من الآية 226 الى الآية 227
الآيتــان
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (226-227).
* * *
معاني المفردات:
] يُؤْلُونَ[ : الإيلاء: الحلف المانع من مقاربة المرأة. وحقيقة الإيلاء: هو الحلف المقتضي للتقصير في الأمر الذي يحلف عليه.
] تَرَبُّصُ[ : التربص: الانتظار بالشيء أمراً ينتظر زواله أو حصوله، أو سلعة يقصد بها غلاءً أو رخصاً.
] فَآءُوا[ : رجعوا. والفيء والفيئة: الرجوع إلى حالة محمودة.
] عَزَمُواْ[ : العزم: هو العقد على فعل شيء في مستقبل الأوقات؛ وهو إرادة متقدّمة للفعل بأكثر من وقت واحد.
] الطَّلاقَ[ : حَلّ عقد النكاح بسبب من جهة الرّجل.
* * *
مناسبة النزول:
قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقّت اللّه أربعة أشهر؛ فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر، فليس بإيلاءٍ[1]. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، كان الرّجل يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً. وكان يتركها كذلك، لا أيّماً ولا ذات بعل؛ فجعل اللّه تعالى الأجل الذي نعلم به ما عند الرّجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل اللّه تعالى: ] لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ[ الآية[2].
* * *
الإيلاء بين خيارين:
] لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ[ الإيلاء: هو الحلف على ترك مقاربة الزوجة، كوسيلة من وسائل المضارّة. أي: يحلفون على ترك وطء نسائهم للإضرار بهنّ، لتبقى المرأة في حالة تجميد من ناحية العلاقة الجنسية في الزواج، لارتباطها بزوجها لبقاء الزواج، وانفصاله الجسدي عنها؛ الأمر الذي يؤدي إلى مشكلة إنسانية معقدة، لأنَّ اللّه لا يريد للمرأة أن تعيش في حالة اضطهاد نفسي وجسدي في نطاق الزواج، الذي قد يحوّله الرّجل بهذه الطريقة إلى سجن؛ ولذلك أراد اللّه أن يضع لهذه المسألة حدّاً معقولاً، فهو لا يريد إلغاء الحلف كليةً، باعتبار أنه حالة طبيعية قد تمسّ الحاجة إليها من خلال غضبٍ جامح أو انفعالٍ شديد، لا يملك فيه الإنسان نوازعه النفسية؛ فترك له التنفيس عن ذلك بهذه الطريقة، ليأخذ وقته في التأمّل والتفكير واتخاذ الموقف المناسب بعد سكون غضبه وهدأة إنفعاله، من دون أن تكون المدّة المفروضة بالغة الضرر بالنسبة إلى المرأة؛ وذلك هو ] تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ[ فله الاستمرار في يمينه في نطاق هذه المدّة. فقد أمهل الزوج الحالف مدّة أربعة أشهر، فلا سبيل للشرع عليه هذه المدّة، لأنَّ الزوجة لا تملك عليه حقّ الاتصال في تلك المدّة. وقد جاء في الحديث عن الإمامين محمَّد الباقر وجعفر الصادق (ع)، كما في الكافي، أنهما قالا: إذا آلى الرّجل أن لا يقرب امرأته، فليس لها قول ولا حقّ في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في كفه عنها في الأربعة أشهر؛ فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسّها، فسكتت ورضيت فهو في حلّ وسعة. فإن رفعت أمرها قيل له: إمّا أن تفيء فتمسّها وإمّا أن تطلّق وعزم الطلاق أن يخلي عنها. فإذا حاضت وطهرت طلقها، وهو أحقّ برجعتها ما لم يمضِ ثلاثة قروء. فهذا الإيلاء الذي أنزله اللّه تبارك وتعالى في كتابه[3].
فإذا بلغت المدّة أربعة أشهر؛ ] فَإِن فَآءُوا[ : أي رجعوا إلى أمر اللّه بإعطاء المرأة حقّها الجنسي إذا كان قادراً على ممارسته، أو تراجعه عن التزامه بالترك إذا لم يكن قادراً عليه في ذلك الوقت؛ ] فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ يغفر لهم يمينهم ولا يحاسبهم عليها، لأنَّ المولى لا يعاقب على هذا السلوك اللاأخلاقي، باعتبار صدوره عن إرادة للإضرار بالزوجة؛ وهو أمر لا يرضاه اللّه، لأنه لا يريد للمؤمن أن يفكر بالإضرار بأيّ إنسان، لا سيما زوجته، ولا يريده أن يحوّل التفكير ـ على تقدير صدوره ـ إلى ضرر فعلي؛ ولذلك كان الرجوع إلى الوضع الطبيعي بمثابة الكفارة عن هذا الفعل المبغوض له، وإن كان ذلك بدرجة لا تصل إلى حدّ التحريم. ] وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ[ وأكدوه ونفّذوه بإطلاق صيغة الطلاق بشروطه الشرعية، لأنَّ الزوج لم يجد صلاحاً لنفسه أن يستمر على الحياة الزوجية مع هذه الزوجة، ولا يملك أن يبقى معها في حالة التجميد بمقتضى يمينه، لأنَّ الشريعة لا تسمح له بذلك؛ ] فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ[ لما اتفقا عليه، فهو الذي يسمع الكلمات التي تحلّ المشكلة بالطلاق أو بغيره، ] عَلِيمٌ[ بما تضمره صدورهم، وعليم بأسرار الواقع كلّه.
وهذا التفصيل بين حالة الرجوع وحالة عزم الطلاق، خاضع للتخيير بين الأمرين، فلا يسمح له بالبقاء على يمينه وتجميد الحياة الزوجية؛ كما تفيده الآية. وهناك أحكام تفصيلية في موضوع الإيلاء وحدوده وشروطه، يرجع إليها في الفقه… أمّا ما نريد الإشارة إليه، فهو أنَّ اللّه قد فرض على الإنسان أن يتراجع عن يمينه في الحالة التي يتحوّل فيها اليمين إلى عنصر مضاد للحكم الشرعي، وإلى وسيلة من وسائل الضغط النفسي على الآخرين بالاعتداء على حقوقهم الشرعية؛ وبذلك كانت هذه الآية نموذجاً تطبيقياً للآية السابقة: ] وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّه عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ[ ... الخ.
* * *
مدلول الأربعة أشهر:
ويبقى هناك سؤال: ما خصوصية الأربعة أشهر؟
ذكر مالك بن أنس في الموطأ، عن عبد اللّه بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه وأرّقنـي أن لا خليل ألاعبه
فواللّه لولا اللّه أنـي أراقبـه يحرّك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك.
ولكنَّنا لا نستطيع تأكيد حدّ المرأة في المسألة الجنسية في مدّة زمنية معينة من خلال تجربة امرأةٍ واحدة في حاجتها الغريزية، بلحاظ أقصى ما تصبر عليه من الحرمان، لأنَّ النساء يختلفن في ذلك من حيث النوع، كما أنَّ الرجال يختلفون فيه، ولا سيما إذا لاحظنا الأحاديث التي تدل على أنَّ قوّة شهوة المرأة بأضعاف شهوة الرّجل، وأنها لولا الحياء الذي رُكِّب فيها، لاندفعت في اتجاه هذه الشهوة إلى درجة الانحراف.
وجاء في الحديث عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع)، في رواية صفوان بن يحيى أنه سأله عن الرّجل يكون عنده المرأة الشابة، فيمسك عنها الأشهر والسنة لا يقربها، ليس يريد الإضرار بها يكون لهم مصيبة، أيكون في ذلك آثماً؟ قال: إذا تركها أربعة أشهر، كان آثماً بعد ذلك[4].
وفي ضوء هذا، أفتى العلماء في المذهب الإمامي، أنَّ المرأة لا تملك حقّاً على الرّجل في الجماع إلاَّ مرّة في الأربعة أشهر، استناداً إلى هذه الرِّواية واستيحاءً من حكم الإيلاء.
ولكن يمكن للفقيه أن يستفيد من قوله تعالى: ] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ[ [البقرة:228]، أنَّ حقّ المرأة في الوقاع كحق الرّجل فيه، بحيث يجب عليه الاستجابة لحاجتها الجنسية إذا طلبت ذلك منه، كما يجب عليها الاستجابة له في حال طلبه ذلك منها؛ لأنَّ الدرجة التي ذكرت قد يكون المراد بها القوامة التي يملك بها حق الطلاق مما يميّزها عنه، لأنَّ طبيعة الزواج من الناحية الشرعية يفرض إشباع الغريزة لدى كلٍّ من الطرفين في نطاقه، لئلا يضطر إلى الانحراف بالبحث عن ذلك خارج نطاقها. وقد تكون المرأة أكثر إلحاحاً وحاجة من الرّجل في نطاق التشريع، لأنَّ اللّه أباح للرّجل الزواج بأكثر من واحدة، كما أباح له المتعة في رأي الشيعة الإمامية، ولم يبح ذلك للمرأة؛ فكيف يمكن أن تعصم نفسها وتشبع غريزتها في مستوى ثلاث مرات في السنة؟ وقد جاء في الرِّواية عن الإمام جعفر الصادق في رواية بعض رجاله، قال: من جمع من النساء ما لا ينكح، فزنى منهن شيء، فالإثم عليه[5].
وقد يخطر بالبال، أنَّ الأربعة أشهر تمثّل الحدّ الأقصى الذي يمكن للرّجل أن يقف عنده في الأوضاع الطارئة، كما في حال اليمين على الترك أو المصيبة أو السفر، على بعض الآراء، أو نحو ذلك... لا في الحالات الطبيعية، ولعلّ تشريع القسمة للزوجات، بل للزوجة الواحدة، يوحي بالتأكيد على تهيئة الأجواء المناسبة التي تقود الزوجين إلى الاستمتاع الدائم في مدى أربعة أيام، على الأكثر، باعتبار أنَّ المبيت إذا لم يكن مشروطاً، في القسم، بالجماع، كما هو منطوق بعض الأخبار وفتوى المشهور من الفقهاء، فهو منفتح عليه من خلال طبيعة الغريزة في أجواء الإثارة الطبيعية بالمضاجعة الليلية في حياة الزوجين.
إننا نريد إثارة هذه المسألة، من أجل التنبيه إلى ضرورة التوفيق بين العناوين القرآنية للحياة الزوجية وبين طبيعة الفتاوى والرِّوايات الواردة في هذا المجال، وإلى الانطلاق من ارتكاز الزواج في الرّجل والمرأة على تحصين النفس ضدّ الانحراف لمصلحة العفة الجنسية، وهذا مما لا يتفق مع الحدود التي وضعها الفقهاء لحقّ المرأة في الجنس، فلا بُدَّ من ملاحظة ذلك في مسألة الاجتهاد؛ واللّه العالم.
ــــــــــــــــ
(1) الدر المنثور، ج:1، ص:647.
(2) أسباب النـزول، ص:42 ـ 43.
(3) الكافي، ج:6، ص: 131، رواية:4.
(4) التهذيب، ج:7، ص:412، باب:36، رواية:19.
(5) الكافي، ج:5، ص:566، رواية:42.
تفسير القرآن