تفسير القرآن
البقرة / من الآية 217 إلى الآية 218

 من الآية 217 الى الآية 218
 

الآيتــان
{يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّه وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (217ـ218).

* * *

معاني المفردات:

{وَصَدٌّ} : الصدّ: يُقال: صدّ عن الشيء: إذا أعرض وعدل عنه، وصدّ غيره: إذا عدل به عنه ومنعه.

{حَبِطَتْ} : الحبط ـ في الأصل ـ: فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط. وهو ضرب من الكلأ. يُقال: حبطت الإبل تحبط حبطاً، إذا أصابها ذلك. ثُمَّ سمّي الهلاك حبطاً. والمراد بها، في الآية، بطلان العمل وفساده في الدنيا والآخرة، فلا قيمة له ولا ثواب عليه.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في أسباب النزول أنَّ رسول اللّه (ص) أرسل جماعةً من المسلمين في بداية عهد الهجرة، قبل موقعة بدر، ليعرضوا لبعض قوافل قريش كوسيلة من وسائل الضغط عليهم، في عملية عرضٍ للقوّة الجديدة لإضعاف قريش اقتصادياً وعسكرياً، في مجتمع يتعامل أفراده ويتحرّكون من خلال موازين القوى المطروحة في الساحة، فيتحالفون ويخضعون للأقوى، ويتخاذلون أمام دعوة الأضعف؛ فكانت هذه السرية الأولى بقيادة عبد اللّه بن جحش، وأمر القوم بالسير معه من دون أن يعرّفهم مهمة القافلة، بل قال لهم: ائتمروا بأمره عندما تصلون إلى مكان معين. فلما اصطدموا بالقافلة، طلب منهم القتال، فاستعد بعضهم له تنفيذاً للأمر، وامتنع البعض الآخر تقديساً للشهر الحرام الذي كان قد دخل آنذاك؛ ووقع القتال بينهم وبين القافلة، فقُتل نفر من هؤلاء ونفر من أولئك.

ولما رجعوا إلى المدينة، خطأهم النبيّ (ص) في الدخول في القتال في الأشهر الحرم، لأنه كان خطأً حقيقياً، لأنهم لم يكونوا واعين لطبيعة الأمر التي تفرض عليهم أن لا يتجاوزوا جوانب التحريم الأخرى، فلم يكن من المفروض عليهم أن يتأخروا إلى الشهر الحرام.

وكانت هذه الحادثة فرصة ذهبية لقريش للتشهير بالمسلمين في الأوساط العربية من جهة انتهاكهم لقدسٍ من أقداس الأوضاع المحترمة لديهم، كما أنها أوجدت بلبلة في أوساط المسلمين، لأنَّ الإسلام لم يعترض على تحريم القتال في الأشهر الحرام الذي كان سائداً في المجتمع العربي، بل أقرّه انطلاقاً من اعتباره شريعة دينية مستمدّة من الشرائع السابقة ككثير من العادات العربية الدينية التي كانت من بقايا رسالة إبراهيم (ع)، الذي كانوا يعظّمونه ويحترمونه، لا سيما قريش التي كانت ترى نفسها من ذريته.

وكان لا بُدَّ للمسلمين من أن يفهموا طبيعة الحدود التي تجاوزها هذا الفريق منهم، ويعرفوا ما إذا كان هذا التصرّف بدايةً لإلغاء هذا التشريع، أو أنه يمثّل تغليباً لجهة غالبة على جهة أقلّ منها مصلحة. وكان لا بُدَّ للإسلام من أن يجيب عن هذه التساؤلات ليوضح الحقيقة للمسلمين من أجل تركيز إيمانهم، وليقف ضدّ حملة التشهير بالإسلام التي قادتها قريش ضدّه، فكان هذا السؤال الذي أفسح القرآن المجال له في آياته[1].

* * *

القتال في الشهر الحرام:

] يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ[ . فقد انطلق السؤال عن الشهر الحرام من جهة شريعة القتال فيه، هل هو محرّم كما كان أو أنه حلال في تشريع جديد؟! وكان الجواب: ] قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ[ إنه أمرٌ كبير في ما يمثّله من انتهاك حرمة من حرمات اللّه، التي أراد أن تحفظ وتصان لما يترتب عليها من المصالح العامة للأمّة من خلال الحاجة إلى فترة سلام تستريح فيها من الخلافات، وتعيش من خلالها تجربة الأمن والطمأنينة. ويضيف القرآن إلى ذلك: ] وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[ وربما كان ذلك إشارة إلى بعض أشهر الحج التي كـان يـريد للنّاس أن يمارسوا شعائر الحج فيها، من أجل الرجوع إليه في هذه العبادة التي تفتح قلوبهم على معنى الخير وإرادته؛ وإلى شهر رجب الذي أراد اللّه للنّاس أن يعتمروا فيه فيرجع إليه المذنب، ويلجأ إليه الخائف في طريق التوبة والإيمان. فكأنَّ اللّه يحبّ للنّاس أن يحافظوا على حرية الوصول إلى المسجد الحرام من أجل تحقيق المعاني الروحية والاجتماعية التي تحصل لهم من خلال الحج والعمرة؛ وبذلك يكون القتال صداً عن سبيل اللّه وكفراً به وبالمسجد الحرام في ما يقتضيه من الانحراف عن خطّ اللّه. وقد يعبّر اللّه عن الانحراف العملي بالكفر، حيث إنَّ الإيمان الذي لا يتمثّل في العمل يُعتبر بمنزلة الكفر، كما جاء في قوله تعالى: ] فِيهِ آياتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النّاس حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[ [آل عمران:97] وبهذا المعنى جاءت الأحاديث التي تسمي تارك الصلاة كافراً.

* * *

الفتنة أكبر من القتل:

ثُمَّ تدخل الآية في عملية مقارنة بين ما حدث من القتال في الشهر الحرام، وبين ما قامت به قريش من إخراج أهل المسجد الحرام منه وفتنتهم عن دين اللّه بكلّ ما يملكون من وسائل الضغط والتهديد: ] وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّه[ فإنَّ ما قام به المسلمون على سبيل الخطأ كان اعتداءً على حرمة زمن ما، بينما كانت قريش تعتدي على حرمة المؤمنين وتخرجهم من مكة التي هي بلدهم بمختلف وسائل الضغط الجسدي والمعنوي الموجّهة إليهم، وتحارب اللّه في دينه، فتفتن المؤمنين عنه، وتمنعهم من السير في طريق اللّه. ثُمَّ تتحدّث الآية عن خطورة ما تقوم به قريش، وتعتبر أنه أكبر من القتل الذي قام به المسلمون في الشهر الحرام: ] وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ[ ، لأنَّ ذلك يمثّل الاعتداء على حرية الدِّين الذي يريد اللّه أن تُحفَظ وتُحترَم، وعلى حرية الإنسان في السير في خطّ اللّه دون ضغط؛ وبذلك يكون اعتداءً على الحياة في ما يمثّله الدِّين من حماية لها ورفعٍ لمستواها، فلا يُقاس به القتال في الشهر الحرام الذي لم ينطلق من جانب ذاتي، بل انطلق من محاولةٍ لحماية المسيرة التي بدأها الإسلام في مكة، ووقفت قريش حاجزاً بينها وبين الامتداد؛ فكان القتال رداً للعدوان بشكل غير مباشر وليس عدواناً ابتدائياً.

ثُمَّ تتوجه الآية إلى المسلمين لتعرّفهم طبيعة الصراع الذي يدور بينهم وبين قريش، فليس هو صراعاً تفرضه الخلافات الطارئة التي تحدث بين النّاس في المجتمع العربي، على طريقة الخلافات العشائرية الخاضعة لمصالح خاصة، ليكون لها فترة معينة وتسوية خاصة؛ بل هو صراع على العقيدة التوحيدية التي تمثّل خطاً ممتداً في الحياة، يختلف اختلافاً كبيراً عن عقيدة الشرك التي تمثّل خطاً مبايناً لا مجال للالتقاء به في أية مرحلة من مراحل الطريق؛ ولذا كان الموقف حاسماً لا يخضع لأنصاف الحلول.

وهذا ما فهمته قريش من واقع هذا الصراع، وهذا ما يجب أن يفهمه المسلمون في ما يستقبلون من قضايا الصراع؛ فإنَّ قريشاً، وكلّ قوى الشرك والكفر، لن تهدأ ولن تستريح إلاَّ بعد أن يتمّ القضاء على الإسلام بالقضاء على المسلمين أو على العقيدة في داخلهم؛ وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: ] وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا[ . وبذلك كان القتال مفروضاً على المسلمين، وكانت الساحة مفتوحة على مستوى الزمان والمكان؛ فلا خيار لهم في التوقف، بل لا بُدَّ لهم من أن يتحرّكوا على كلّ المحاور والاتجاهات والأوقات، وإن أدّى ذلك إلى اختراق حرمة الشهر أو المكان، لأنَّ حرية الدِّين في التحرّك وفي حماية نفسه لا تحتمل المساومة والاسترخاء والوقوف عند أي حاجز من الحواجز المطروحة في الطريق في غير هذا المجال.

* * *

الارتداد يحبط الأعمال:

ثُمَّ تتوجه الآية إلى المسلمين الذين قد يستسلمون للضعف أمام الضغط الهائل الذي تمثّله قوى الشرك، فيرتدّون عن دينهم، فتعرّفهم خطورة الارتداد في حساب المصير، تبعاً لأهمية الإيمان باللّه في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة: ] وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ ، فتقرّر الآية ـ في هذا الجوّ ـ أنَّ الإنسان الذي يموت كافراً في خطّ الارتداد يسقط من حساب اللّه في كلّ المجالات، لأنَّ قيمة أي عمل من أعمال الإنسان تتحدّد بالانطلاق به من خلال الإيمان باللّه؛ فلا قيمة لأي عمل لا ينطلق من تلك القاعدة. ولذا فإنَّ الارتداد يحبط أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة، ويؤدي به إلى الخلود في النّار. وعلى ضوء ذلك، كان الإسلام يلغي كلّ الأعمال السيئة المتقدّمة عليه، كما ورد «أنَّ الإسلام يجبّ ما كان قبله»[2]، وكان الكفر يلغي كلّ الأعمال الصالحة المتقدّمة عليه، لأنَّ الإسلام يتعامل مع الأعمال من موقع القاعدة التي ينطلق منها العمل لا من موقع العمل نفسه، لأنَّ القاعدة الفكرية هي التي تعطي العمل معناه الإيجابي أو السلبي في خطّ الاستقامة والانحراف. وفي هذا الإطار، يحدّد القرآن الموقف للاتجاه المعاكس لخطّ الكفر والارتداد، وهو خطّ المؤمنين الذين عاشوا الإيمان باللّه في موقف الهجرة والجهاد في سبيل اللّه، وتحرّكوا من القاعدة الصلبة التي تحرّك خطواتهم في الحياة.

] إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه[ فهم يرجون رحمة اللّه التي لا تنال الكافرين البعيدين عن أجواء الإيمان. فإذا أخطأ هؤلاء المؤمنون في بعض ممارساتهم وكلماتهم، فإنهم يرجون ـ في عمق إيمانهم ـ أن يرحمهم اللّه، ويغفر لهم ذنوبهم، ويدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، انطلاقاً من إيمانهم بالحقيقة الإلهية ] وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ .

* * *

تفسير الميزان وحبط الأعمال:

هناك عدّة أحاديث تثيرها كلمة: ] حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ[ في مقام الجدال:

1 ـ تناول صاحب الميزان المسألة في تفسير قوله تعالى: ] حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ[ فقال: «الذي ذكره تعالى من أثر الحبط: بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً. فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنَّ الإيمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ [النحل:97]، وخسران سعي الكافر، وخاصة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه؛ فإنَّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت، وهو اللّه سبحانه، يبتهج به عند النعمة، ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة. قال تعالى: ] أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّاس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا[ [الأنعام:122]. تبين الآية أنَّ للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله وليس للكافر، ومثله قوله تعالى: ] فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى[ [طه:124ـ125]. حيث يبين أنَّ معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، وبالمقابل معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى: ] ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ[ [محمَّد:11] فظهر مما قرّبناه أنَّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال التي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العبادية والأفعال القربية، التي عملها المرتد وأتى بها حال الإيمان؛ مضافاً إلى أنَّ الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي ولا فعل قربي لهم، كالكفّار والمنافقين، كقوله تعالى: ] يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللّه يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللّه فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ[ [محمَّد:7ـ9]، وقوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ[ [آل عمران:21ـ22] إلى غير ذلك من الآيات.

فمُحصّل الآية ـ كسائر آيات الحبط ـ هو أنَّ الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثر في سعادة الحياة، كما أنَّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر، حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطةً باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أخروية، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الرِّدّة، وإن مات على الرِّدّة ختم له الحبط وكتب الشقاء»[3].

ونلاحظ على هذا التحليل الدقيق، أنَّ ما ذكره في تفسير الإحباط في الدنيا والآخرة ببطلان تأثير الأعمال، مع الكفر أو الارتداد في سعادة الإنسان في الدارين صحيح، ولكن تفسيره السعادة في الدنيا بالحياة الروحية التي يعيش الإنسان المؤمن فيها النور في أفعاله، دون الكافر الذي يفقدها لفقدان صلته باللّه الذي يدخل البهجة إلى قلبه، والسلوة عند حزنه، والاكتفاء عند حاجته ليس دقيقاً، فإنَّ ذلك قد يحقّق للإنسان الشعور بالسعادة والطمأنينة من حيث تأثير الإيمان في ذلك، كما هو مدلول الآيات التي استشهد بها، ولكن الظاهر من الأعمال، في هذه الآية، الأعمال التي يستحق بها الإنسان العناية من اللّه بما يمنحه من الثواب عليها، أو يدفع بها عنه شراً، أو يجلب له خيراً، فإنَّ اللّه يعطي عباده المؤمنين النتائج الإيجابية في أعمالهم الخيرة وإن لم يتقرّبوا بها إليه، بل كانت جاريةً على حسب الخطّ الإيماني الذي تتحرّك فيه حياته من خلال انتمائه إلى رسالات اللّه.

ولذلك، فإنَّ المقصود من حبط الأعمال بالكفر وبالارتداد هو بطلان تأثيره في العطاء الإلهي في الدنيا والآخرة، هذا العطاء الذي يجريه اللّه لعباده جزاءً للأعمال الصالحة بشرط الإيمان، لأنَّ الإيمان هو الأساس في استحقاق الثواب على العمل. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ] فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ[ [الأنبياء:94]. وقوله تعالى: ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ [النحل:97] فإنَّ الظاهر من الآيتين، أنَّ العمل الصالح في دائرة الإيمان، هو الذي يمنح الإنسان حقّ الأجر الذي يمنحه اللّه له في الدنيا والآخرة، وهو الذي يمنع من كفران سعيه الذي يلتقي مع معنى الحبط والبطلان.

وفي ضوء ذلك، يكون الحبط كناية عن أنَّ هذه الأعمال ـ مع الكفر ـ صارت بمنزلة العدم، لأنَّ الإيمان هو الذي يعطي العمل قيمته ونتائجه الإيجابية. فليست السعادة التي يتطلبها الإنسان شيئاً يعيشه في حياته الداخلية من موقع الثقة التي يفرضها الإيمان، بل هو شيء يحصل عليه من خلال عطاء اللّه له، لأنَّ اللّه يعطي الثواب في الدنيا كما في الآخرة، وسينزل العذاب في الدنيا كما ينزله في الآخرة. وهذا هو جوّ الآية؛ واللّه العالم.

* * *

هل الأعمال يبطل بعضها بعضاً؟

2 ـ هناك خلاف فكري بين المؤمنين: هل أنَّ الأعمال يبطل بعضها بعضاً، بحيث تبطل الحسنة السيئة، أو السيئة الحسنة، أو يبقى كلّ واحد منهما على حاله في قضية الجزاء؟

فهناك قائل ببطلان الإحباط.

أولاً: لأنه ظلم مستحيل على اللّه سبحانه. وهذا ما ذكره نصير الدِّين الطوسي في تجريد الاعتقاد، قال: إنَّ الإحباط نوع من الظلم، فلو أنَّ شخصاً قلّت حسناته وكثرت ذنوبه، فسيكون الإحباط بالنسبة إليه أن يصبح شخصاً لم يعمل حسنة قط، وهذا ظلم بحقّه.

وثانياً: الآيات الدالة على أنَّ الإنسان يجزى بعمله مطلقاً، سواء لحقه شيء مضاد له أو لم يلحقه، كما في قوله تعالى: ] فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ[ [الزلزلة:7ـ8]. وقوله تعالى: ] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ [التوبة:201] وظاهر هذه الآية أنَّ الأعمال تبقى على حالها في نتائجها الإيجابية والسلبية حتى تأتيهم التوبة من اللّه سبحانه.

وثالثاً: إنه لا موجب للإحباط بعد انطلاق كلّ منهما من موقعه الداخلي في النفس الإنسانية، ما يفرض أن يأخذ كلّ واحد منهما دوره في واقع الإنسان من خلال عدم ارتباط أحدهما بالآخر، أو غلبته عليه، فلا وجه لإلغاء أحدهما الآخر. وهذا هو المنهج العقلائي الذي جرى عليه العقلاء بفطرتهم التي خلقها اللّه فيهم في الجزاء على الحسنة بشكل مستقل كما لو لم تكن هناك سيئة، والجزاء على السيئة بشكل مستقل، كما لو لم تكن هناك حسنة؛ وذلك من خلال السيئات والحسنات التي لا تحمل مدلولاً مميزاً، بحيث يلغي الأساس للآخر كلّه، أمّا في العمل الذي يقطع العلاقة بين الإنسان وربّه، كالكفر والارتداد، فإنه يقطع المسألة من جذورها التي لا تبقي للحسنة أية قابلية للبقاء في حساب الأعمال.

وهناك قائل بأنَّ الأعمال تبقى على حالها في آثارها العامة والخاصة، ولكن الحسنة قد تكفر السيئة، كما في قوله تعالى: ] يِا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّه يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[ [الأنفال:29]، وقوله تعالى: ] إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً[ [النساء:31] وقوله تعالى في تبديل السيئة بالحسنة: ] إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً[ [الفرقان:70]. وقوله تعالى: ] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ[ [هود:114]. وهذا أمر قريب إلى المنهج الإسلامي الذي يلتقي بالعفو والمغفرة والتوبة التي قد تكون كلامية، وقد تكون عملية بتبديل الخطّ العملي من السلب إلى الإيجاب.

وذهب صاحب البحار العلامة المجلسي في بحار الأنوار إلى ثبوت سقوط الثواب بكفر يستمر إلى نهاية العمر، وسقوط العقاب بإيمانٍ يستمر حتى الموت. والأخبار كثيرة بشأن هبوط كثير من الطاعات عن طريق كثير من المعاصي، وغفران كثير من المعاصي عن طريق كثير من الطاعات. وذلك كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: ] يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ[ [الحجرات:2] وكما في قوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللّه شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ[ [محمَّد:32ـ33]. فإنَّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة. كما جاء في تفسير الميزان[4].

وقد جاء عن النبيّ محمَّد (ص): «إياكم والحسد، فإنَّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب»[5].

ولكن يمكن مناقشة بعض هذه الشواهد. أمّا الآية التي تتحدّث عن رفع الصوت فوق صوت النبيّ، فليست واردةً في مقام بيان فعلية إحباط هذا السلوك لأعمالهم السابقة، بل هي واردة ـ واللّه العالم ـ في التحذير من فعل الإساءة إلى النبيّ بعدم احترامه في درجة نبوته، من خلال الاستهانة به وبأمره ونهيه؛ فيقودهم ذلك إلى الابتعاد عن خطّ الإيمان بطريقة تلقائية لاشعورية في ما يجر بعض الأوضاع السلبية بعضاً آخر، وتؤدي بالتالي إلى لونٍ معين من الانحراف في اتجاه آخر. ولعلّ قوله سبحانه: ] يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ[ ، إشارة إلى ذلك من خلال الوصول إلى الكفر وما يشبه الكفر من دون شعور.

أمّا آية المشاقة، فإنَّ الظاهر من المشاقة مع الرسول، هو ما يحصل من الكافرين في مواجهتهم للنبيّ من خلال معطيات الكفر والصدّ عن سبيل اللّه ـ ولذلك ذكر هذه المشاقة في سياق صفات الكافرين ـ وذلك بإعلان الحرب عليه، والابتعاد عن دينه، والمخالفة له في العقيدة والشريعة والاستهزاء. وأمّا الفقرة التي تليها، فإنها تتحدّث عن ضرورة الانسجام مع خطّ الإيمان بإطاعة اللّه ورسوله، وعدم الانحراف عن هذا المنهج الإيماني الذي قد يؤدي إلى بطلان الأعمال من خلال انهيار القاعدة الأساسية للأعمال؛ واللّه العالم.

أمّا الحديث عن الحسد في أكله للحسنات، فقد يكون ناشئاً من الروحية التي تتمثّل في الحاسد الذي قد ينطلق إلى القيام بكثير من الأعمال الباغية التي قد تطغى على حياة الإنسان، بحيث لا تكون هناك أية قيمة لما قام به من الأعمال الصالحة أمام ما يقع فيه من الأعمال السيئة، حتى كأنها لا شيء، وذلك بأسلوب الكناية أو المبالغة. وهكذا لا نجد في مثل هذه الشواهد دليلاً على ما ذكره من إبطال بعض السيئات للحسنات، وربما كان السبب في بعض هذه التفاسير التعامل مع النص بحرفيته، لا بإيحاءاته وأساليبه البلاغية القائمة على الكناية تارةً وعلى المبالغة أخرى، واللّه العالم.

* * *

بين الردّة والموت كافراً:

3 ـ لا شك أنَّ المسلمين متفقون على أنَّ الردّة تحبط العمل وتفسده، ولكن هل يحدث ذلك بمجرّد الردّة، فلا قيمة للعمل حتى لو آمن بعد ذلك، أو أنه مشروط بالموت كافراً؟ ذهب الشافعي إلى أنَّ إحباط الردّة للعمل مشروط بالموت كافراً، وذلك من خلال الآية الكريمة في قوله تعالى: ] وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ[ فلا إحباط للعمل إذا تبدل الكفر قبل الموت بحيث مات مؤمناً.

وذهب أبو حنيفة ومالك إلى الرأي الأول، فتكون الردّة محبطةً للعمل ولو رجع صاحبها إلى الإسلام، وذلك من خلال قوله تعالى: ] وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [الزمر:65] وقوله تعالى: ] ذلِكَ هُدَى اللّه يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ [الأنعام:88] وقوله تعالى: ] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [المائدة:5] فقد علق فيها الحبوط بمجرّد الشرك. وإذا كان الخطاب الأول للنبيّ، فإنَّ المقصود به أمته لاستحالة ذلك عليه. وناقشوا الاستدلال بالآية بأنها واردة في بيان حكمين: الحبوط والدخول في النّار، فلا تكون دليلاً على شرطية ذلك للحبوط في ذاته، وقد ردّ الشافعي على الاستدلال بآية الشرك بأنها واردة في باب التغليظ على النبيّ كما غلظ على نسائه في قوله تعالى: ] يا نِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيراً[ [الأحزاب:30].

وتظهر ثمرة الخلاف في من حج ثُمَّ ارتدّ ثُمَّ أسلم. فقال مالك وأبو حنيفة: عليه الحج لأنَّ ردّته أحبطت حجه. وقال الشافعي: لا حج، لأنَّ حجّه قد سبق. والردّة ليست محبطة إلاَّ إذا مات على كفره.

ونحن نلاحظ أنَّ الآيات التي تحدّثت عن الشرك كانت تتحدّث عن المبدأ كعنوان للإحباط، بقطع النظر عن التفاصيل، أو ربما يستفاد منها أن يكون مشركاً في مقابل المؤمن بما يوحي بالاستمرار، أمّا آية: ] فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ[ فهي متعرّضة للحبط، أمّا الخلود في النّار فهو حكم آخر وليست المسألة على أساس القيد والمقيّد؛ واللّه العالم.

وقد نستفيد احتفاظ الإنسان بعمله الصالح حتى لو أعقبته السيئة من قوله تعالى: ] فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّه وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ[ [آل عمران:195] فإنَّ في إبطال العمل بفعل عمل سلبيٍّ آخر إضاعة للعمل من خلال إبطال نتائجه الدنيوية والأخروية.

* * *

نظرة الإسلام إلى المرتد في قبول توبته:

4 ـ ما هي نظرة الإسلام إلى المرتد في قبول توبته من حيث المبدأ، من خلال هذه الآية وغيرها؟.

إنَّ هذه الآية توحي بأنَّ العذاب الموعود به والحبط المذكور فيها يرتكزان على الارتداد المستمر إلى الموت، أي الارتداد الذي لا توبة بعده، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: ] وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ فإنَّ تعليق النتائج السلبية على الموت كافراً يوحي بأنه لو تاب قبل موته، فمات وهو مؤمن، فلا حبط لعمله ولا خلود في النّار. وهذا المضمون يلتقي، من ناحية إيحائية، مع قبول التوبة في الدنيا، بمعنى دخوله من جديد في دائرة رحمة اللّه ورضوانه كجزء من المجتمع الإسلامي.

وجاء في سورة آل عمران قوله تعالى: ] كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حقّ وَجَآءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّه وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ[ [آل عمران:86ـ90].

فإنَّ هذه الآيات تشير إلى المؤمنين الذين كفروا بعد إيمانهم، وازدادوا كفراً بحيث امتد كفرهم إلى نهاية حياتهم، وتتحدّث عن عذابهم الذي ينتظرهم في الآخرة، وعن عدم قبول توبتهم لعدم جديتهم فيها، أو في إيمانهم بالآخرة، بمعنى عدم حصولهم على نتائج التوبة ظاهراً، وتستثني آية ] إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ [البقرة:160] فتتحدّث عن غفران اللّه لهم ورحمته، وهذا دليل على قبول توبتهم. وإذا كانت الرِّوايات تختلف بين رواية تحملها على أهل الكتاب، ورواية تحملها على المرتدين من المسلمين؛ فإنَّ الظاهر منها هو الإطلاق الذي يشمل حالة الارتداد بعد الكفر.

وربما كان مبدأ قبول توبة المرتد، من ناحية إيحائية، واضحاً في الآية التالية، وهي قوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ[ [آل عمران:91] حيث مضمونها يلتقي بمضمون آية البقرة في اعتبار العذاب الأخروي، الذي ينطلق من واقع الإنسان في الدنيا، مشروطاً بالموت كافراً؛ الأمر الذي يوحي بأنَّ هناك فرصة للتوبة. وإذا كانت هناك فرصة للتوبة، فهناك فرصة للاستتابة من قِبَل الحاكم الشرعي، لأنه لا معنى لتشريع المبدأ من دون أن يأخذ طريقه في حياة النّاس.

وقد جاء في سورة النساء قوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً[ [النساء:137] وفي هذا إيحاء بأنَّ المشكلة في مصير هؤلاء هو إصرارهم على الكفر في الدنيا حتى الموت؛ فإذا رجعوا عن الكفر وآمنوا من جديد، فلا مشكلة لهم عند اللّه في الدنيا والآخرة. ولا فرق في ذلك بين المرتد الفطري الذي ولد على فطرة الإسلام من أبوين مسلمين، والمرتد الملِّي الذي كان كافراً ثُمَّ أسلم ثُمَّ كفر، فإنَّ الآيات ـ بأجمعها ـ توحي بقبول التوبة منهم من قِبَل المجتمع الإسلامي الذي يدعوهم إلى الرجوع إلى الإسلام من جديد.

وقد لا نستطيع أن نتعقل رفض اللّه إسلام المرتد، بعد رجوعه عن الارتداد، لا سيما إذا كان ارتداده لشبهةٍ أو لنزوةٍ أو لخضوعه لضغط عام أو خاص، فإنَّ اللّه يريد للنّاس أن يرجعوا إليه، ويؤمنوا به، ويلتزموا خطّه في جميع الحالات، ولا معنى للحديث عن قبول التوبة في الآخرة وعدم قبولها في الدنيا، لأنَّ التوبة في الدنيا هي الأساس في نتائج الآخرة، حسب المستفاد من المنهج العام في القرآن في هذه الأمور.

وقد جاءت في السنة أحاديث كثيرة تدل على عدم قبول توبة المرتد إذا كان فطرياً وقبولها إذا كان ملياً، وهناك نظرية فقهية تقول بعدم سقوط الحدّ عن المرتد الفطري، حتى مع قبول توبته، لأنَّ ذلك مرتبط بفعلية ثبوت الحدّ عليه؛ فيمكن إبقاء مسألة بينونة زوجته وتقسيم تركته وقتله على حالها حتى بعد التوبة، فلو بقي على قيد الحياة ولم ينفذ فيه الحدّ، كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم من الحقوق والواجبات. وهناك قول بقبول توبته بعد استتابته، سواء كان فطرياً أو ملياً، ويبقى إجراء الأحكام عليه في حال الإصرار على الارتداد، وهذا بحث فقهي لا بُدَّ من أن يرجع فيه إلى الفقه، فنحن هنا بصدد البحث التفسيري الذي يحاول استنطاق القرآن في المفهوم الإسلامي في هذه المسألة أو غيرها.

* * *

الدلالات والإيحاءات:

ونريد هنا ـ في نهاية المطاف ـ أن نستوحي بعض ما يمكن استيحاؤه من هاتين الآيتين، لتتحرّك الفكرة في حياتنا كما تحرّكت في حياة المسلمين الأولين، وذلك في ضمن نقاط:

زمن السَّلام:

1 ـ إنَّ الإسلام قد أقرّ فكرة «زمن السَّلام» كحقيقة دينية مقدسة، لتكون واحةً زمنيةً يستريح فيها النّاس من المشاكل والخلافات والحروب، ويعيدون النظر في ما عاشوه ومارسوه في ضوء النتائج المرعبة التي تؤدي إلى إزهاق النفوس، وتلف الأموال، وتحطيم العلاقات الإنسانية على أساس الحقد والبغضاء. وبذلك، تنفتح هذه العلاقات في اتجاه سليم يركز قواعد المحبة والسَّلام ما أمكن ذلك، وهكذا يمكن لهم أن يحصلوا في فرص السَّلام على ما لم يحصلوا عليه في فرص الحرب. ولا بُدَّ للمسلمين من أن يأخذوا بهذا التشريع في علاقات الحرب والسَّلام في المجالات التي يملكون فيها أمر تقرير أحدهما في المعركة، ما لم يكن هناك ظروف ضاغطة تفرض فيها طبيعة الموقف أن يستمر القتال من أجل الوصول إلى نتائج حاسمة في نطاق القضية الإسلامية الكبرى.

* * *

التزاحم بين الحكمين:

2 ـ إنَّ القاعدة العقلية التي أقرّها الفكر الإسلامي الفقيه، انطلاقاً من آيات اللّه وسنة رسوله، تفرض اختيار الجانب الأهم في حسابات المصالح والمفاسد إذا تعارض حكمان شرعيان يأمرنا أحدهما بشيء وينهانا الآخر عنه ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً، لأنَّ الحكم الشرعي ينطلق من المصلحة الأساسية للإنسان، من خلال ما ثبت لدينا من أنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها. فإذا رأينا المصلحة الأهم في جانب، فمعنى ذلك أنَّ الحكم الذي لا يصل الموقف فيه إلى هذا المستوى من الأهمية، يفقد معناه في حدود ذلك، وتكون النتيجة تقييد فاعلية الحكم الشرعي وحركته في غير هذا المجال.

وهذا ما واجهناه في الآيات السابقة التي تتحدّث عن القتال في المسجد الحرام في ما إذا قاتل المشركون المسلمين فيه، وفي هذه الآية التي تتحدّث عن القتال في الشهر الحرام في صور مبرراته الإسلامية. فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشهر أو المكان وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعاً أو مهزوماً أمام ضربات الكفر، فإنَّ من الممكن أن نتجاوز حرمة الشهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا؛ بل قد يجب ذلك في بعض المجالات، إذ وإن كانت حرمتهما جزءاً من التشريع الإسلامي، لكن لا يمكن أن تتقدّم على سلامة الإسلام نفسه. وهذا ما يعبّر عنه علماء الأصول، بحالة «التزاحم بين الحكمين»؛ وقد نجد هذه القاعدة متمثّلة في أكثر من مسألةٍ فقهيةٍ في نطاق المحرّمات الشرعية، التي جاءت الرخصة فيها في بعض مواردها، وقد تعدّدت نماذجها حتى أصبحت بمثابة «القاعدة الثانوية الاستثنائية»؛ حتى قال الأصوليون: «ما من عام إلاَّ وقد خُصَّ»، ما يوحي بأنَّ التخصيصات الواردة في العموميّات القرآنية والنبوية تحوّلت إلى ظاهرة شرعية من خلال تزاحم المصالح العامة، والتي يعبّر عنها الخاص في دائرة الخصوصيات الحاكمة على العنوان العام.

وهذا ما نراه في الغِيبة التي جاء الاستثناء فيها في قوله تعالى: ] لاَّ يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّه سَمِيعاً عَلِيماً[ [النساء:148] فجعل حالة الظلم استثناء من حرمة الغيبة التي جاء فيها قوله تعالى: ] يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللّه إِنَّ اللّه تَوَّابٌ رَّحِيمٌ[ [الحجرات:12] فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدّث عن ظالمه بالسوء من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه، باعتبار أنَّ مصلحة رفع الظلم عن المظلوم أكبر من مفسدة الغيبة في إظهار عيب الظالم؛ كما جاء الاستثناء في مقام النصيحة للمؤمنين، لأنَّ إغلاق باب النصيحة في التحدّث عن عيوب الإنسان الذي قد يقع النّاس في مشاكل كثيرة نتيجة كتمان عيوبه، أكثر من مشاكل الحديث السلبي عنه؛ وفي مقام تجاهر الإنسان بالفسق الذي تمثّل الغيبة وسيلة من وسائل الضغط عليه، وإبعاد النّاس عن التأثر به من أجل إصلاحه أو إنقاذ النّاس من أضراره؛ وفي مقام تترّس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين، ليمنعوهم من الهجوم عليهم، خوفاً من تأدية ذلك إلى قتل إخوانهم، وبذلك يفقد المسلمون فرصة النصر، فأجاز الإسلام قتل الأسرى المسلمين إذا توقف النصر أو الدفاع على ذلك؛ وهكذا نجد ذلك في كثير من الموارد الشرعية.

وهذا باب ينفتح على أكثر من قضيةٍ من قضايا النّاس العامة والخاصة، التي قد تؤكد الفكرة القائلة بأنَّ الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرّمة، بمعنى أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخطّ العام، فلا يتجمد الإنسان المسلم في أخلاقياته إذا تحوّلت إلى خطر على حياته أو على مصير الإسلام والمسلمين، كما لو أريد له أن يتحدّث، وهو في سجن الكافرين والمستكبرين، عن أسرار المسلمين السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمثّل إظهارها خطراً على السلامة العامة؛ فيجب عليه في هذه الحالة، أن يكذب من أجل حماية القضية الكبرى؛ ويحرم عليه الصدق الذي يؤدي إلى السقوط الكبير، لأنَّ الكذب يمثّل القيمة السلبية الأخلاقية، كما يمثّل الصدق القيمة الإيجابية الأخلاقية في الخطّ العام.

لا يجوز للإنسان أن يكذب باختياره، بل يجب عليه أن يأخذ بالصدق في أحاديثه في الحالة الطبيعية العامة، لكن الحالات الطارئة الضاغطة تفقد الكذب سلبيته ليكون قيمة إيجابية كما تفقد الصدق إيجابيته ليكون قيمة سلبية، لأنَّ المسألة في السلب والإيجاب لا تنطلق من الطبيعة الذاتية للصدق والكذب، بحيث يكون علة تامة للسلب هنا أو للإيجاب هناك، بل تنطلق من الحالة الاقتضائية المنفتحة على النتائج بشكل عام، ولكنَّها قد تصطدم ببعض الموانع التي تمنعها عن التأثير في المقتضى بدرجة فعلية. وهذا ما يجعلنا نؤكد أنَّ الأخلاق في الإسلام تمثّل قيمة قابلةً للتغيّر في حركتها في الواقع الإنساني تبعاً للعناوين الثانوية الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعية باختلافها.

ولا بُدَّ في هذه الحالة من التدقيق كثيراً في المواقف والقضايا قبل الدخول في عملية الموازنة بين الأحكام، لأنَّ المسألة تحتاج إلى وعي عميق واسع في فهم أسس الحكم الشرعي وفي فهم الواقع الذي يتحرّك فيه، ولا يمكن إخضاعها للأفكار السريعة الانفعالية في مواجهة الواقع في ضغوطه العملية على حركة الإنسان في الحياة.

* * *

صراع المسلمين مع قوى الكفر مستمر:

3 ـ إنَّ الآية توحي للمسلمين بأنَّ عليهم أن ينطلقوا في الحياة على أساس وعي الحقيقة التالية، وهي أنَّ قوى الكفر والشرك تخطط لإخراج المؤمنين عن دينهم بكلّ الوسائل والقدرات التي يملكونها، بحيث انهم يبادرون إلى الدخول في قتال مستمر لتحقيق هذه الغاية، ] وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ[ فلا بُدَّ لهم من أن يستعدوا لمواجهة هذه الخطط بالوسائل الوقائية والدفاعية، ليحفظوا إيمانهم الذي يمثّل القاعدة الصلبة لنجاتهم في الدنيا والآخرة، لأنَّ القضية التي يعالجها القرآن ليست قضية تاريخية تخضع للظروف المحدودة الموجودة في التاريخ، بل هي قضية مستمرة ما دام هناك كفر وإسلام، وحقّ وباطل؛ وما دامت التحدّيات تفرض نفسها على الساحة، ما يجعل من هدف إضعاف الكفار للدِّين بإضعاف القاعدة الدينية، وبإخراج النّاس من دينهم وإضلالهم وإبعادهم عن الخطّ المستقيم، هدفاً يومياً لكلّ القوى المعارضة للدِّين، من خلال الوسائل المتنوّعة المادية والمعنوية، ما يجعل من عملية الاستعداد للمواجهة عملاً يومياً للمؤمنين لا مجال فيه للشعور بالأمن، ولا للاستسلام والاسترخاء، ولا للوقوف فيه على موقع هدنة.

وهذا ما واجهه المسلمون، ولا يزالون يواجهونه، من مخططات الكفر الذي يستهدف عزّتهم وكرامتهم ومواردهم الطبيعية وثقافتهم ووعيهم الشامل للامتداد الديني في خطّ الحياة، بمختلف الوسائل الثقافية والتربوية والسياسية والاجتماعية والعسكرية. وقد ساهم ذلك في كثير من الفجوات الواسعة في حاضر المسلمين ومستقبلهم، وأدّى إلى إحداث بعض الأوضاع الشديدة الباعثة على الاهتزاز والانحراف.

وقد يختلف الحال، في ما لدينا من وسائل العمل، عمّا كان الأمر عليه في صدر الدعوة الإسلامية، ولكن المبدأ لا يزال واحداً من حيث الدوافع والأعمال. وذلك هو سبيل الوعي الإسلامي الذي ينطلق من فهم المسؤولية وفهم الواقع الذي يحيط به، في ما يريده اللّه لعباده المؤمنين في الحياة.

* * *

الإيمان قيمة كبرى:

4 ـ إنَّ قضية الإيمان والكفر هي قضية الحياة الواسعة بكلّ امتدادها وعمقها، فلا يمكن للإنسان أن يتسامح بها، أو يعيش أجواء اللامبالاة معها، أو يعتمد على عمل صالح بعيدٍ عن خطّ الإيمان؛ كما يفعله البعض ممن ينطلقون في تقييم الأعمال من موقعها الذاتي لا من موقعها الإيماني، فيتحرّكون على أساس اعتبار الإيمان شيئاً غير ذي قيمة كبيرة؛ وقد يدفعهم ذلك إلى تفضيل الكافرين على المؤمنين لبعض الأعمال الصالحة عند أولئك، ولبعض الأعمال السيئة عند هؤلاء، مع أنَّ القضية لا تسير في هذا الاتجاه إسلامياً ـ كما توحيه الآية ـ.

لا بُدَّ من دراسة إيحاءات الأسلوب الذي واجه به المشركون من قريش قتال المسلمين لبعض المشركين في الشهر الحرام، بالدعاية المضادة التي حاولوا فيها تشويه صورة المسلمين بأنهم لا يرعون للمقدسات حرمةً، فيسفكون الدم الحرام، وينتهكون حرمة الشهر الحرام بالعدوان على النّاس بأخذ الأموال وأسر الرجال ونحو ذلك.

فقد نلاحظ أنَّ أعداء اللّه من الكافرين والمستكبرين يعملون على الاستفادة من بعض الأخطاء التي يقع فيها المسلمون من خلال الغفلة، أو الظرف الضاغط عليهم الذي يفرض عليهم الوقوع في الخطأ، أو الاجتهاد الحركي في النظرة إلى الواقع في مواجهة القوى الطاغية التي تصادر حرياتهم، وتضعف مواقعهم، وتهدّد وجودهم ومصالحهم ومواقعهم، وتعمل على أن تحشرهم في الزاوية الحرجة، فيلجأون إلى تجاوز الأساليب المألوفة في الصراع إلى أساليب أخرى لا تمثّل قيمة أخلاقية في المطلق، ولكنَّها تمثّل قيمة أخلاقية في الحالة الطارئة ـ في الخطّ العام ـ باعتبار أنَّ التخفف من خطر الضغط الكافر أو الاستكباري لا يمكن الوصول إليه إلاَّ بهذه الطريقة.

وهنا يقف الإعلام الكافر أو المستكبر ليثير حرباً إعلامية شعواء على الإسلام والمسلمين، على أساس إلصاق تهمة الإرهاب الوحشية والإساءة إلى حقوق الإنسان، وليخفي كلّ الظروف التي فرضت عليهم ذلك، ما يمثّل تبريراً في الواقع الإنساني في العام، لأنَّ القضية ـ عندهم ـ أن يشوهوا الصورة العامة للإسلام والمسلمين، بعيداً عمّا هي الحقيقة في طبيعة الملامح الحقيقية لحركة الصورة في الواقع.

إنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الدفاع عن الحرمات والمقدسات، وذلك في دائرة حرماتهم ومقدساتهم، ولا يسمحون لأحد بالحديث عن انتهاكهم لحرمات المستضعفين ـ من المسلمين وغيرهم ـ بل يحاولون تبريرها بعنوان الدفاع عن الحضارة والإنسان، لأنهم يرون أنهم وحدهم أصحاب الحقّ الحضاري في الوجود، أمّا الآخرون فهم الهوامش التي لا ضرورة لها في أكثر الحالات إلاَّ بالمقدار الذي يحفظ حياتهم.

إنَّ علينا أن نستوحي من الآية الكريمة الثقة بالموقف، والابتعاد عن كلّ الحرب النفسية التي يشنّونها علينا باسم القيم الإنسانية الكبرى؛ بل أن نواجه ذلك بكلّ قوّة، انطلاقاً من وعي الأسس التي يرتكز عليها العاملون في سبيل اللّه في خطّ المواجهة والوقوف عندها، في دراسة دقيقة للسلبيات والإيجابيات، والاقتصار بها على ظروفها الخاصة، لنؤكد للجميع أنَّ الإسلام لا يريد للعدوان أن يأخذ حريته في الاعتداء على النّاس من دون أن يقفوا بقوّة للردّ عليه، ويطوّروا أساليبهم في هذا الاتجاه، فلا يقتصروا على وسيلة واحدة، بل يمكن لهم أن يستوحوا الشرع في تنويع الوسائل، حتى التي لا تملك شرعية في ذاتها، ولكنَّها تملكها بلحاظ حالات الطوارىء الضاغطة. فإنَّ الإسلام يؤكد القيمة ما دامت في مصلحة الإنسان. فإذا تحوّلت إلى خطر عليه، أسقطها وجعل القيمة في الاتجاه الآخر.

ولا بُدَّ للعاملين في الدعوة إلى اللّه في دائرة الإعلام السياسي والثقافي من توعية المسلمين، لا سيما البسطاء والساذجين منهم، حتى لا يقعوا في قبضة الإعلام الاستكباري باستثارة القيم الروحية والأخلاقية الإنسانية في وجدان المسلمين، ليقفوا ضدّ إخوانهم المجاهدين عندما يقومون ببعض الأعمال التي ينطلقون بها في خطّ الشرعية على أساس فهمهم للواقع، فيتهمونهم بانحرافهم عن الإسلام، كما يحدث ذلك في مرحلتنا الحاضرة، التي يعيش فيها المسلمون الحركيون في صراع دائم مع القوى الاستكبارية في الداخل والخارج، ويعيشون الضغوط الهائلة التي تضغط على حرياتهم وحركتهم لمنعهم من أن يؤكدوا القوّة الإسلامية التي تجعل الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، من دون أن يفهم المسلمون خلفيات هذه الأعمال، لأنَّ الإعلام المستكبر هو الذي يتولى مهمة توزيع الاتهامات وإصدار الأحكام.

إنَّ من واجب القائمين على شؤون الدعوة الإسلامية أن يقوموا بتثقيف المسلمين بالحدود الفاصلة بين الحالات الطبيعية، في العناوين الأولية في الأحكام الشرعية، والحالات الاستثنائية الصعبة في عناوينها الثانوية التي قد تحلل ما كان محرّماً، وقد تحرّم ما كان حلالاً، فإنَّ التوعية الإسلامية الثقافية قد تفوّت على المستكبرين والكافرين كلّ الفرص التي يستغلونها للإضرار بالإسلام والمسلمين، بينما يتحرّك الجهل، والسذاجة، والخواء الثقافي، ليمنحهم أكبر فرصة للوصول إلى أهدافهم الشيطانية الاستكبارية.

ــــــــــــــــــ

(1) لمزيد من التفاصيل حول مناسبة النـزول، انظر: مجمع البيان، ج:2، ص:551. والدر المنثور، ج:1، ص:600 ـ 605، وأسباب النـزول، ص:36ـ38.

(2) راجع: البحار، م:8، ج:21، ص:80، باب:26، رواية:8.

(3) تفسير الميزان، ج:2، ص:171ـ172.

(4) تفسير الميزان، ج:2، ص:176.

(5) البحار، م:25، ج:70، ص:357، باب:131، رواية:26.