تفسير القرآن
البقرة / من الآية 196 إلى الآية 203

 من الآية 196 الى الآية 203

الآيــات

{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّه عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس وَاسْتَغْفِرُواْ اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ* فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّه كَذِكْرِكُمْ آبائكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النّاس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّار * أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُواْ اللّه فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(196ـ203).

* * *

معاني المفردات:

] أُحْصِرْتُمْ[ : الإحصار: المنع. يُقال للرّجل الذي قد منع منه الخوف أو المرض عن التصرّف قد أُحْصِر فهو مُحْصَر. ويُقال للرّجل الذي حبس: قد حصر فهو محصور.

] الْهَدْيِ[ : في أصل الهدي قولان: أحدهما: إنه من الهدية. يُقال: أهديت الهدية إهداءً، وأهديت الهدي إلى بيت اللّه إهداءً، فعلى هذا إنما يكون هدياً لأجل التقرّب به إلى اللّه، والآخر: أنه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد. فسمي هدياً، لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد.

] تَحْلِقُواْ[ : الحلق: إزالة شعر الرأس للتحلل.

] أَذًى[ : الأذى: كلّ ما تأذيت به. وأصله الضرر بالشيء.

] نُسُكٍ[ : النُسك: جمع نسيكة وهي الذبيحة، والنسك: العبادة. ومنه رجل ناسك، أي: عابد.

] تَمَتَّعَ[ : التمتع: أصله الالتذاذ والاستمتاع، ومتعة الحج هي أن يعتمر في أشهر الحج ثُمَّ يحل، ويتمتع بالإحلال بأن يفعل ما يفعله المحل، ثُمَّ يحرم بالحج من غير رجوع إلى الميقات؛ فهو إحلال بين إحرامين.

] رَفَثَ[ : الرفث: أصله في اللغة الإفحاش في النطق. وقيل: الرفث بالفرج: الجماع، وباللسان: المواعدة للجماع.

] فُسُوقَ[ : الفسوق: الخروج على الطاعة.

] جِدَالَ[ : الجدال في اللغة، والمجادلة، والمنازعة، والمشاجرة، والمخاصمة نظائر، وقيل إنَّ المراد به ـ هنا ـ قول: لا واللّه وبلى واللّه. وقيل: المراد اللجاج.

] الزَّادِ[ : الطعام الذي يتخذ للسفر. وكلّ من انتقل بخير من عمل أو كسب فقد تزود.

] الأَلْبَابِ[ : اللب: العقل، سمي بذلك لأنه أفضل ما في الإنسان، وأفضل كلّ شيء لبّه.

] جُنَاحٌ[ : الجناح: الحرج في الدِّين، وهو الميل عن الطريق المستقيم.

] تَبْتَغُواْ[ : الابتغاء: الطلب.

] أَفَضْتُم[ : الإفاضة: مأخوذة من فيض الإناء عن امتلائه، فمعنى أفضتم: دفعتم من عرفات إلى المزدلفة عن اجتماع وكثرة. ويُقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرّف.

] عَرَفَاتٍ[ : اسم للبقعة المعروفة بحدودها، ويوم عرفة يوم الوقوف بها. وهي على بعد أربعة فراسخ من مكة.

] الْمَشْعَرِ[ : المزدلفة، سمّيت مشعراً لأنه معلم للحج والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من أعمال الحج، وهو على بعد فرسخين ونصف تقريباً من مكة.

] وَاسْتَغْفِرُواْ[ : الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: التغطية للذنب. وهو كناية عن العفو عنه وزواله.

] مِنْ خَلاقٍ[ : الخلاق: النصيب من الخير. وأصله التقدير، وهو النصيب من الخير على وجه الاستحقاق.

] وَقِنَا[ : الوقاء: أصله الحجز بين الشيئين. والوقاء الحاجز الذي يسلم به من الضرر.

] نَصِيبٌ[ : النصيب: الحظ، وحدّه الجزء الذي يختص به البعض من خير أو شر.

] كَسَبُواْ[ : الكسب: الفعل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر.

] سَرِيعُ[ : السريع من العمل: القصير المدة.

] مَّعْدُودَاتٍ[ : تستعمل كثيراً في اللغة للشيء القليل، وكلّ عدد قلّ أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أدلّ على القلّة لأنَّ كلّ قليل يجمع بالألف والتاء.

] تُحْشَرُونَ[ : الحشر: جمع القوم من كلّ ناحية إلى مكان. والمحشر: المكان الذي يحشرون فيه.

* * *

جولة في آفاق الحج:

في هذه الآيات يبدأ القرآن جولة في بعض أحكام الحج، وهو فريضة فرضها اللّه على عباده منذ رسالة إبراهيم (ع)، وقد كان معروفاً بين أهل الجاهلية، وأقرّه الإسلام وزاد فيه بعض المناسك. والحج ـ لغة ـ هو القصد، ويقصد به هنا القصد إلى النُسك المخصوص. أمّا العمرة فهي زيارة البيت الحرام على نحو خاص.

] وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه[ لا بُدَّ للإنسان من إتمام الحج والعمرة إذا بدأهما بالإحرام لهما، وذلك بالإتيان بكلّ الواجبات التي تدخل في نطاق تكوين الفرض في الحالات الاختيارية أو الاضطرارية. وإذا كانت الآية تؤكد على أن يكون هذا الإتمام للّه، فمعنى ذلك أنهما من العبادات التي لا بُدَّ من أن يقصد بها وجه اللّه، فيشعر الإنسان معها بالحاجة إلى القرب من اللّه من خلال ما يؤديه من الأعمال التي تتضمن في داخلها أقوالاً أو أفعالاً أو أفكاراً يتعبّد فيها الإنسان إلى ربه...

ولعلّ القيمة الكبرى للعبادات الإسلامية، أنها لا تمثّل مجرّد حالة وجدانية ذاتية غارقة في ضباب المحبّة وغيبوبة الخشوع، ليبقى الإنسان بعيداً عن حركة الحياة عندما يقف بين يدي اللّه؛ بل هي تعبير عن الخطّ الإسلامي العملي في علاقة العبد بربّه، حيث يلتقي الجانب الروحي بالحياة في أوسع مجالاتها وأرحب آفاقها، ليتصوّر معها حياته التي تضج فيها الحركة؛ فنجد في الصلاة الكلمات التي تمثّلها سورة الفاتحة بالإضافة إلى السورة الأخرى التي يختارها المصلي تبعاً لحاجته الروحية والفكرية، فنلتقي بالتصوّر الإسلامي للّه في صفاته المتصلة بحركة الحياة في مخلوقاته من التربية والرعاية والرحمة، وبطبيعة العلاقة التي تشدّ الإنسان إلى اللّه، وبالتوجه إليه في مجال الصراع الذي تزدحم فيه التيارات الضالة والجاحدة في مقابل الخطّ المستقيم... وهكذا تتحرّك الصلاة في كيان الإنسان، فتتحرّك الأفكار والتصوّرات الإسلامية في وجدانه ليستقيم له من خلالها الوعي الروحي والفكري والعملي في كلمات وأفعال يتحرّك فيها المضمون في روح نابضة بالحياة.

فإذا التقينا بالحج، فإننا نلتقي بالعبادة الزاخرة بأكثر من معنى، فهي تلتقي بالصلاة في أجواء الطواف والسعي، والوقوف بعرفات والمزدلفة، والمبيت بمنى، حيث يعيش الإنسان أعمق حالات التأمّل وأصفى مشاعره وأرفع درجاته. أمّا الإحرام، فإنه يمثّل الالتقاء بالصوم، حيث يفرض على الإنسان الالتزام الطوعي الاختياري بكثير من الأشياء التي تتصل بشهواته وعاداته وأخلاقه، فتمثّل مرحلة تدريبية صعبة يتعلّم فيها الصبر والخشونة واحترام مشاعر الآخرين، واحترام كلّ شيء محترم حوله حتى الحيوان والنبات، إلى جانب دقّة الملاحظة عندما يراقب كلّ حركة من حركاته حتى سقوط الشعر وحكّ البدن والنظر في المرآة. أمّا رمي الجمار، فإنه يمثّل الرمز العملي للصراع مع الشيطان، في ما تمثّله الجمرات من رمز.

وهكذا يتحرّك الإنسان من عمل إلى عمل ليحقّق لنفسه البناء الروحي والفكري والعملي في أجواء العبادة التي يعيش في داخلها اللقاء باللّه. وبذلك لا تشارك العبادة في عزل الإنسان عن الحياة، بل هي ـ على العكس من ذلك ـ تدفعه دفعاً إليها بكلّ قوّة من موقع الروحية التي تعطي المادة معناها دون أن تفقدها صفاتها المادية.

وقد لا يكتفي الإسلام في تحقيق معنى العبادة بما افترضه وشرعه من أشكالها، بل يمتد بها حتى يجعل كلّ عمل محبوب للّه عبادة إذا قام به الإنسان لوجه اللّه. وقد كثرت الأحاديث التي ترى في طلب العلم، وفي العمل في سبيل العيال، وفي العفاف وقضاء حاجة المؤمن، وتفريج كربته، عبادة يكسب الإنسان بها رضى اللّه كأيِّ عبادة من العبادات المعروفة.

وفي ضوء ذلك كلّه، نجد في كلمة: ] وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه[ إيحاءً بالإتمام من الناحية الروحية التي يعيش الإنسان فيها أجواء الحج، بالمستوى الذي يرتفع فيه إلى الآفاق العالية التي تمثّلها هذه الفريضة، ويتحرّك معها بأخلاقية إسلامية كاملة؛ فلا يكتفي بالشكل ويبتعد عن المضمون، لأنه يمثّل ـ في هذه الحالة ـ الإتمام الشكلي إلى جانب النقص الواقعي المضموني؛ ما يجعل العمل غير مقرّب للّه وغير مقبول عنده، لأنَّ اللّه لا يقبل من الأعمال إلاَّ ما أقبل الإنسان فيها بكلّ كيانه وروحيته.

* * *

الإحصار في الحج:

] فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[ .

إذا حصل للحاج أو المعتمر مانع يمنعه من إتمام الحج، فكيف يمكن أن يحل من إحرامه الذي لا يحصل الإحلال منه إلاَّ بالإتمام؟؟ إنَّ الآية تفرض عليه، مع ملاحظة التفسير في السنّة من خلال التحديد للمحل في قوله تعالى: ] حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ[ ، أن يرسل هدياً إلى مكة إن كان معتمراً، وإلى منى إن كان حاجاً، ليذبح هناك. فإذا بلغ محله، أمكنه أن يحلق رأسه ويتحلل من إحرامه. هذا إذا كان المانع هو المرض، أمّا إذا كان المانع هو العدو، فإنَّ بإمكانه أن يذبح الهدي في مكانه، كما يروى أنَّ النبيّ (ص) فعل ذلك في الحديبية عندما منعه المشركون عن العمرة.

] فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[ .

هذا استثناء من النهي عن حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محله، فإذا كان الإنسان مريضاً يتضرر فيه من إبقاء الشعر على الرأس، أو كان في رأسه بعض الحشرات التي تمثل أذًى في رأسه، فيجوز له أن يحلق على أن يقوم بالصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة. وهو ما عبّر عنه بالنُسك كما جاء ذلك في السنة الشريفة.

وقد روي عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال: مرّ رسول اللّه (ص) على كعب بن عجرة والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم، فقال له: أتؤذيك هوامك؟ فقال: نعم، فأنزلت هذه الآية: ] فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[ فأمره رسول اللّه (ص) أن يحلق رأسه، وجعل الصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين مدّين لكلّ مسكين، والنُسك شاة[1].

* * *

حج التمتّع:

] فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[ .

في هذه الآية إشارة إلى حج التمتع، الذي يجمع الحج والعمرة في فريضة واحدة، ولكنّه يستمتع بعد الإحلال من العمرة بما كان محرّماً عليه إلى حين الإحرام بالحج. وإنما سمي بالتمتع بالنظر إلى أنَّ وحدة الفريضة في العملين تجعل الإنسان كما لو كان قد مارس التمتع في أثناء الحج. ويقابله حج القِران والإفراد الذي لا تدخل العمرة فيه، وقد أشارت الآية إلى خصوصية حج التمتع بوجوب ذبح الهدي فيه، بعيداً عن حالة الإحصار المشار إليها في الفقرة السابقة، لوجوبه في حالة الأمن كما يشير إليه قوله تعالى: ] فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[ وهذا هو الفارق بين هذا النوع من الحج وبين النوعين الآخرين لعدم وجوب الذبح فيهما كجزء من الفريضة، وإن كان القرآن يشتمل على سياق الهدي بإشعاره أو تقليده كفصل من فصول الإحرام، لا كواجب من واجبات الحج. وقد تعرّضت الآية إلى حالة العجز عن الهدي في حج التمتع، ] فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[ فأوجبت صيام عشرة أيام، موزّعة بين وقت الحج ووقت الرجوع، و ] ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[ .

هذا تحديد للمكلّف الذي يجب عليه حج التمتع بالنائي عن مكة، وقد كنى عنه بـ ] لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[ وقدّر في السنة الشريفة بمن كان بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلاً. ويقول صاحب الميزان في استيحاء ذلك: «وفيه إيماء إلى حكمة التشريع، وهو التخفيف والتسهيل، فإنَّ المسافر من البلاد النائية للحج ـ وهو عمل لا يخلو من الكدّ ومقاساة التعب ووعثاء الطريق ـ لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة. والإنسان إنما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدّله اللّه سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والإهلال بالحج من المسجد الحرام، من غير أن يسير ثانياً إلى الميقات»[2].

] وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ[ يذكر صاحب الميزان في التعليق على هذه الفقرة من الآية أنَّ «التشديد البالغ في هذا التذليل، مع أنَّ صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أنَّ المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله، وكذلك كان الأمر، فإنَّ الحج خاصة من بين الأحكام المشرّعة في الدِّين كان موجوداً بينهم من عصر إبراهيم الخليل، معروفاً عندهم، معمولاً به فيهم، قد أنِسته نفوسهم وألِفته قلوبهم، وقد أمضاه الإسلام على ما كان تقريباً إلى آخر عهد النبيّ، فلم يكن تغيير وضعه أمراً هيِّناً سهل القبول عندهم، ولذلك قابلوه بالإنكار. وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الرِّوايات، ولذلك اضطر النبيّ (ص) إلى أن يخطبهم، فبيّن لهم أن الحكم للّه يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثنى فيه أحد من نبيّ أو أمّة، فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير عن عقاب اللّه سبحانه»[3].

أمّا تعليقنا على ذلك، فهو أنَّ الأمر بالتقوى، انطلاقاً من العلم بأنه شديد العقاب، أسلوب قرآني درج عليه القرآن في ما يريد اللّه أن يثيره أمام الإنسان من قضايا الحياة والتشريع، ليقف الإنسان فيه عند حدود اللّه من موقع النفس التقية التي تراقب اللّه وتخاف عقابه. أمّا مناسبة ذلك، هنا، فهو الحديث عن تفصيلات تشريع الحج والعمرة من إتمامهما، والحديث عن الحكم في حالة الإحصار وفي حالة الأمن، وعن الحكم في حج التمتع في حالة التمكن من الهدي والعجز عنه؛ فإنَّ ذلك كلّه مما يوحي بالحاجة إلى الانضباط والالتزام والتقوى في حدود هذه الأمور ومواردها الشرعية، ويكفي ذلك مناسبة.

* * *

لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج:

] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ[ الأشهر التي يجوز فيها الإحرام للحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة ـ في العشر الأول منه ـ ] فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ[ فإذا فرض الإنسان فيها على نفسه الحج بالإحرام، فيجب عليه أن يلتزم بمحرّمات الإحرام التي تقف في مقدمتها هذه الثلاثة التي فسّرت في السنّة الشريفة، ] فَلاَ رَفَثَ[ الذي كني به عن الجماع، ] وَلا فسوق[ الذي فسر بالكذب، ] وَلاَ جدال في الحج[ الذي فسّر بقول: لا واللّه وبلى واللّه؛ وذلك لأهميتها في المجال التربوي في حياة الإنسان.

] وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه[ وختمت هذه الآية بالتذكير بأنَّ الأعمال الخيّرة التي يقوم بها الإنسان لا تغيب عن علم اللّه الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة، وذلك من أجل أن يشعر بالحاجة إلى الإخلاص في عمله عندما يحسّ بأنه موضع رقابة اللّه. ومن أجل أن يعينه ذلك على الاستمرار والزيادة، لأنه بعين اللّه الذي يقدِّر لكلّ إنسان جهده وعمله، لأنَّ اللّه لا يضيع عمل عامل من النّاس من ذكر أو أنثى، فيدفعه ذلك إلى تحمل الصعوبات والمشاق الكثيرة في سبيل اللّه طمعاً في ثواب اللّه ورضاه.

] وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[ فهو الذي يبقى للإنسان من بعد موته فيجده عند اللّه محضراً، وقد جاء في قوله تعالى: ] الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً[ [الكهف:46] وهو الذي تلتقي فيه الدنيا والآخرة في التقاء العمل الصالح بعواقبه الطيبة، والمسؤولية بنتائجها الخيرة. ثُمَّ أكد الموضوع بكلمة تحمل الكثير من المعاني الحميمة التي تربط الخالق بالمخلوقين، لأنها تمثّل دعوته الرحيمة في أن يعيشوا الجوّ الحميم بالحاجة إلى الإحساس بوجود اللّه وحضوره في وعيهم، الذي يؤدي إلى الالتزام بخطّ التقوى عندهم. ] وَاتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ[ . وكان هذا النداء انطلاقة رائعة توحي للإنسان بأنَّ كلّ هذه القضايا هي من وحي العقل الذي لا يدعو إلاَّ إلى ما فيه الخير كلّ الخير في الدنيا والآخرة، ليستنفر الإنسان عقله في كلّ وقت، فلا يغيب عنه في أي مجال حتى لا تنهار حياته في لحظات الجنون.

* * *

لا جناح في ابتغاء الفضل بعد إتمام الحج:

] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ[ . ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت(ع)، أنَّ هذه الفقرة واردة لبيان الرخصة للمؤمنين في ممارسة الأعمال التجارية بعد فراغهم من الحج، لأنهم كانوا يشعرون بالحرج في ذلك، وربما كانوا يعانون من الشعور بعقدة الذنب في حال ممارستهم لها. وهذا المعنى ظاهر من الآية من خلال التعبير بعبارة: ] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ[ المشعرة بأنَّ هناك إحساساً لديهم بوجود شيء من هذا القبيل، ولأنَّ التعبير عن السعي في طلب الرزق، بالابتغاء من فضل اللّه، هو من التعابير القرآنية المألوفة، كما ورد في قوله تعالى في سورة الجمعة: ] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاَْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّه وَاذْكُرُواْ اللّه كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ [الجمعة:10]. وربما يكون في هذا التعبير إشارة إلى أنَّ طلب الرزق لا يتنافى مع الأجواء النفسية الروحية التي يحصل عليها من العبادة، لأنه طلب من فضل اللّه، كما أنَّ العبادة انطلاق في آفاق اللّه. وقد أشرنا في ما تقدّم إلى الأحاديث الواردة في اعتبار طلب الحلال عبادة تقرّب الإنسان إلى اللّه، بل ورد في بعضها أنَّ العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال.

وفي ضوء ذلك، يمكننا فهم الواقعية الإسلامية في خطّ التشريع العبادي في امتثال الحج الذي يختلف عن الصلاة والصوم، بأنه عبادة متحرّكة في انطلاق النّاس من كلّ مكان في العالم إلى البيت الحرام الذي يؤدون فيه ـ أو قريباً منه ـ مناسك حجهم في أعمال معينة، وأوقات محدودة لا تتنافى مع القيام بنشاطٍ آخر يتصل بالجانب الاقتصادي الذي قد تتاح فيه للنّاس هناك أكثر من فرصةٍ لإقامة علاقات تجارية مع بعضهم البعض، بحيث توفّر عليهم قطع المسافات البعيدة التي قد يضطرون إلى الذهاب إليها في مجالٍ آخر، كما يمكنهم فيه ممارسة التجارة الفعلية مستفيدين من هذا الموسم العالمي الذي يلتقي فيه النّاس من سائر أنحاء العالم ليشتروا ما يحتاجون إليه من الأغذية والألبسة والهدايا التي يأخذونها معهم إلى أهلهم... وهكذا نجد أنَّ موسم الحج يساهم في إيجاد سوق «إسلامية» منفتحة على النشاط التجاري الفعلي، والعلاقات الاقتصادية بين رجال الأعمال من مختلف الشعوب الإسلامية التي قد تتحوّل إلى علاقات سياسيةٍ وأمنيةٍ وثقافيةٍ في تطوّرها العملي في نهاية المطاف...

وقد جاء في رواية هشام بن الحكم عن الإمام جعفر الصادق (ع) ما يشير إلى ذلك، فقد سأله هشام عن الصلة التي من أجلها كلّف اللّه العباد الحج والطواف بالبيت، فقال (ع) «.. أمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدِّين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول اللّه (ص) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كلّ قوم [إنما] يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا، وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار»[4].

وهذا ما يؤكد خطّ التوازن الإسلامي في وعي مسألة الدنيا في حاجاتها والآخرة في غاياتها. فليس هناك تناقض بينهما، بل إنَّ السير في خطّ التشريع الإسلامي يضمن للإنسان الدنيا والآخرة، فتكون الدنيا مزرعة للآخرة، وتكون الآخرة غاية تحقّق للدنيا طهارتها وصفاءها وحركيتها في طريق اللّه.

* * *

في عرفات.. والمشعر الحرام:

] فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ[ . من أعمال الحج أن يقف النّاس في عرفات من الزوال إلى الغروب وقفة خاشعة فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنفاذ إلى أعماق الروح في لحظة صفاء ونقاء... إنها وقفة الحياة أمام اللّه تستلهمه وتستهديه وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها من أجل أن يلهمها الصواب في ما تفكر، ويهديها الصراط المستقيم، ويجعل لها من أمرها يسراً، فيكشف عنها آلامها ويحقّق لها أحلامها...

وقد نستوحي كلّ ذلك من ملاحظة أنَّ النُسك هنا الوقوف في عرفات، تماماً كما لو أنَّ الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده، وتتعبه، وتكلّفه الكثير من الخسائر، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع... فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التجدّد الروحي الذي يملأ كيانه في رحلة جديدة واعية لكلّ أوضاع الحاضر والمستقبل.

ويفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الروحي في التأمّل الخاشع، والدعاء المنفتح على اللّه، والصلاة السابحة في آفاقه، لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة، ولكن في مكان آخر: ] فَاذْكُرُواْ اللّه عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ[ الذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ على مذهب الإمامية ـ وفي ما بين الطلوعين ـ على رأي الآخرين ـ وهي وقفة جديدة في وقت جديد، يعيش الإنسان فيها ذكر اللّه الذي هدانا إلى طريق الحقّ بعد أن كنّا من قبله من الضالين ] وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ[ ، فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمس فيه معنى النعمة في ما يوحيه للإنسان من معاني الرضى والروح والطمأنينة، ويبعده عن نوازع الشك والقلق والضياع، ويوجهه إلى الحياة الرحبة الطاهرة الخالية من كلّ دنس أو رجس أو التواء، والقريبة إلى الحبّ والخير والسَّلام، أو يؤدي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى عفو اللّه ورضوانه في جنّة عرضها السَّماء والأرض أعدّت للمتقين، ما يضمن له خير الدنيا والآخرة، وينطلق ليتعرف ـ في مقابل ذلك ـ النتائج السلبية للضلال في داخل النفس وخارجها، في الحياة الفردية والاجتماعية في الدنيا وفي الآخرة... وبذلك يحسّ بالشكر العميق لنعمة الهدى، ويعيش الشعور بالامتنان للّه الذي وهبه هذه النعمة بأكثر مما يحسّ به إزاء النعم المادية التي وهبها له في هذه الحياة.

ولعلّ في التذكير بحالة الضلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عملية مقارنة بين حياته في داخل أجواء الضلال وبين حياته في أجواء الهدى، ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطبيعية لا من مواقع الفكر والنظرية فحسب.

* * *

إلغاء النوازع الطبقية:

] ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس[ : يُقال إن قريش كانت لا تفيض من حيث يفيض النّاس، لأنها تشعر بموقعها المميّز الذي يختلف عن مواقع النّاس من حيث العلو والرفعة والكبرياء، فكانت لا تقف بعرفات. وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس: «كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل اللّه: ] ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس[ »[5].

لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوسهم كلّ هذه النوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، لا سيما في مثل هذا الموقف الذي أراده اللّه من أجل إلغاء كلّ الفوارق التي تميّزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصفة الواحدة التي تجمعهم أمام اللّه، وهي أنهم عباد اللّه الواحد الأحد؛ فلا فضل لأحد على أحد إلاَّ بالتقوى، فلا معنى ـ بعد ذلك ـ لأن يميّز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقاً من الشعور بالتفوّق والكبرياء.

وهناك تفسير آخر للآية: وهو «أنَّ المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر عن الجبائي، قال: والآية تدل عليه، لأنه قال: ] فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ[ ثُمَّ قال: ] ثُمَّ أَفِيضُواْ[ ، فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدلّ ذلك على أنَّ الإفاضتين واجبتان، والنّاس المراد به إبراهيم، كما أنه في قوله: ] الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاس[ [آل عمران:173] نعيم بن مسعود الأشجعي»[6].

ولعلّ الوجه الأول أقرب وأظهر، لأنَّ إرادة شخص واحد من النّاس خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاَّ بدليل. ولا دليل هنا على ذلك، كما لا دليل فيها على أنَّ هناك إفاضتين، لأنَّ كلمة الإفاضة من عرفات ذكرت لبيان التشريع. أمّا الآية الثانية فربما وردت لبيان الطريق الذي يسلكه الحجاج في الإفاضة وهو الطريق العام.

] وَاسْتَغْفِرُواْ اللّه[ ودعاهم بعد ذلك إلى أن يستغفروه من كلّ ما يمكن أن يحدث في أنفسهم من المشاعر السلبية البعيدة عن خطّ الإيمان وروحيته ووعدهم بالمغفرة والرحمة، ] إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ لأنَّ الرحمة والمغفرة من صفاته الذاتية التي امتنّ بها على عباده ليدخلهم في رحمته ورضوانه.

* * *

الدعاء بين نموذجين من النّاس:

] فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّه كَذِكْرِكُمْ ءَابَآئكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[ يُقال: إنَّ النّاس كانوا إذا قضوا مناسك حجهم، جلسوا يسمرون، ويمتد بهم الأمر إلى أن يثيروا أحاديث آبائهم، فيتذكروا مواقفهم وأوضاعهم وأمجادهم... وبذلك ينفصلون عن الجوّ الروحي الذي كانوا يعيشونه من خلال الحج، ولكن اللّه يريد منهم أن لا يجعلوا الحج مجرّد موسم أو مناسبة يذكرون فيها اسم اللّه، ثُمَّ تقف القضية عند هذا الحدّ فلا يبقى للّه أي حضور في نفوسهم أو ألسنتهم، بل يكون دوره أن يفتح قلوبهم على اللّه في امتدادٍ روحي مستمرٍ، لا ينتهي إلاَّ ليبدأ من جديد، حتى يصبح ذكر اللّه ـ بعد الحج ـ ملحاً بالمستوى الذي لا يدانيه ذكر أي إنسان آخر حتى في مستوى الآباء.

ونقف ـ في هذا المجال ـ على نموذجين من النّاس؛ أحدهما: الذي يصدق عليه قوله تعالى: ] فَمِنَ النّاس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خلاقٍ[ النموذج الذي إذا ذكر اللّه وأراد أن يدعوه في موقفه هذا، لم يذكر إلاَّ حياته الدنيا، وشهواته فيها، ومطامعه ومطامحه... من دون أن يفكر في الآخرة من قريب أو من بعيد. فهو يطلب من اللّه أن يؤتيه الدنيا ويقف عندها جامد الإحساس، جائع الأحلام، ظامىء المشاعر... ولا نصيب لهذا في الآخرة، لأنها ليست واردة في حسابه على كلّ حال، ولذلك فإنَّ اللّه لا يحسب حسابه في ثوابه ورضوانه.

ثانيهما: هو مصداق قوله تعالى: ] وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّار[ النموذج الذي يتمسك بالخطّ الإسلامي المتوازن الذي يجمع بين الدنيا والآخرة، فهو يعتبر الدنيا حقلاً من حقول العمل التي أراد اللّه للإنسان أن يعيش فيها حياة طيبة، يمارس فيها الطيبات ويقبل فيها على ما أحله اللّه له من شهوات وملذات؛ ولهذا فهو يطلب من اللّه أن يؤتيه في الدنيا حسنة، ثُمَّ يرى أنَّ الآخرة هي نهاية المطاف، فهي دار المصير الذي يجد فيه كلّ إنسان دار خلوده في الجنّة أو في النّار، ولذلك فهو يطلب من اللّه أن يؤتيه فيها حسنة. ومثل هذا النموذج قريب إلى اللّه، ] أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ[ ولذلك فإنَّ له نصيباً مما كسبه من عمله الصالح في الدنيا، فيجد أمامه الجزاء الكبير في دنياه وآخرته. واللّه سريع الحساب، يعلم ما يستحقه عباده نتيجة أعمالهم، فيعطي كلاًّ منهم الجزاء العادل في جانب الخير أو في جانب الشر.

* * *

الجانب التربوي في الدعاء:

وفي هذا الجوّ الذي تثيره الآيتان، نستوحي الجانب التربوي في الدعاء، حيث ينبغي أن يعيش الإنسان فيه كلّ قضاياه الملحة التي يعيشها في فكره ووجدانه وحياته، بحيث يكون الدعاء صورة حية لكلّ منطلقاته في الحياة، فيلتفت إلى شؤون الآخرة كما يلتفت إلى شؤون الدنيا، ليطلع اللّه على قلبه فيجد فيه صدق التوجه إلى الإسلام في أمور حياته من خلال وعيه لكلّ الجوانب التي تحكم شؤون الحياة؛ فيطلبها منه كما يطلب الإنسان الأشياء الضرورية التي لا غنى له عنها. وفي ضوء ذلك، يزداد إحساسه بالآخرة كما لو كانت حاجة مهمة من حاجاته الذاتية، بحيث يتفجر الشعور بها في دعاء خاشع متضرع بين يدي اللّه.

وهذا ما نجده في الأدعية القرآنية، وأدعية النبيّ محمَّد (ع) والأئمة من أهل بيته (ع)، ولا سيما أدعية الإمام زين العابدين (ع) في الصحيفة السجادية وفي غيرها... فإنها جامعة لمطالب الدنيا والآخرة في جوّ واحد، كتدليل على وحدة الانطلاقة فيهما معاً. واللّه الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

* * *

واذكروا اللّه في أيام معدودات:

] وَاذْكُرُواْ اللّه فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ[ ، الظاهر أنَّ الأيام المعدودات هي أيام التشريق من ذي الحجة، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر منه، وهي التي فرض فيها المبيت في منى، ] فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ[ ، بأن ينفر في اليوم الثاني عشر، ] وَمن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ[ ، كما لا مانع من البقاء إلى اليوم الثالث عشر. وليس في الآية ما يدل على شرط البقاء أو شرط التخيير، أمّا كلمة ] لِمَنِ اتَّقَى[ فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) في هذه الآية: قال: «يرجع مغفوراً له لا ذنب له»[7]، وفي حديث آخر عن الباقر (ع): ] لِمَنِ اتَّقَى[ منهم الصيد، واتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرّم اللّه عليه في إحرامه»[8]، وبذلك يكون هذا التخصيص بمن اتقى بلحاظ حالة المغفرة المستفادة من سياق الكلام.

] وَاتَّقُواْ اللّه[ . وعادت الآية من جديد للدعوة إلى التقوى بقول مطلق في جميع أعمال الإنسان في حال الحج وغيره، والتأكيد على ذلك بالإعلام بالحقيقة الإيمانية، ] وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[ .

فإنَّ الخلق كلّهم يحشرون إلى اللّه، ليواجهوا جزاء أعمالهم من خير أو شر. فإنَّ استثارة هذه الحقيقة في وعي الإنسان يعتبر عاملاً كبيراً في تنمية روح التقوى في نفسه وحياته.

ولعلّ البقاء في منى هذه الأيام أو الليالي بعد انتهاء أعمال الحج يعتبر انطلاقة روحية تأمّلية، يعيش فيها الإنسان حضور اللّه في نفسه بما يثيره من ذكر، وبما يهجس فيه من فكر، وبما يعيشه من تأمّلات، وذلك في عملية مراجعة لحسابات أعماله في الماضي والحاضر في طريق تنمية أعمال المستقبل، وليحصل له من خلال ذلك النتائج الروحية والعملية من خلال أفعال الحج عندما يستحضرها في نفسه في عملية تقويم تفصيلية يدرك فيها طبيعة هذه الأفعال في ما أخلص فيه، وما أتمّه منها وما قصّر فيه، ليرجع من حجه واثقاً بالنتائج الكبيرة على مستوى الإيمان في الدنيا والآخرة، ونعم أجر العاملين.

ـــــــــــــــــــ

(1) البحار، م:35، ج:96، ص:366، باب:30، رواية:4.

(2) تفسير الميزان، ج:2، ص:79.

(3) م.ن، ج:2، ص:79.

(4) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، دار إحيار التراث العربي، بيروت، ط:6، 1412هـ ـ 1991م، ج:8، ص:9، باب:1، رواية:18.

(5) الطبري، ابن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، 1415هـ ـ 1995م، ج :2، ص:399.

(6) مجمع البيان، ج:2، ص:528.

(7) البحار، م:35، ج:96، ص:455، باب:55، رواية:4.

(8) م.ن، م:35، ج:96، ص:455، باب:55، رواية:3.