تفسير القرآن
البقرة / الآية 221

 الآية 221
 
الآيــــة

{وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّار وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِنُ آيَاتِهِ للنّاس لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (221).

* * *

معاني المفردات:

] تَنْكِحُواْ[ : قال الراغب: أصل النكاح العقد، ثُمَّ استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثُمَّ استعير للعقد، لأنَّ أسماء الجماع كلّها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحالٌ أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه[1].

والظاهر أن المراد بالعقد هو علاقة الزوجية، لا العقد اللفظي المعهود كما ذُكر في الميزان[2].

] الْمُشْرِكَاتِ[ : اسم فاعل من الإشراك، بمعنى اتخاذ الشريك للّه سبحانه، وهو ذو مراتب مختلفة من حيث الظهور والخفاء.

] وَلأَمَةٌ[ : الأمة: المملوكة التي تقابل الحرة، وقيل: المرأة لأنها أمة اللّه.

] أَعْجَبَتْكُمْ[ : راقت لكم، وعظمت بعيونكم لجمالها أو مالها أو حسبها. والعجب والتعجّب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولذلك قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في مناسبة النزول ـ كما في مجمع البيان ـ أنها «نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي؛ بعثه رسول اللّه إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان قوياً شجاعاً، فدعته امرأة يقال لها عناق إلى نفسها، فأبى وكانت خلة[3] في الجاهلية، فقالت: هل لك أن تتزوج بي؟ فقال: حتى أستأذن رسول اللّه. فلمّا رجع، استأذن في التزوج بها، فنزلت الآية»[4].

* * *

الزواج بين الرغبة العاطفية والمصلحة الواقعية:

في هذه الآية تأكيد على الأساس التشريعي للحكم بحرمة تزويج المشركات للمؤمنين وحرمة تزويج المؤمنات للمشركين. وهو التباين في النظرة بين المؤمنين وبين المشركين، ما يوجب التباين في السلوك وفي الهدف، فينعكس على الحياة الزوجية التي يجب أن تخضع للمودة والرحمة القائمة على وحدة التصوّر، ووحدة الشعور بالهدف. فالمؤمنون يسيرون في اتجاه دعوة اللّه إلى الجنّة، التي تقتضي نمطاً في السلوك وفي التفكير يختلف مع النمط في السلوك والتفكير الذي تقتضيه دعوة المشركين إلى النّار. فكيف يمكن أن يتحقّق الإخلاص للحياة الزوجية مع الالتزامات الروحية والفكرية والحياتية التي تفرضها العقيدة؟.

وقد يجدر بنا أن نفهم من الآية الكريمة، أنها لم تجعل النهي عن الزواج ـ هنا ـ على أساس التعسف، كما ربما يتوهمه بعض النّاس، حيث جُعل الحكم ثابتاً حتى لو كان على خلاف رغبة النّاس وإعجابهم، بل حاولت أن تقود الإنسان إلى الموازنة بين الرغبة العاطفية وبين المصلحة الواقعية للعقيدة والحياة، لينتهي ـ بالنتيجة ـ إلى الاقتناع بأنَّ الرغبة لا تمثّل شيئاً كبيراً بإزاء قضية المصير للإنسان في الدنيا والآخرة.

* * *

من هم المشركون في الآية؟

والظاهر أنَّ المراد بالمشركين، هم الذين يشركون باللّه بشكل مباشر، فلا يشمل الذين يتّصفون به بشكلٍ غير مباشر، كما يُذكر عن أهل الكتاب الذين يقولون بربوبية عيسى، أو أنَّ اللّه ثالث ثلاثة، ولكن بطريقة لا تتنافى مع التوحيد في زعمهم، فإنَّ المصطلح القرآني جرى على التفريق بين المشركين وأهل الكتاب في ما فصّل من أحكام، وما أطلقه من لفظ؛ فقد ورد في قوله تعالى، في سورة البيّنة: ] لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ[ [البينة:1] وقوله تعالى، في سورة البقرة: ] مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[ [البقرة:105] فإنَّ العطف يدل على المغايرة بين الفريقين. وفي ضوء ذلك، لا تدل الآية على حرمة التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب، فلا بُدَّ من التماس دليل ذلك في غير القرآن، في ما أجمع عليه المسلمون من حرمة زواج المسلمة بغير المسلم من كتابّي وغيره، وما اختلفوا فيه من زواج المسلم بالكتابية بين محلّل ومحرّم.

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وهي قوله تعالى: ] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [المائدة:5].

وقد تبين فساد هذا القول مما ذكرناه في تحديد المراد من لفظ المشركين في القرآن وعدم شمولها لأهل الكتاب، فلا تكون هناك علاقة بين الآيتين في مدلوليهما، لأنَّ آية البقرة واردة في حرمة نكاح المشركات اللاتي يشركن باللّه غيره بشكل مباشر، بينما كانت آية المائدة واردة في حلية نكاح الكتابيات دون غيرهن.

فليطلب ذلك من مظانه في الكتب الفقهية التي عالجت هذه المسائل بتفصيل. وتبقى لنا هذه الآية لتركز الخطّ الإيماني، الذي تقوم عليه العلاقات الزوجية، من أجل أن تكون أساساً لبناء بيت إسلامي يقوم على المحبة والمودة المرتبطة باللّه في أجواء الإيمان والإسلام.

* * *

ولأمة مؤمنة خير من مشركة:

] وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ[ فإنَّ اللّه لا يريد للمسلمين الزواج من النساء اللاتي يعبدن الأصنام ويعتبرنها شركاء للّه في حقّ العبودية، لأنَّ العلاقة الزوجية قائمة على الاتحاد الروحي، والانسجام الفكري بين الزوجين، بالإضافة إلى الاتحاد الجسدي. وهل يمكن قيام اتحاد بين الفكر التوحيدي والفكر الإشراكي، أو حصول انسجام بين قيم الوحدانية وقيم الوثنية؟!. فإذا تبدل الشرك بالإيمان وانفتحت قلوبهن على اللّه وعلى دينه، فلا بأس عليهم من الزواج بهنّ، من خلال الانسجام الفكري المنفتح على اللقاء الروحي في الحياة المشتركة بينهم.

] وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ[ المشركة بالصفات المتنوّعة التي تجذب اهتمام الرّجل وإعجابه، كالمال، والذكاء، والجمال، والحسب، والموقع الاجتماعي، والشرف العائلي، لأن الإيمان يتميّز على ذلك كلّه، لأنه ينفذ إلى عمق الوجدان الإنساني في تصوّراته وتطلّعاته ومشاعره وأفكاره وعاداته وتقاليده وروحيته، ما يترك تأثيره على العمق الداخلي للشخصية الإنسانية، بحيث ينفتح العقل على العقل، والروح على الروح، والقلب على القلب، والحياة على الحياة، فتتداخل الشخصيتان، لتؤلفا شخصية واحدة متنوّعة الخصوصيات.

إنَّ القيمة الإيمانية بكلّ عناصرها وامتداداتها وروحياتها، هي الأساس في ثبات الحياة الزوجية بين المؤمنين والمؤمنات. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف، أتى رجل رسول اللّه (ص) يستأمره في النكاح، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: نعم، انكح وعليك بذوات الدِّين تربت يداك[5].

] وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ[ لأنَّ المؤمنة لا ترتاح لدين المشرك في شركه، ولا تأمن على دينها معه، ولا تجد في الزواج به السكينة والطمأنينة الروحية والفكرية... ] وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ[ المشرك في صفاته الجسدية، والمالية، والاجتماعية، للأسباب ذاتها التي ذكرناها في الفقرة السابقة. وقد جاء في الحديث الشريف: «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه وإن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[6].

وللأسرة والأولاد الدور الكبير في علاقة الإنسان بالسلامة الروحية في الدائرة الزوجية الإيمانية. إنَّ الزوج المؤمن يمنعه إيمانه من الإساءة إلى زوجته، كما أنَّ الزوجة المؤمنة يمنعها إيمانها من خيانة زوجها، لأنَّ الإيمان يمثّل الالتزام العميق بالقيمة الأخلاقية والمسؤولية الشرعية، بينما لا يملك المشرك أو المشركة مثل هذه القيمة في أخلاقيات الشرك، لأنَّ الوثنية تُغرق صاحبها في المنفعة المادية التي تتحرّك بالإنسان هنا وهناك من دون ضوابط، الأمر الذي يجعل العلاقة الزوجية في حالة اهتزاز دائم، حيث تخضع المسألة للأخلاقيات الفردية الطارئة لدى هذا الإنسان أو هذه الإنسانة، وذلك أنَّ الزوج المشرك أو الزوجة المشركة قد يتميزان ببعض الأخلاقيات الذاتية بمحض الصدفة للحالة الطارئة بعيداً عن العمق الروحي.

إنَّ العلاقة الزوجية هي علاقة من الداخل قبل أن تكون من الخارج. وقد أقامها القرآن على المودة والرحمة، فلا بُدَّ لها من قاعدة في الروح تنتج هذين العنصرين الروحيين اللذين يحميان الحياة الزوجية من الاهتزاز والانهيار، ولذلك كان من الضروري أن يفكر المسلم أو المسلمة بالعناصر الروحية الداخلية التي تثير الإعجاب الإيماني والعقلي بالإضافة إلى العناصر الخارجية.

] أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّار[ لأنهم يدعون إلى الشرك في العقيدة أو العبادة، الذي لا يغفره اللّه لصاحبه إلاَّ إذا تراجع عنه؛ ويتحركون في حياتهم من دون أية قاعدة فكرية عاصمة من الانحراف الأخلاقي أو الاجتماعي، ما يدفعهم إلى التمرّد على كلّ القيم الإنسانية المنفتحة على التعاليم الإلهية، التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في السمو الروحي الذي يقترب به الإنسان من اللّه، وبذلك يستحقون دخول النّار، فيجرّون معهم أزواجهم وذرياتهم وكلّ النّاس الذين يعيشون معهم، ويلتزمون بخطّهم الذي يقودهم إلى الضلال المندفع نحو النّار.

] وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ[ أي بأمره، من خلال معنى الإيمان الذي ينفتح على اللّه، وعلى كلّ مواقع رضاه ومواقع القرب منه؛ الأمر الذي يقود إلى المغفرة في خطّ التوبة، وإلى الجنّة في خطّ الإيمان والعمل الصالح؛ فيلتقي عليه النّاس الذين يلتزمون الإيمان، ليدخلوا في رحمة اللّه وجنته، كما قال اللّه سبحانه ] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالملائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[ [الرعد:23ـ24]. وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أو الإنسانة المؤمنة مراعاته في اختيار الزوجة أو الزوج، حتى تقوده أو يقودها إلى الجنّة لا إلى النّار، ليقتربا من اللّه ـ سبحانه ـ الذي يهديهم سواء السبيل.

] وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ للنّاس لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[ ليقرّبهم إليه من خلال تقريبهم إلى الإيمان به من خلال آياته الظاهرة البينة التي تؤدي إلى القناعة، وترتكز على الحجة الواضحة التي لا تسمح لأي لبس أو اشتباه. وذلك هو دور الآيات؛ فإنها تنقذ الإنسان من غفلته، وتدفعه إلى أن يتذكر كل القضايا الحيّة المتصلة بحياته وبمصيره، ليتوازن في نظراته إليها وفي التزامه بها في الواقع العملي.

* * *

 

الفارق بين أهل الكتاب والمشركين:

وقد يستدل بعض الفقهاء بكلمة ] أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّار[ على حرمة الزواج بغير المسلمين، لأنَّ أيّ دين أو اتجاه آخر غير الإسلام ليس مقبولاً عند اللّه وهو خاسر في الآخرة، ما يعني أنه يدعو إلى النّار. وفي ضوء ذلك، فإنها تدل على حرمة الزواج بأي كافر أو كافرة، سواء كان كفراً باللّه أو بوحدانيته أو برسوله أو باليوم الآخر، حتى لو كان الكافر كتابياً.

ولكن الظاهر من الدعوة إلى النّار، أنها منفتحة على الشرك الذي لا يغفره اللّه وعلى الخطّ الفكري الذي لا يؤمن باليوم الآخر. وهذا قد لا ينطبق على الكافرين بالرسول الذين يلتزمون ديناً آخر كاليهود والنصارى؛ لأنَّ لديهم عناوين توحيدية دينية خاضعة للإيمان باليوم الآخر، الذي تتحدّد فيه مواقع أهل النّار وأهل الجنّة عندهم، مما لا يجعل الموقف لديهم مصداقاً للدعوة إلى النّار، بقطع النظر عمّا إذا كانت دعوتهم الدينية مقبولة عند اللّه أو غير مقبولة. ولعلّ ذلك هو ما جعل الإسلام يفرق في أحكامه بين الملحدين والمشركين من جهة، وأهل الكتاب من جهةٍ أخرى، لوجود كلمة سواء مع أهل الكتاب ليست موجودة عند الملحدين والمشركين، وهي توحيد اللّه والإيمان بالرسالات، مع الاختلاف في بعض التصوّرات اللاهوتية والمفاهيم العقيدية والأخلاقية.

ـــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:526.

(2) انظر: تفسير الميزان، ج:2، ص:526.

(3) الظاهر سقوط الضمير من اللفظة، والصواب: خلّته.

(4) مجمع البيان، ج:2، ص:560.

(5) التهذيب، ج:7، ص:401، باب:34، رواية:9.

(6) البحار، م:31، ج:88، ص:604، باب:119، رواية:18.