الآية 219-220
الآيتــان
{يَسْـألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للنّاس وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللّه لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيم} (219ـ220).
* * *
معاني المفردات:
] الْخَمْرِ[ : أصله الستر، ومنه: الخمار للمقنعة. ودخل في خمار النّاس، أي: في كثير الذي يستتر فيهم. ويُقال: خامره الداء: إذا خالطه، وخمرت الإناء: إذا غطيته. وفي الشرع: كلّ مائع مسكر، سواء أخذ من العنب أو الزبيب أو الثمر، وكلّ مشروب كحولي. وربما كان إطلاق الخمر على المسكر بلحاظ تغطيته على العقل وسلبه القدرة على التمييز بين الضرر والنفع.
] وَالْمَيْسِرِ[ : القمار. اشتق من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، من قولك: يسر لي هذا الشيء. يَيْسِر يَسْراً وميسراً إذا وجب ذلك، والياسر: الواجب بقداح وجب لك أو غيره. يُقال: يسرته، إذا قمرته. واشتقاقه من اليسر، لأنه أخذ مال الرّجل بيسر وسهولة من غير كدّ أو تعب؛ أو من اليسار، لأنه سلب يساره.
وكانت صفة الميسر، في الجاهلية، أنهم كانت لهم عشرة أقداح، وهي الأزلام والأقلام: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسيل، والمعلى، والمنيح، والسفيح، والوغد؛ لكلّ واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونه ويجزئونه عشرة أجزاء، وقيل: ثمانية وعشرون جزءاً إلاَّ لثلاثة، وهي المنيح والسفيح والوغد. للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسيل ستة، وللمعلى سبعة؛ يجعلونها في الربابة ـ وهي خريطة ـ ويضعونها على يدي عدل، ثُمَّ يجلجلها ويدخل يده، فيخرج باسم رجل قدحاً منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء، أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح؛ ومن خرج له قدح مما لا نصيب له، لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كلّه. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم.
وقد تطوّرت آلات القمار وتنوّعت وسائله، وقد عُدّ منها الشطرنج والنرد اللذان كان النّاس يلعبون بهما بطريقة القمار، بحيث كان للرابح فيهما عوض معيّن. وهكذا نجد أنَّ مفهوم الميسر يلتقي مع كلّ لون من ألوان اللعب بالآلات القديمة والجديدة، على أساس أن يكون للرابح عوض يدفعه الخاسر. وجاء عن ابن سيرين: كلّ شيء فيه خطر فهو من الميسر.
] إِثْمٌ[ : الإثم يُقارب الذنب وما يشبهه معنى، وهو حال في الشيء أو في العقل يُبطىء الإنسان عن نيل الخيرات. فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى، ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى.
قال الراغب: الإثم والأثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب.. وقوله تعالى: ] فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للنّاس[ أي في تناولهما إبطاء عن الخيرات[1]. وأصل الإثم البطء والتأخر.
] الْعَفْوَ[ : مأخوذ من الزيادة. ومنه قيل: حتى عفوا، أي: ازدادوا على ما كانوا عليه من العدد. والمراد به: ما يسهل إنفاقه فلا يبلغ الجهد ـ وهو التوسط في الإنفاق ـ وقيل: هو مأخوذ من الترك من قوله: ] فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ[ [البقرة:178] أي: ترك. ومنه: عفوت لكم عن صدقة الخيل، أي: تركتها، فيكون العفو لمتروك لغنًى عنه.
] تُخَالِطُوهُمْ[ : المخالطة: مجامعة يتعذر معها التمييز، كمخالطة الخل للماء وما أشبهه. والخليطان: الشريكان لاختلاط أموالهما. والخليط: القوم أمرهم واحد. والمراد بها في الآية: المعاشرة على نحو التداخل في الواقع الاجتماعي.
] لأَعْنَتَكُمْ[ : الإعنات: الحمل على مشقة لا تطاق ثقلاً، وعنت العظم عنتاً: أصابه وهن أو كسر بعد جبر. وأصل الباب: المشقة والشدّة.
* * *
مناسبة النزول:
جاء في المجمع: إنَّ الآية «نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول اللّه (ص) فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت الآية»[2].
قد نستوحي من هذه الرِّواية أنَّ التحريم لم يكن وارداً في التشريع ـ آنذاك ـ وأنهم كانوا يعيشون في وجدانهم الشرعي أجواء التحريم من خلال طبيعة النتائج السلبية التي يعرفونها في الخمر والميسر مما يختزنانه من فساد للعقل والمال، وذلك من جهة ما عرفوه من دروس رسول اللّه في ما كانوا يسمعونه منه من آيات اللّه وأحاديثه، أنَّ اللّه يريد بالنّاس الخير في تشريعاته الإلزامية على أساس المصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال، فهم يتحسسون حرمة الأشياء المضرة في وجدانهم الديني، فيتطلّعون إلى النبيّ محمَّد (ص) سائلين عن الحرام في هذا أو ذاك.
وهناك رواية في الكافي توحي بأنَّ تحريم الخمر بشكل صريح حاسم سابق على هذه الآية؛ فقد جاء عن عليّ بن يقطين، قال: سأل المهدي أبا الحسن ـ "موسى الكاظم"(ع) ـ عن الخمر: هل هي محرّمة في كتاب اللّه ـ عزَّ وجلّ ـ فإنَّ النّاس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها. فقال له أبو الحسن (ع): بل هي محرّمة في كتاب اللّه عزَّ وجلّ يا أمير المؤمنين. فقال له: في أي موضع هي محرّمة في كتاب اللّه جلّ اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: قول اللّه عزَّ وجلّ: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ[ [الأعراف:33]... إلى أن قال: وأمّا الإثم، فإنها الخمرة بعينها؛ وقد قال اللّه تعالى في موضع آخر: ] يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للنّاس[ فأمّا الإثم في كتاب اللّه فهي الخمرة والميسر وإثمهما أكبر كما قال اللّه تعالى. الحديث[3].
وقد ذكر صاحب تفسير الميزان: أنَّ آية الأعراف سابقة في النزول على آيتي البقرة وآيتي المائدة، فإنهما تدلان على النهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات، فإنَّ التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس[4].
ولكنَّنا لا نجد في رواية الكافي دلالة على سبق آية الأعراف على آية البقرة، بل قد تدل على تأخرها عنها، وذلك لأنَّ الإمام في الرِّواية، استشهد بآية البقرة على انطباق عنوان الإثم بشكل واضح على الخمر، ما يجعل كلمة الإثم في آية الأعراف متعلّقاً للتحريم، بدلالة على أنَّ المراد به الخمر، فكأنَّ آية البقرة مهّدت لبيان التحريم، من حيث كون الخمر مصداقاً للإثم. والتعبير عن الخمر بالإثم لا يخلو من غموض في فهم المعنى المعيّن من اللفظ.
وربَّما يُقال: إنَّ الخمر يسمى إثماً في اللغة، كما قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضلّ عقلي كذاك الإثم يصنع في العقول
والجواب: أولاً: إنَّ الإمام استدل على إرادة الخمر من الإثم ـ في آية الأعراف ـ بآية البقرة التي وصف فيها الخمر والميسر بالإثم، ولم يستشهد بكلام أهل اللغة في تسمية الخمر بهذا الاسم؛ ما يوحي بأنَّ ذلك ليس معروفاً في زمن الإمام الكاظم (ع).
وثانياً: من الممكن أن يكون هذا الشاعر قد استوحى القرآن في هذا التعبير، أو استوحى الكلمة الدالة على أنَّ مضمون الإثم هو حالة في الشيء أو في العقل يبطىء الإنسان عن نيل الخيرات، فأطلقها عليه من باب إطلاق المفهوم على المصداق، لاشتمال الخمر على ما يوجب فساد العقل، لا من باب إطلاق الكلمة على معناها.
وثالثاً: إنَّ ملاحظة صاحب الميزان في إثبات سبق آية الأعراف غير دقيقة، لأنَّ النهي المطلق في آية البقرة وآيتي المائدة كان وارداً بالأسلوب الذي يركز على الأساس السلبي للخمر في العناوين المذكورة التي توحي بالحرية وتأمر بالاجتناب، بحيث يعيش فيها القارىء الجوّ الفكري في الخطّ التشريعي، بينما لا توحي آية الأعراف إلاَّ بالتشريع فقط في الحديث عن تحريمه إلى جانب المحرمات الأخرى، فلا مانع من أن تكون تلك الآية مقدمة لآية الأعراف، باعتبار أنها جاءت حاسمة في بيان الحرمة بلفظها من دون لبسٍ أو إشكال بعد إعداد الجوّ النفسي المتنوّع للمسلمين في هذه المسألة.
ويؤيد ما ذكرناه الرّواية الأخرى الواردة في الكافي، بطريق مرسل؛ فقد روى عن بعض أصحابنا مرسلاً قال: إنَّ أول ما نزل في تحريم الخمر قول اللّه عزَّ وجلّ: ] يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للنّاس وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا[ ؛ فلمّا نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها وتحريم الميسر، وعلموا أنَّ الإثم مما ينبغي اجتنابه ولا يحمل اللّه عزَّ وجلّ عليهم من كلّ طريق، لأنه قال: ] وَمَنَافِعُ للنّاس[ ثُمَّ أنزل اللّه عزَّ وجلّ آية أخرى: ] إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَْنصَابُ وَالاَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ [المائدة:90] فكانت هذه الآية أشدّ من الأولى، وأغلظ في التحريم؛ ثُمَّ تلت آية أخرى فكانت أغلظ من الأولى والثانية، وأشدّ فقال اللّه عزَّ وجلّ: ] إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ[ [المائدة:91] فأمر عزَّ وجلّ باجتنابها، وفسّر عللها التي لها ومن أجلها حرّمها. ثُمَّ بيّن اللّه ـ عزَّ وجلّ ـ تحريمها، وكشفه في الآية الرابعة مع ما دلّ عليه في هذه الآية المذكورة المتقدّمة بقوله عزَّ وجلّ: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ[ [الأعراف:33] وقال اللّه عزَّ وجلّ في الآية الأولى: ] يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للنّاس[ ثُمَّ قال في الآية الرابعة: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ[ فخبر اللّه عزَّ وجلّ أنَّ الإثم في الخمر وغيرها، وأنه حرام؛ وذلك أنَّ اللّه عزَّ وجلّ إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئاً بعد شيء، حتى يوطن النّاس أنفسهم عليها، ويسكنوا إلى أمر اللّه ـ عزَّ وجلّ ـ ونهيه فيها؛ وكان ذلك من فعل اللّه عزَّ وجلّ على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلى الأخذ بها، وأقل لنفارهم منها[5].
وإذا كانت هذه الرِّواية مرسلة، فإنَّ مضمونها يتناسب مع مضمون الآيات، ما يبعث على الثقة بصدورها، فتكون حجّة على أساس المبنى الذي قررناه في علم أصول الفقه، وهو أنَّ السيرة العقلائية ـ التي هي الأساس في حجية الأخبار ـ جارية على اعتبار الخبر الموثوق به لا خبر الثقة بالخصوص، بل إنَّ اعتباره من أجل كونه سبباً للوثوق.
* * *
القرآن والتصدّي لقضايا الواقع:
في هاتين الآيتين معالجة لعدّة قضايا دار الحوار حولها بين المسلمين وبين النبيّ (ص) في بعض الأمور التشريعية مما كان يُبتلى به النّاس؛ فقد سألوا عن الخمر والميسر، وهما من العادات المتأصلة الجذور في حياة النّاس آنذاك، ما يجعل من تحريمهما، أو الاتجاه نحوه، مشكلةً اجتماعيةً صعبةً. وكانوا يعتقدون، أو يخيّل إليهم، أنَّ التحريم لا يخضع لمصلحة النّاس الحياتية، لأنَّ شرب الخمر يخفف كثيراً من أثقال النفس وهمومها، ويبتعد بها عن أحزانها وواقعها السيّىء. وربما يجدون في أنفسهم بعض الحاجة إلى الهروب من الواقع المرير إلى واقع لا أثر فيه للمرارة أو للمشاكل، تماماً كما هو النوم في حياة الإنسان، حيث تستريح فيه الأعصاب، ويهدأ معه الفكر، وتتجدّد فيه القوى.
* * *
طريقة القرآن في إثارة القضايا:
وحاول القرآن الكريم ـ في جوابه عن ذلك ـ أن لا يتنكر لهذه التصوّرات، ولا يتعسّف في توجيه الحكم الشرعي إليهم، فبدأ بإثارة الجوانب السلبية بإزاء الجوانب الإيجابية ليفكروا فيها بهدوء، ليتحقّق لهم التوازن في تصوّرهم للأشياء وحكمهم عليها، لأنَّ ذلك هو السبيل القويم في سلامة المعرفة من الانحراف تحت ضغط العادة أو المنفعة أو الشهوة؛ وذلك هو قوله تعالى: ] وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّه وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّه إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النّاس لَفَاسِقُونَ[ [المائدة:94] فإنه يضع أمامهم التأثيرات السلبية في الحياة الاجتماعية العامة والخاصة، وفي الحياة الروحية التي يعيش فيها النّاس مع اللّه في لحظة العبادة والتأمّل، لأنَّ الخمر يذهب بالعقل، فيتصرّف الإنسان ـ معها ـ بفعل الغريزة التي تجمع الأحقاد وتفجّرها في طريقةٍ لاشعورية؛ بينما يساهم القمار في شعور الخاسر بالحقد تجاه الرابح، لأنه قد أخذ منه ماله دون مقابل. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، يشارك الخمر والقمار من خلال الإدمان عليهما، في إبعاد الإنسان عن الذكر وعن الصلاة، وعلى هذا وجّه القرآن الكريم سؤالاً، يقصد منه الاستنكار وطلب الكف عن هاتين العادتين بقوله تعالى: ] إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ[ [المائدة:91] كإيحاء خفيّ بأنَّ العاقل هو الذي يبادر بنفسه، من دون حاجة إلى تعليمات خارجية، لترك ما يفسد عليه أمر حياته وقضية مصيره.
* * *
القرآن والموازنة بين الإيجابيات والسلبيات:
ثُمَّ أراد القرآن الكريم أن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات، فيحضرهما في وعي النّاس في البداية، ثُمَّ يرشدهم إلى الحقيقة الموضوعية، وهي زيادة نسبة الجوانب السلبية في ممارستهما على الجوانب الإيجابية؛ ويترك للعقل الواعي عملية استخلاص النتيجة التي ستكون إلى جهة التحريم، لأنَّ العقل لا يقبل للإنسان أن يرتكب الفعل الذي يضره بنسبة كبيرة، لتحصيل منفعة ليست بذاك المستوى من الأهمية. أمّا كيف ذلك؟ فإننا قد نجد إلى جانب منفعة الخمر والقمار مفاسد لا تمثّل المنفعة القليلة ـ معها ـ شيئاً، فهناك المشاكل الصحية والمشاكل الاجتماعية التي قد تحدث كنتيجة طبيعية لغياب العقل في بعض الحالات مع بقاء الإنسان جزءاً من الحياة الاجتماعية في تصرّفاته وحركاته، ما يسبّب كثيراً من الجرائم والانحرافات العامة والخاصة؛ إذ ليس في المجتمع محاجر عقلية تحجّر على المدمن حريته في حال سكره، فتمنعه من قيادة السيارة أو غيرها، أو تمنعه من حمل السلاح، أو أن يعيش في بيته مع أطفاله، فليس هناك إجراءات تجعل المجتمع يتجنب نزوات السكّير وانحرافاته، كما يحصل مع الذين يفقدون عقلهم نهائياً، في مدّة قليلة أو كثيرة. هذا في الخمر.
وأمّا القمار، فقد نجد فيه ـ إلى جانب ما ذكرته الآية السابقة ـ انحرافاً اجتماعياً خطيراً، عندما يتحوّل الإنسان إلى كسب قوته من طريق القمار تاركاً العمل وراء ظهره، ما يفقد المجتمع معه طاقة كبيرة أو صغيرة نافعة، ويؤدي ـ بالتالي ـ إلى تدمير حياة المقامر وحياة أسرته، لأنها لا ترتكز على أساس متين لاعتمادها على «الشطارة الذهنية» للمقامر أو على غباء ملاعبه.
وهكذا تنتهي عملية التوازن بين الربح والخسارة إلى انخفاض نسبة الربح بشكل كبير جداً، بإزاء ارتفاع نسبة الخسارة بشكلٍ مماثلٍ أو أكبر، ليضع القرآن النّاس أمام الحقيقة الكبيرة التي غفلوا عنها، تماماً كما يفعل الذين يتذوّقون حلاوة السم، فينشغلون بلذّة الحلاوة عمّا في السم من خطرٍ مميتٍ على الحياة. ثُمَّ يوحي ـ من خلال ذلك ـ إليهم، بأنَّ التشريع، في ما يخطّط من تحريم وتحليل، لا ينطلق من نقطة العبث والالتذاذ بتقييد حرية الآخرين، بل تبدأ انطلاقته وتنتهي في حدود مصلحة الإنسان الخاصة والعامة. فلا تحريم إلاَّ عندما تكون المفسدة أقوى من المصلحة، ولا تحليل إلاَّ عندما تكون القضية على العكس، سواء في ذلك ما اعتاده النّاس وما لم يعتادوه، لأنَّ الحرية في التشريع الإلهي ليست مزاجية تخضع لانفعالات المزاج في حالات اللذة والألم، بل هي واقعية أساسية تخضع للمصالح والمفاسد الحيوية للإنسان في حركة الحياة وقاعدتها الرئيسية.
وعلى ضوء ذلك، فإنَّ القرآن لم يزد شيئاً على تقرير هذه الحقيقة الواقعية في الخمر والميسر، فلم يقل لهم ما يجب عليهم أن يفعلوه، بل ترك الأمر للإحساس الفكري الصافي ببداهة النتيجة التشريعية التي تلتقي بالحكم الإسلامي الحاسم بتحريم الخمر والقمار بشكل أساسي ونهائي، في هذه الآية الكريمة.
* * *
ما موقف الإسلام من الخمر والميسر؟
] يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ[ هل للإسلام موقف محدّد منها؟ وهل هذا الموقف سلبي ينطلق في خطّ التحريم، أو إيجابي، في خطّ التحليل؟ لأنَّ هناك عادة عامة في أوساط النّاس في الأخذ بهما، في الوقت الذي يتحسسون حدوث أكثر من مشكلة اجتماعية منها، ] قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ[ فهما يختزنان في خصوصياتهما الذاتية معنى الذنب، في مضمونه الذي يوحي بالنتائج السيئة التي تؤدي إلى فساد في العقل أو في المال يعطّل الوضع الطبيعي المتوازن في الحياة، من خلال الضرر الذي يحدثه في واقع الإنسان في التعقيدات السلبية التي تصيب روحه وعقله، فتقعد به عن الحصول على النمو العقلي والروحي والتوازن في حركته في الحياة.
فإنَّ الخمر يترك تأثيراته على عمر الإنسان، من خلال الأضرار التي يحدثها في الجسد؛ وقد يؤدي إلى الضرر على الجنين الذي يولد من أبوين مدمنين، وإلى الكثير من المفاسد الأخلاقية والأضرار الاجتماعية والاقتصادية، حسب الدراسات الطبية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية. كما أنَّ القمار يترك تأثيره الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي على واقع المدمنين له، فيبعدهم عن العمل المنتج، الذي يحرّك طاقة الإنسان نحو الإنتاج في المجالات التي تمثّل حاجات النّاس في حياتهم العامة والخاصة.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ كلمة الإثم تختزن في داخلها معنى الضرر. والظاهر أنَّ المراد بها الضرر الدنيوي لا الأخروي، لأنه تابع للتحريم الذي تستوجب مخالفته العقاب في الآخرة. وهذا ما لم يكن معهوداً قبل الآية، ليتحدّث اللّه عنه كشيءٍ وجداني معلوم للنّاس في ذهنيتهم الشرعية، لأنَّ الغرض أنهم في موقع السؤال عن التحريم كموقف إسلامي، الأمر الذي يجعل الضرر الأخروي نتيجة للآية، لا تحليلاً للمسألة وتقريباً للصورة.
وربما يُستفاد ذلك من «المقابلة في قوله تعالى: ] وَمَنَافِعُ للنّاس[ ، فإنَّ النفع ـ في مفهومه ـ يقابل الضرر، فهما يتواردان في الأشياء التي يتطلبها النّاس لخصائصها الإيجابية أو يكرهونها لخصائصها السلبية، ما يجعل من ذكر أحدهما في مورد قرينة على إرادة مقابلة في مجال المقارنة بين الخصائص الكامنة في الشيء.
وربما كان المراد من المنافع حالة الفرج النفسي الذي يحدث في حالة السكر عندما يدخل الإنسان في غيبوبةٍ ذهنية ضبابيةٍ، توحي له بالمرح واللهو والعبث، بحيث يتخفف من قيوده الاجتماعية التي يفرضها عليه عقله، فيبتعد بذلك عن ضغط المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية ونحوها، ما يجعل من الخمر سبباً في الهروب من الواقع، بدلاً من أن يكون حلاً للمشكلة وتركيزاً للواقع. أمّا في القمار، فقد تكون المنافع متمثّلةً في الأرباح التي يحصل عليها المقامر ـ في بعض الحالات ـ بيُسر وسهولة، فلا يتكلّف في سبيل الحصول عليها أي جهد أو تعبٍ مما يتكلّفه النّاس في حركتهم المعاشية في الأسفار البعيدة والأخطار الكثيرة، بالإضافة إلى ما يستتبع ذلك من الحالة النفسية المرحة في حركة اللعب الذي يؤدّي إلى الربح.
] وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا[ فإنَّ الأضرار التي تحدث للحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية في جميع مجالاتها، في الخمر والميسر، أكبر من المنافع الحاصلة منهما، لأنَّ الهروب من الواقع، ونسيان المشاكل في لحظات السكر، قد يخدّر الآلام الكامنة في الواقع، من خلال مشاكل الإنسان الخاصة والعامة، ولكنَّه لا يلغيها، بل قد تعود ـ بعد الإفاقة منه ـ بقسوة أكبر وألم أعمق، تماماً كما يحدث للمريض الذي يصرخ من الألم ثُمَّ يهدأ بتناول المخدرات، ليعود إلى آلامه بإحساس أكثر قسوة عند انتهاء مفعول التخدير. كما أنَّ النتائج السلبية الصحية والعقلية والاجتماعية الناتجة من السكر تدخله في أكثر من مشكلة تتعب حياته، وتدمرها، وتؤدي بها إلى الهلاك في بعض الحالات.
وهكذا نجد القمار، في قضية المنفعة التي يحصل عليها المقامر في الأرباح الطارئة، فإنها لا بُدَّ من أن تلتقي في التجربة الثانية والثالثة وغيرها في اللعب بالخسائر المدمّرة التي تجعل الربح ـ الذي حصل عليه ـ لا معنى له أمام خسارته الجديدة التي قد لا يبقى له معها أي شيء.
وإذا كانت المضارّ أكبر من المنافع، فمن الطبيعي أن يحرّمهما اللّه، ولا يمكن له أن يحللهما، من خلال لطفه بعباده الذي يقرّبهم إلى ما يصلح أمرهم في الحياة، ويبعدهم عمّا يفسدها في أوضاعهم العامة والخاصة، لأنَّ التشريع وسيلة من الوسائل لإدخال الإنسان في ما يحبّه اللّه من الخير وإبعاده عمّا يبغضه من الشر، ويتصل بالسلامة العقلية والروحية والجسدية للإنسان على الصعيد الفردي والاجتماعي، فالشريعة هي عناوين المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال الإنسان، فلا يأمر اللّه إلاَّ بما فيه صلاح الإنسان، ولا ينهى إلاَّ عمّا فيه فساد حياته.
ولعلّ هذه المسألة، وهي تغليب الجانب الأقوى على الجانب الأضعف في مسألة التشريع في التحريم والتحليل، هي الطريقة العقلائية التي يجري عليها العقلاء في قضاياهم السلبية والإيجابية. فإذا كانت المصلحة أقوى من المفسدة في الفعل، كان الموقف إيجابياً لحساب المصلحة؛ وإذا كانت المفسدة أقوى من المصلحة، كان الموقف سلبياً لحساب المفسدة. ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنهم يقبحون للإنسان اختيار ما كان ضرره أكبر من نفعه، ويذمونه على ذلك، ويعتبرونه سفيهاً، ولهذا يحجّرون على أموال السفيه وعلى تصرّفاته العقدية، لأنه لا يدرك الفاصل بين المضار والنفع، ولا يتحرّك في اتجاه اختيار النفع على الضرر.
وفي ضوء ذلك، نستفيد من هذه الفقرة، أنَّ اللّه سبحانه، أراد بيان التحريم بهذه الطريقة، انطلاقاً من الارتكاز العقلائي الذي يتحرّك تلقائياً لتقرير النتيجة من خلال هذه القاعدة بتحريم ما يتمثّل فيه ذلك في حركة الواقع أو في خصائصه الذاتية.
* * *
وقفة مع آراء المفسرين في هذه الآية:
وقد ذكر بعض المفسّرين، في ما نقله العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، أنَّ آية البقرة ما كانت صريحةً في الحرمة. فإنَّ قوله تعالى: ] قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ[ لا يدل على أزيد من أنَّ فيه إثماً. والإثم الضرر. وتحريم كلّ ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة أخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعاً لاجتهاد الصحابة، فترك الخمر بعضهم وأصرّ على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها. فكان ذلك تمهيداً للقطع بتحريمها، فنزل قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ إلى قوله: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّه بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّه مَن يَخَافُهُ بالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [المائدة:90ـ94].
وقد ردّه العلاّمة الطباطبائي؛ «أوّلاً: إنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقاً، وليس الإثم هو الضرر. ومجرّد مقابلته في الكلام مع المنفعة، لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع. وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: ] وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً[ [النساء:48]، وقوله تعالى: ] فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ[ [البقرة:283]، وقوله تعالى: ] أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ[ [المائدة:29]، وقوله تعالى: ] لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ[ [النور:11]، وقوله تعالى: ] وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ[ [النساء:111]. إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ثانياً: فإنَّ الآية لم تعلّل الحكم بالضرر، ولو سلّم ذلك فإنها تعلّل فعلية الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك، حيث يقول: ] وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا[ وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.
وأمّا ثالثاً: فإنَّ الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة، لكنَّها صريحة الدلالة على الإثم، وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحاً؛ فما عذر من سمع التحريم في آية مكية، حتى يجتهد في آيةٍ مدنية؟![6].
* * *
ملاحظة على رأي الطباطبائي:
ونحن نوافق العلامة الطباطبائي على تأكيده على دلالة الآية على التحريم، ولكن بطريقة إيحائية بلحاظ الفقرة الأخيرة ] وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا[ بالتقريب الذي ذكرناه؛ ولكنَّنا لا نوافقه على إنكاره إرادة الضرر من كلمة الإثم، باعتبار أنَّ مقابلته بالنفع لا يصلح أن يكون قرينة على ذلك، مع عدم إمكان إرادته من الآيات التي ذكرها. فإننا لا ندّعي أنَّ كلمة الإثم مرادفة للضرر ولكنَّها ـ كما ذكره العلامة الطباطبائي في تفسير الآية ـ: «حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات» وبذلك فإنَّ مصداقها يختلف حسب اختلاف موارد استعمالاتها، فقد يُراد منها الضرر كما في هذه الآية، وقد يكون المراد منها المعصية أو الذنب الذي يستحق العقوبة ونحو ذلك. فالمعنى واحد، ولكن حركته في الموارد متنوّعة، وقد بيّنا في ما ذكرناه آنفا، الوجه في حمل الكلمة على معنى الضرر، كما أننا لا نوافقه في تقدّم آية الأعراف تاريخياً على آية البقرة، بل الظاهر العكس، كما ذكرناه.
إنَّ الآية توحي بالتحريم ولكنَّها لا تدل عليه بشكل صريح، فهي أسلوب تربوي من أساليب إعداد النفس لتقبل التحريم، بإثارة الأجواء الفكرية الداخلية للانفتاح عليه، كما لو كان أمراً طبيعياً يختاره الإنسان بنفسه.
* * *
الآية في مستوى القاعدة الفقهية:
وقد نستطيع استيحاء هذه الفقرة، لتكون قاعدةً فقهية تقتضي تحريم كلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه، حتى لو لم يرد فيه نص، باعتبار أنَّ القضية قد تكون عقلية يحكم العقل بها، ويدرك وجود الملاك الشرعي للتحريم في مواردها، لقبح ارتكاب ما يكون ضرره أكثر من نفعه، لأنه ظلم للنفس على مستوى الحالة الفردية، وقد يكون ظلماً للمجتمع بما يحدثه من الأضرار الاجتماعية، كما أنها عقلائية من خلال السيرة العقلائية الجارية في أمورهم العامة على الخاصة على ترك ما كان ضرره أكثر من نفعه.
فإذا كان ما يحكم به العقل يحكم به الشرع؛ وإذا كانت السيرة العقلائية محترمة لدى الشارع في القضايا العامة التي لا تخضع للتعبّد من خلال الخصوصيات الخفية التي لا يدركها النّاس، بل تخضع للمصالح والمفاسد المعروفة لديهم؛ وإذا كانت الآية قد أكدت المسألة بحيث يمكن القول بأنها تؤكد حكم العقل وتمضي سيرة العقلاء وبناءهم، فإنَّ النتيجة لا بُدَّ من أن تكون في مستوى القاعدة لا في مستوى الحكم الخاص. وإذا كان البعض يثير احتمال أنَّ الآية واردة على نحو الحكمة لا على نحو العلّة، فإننا نردّ عليه بأنَّ الحكمة النوعية تمثّل علّة للتشريع العام، على أساس تحقيق المصالح الكبرى للإنسان وإبعاد المفاسد النوعية المهمّة عن الواقع، بحيث تنعدم المصالح أو المفاسد الصغيرة أمام ذلك.
وفي ضوء ذلك، نستطيع استيحاء ما ذكر في حكمة تشريع العدة، أنه عدم اختلاط المياه في عملية النكاح من حيث التناسل والتولد، لأنَّ الزواج بعد الطلاق قد يؤدي إلى الحَيْرة في إلحاق الولد بالزوج الأول أو الثاني. فإذا كانت هذه الحكمة واردة في التشريع، فيمكن أن تسري إلى كلّ ما كان من هذا القبيل.
وربما نستوحي ذلك في مسألة تعليل حرمة الخمر بالإسكار؛ فإنها واردة على أساس المسألة النوعية، من جهة الإسكار الفعلي، ولذلك قرر الفقهاء بأنَّ «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، كما قرروا حرمة شرب الخمر في الموارد التي يملك الإنسان فيها المناعة من السكر، لاعتياده عليه بالمستوى الذي لا يؤثر فيه كما في بعض المدمنين ونحو ذلك.
وعلى هذا، فيمكن الحكم بتحريم التدخين الذي ثبت علمياً بأنَّ ضرره أكثر من نفعه، بل ربما يكون مما لا نفع فيه، وقد يتحدّث الأطباء الاختصاصيون بأنه، في المسألة النوعية، يؤدي إلى التهلكة لعلاقته بالسرطان أو ببعض أمراض الرئة ونحوها بالدرجة التي يغلب فيها الموت، ويمكن الحكم بتحريم المخدرات كالأفيون والحشيشة والهيرويين ونحوها مما ثبت علمياً وحسياً أنها تدمّر حياة الإنسان، لأنها تقود إلى الإدمان الذي يتحوّل فيه الإنسان في أغلب الحالات إلى إنسان مشلول الفكر والحركة والإنتاج؛ وقد نجد أنَّ أضراره من الناحية النفسية والعملية والاجتماعية أكبر من أضرار الخمر بكثير. وهكذا نستطيع ـ بفضل هذه القاعدة ـ أن نحكم بتحريم الكثير من الأشياء والأفعال التي تشتمل على هذه الخصوصية التي قررها القرآن في هذه الآية.
إننا نثير هذه الملاحظة الفقهية للمناقشة العلمية، لما تمثّله من نتائج مهمة في الشريعة.
* * *
الآية في خطّ الدعوة والتربية:
وقد نستطيع استيحاء هذا الأسلوب في حركة الدعوة، بأن نثير أمام النّاس إيجابيات القضايا بالإضافة إلى سلبياتها، سواء كان ذلك في المسائل التي يطرحها الإسلام في مفاهيمه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو التي يؤمن بها الآخرون مما لا يؤمن به الإسلام في شريعته. فإنَّ التأكيد على الإيجابيات في جانبنا، والسلبيات في جانب الآخرين، يوحي بالتعصب للموقع الذاتي ضدّ مواقع الآخرين؛ بينما يمثّل التوازن بين الخطّين الاعتدال والموضوعية والعدالة في النظرة إلى مواقع الخلاف؛ الأمر الذي يجتذب النّاس إلى الإسلام، انطلاقاً من أسلوبه العقلاني الموضوعي القائم على احترام عقل الآخر وموقعه وانتمائه، بحيث تكون قضية الصراع قضية تجاذب فكري، وحركة إنسانية في دراسة الأفكار المختلفة ومناقشتها، والتأكيد على أنَّ الحوار الموضوعي هو الأسلوب المنتج في إيصال النّاس إلى مواقع الحقّ في قناعاتنا الفكرية.
وهو أسلوب تربوي لا بُدَّ من تحريكه في خطّ المنهج التربوي، الذي يربي الإنسان المسلم على أن لا ينظر إلى الأمور من جانب واحد، لتكون الحياة دائرةً بين الأبيض والأسود بشكل مطلق؛ فلننظر إليها من كلّ جوانبها، فهناك الواقع الذي يحمل اللونين معاً، اللذين قد يلتقي أحدهما مع الآخر بدرجة متساوية، وقد يغلب أحدهما الآخر فيعطي للفعل أو للشيء صورته الغالبة، الأمر الذي يفرض على الإنسان أن يوازن بين الجوانب، ليكون اختياره منطلقاً من دراسة مقارنة، فلا يخضع للحالات الانفعالية السريعة ولا للنظرة الارتجالية العابرة، بل يخضع للعمق الفكري الذي ينفذ إلى جوهر الشيء ولا يقتصر على سطحه، فيكون اختياره خاضعاً للنتيجة الحاسمة في هذه الموازنة بين الأمور.
وهذه الآية توحي بفكرة عامة، وهي أنه ليس هناك إيجاب مطلق أو سلب مطلق في الحياة، لأنَّ كلّ ما في الكون من موجودات وأفعال هو محدود بحدوده الذاتية والزمانية والمكانية. واللّه ـ وحده ـ هو المطلق، لذلك ليس هناك خير لا شر فيه، ولا شر لا خير فيه. فقد يختزن الخير بعض الشر في ذاته، وقد يختزن الشر بعض الخير في مورده، لأنَّ طبيعة الحدود تفرض ذلك؛ فتكون خيرية الشيء برجحان جانب الخير فيه، كما تكون غلبة الشر برجحان جانب الشر فيه، ولا قيمة للعنصر المغلوب أو الضعيف هنا في مسألة التشريع.
إنَّ هذه النقطة لا بُدَّ من التركيز عليها في ما يواجهه المسلمون من النقد الذي قد يوجهه الكافرون، من إثارة النقاط السلبية في بعض المفاهيم أو التشريعات الإسلامية، ما قد يجعل الدعاة والمبلّغين في موقف حرج شديد الصعوبة، عندما يجدون صحة هذا النقد في واقع الإسلام في مفاهيمه وأحكامه، ولكنَّنا ـ أمام الملاحظة المذكورة ـ نجد أنَّ اعترافنا بوجود السلبيات في التشريع أو في المفهوم الإسلامي، لا يعني سقوط التشريع أو خطأ المفهوم، لأنَّ ذلك يمثّل واقع الحياة في كلّ حقائقها الفكرية أو العملية؛ ولذلك فإنَّ علينا مواجهة المسألة بالحديث عن الإيجابيات الكامنة في داخل الحقيقة الإسلامية، مع غلبة هذا الجانب الإيجابي على الجانب السلبي. وبهذا نتفادى الكثير من المآزق الجدلية ومن ضعف الموقف، لنحوّله إلى مأزق للآخرين وإلى موقع قوّة يرتكز على النظرة العلمية الموضوعية للأشياء والمواقف.
* * *
العفو من الإنفاق:
] وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ[ : جاء في الدر المنثور في قوله تعالى: ] وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ[ عن ابن عباس: «أنَّ نفراً من الصحابة، حين أمروا بالنفقة في سبيل اللّه، أتوا النبيّ فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل اللّه ] وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ[ وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدّق به»[7].
وسألوه عمّا ينفقون من أنواع الأطعمة والألبسة والأموال، فلم يحدّد لهم شيئاً في الجواب، لأنَّ تعيين ذلك لا يمثّل شيئاً في حساب القيمة الأخروية عند اللّه، ما دامت القضية ترتكز على حل مشكلة الفقير من خلال التكافل الاجتماعي من جهة، وعلى تربية المؤمن على روح العطاء من جهة أخرى. ولذلك اكتفى بكلمة "الْعَفْوَ" التي تعني الفضل.
] قُلِ الْعَفْوَ[ . وقد اختلف المفسرون في تطبيق هذه الكلمة على الواقع العملي، فقال بعضهم: إنه ما فضل عن الأهل والعيال، أو الفضل عن الغنى. وقال بعضهم: إنه الوسط من غير إسراف ولا إقتار، وهو المروي عن الإمام جعفر الصادق (ع). وقال بعضهم: إنه ما فضل عن قوت السنة[8]، وهو المروي عن الإمام محمَّد الباقر(ع). وقد تلتقي هذه المعاني حول معنى واحد، وهو أن لا يترك تأثيره على حاجاته الأساسية مما يتصل بمسؤولياته عن نفسه وعياله على النحو المتعارف.
] كَذلِكَ يُبيِّنُ اللّه لَكُمُ الآيَاتِ[ الدالة على حقائق الأشياء مما يتعلّق بالتشريع في مسؤولياتكم العامة والخاصة، فتتعرفون حكمة اللّه في تشريعاته في أقوالكم وأفعالكم، ليظهر لكم كيف يريد صلاحكم. كما يبين لكم الآيات المنتشرة في الكون في كلّ مخلوقاته الجامدة والنامية والحيّة التي تكشف لكم عن عظمة الإبداع وسرّ الخلقة، ] لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ[ وتهتدون بالفكر المتحرّك الباحث عن كلّ حقيقة في الأرض وفي السَّماء وفي الحياة والإنسان، فتحصلون على الثقافة العلمية التي تنمّي مدارككم وفهمكم وانفتاحكم على حقائق العقيدة والإيمان، ] فِي الدُّنْيَا[ لتعرفوا كيف هي الدنيا في نطاق مسؤولياتكم من حيث هي دار ممر لا دار مقر، وساحة عمل لا ساحة لهو وعبث، ومزرعة للآخرة لا غاية في ذاتها، لتتحرّكوا فيها في ما تفعلون وتتركون في هذا الاتجاه لتحقيق تلك الغاية. ] وَالآخِرَةِ[ التي هي دار الحيوان والخلود، فسعادتها هي السعادة وشقاؤها هو الشقاء، فلا بُدَّ لكم من الاستعداد لها لتواجهوا نتائج المسؤولية بين يدي اللّه.
وهذا هو الإيحاء الإيماني الدائم، الذي يوحي به اللّه للإنسان، ليكون على وعي دائم لنفسه ولحركته في الحياة في الدنيا والآخرة، بعيداً عن أية حالة غفلة أو نسيان.
وهناك نقطة ثانية لا بُدَّ من الانتباه إليها، وهي أنَّ الدعوة إلى التفكير التي تشمل العمل على أساس الوصول إلى معرفة حكمة التشريع وعلل الأحكام، توحي بأنَّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يبتعد عن السعي للتعرّف على المفاهيم الإسلامية والعقائد الإيمانية والأحكام الشرعية، وذلك كي يصل إلى حقائقها وأسرارها بالفكر العميق، ليزداد بذلك إيماناً وهدى، فلا يكلف الإنسان الإنفاق من ضرورياته المعاشية، بل يكفيه ـ في إطاعة هذا التشريع ـ أن ينفق مما يزيد عن حاجاته الأساسية، وبذلك كان الإسلام منسجماً مع الطبيعة البشرية التي قد لا تستجيب للإيثار دائماً، وإن كانت قد تسير معه في بعض مراحل الحياة. وقد كان ختام الآية دعوة للتفكير في آيات اللّه التي يبينها للإنسان، ليفكر فيها فيهتدي بها إلى سواء السبيل.
* * *
ويسألونك عن اليتامى:
] وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى[ كيف تكون علاقاتهم معهم، في ما يفعلونه في أموالهم وتربيتهم ورعايتهم؟ فقد كانوا يمثّلون مشكلةً أساسية في الضمير الديني للإنسان المسلم، فقد يتحرّج الكثيرون من التعامل معهم خوفاً من الإثم.
فقد جاء في الدر المنثور، قال ابن عباس: لما أنزل اللّه ] وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ [الأنعام:152] و ] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى[ [النساء:10] الآيتين، انطلق كلّ من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجلس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول اللّه(ص)، فأنزل اللّه: ] وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ[ فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم[9].
فكان الجواب تحديداً للخطّ العام والإطار الشامل لذلك: ] قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ[ فلا بُدَّ من دراسة كلّ أمورهم في نطاق الإصلاح لدنياهم وآخرتهم، لأنهم أمانة اللّه لدى المجتمع، فعلى أفراده أن يراعوا جانب الصلاح معهم، كما يراعون ذلك في جانب الأمانة العادية في ما يتعلّق بحفظها ورعايتها. وقد تكون القضية أبعد عمقاً وتأثيراً في جانب اليتامى، لأنَّ إصلاح أمر الإنسان الذي لا يملك تدبير شؤونه ورعايتها قد يدخل في تعقيدات كثيرة تحتاج إلى المزيد من الدقة والتأمّل والإيمان، لئلا يفسد الإنسان الأمر من حيث يريد إصلاحه، أو يفسد الأمر الصالح من حيث لا يريد إفساده.
ثُمَّ أكد القضية من جهة أخرى، فأثار أمامهم موضوع المخالطة لهم ] وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ[ ، وأراد من المسلمين أن يخالطوهم من موقع الشعور بأنهم أخوة في الدِّين، كما يخالط الأخ أخاه في النسب من حيث احترامه له ورعايته لأموره، وحفظه لماله، على هدى قوله تعالى: ] وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَلَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً[ [النساء:2]. وأن لا ينظروا إليهم نظرة فوقية إشفاقية من خلال ضعفهم الطبيعي وحاجتهم الملحّة إليهم؛ فإنَّ ذلك يثقل على نفوسهم، ويهدّم معنوياتهم، ويُعقّد حياتهم، ويعطّل نموهم الطبيعي في الحياة. وربما كانت هذه الفقرة واردة في الإذن لهم في ما كانوا يتحرجون فيه من مخالطتهم في المأكل والملبس والمشرب ونحو ذلك، ورخصة لهم في ذلك إذا تحرّوا الصلاح بالتوفير على الأيتام. وعن الحسن وغيره. وهو الوارد والمروي في أخبارنا ـ كما في مجمع البيان[10] ـ.
وتختم الآية الجواب بتعميق الإحساس بقضية الممارسة الواعية لإصلاح أمر اليتامى؛ ] وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ[ ، وذلك بالإيحاء بأنَّ اللّه يراقب عمل الإنسان في داخل النفس وخارجها، ويعلم المفسد من المصلح في ما يقومان به من الإفساد والإصلاح، ويحاسب كلاً منهما على ما عمله من خير أو شر.
ثُمَّ أكّد عليهم بأنَّ اللّه يريد للنّاس من خلال تشريعاته أن يحقّق لهم الانسجام والراحة والطمأنينة، فتلك هي مشيئته في ما يريد للنّاس من حياة، ] وَلَوْ شَآءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ[ لأوقعهم في العنت، وهو المشقة. وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ للإنسان من أن يفهم التشريع في كلّ ما يحلّله وما يحرّمه من أمور الحياة، حتى في الأمور التي يشعرون معها بالتعب والمعاناة، فإنَّ نتائج ذلك لا تبتعد عن مصالحهم الحقيقية.
وكانت خاتمة الآية ] إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ ، باعتبار أنَّ عزته توحي بقوّة مشيئته، كما أنَّ حكمته توحي بارتباط التشريع بمصلحة الإنسان.
وقد يستوحي الفقيه من قوله سبحانه: ] قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ[ أنَّ التصرّف في أمر اليتيم، سواء كان متعلقاً بماله أو بحياته الخاصة والعامة، لا بُدَّ أن تكون فيه مصلحة له، لأنَّ ذلك هو الذي يتبادر من قوله: ] إِصْلاَحٌ لَّهُمْ[ كما يتبادر ذلك من قوله تعالى: ] وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ [الأنعام:152] فلا يكفي في شرعيته أن لا يكون ذلك مفسدة له، ولا بُدَّ من التأمّل في ذلك، وفي كلّ مورد من موارد الولاية الشرعية المجعولة للإنسان على القاصر الذي لا يملك إدارة شؤون نفسه وتدبير أموره؛ فإنَّ القضية تتصل بإصلاح أمره، وتنمية ماله، وتوجيه حياته نحو النتائج الجيدة التي تحقّق له المصلحة في كلّ أموره.
ــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:5.
(2) مجمع البيان، ج:2، ص:557.
(3) الكافي، ج:6، ص:406، رواية:1.
(4) انظر: تفسير الميزان، ج :2، ص:199.
(5) الكافي، ج:6، ص:406، رواية:2.
(6) تفسير الميزان، ج:2، ص:198ـ199.
(7) الدر المنثور، ج :1، ص:607.
(8) مجمع البيان، ج :2، ص:558.
(9) الدر المنثور، ج:1، ص:612.
(10) انظر: مجمع البيان، ج:2، ص:559.
تفسير القرآن