حقّ المعتدى عليه؛ ولكنَّه سماه باسمه، لأنه مجازاة اعتداء، باعتبار أنه مثله في الجنس وفي المقدار، ولأنه ضرر كما أنَّ ذلك ضرر، والمماثلة تقتضي عدم تجاوز حجم العدوان وطبيعته.
] وَاتَّقُواْ اللّه[ ثُمَّ أمر بالتقوى تدليلاً على أنَّ الوقوف أمام حدود اللّه والالتزام بالخطّ الفاصل بين العدل والظلم يرتكز على أساس التقوى الداخلية، التي يشعر الإنسان معها بالمسؤولية الدائمة أمام اللّه في كلّ مواقفه العامة والخاصة، في ما له من الحقّ وما عليه، فيقف حيث يريد اللّه منه أن يقف، ويتحرّك حيث يريد اللّه منه أن يتحرّك. فإنَّ الإنسان الذي لا يعيش حسّ التقوى في نفسه، قد ينجرف أمام نوازع النفس الذاتية التي توحي بالعصبية والانتقام والتشفّي والحقد، وغير ذلك ما يجعل الإنسان يأخذ أكثر مما له من الحقّ أو يعطي أقل ممّا عليه من الحقّ... ثُمَّ حدّدت للمؤمنين الموقع الذي يحصلون من خلاله على رضا الله، وذلك من خلال التقوى ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ[ ، فإنَّ اللّه مع المتقين الذين يخشون ربهم بالغيب ويراقبونه في كلّ صغيرة أو كبيرة في السرّ والعلانية.
* * *
الإنفاق في سبيل اللّه وحفظ النفس:
ثُمَّ انطلق القرآن في مجال آخر يتصل بأجواء القتال والجهاد في سبيل اللّه، وهو الإنفاق في هذا السبيل، فإنَّ للجهاد تكاليفه ونفقاته المالية التي يحتاجها المقاتلون في ما يأكلون وما يركبون وما يتسلحون به ضدّ العدو، فلا بُدَّ من الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس. ] وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّه[ أي: أنفقوا من أموالكم في الجهاد وطريق الدِّين، وكلّ ما أمر به من الخير وأبواب البر؛ فهو سبيل اللّه، لأنَّ السبيل هو الطريق، فسبيل اللّه هو الطريق إلى اللّه وإلى رحمته. وعقّب ذلك بالنهي عن إلقاء الإنسان نفسه بالتهلكة ] وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[ أي: بأنفسكم. وجاء التعبير باليد، باعتبار أنها مظهر القوّة للذات. فكأنَّ الإنسان عندما يلقي بنفسه إلى التهلكة يسقط قوّته التي تتمظهر في يديه. وهذا التوجيه يتناول المجالات الفردية أو الجماعية التي يعرّض فيها نفسه للخطر، من دون أن يكون هناك أيّ تكليف ملزم من اللّه بالتضحية والاستشهاد، وذلك بأن يندفع الإنسان في المواقف التي لا يضمن فيها السلامة بنحو معقول على المستوى الفردي، أو تندفع الجماعة في المواقف الصداميّة مع الأعداء، من دون إعداد سابق للخطّة الحكيمة التي تضمن تحقيق الأهداف الكبيرة، فإنَّ الانتحار الفردي أو الجماعي محرّم عند اللّه، في غير المواقف الشرعية التي تفرض ذلك.
وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت (ع) ما يوحي بأنَّ الآية واردة في الانتحار المالي ـ إذا صح التعبير ـ وذلك بأن ينفق الإنسان ما لديه من المال بحيث لا يبقى معه شيء. فقد جاء في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق (ع) في قوله تعالى: ] وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ قال: لو أنَّ رجلاً أنفق ما في يديه في سبيل من سبل اللّه ما كان أحسن ولا وفّق. أليس تعالى يقول: ] وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ يعني المقتصدين»[1].
والظاهر أنَّ الحديث المشار إليه وارد في مورد التطبيق لا التعيين؛ فإنَّ الآية مطلقة لكلّ عمل يؤدي إلى التهلكة، سواء من ناحية الخطر على الحياة، أو من ناحية الخطر على حاجاتها الطبيعية التي قد تؤدي إلى الخطر على الحياة في نهاية المطاف.
وهناك تفسيران آخران يربطان الإلقاء في التهلكة بالجانب السلبي في حركة الإنسان؛ الأول: أن يكون ترك الجهاد موجباً للتهلكة، وذلك في ما روي في الدر المنثور بطرقٍ كثيرةٍ عن أسلم أبي عمران، قال: «كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد؛ فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح النّاس وقالوا: سبحان اللّه، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا أيُّها النّاس، إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعزّ اللّه دينه وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنَّ أموالنا قد ضاعت، وإنَّ اللّه قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه؛ فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل اللّه على نبيه ـ يردّ علينا ما قلنا ـ ] وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[ فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو»[2].
ونحن نلاحظ أن الآية يمكن أن تنطبق على هذا المورد، وهو ترك الجهاد، والاستسلام للدعة والاسترخاء، والإقبال على إصلاح الأموال كهدفٍ كبيرٍ للحياة... فإنَّ المجتمع عندما يعيش مثل هذا الجوّ السلبي أمام قضايا المصير، فلا بُدَّ من أن يقع في التهلكة، لأنَّ العدو سوف يتغلب على المسلمين ويسيطر على مقدراتهم الاقتصادية والأمنية، ويحتل أرضهم، ويهزم جمعهم، ويحطم قوتهم، الأمر الذي يؤدي إلى هلاك الأمّة سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وهذا ما لا يرضاه اللّه، ولكن من المستبعد أن تكون الآية دالة على ذلك بخصوصه، فإنَّ الظاهر منها الربط بين الإنفاق والإلقاء في التهلكة، ومع الإغضاء عن ذلك، فإنها تكون مطلقة لكلّ الموارد الإيجابية والسلبية في الأشياء كلّها.
أمّا التفسير الثاني، فيرى أنَّ «الإنفاق بشكل عام يؤدي إلى نجاة أفراد المجتمع من الهلاك، وبالعكس، حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع، تنشأ أكثرية محرومة بائسة، ولن يلبث هذا المجتمع حتى يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم، ويتضح من ذلك ارتباط الإنفاق بإبعاد التهلكة»[3].
ونلاحظ على هذا الوجه ما لاحظناه على الوجه الأول، مع ملاحظة بعده عن السياق العام للآية، وهو حالة الجهاد، ما يبعد معه إرادة الخصوصية السلبية، ولكن علاقة ترك الإنفاق بالإلقاء في التهلكة يمكن أن يكون مصداقاً للخطّ العام الشامل لجميع موارده.
* * *
مع صاحب مجمع البيان في دلالة الآية:
هذا وقد اعتبر صاحب المجمع، بعد أن عرض لأكثر من وجه يضع الآية في دائرة خصوصية معينة، أنَّ الأولى حمل الآية على جميع الوجوه ولا تنافي فيها. وفي هذه الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأنَّ في ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة. وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول اللّه (ص) عام الحديبية، وفعله أمير المؤمنين (ع)بصفّين، وفعله الحسن (ع) مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره وخاف على نفسه وشيعته.
فإن عورضنا بأنَّ الحسين (ع) قاتل وحده، فالجواب أنَّ فعله يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه ظنّ أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول اللّه (ص).
والآخر: أنه غلب على ظنّه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً كما فعل بابن عمه مسلم، فكان القتل مع عزّ النفس والجهاد أهون عليه[4].
ونلاحظ على هذا المنهج في معالجة المسألة في مفهوم الإلقاء في التهلكة، أنَّ القضية في الصلح وعدمه، سواء أكان ذلك في صلح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في عام الحديبية، أم في طريقة الإمام عليّ (ع) في مواجهة الموقف بصفين، أم في صلح الإمام الحسن (ع)، فهذا التوجه لم يكن منطلقاً من هذا المبدأ الذي تقرره الآية، بل من خلال مراعاة المصلحة الإسلامية العليا التي تفرض ذلك، كالاستعداد لفتح مكة من خلال التخطيط النبوي الذي كان يفرض تبريد الجوّ. أمّا موقف الإمام عليّ (ع) من التحكيم، فقد كان منطلقاً من النتائج السلبية في انقسام جيشه ووصول معاوية إلى غايته في السلم بما لم يستطعه في الحرب انتظاراً لفرصة أخرى لم تأتِ من خلال الظروف الطارئة. أمّا صلح الإمام الحسن (ع)، فقد كان من أجل الإبقاء على المعارضة للتخطيط للمستقبل الذي يكشف طبيعة الحكم الأموي من خلال حركة معاوية في بيعته ليزيد وتجربة يزيد ومن بعده.
إننا نلاحظ أنَّ المسألة لم تكن من باب الخوف على النفس أو على الجيش من الهلاك، بل كانت من أجل النتائج السلبية الطارئة للحرب على مستوى القضايا الكبرى.
وإذا أردنا أن نتحرّك مع المبدأ العام في انطلاقه في تشريع الصلح مع الكفّار، فإنَّ المسألة لا بُدَّ من أن تخضع لدراسة الجانب السياسي على مستوى الحاضر والمستقبل، بالإضافة إلى الجانب الأمني، ولا يمكن الاقتصار على الجانب الأمني، لأنَّ المسألة الجهادية تتحرّك من أجل دفع المجاهدين إلى التضحية بأنفسهم في سبيل اللّه. وربما كانت طبيعة الظروف العسكرية توحي بأنَّ السلامة غير محتملة للكثيرين من أفراد الجيش، بحيث كان المطلوب منهم أن يلقوا بأنفسهم إلى الموت، لينالوا شرف الشهادة والقتل في سبيل اللّه.
أمّا قضية الإمام الحسين (ع)، فقد انطلقت من موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أمّة جده، ما يجعل من حركته جهاداً في سبيل اللّه يتجاوز النصر فيه الجانب المادي إلى الجانب المعنوي، ولينطلق في مدى المستقبل في تأثيراته لعدم وجود أية فرصة للنصر في الحاضر. وهذا ما نستوحيه من كلماته التي قال في بعضها على ما روي عنه:
«إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[5].
«ألا إنَّ الداعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين السِلّة والذلة، وهيهات ما آخذُ الدنية، أبى اللّه ذلك ورسوله، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية، لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام»[6].
فلم تكن المسألة لديه دائرة في نطاق احتمالات السلامة، لأنَّ الظروف كلّها لا توحي بأي احتمال لذلك أمام رفض الاستسلام لما يفرضونه عليه، كما أنها لم تكن اعتقاداً بأنهم سيقتلونه على كلّ حال، حتى لو استسلم إليهم، بل كانت المسألة هي التحرّك من موقع العناوين الإسلامية الكبرى التي تتحرّك في خطّ التضحية والشهادة في الواقع الذي يحيط به والذي قد يفرض الصدمة الروحية الجهادية التي تهزّ أعماق المسلمين في الاتجاه الذي يضع الثورة في المستقبل.
إنَّ هذا المبدأ الذي تقرره هذه الآية ينطلق في دائرة الحالات الفردية التي يتحرّك فيها الإنسان في حياته الخاصة لأهدافه الذاتية، ولا يقترب من العناوين الكبرى القائمة على أساس الخطر كالجهاد الذي لا ينفصل عن تعريض النفس للتهلكة على المستوى الفردي، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا العامة في الظروف المشابهة لحركة الإمام الحسين (ع) التي تواجه السلطة الحاكمة من موقع الشخصية التي يعتقد النّاس قيادتها الشرعية، كما هي كذلك على أساس طبيعة الأمور، ما يجعل التكليف الشرعي يتحرّك في دائرة الخطر في نطاق الظروف الموضوعية.
ولذلك فلا بُدَّ من دراسة المسؤوليات الشرعية الكبرى في قضايا الحرية أمام المحتل، والعدالة أمام الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الأوضاع الاجتماعية والسياسية المنحرفة التي يتمثّل فيها الخطر على الواقع العام، ودراسة الموازنة بين النتائج الإيجابية في مواجهة الأخطار بما يؤدي إلى الخطر على الفرد أو المجموع من الناحية الذاتية والمالية وما إلى ذلك، وبين النتائج السلبية من جهة التضحيات بالنفس والمال والعرض، فذلك هو الذي يحدّد للفرد أو المجتمع أو الأمّة مجابهة الأخطار أو عدمها.
* * *
بين التهلكة وصراع الاستكبار:
وقد أدّى فقدان الدراسة المقارنة بين الإيجابيات والسلبيات إلى إيجاد حالة من الضعف أو الانهيار النفسي أو الهزيمة العملية أمام القوى الظالمة أو المحتلة في الداخل والخارج، تحت تأثير عنوان الإلقاء للنفس في التهلكة بالدرجة التي سقطت فيها عناوين الجهاد، والحرية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى استطاع الكفر والاستكبار العالمي السيطرة على البلاد الإسلامية كلّها.
وهناك مسألة لا بُدَّ من الإشارة إليها في هذا السياق لكثرة الجدل حولها من خلال تطبيق هذه الآية عليها، وهي العمليات الاستشهادية التي قام بها بعض المجاهدين في عصرنا الحاضر في مواجهتهم للصهيونية وللاستكبار العالمي، حيث يقوم أحد المجاهدين بتفجير نفسه من خلال ربط جسده بحزام من المتفجرات أو الانطلاق بسيارةٍ مملوءة بالقنابل المتفجرة، فيفجر نفسه بمركز من مراكز العدو أو بمجموعة من جنوده، فقد أخذ بعض الفقهاء أو المتفقهين يصدر الفتاوى بحرمة هذا العمل، لأنه انتحار وإلقاء للنفس بالتهلكة.
ولكنَّنا لا نرى فرقاً بينه وبين اقتحام المجاهد ساحة الحرب الجهادية مع علمه أو غلبة ظنّه بالقتل، إلاَّ في أنَّ القتل هناك بيد العدو، وفي هذه القضية بيده؛ ولكن هذا الفرق ليس بفارق من حيث الحكم الشرعي، ما دامت خطّة الجهاد تفرض ذلك من خلال حاجة المعركة للوصول إلى النتائج الإيجابية على مستوى المرحلة في خطّ الاستراتيجية والهدف النهائي الكبير. وماذا يقول هؤلاء في حاجة الحرب إلى اقتحام المجاهدين للأرض المزروعة بالألغام التي تتفجر بالأشخاص الذين يمرون عليها؟ فإنه قد يجوز لهم أو يجب عليهم القيام بذلك إذا توقف النصر عليه.
وربما كانت مشكلة هؤلاء أنهم لا يؤمنون بالجهاد من حيث المبدأ في هذه المرحلة من عمر الإسلام، ويرون أنَّ التكليف الشرعي يفرض عليهم القعود والانتظار إلى ظهور الإمام المهدي (ع)، ليبرروا لأنفسهم الابتعاد عن ساحة المعركة، وليثيروا النكير على المجاهدين في كلّ ساحات الصراع.
* * *
الإحسان... شريعة أخلاقية:
] وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ وهذه شريعة أخلاقية قرآنية يؤكد عليها القرآن في أكثر من آية، وهي شريعة الإحسان في كلّ الأعمال التي يقوم بها الإنسان في علاقاته مع الآخرين في حالة السلم وفي حالة الحرب. وقد جاء في آية أخرى: ] إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ [النحل:90]. أمّا قيمة الإحسان فتتمثّل في السلوك العملي الذي ينفتح فيه الإنسان على الجانب الخيِّر في الحياة، وهو العطاء السمح الذي ينساب من روح الإنسان وشعوره الحيّ، فيدفعه إلى أن يحترم مشاعر الآخرين وظروفهم، فلا يثير معهم القضايا الصعبة من موقع صعوبتها؛ بل يحاول أن ينفتح معهم على جانب السهولة في الحياة من جهة، في ما يأخذه من الحقّ الذي له، وينطلق مع خطّ العفو والتسامح من جهة أخرى. وبذلك يتحرّك الإحسان كخطّ أخلاقي إسلامي من مواقع الإرادة الطوعية الطيبة في الإنسان، فيخفف من شدّة العدل وقسوته، ليعيش الإنسان بين العدل والإحسان في الأجواء التي تبعث الطراوة حتى في أشدّ المواقف صعوبة وقساوة، انسجاماً مع التركيب الداخلي للإنسان في شخصيته الباحثة أبداً عن العدل والرحمة في مواقع الحياة.
وكما هو الحال في الآية الأخرى، عندما أراد اللّه أن يرغِّب في التقوى بأنَّ اللّه مع المتقين، كانت هذه الآية ترغيباً في الإحسان من موقع أن ذلك يحقّق للإنسان محبة اللّه، فإنَّ اللّه يحبّ المحسنين.
ـــــــــــــــــــ
(1) الكافي، ج:4، ص:53، رواية:7.
(2) الدر المنثور، ج:1، ص:500.
(3) الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل، مؤسسة البعثة، بيروت، ط:1، 1410هـ ـ 1990م، ج:2، ص:24ـ25.
(4) مجمع البيان، ج :1، ص:516.
(5) البحار، م:14، ج:44، ص:637، باب:37، رواية:2.
(6) م.ن، م:15، ج:45، ص:9، باب:37.
تفسير القرآن