تفسير القرآن
البقرة / الآية 228

 الآية 228

الآيــــة

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228).

* * *

معاني المفردات:

] قُرُوءٍ[ : جمع قرء، وهو يطلق على الطهر والحيض معاً. قال الراغب: القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسماً جامعاً للأمرين الطهر والحيض المتعقب له، أُطلِق على كلّ واحدٍ منهما[1].

وقال الطبرسي ـ في مجمع البيان ـ: «أصله في اللغة يحتمل وجهين: أحدهما: الاجتماع، ومنه قرأت القرآن لاجتماع حروفه…. الوجه الثاني: أنَّ أصله الوقت الجاري في الفعل على عادة»[2].

] وَبُعُولَتُهُنَّ[ : أزواجهن. والبعل هو الذكر من الزوجين، وسمي بذلك لأنه عالٍ على المرأة بملكه لزوجيتها. وقوله: أتدعون بعلاً؟ أي: ربّاً. والبعل: النخل لأنه مستبعل على شربه. وبعل الرّجل بأمره: إذا ضاق به ذرعاً، لأنه علاه منه ما ضاق به ذرعه، وبعل الرجل: بطر، واستعلى تكبراً. وامرأة بعلة: لا تحسن لبس الثياب، لأنَّ الحَيْرة تستعلي عليها فتدهشها.

] وَلِلرِّجَالِ[ : الرجال: جمع رجلٍ، يُقال: رجل بين الرجلة أي: القوّة. وهو أرجلهما أي أقواهما. وفرس رجيل: قويّ على المشي. وسميت الرجل رجلاً لقوّتها على المشي. والرجل الذي يمشي على رجله.

] دَرَجَةٌ[ : الدرجة: المنزلة.

* * *

مناسبة النزول:

«أخرج داود، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن أسماء بنت يزيد ابن السكن الأنصارية قالت: طُلّقتُ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم يكن للمطلقة عدّة؛ فأنزل اللّه تعالى حين طلّقت العدّة للطلاق: ] وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثَةَ قُرُوءٍ[ ، فكانت أول من أنزلت فيها العدّة للطلاق»[3].

* * *

بين الطلاق والإصلاح:

] وَالْمُطَلَّقَاتُ[ اللائي انفصلن عن أزواجهن بالطلاق ] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثَةَ قُرُوءٍ[ فلا يتزوجن بأي رجل آخر قبل انتهاء مدّة الانتظار، وهي ثلاثة أطهار بما فيها الطهر الذي جرى فيه الطلاق، بناء على تفسير القرء بالطهر، أو ثلاثة حيضات التي تبدأ بعد انتهاء الطهر الأول بناء على تفسير القرء بالحيض، فهي في هذه المدّة المصطلح عليها بالعدّة، بمنزلة الزوجة في كلّ الأجواء المنفتحة في العلاقة الزوجية، فتكون المسألة زواجاً مجمّداً، أو طلاقاً مع وقف التنفيذ.

] وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ[ ، لأنَّ اختصاصها بالمعرفة في البداية للحمل، ـ على تفسير ـ أو للدم في العادة الشهرية ـ على تفسير ـ يجعل المسألة أمانةً لديها كأيّ شيء لا يعرف ـ غالباً ـ إلاَّ من قبل الشخص المعني، لأنَّ القضية ـ في دائرة الحقّ ـ لا تتصل بها في نتائجها الشرعية، بل تشمل الزوج في أكثر من جهة؛ الأمر الذي يجعل الكتمان وإخفاء الحقيقة خيانةً للأمانة الشرعية، فلا يجوز لها أن تخفي الحمل الذي تطول العدّة إلى نهايته وأن تدّعي الحيض لتقصير مدّة العدّة، أو تدّعي الحمل لإطالتها لحاجةٍ في نفسها؛ لأنَّ في ذلك تجاوزاً لحدود اللّه وانحرافاً عن خطّ المسؤولية الشرعية، ] إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[ فإنَّ الإيمان باللّه يمنع المؤمن من التعدي على حدود اللّه، من موقع إحساسه بالعبودية للّه، كما أنَّ إيمانه باليوم الآخر يدفعه إلى اختيار الأعمال التي تؤدي به إلى النجاة من عذاب اللّه والحصول على جنته ورضوانه. وقد جاء في المجمع عن الصادق (ع) في هذه الآية: الحبل والحيض[4].

] وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[ لأنها لم تخرج من حكم الزوجة، ما يجعل اختيار الزوج للرجعة والعودة إلى الحياة الزوجية من جديد، تماماً كما لو أخرج الزوجة من بيته ثُمَّ قرر استعادتها إليه؛ لأنَّ المبادرة في الطلاق الرجعي كانت من خلاله، فله أن يصحّح الخطأ الذي وقع منه، ويتراجع عن القرار الذي شعر بالندم عليه. وهذا هو المنهج الإسلامي التربوي في العلاقات الإنسانية، الذي يفتح أكثر من نافذة للإنسان للتراجع عن قراره الذي يشعر بالخطأ فيه، ] إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحاً[ بحيث كان الأساس في الرجوع إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح من أجل إصلاح المسألة إذا ما اكتشف الزوج خطأه تجاه الزوجة، أو اكتشفت الزوجة خطأها تجاه الزوج، سواء أكان ذلك بمبادرة ذاتية أم كان من خلال تدخل المصلحين بينهما.

أمّا إذا كان الهدف من الرجعة أن يستزيد الزوج في الإمعان في تعذيبها وإيلامها وإرباك حياتها، للإضرار بها حتى تبقى في حالة اهتزاز دائم، من أجل ابتزازها للحصول منها على تنازلات مادية أو معنوية، وكان الزوج إنساناً مضاراً؛ فإنَّ الظاهر من الآية أنَّ الحقّ الذي للزوج في الرجعة لن يكون له أية شرعية في حالة إرادة الإضرار، بحيث لا تصح الرجعة من الناحية الوضعية القانونية، كما لا تحل من الناحية التكليفية. ولكنَّ الفقهاء لم يلتزموا بذلك، لأنهم اعتبروا الزوجة في العدّة زوجةً أو بحكم الزوجة، فتكون الحالة تماماً كما هي حالة الزوجة إذا أراد الإضرار بها في نطاق الحياة الزوجية.

وجاء في مجمع البيان: "إنَّ الشخص ـ في الجاهلية ـ كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة وتركها [مدّة]، حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها وتركها مدّةً ثُمَّ طلقها أخرى وتركها مدّة، كما فعل في الأولى، ثُمَّ راجعها وتركها مدّة ثُمَّ طلقها أخرى. فجعل اللّه الزوج أحقّ بالمراجعة على وجه الإصلاح لا على وجه الإضرار. وإنما شرط الإصلاح في إباحة الرجعة لا في ثبوت أحكامها، لإجماع الأمّة على أنَّ مع إرادة الإضرار يثبت أحكام الرجعة"[5].

* * *

ولهنّ مثل الذي عليهنّ:

] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ[ . هل المراد من هذه الفقرة أنَّ حقوق الزوجة كحقوق الزوج، بطريقة شمولية، بمعنى أنه إذا كان للزوج حقّ الاستمتاع بالزوجة، فإنَّ للزوجة حقّ الاستمتاع به. فليس له أن يمنعها من ذلك عند حاجتها، كما ليس لها أن تمنعه عند حاجته، وهكذا في الجوانب الأخرى، فالحقّ مشترك بينهما كما أنَّ الواجب مشترك بينهما، إلاَّ في ما دل الدليل عليه كالنفقة التي تجب على الزوج دون الزوجة، لتمنحه الدرجة التي تقررها الفقرة التالية؟!

أو أنَّ هذه المساواة جاءت لتقرير المبدأ، من خلال أنَّ أحدهما لا يملك حقاً مطلقاً على الآخر، بل إنَّ لكلّ منهما حقاً على الآخر يقابله واجبٌ تجاهه. فلا ينافي ذلك أن يزيد حقّ أحدهما على الآخر، كما يقرره الفقهاء في حديثهم عن أنَّ حقّ المرأة في الاستمتاع لا يساوي حقّ الرّجل فيه، لأنَّ حقّه في ذلك مطلق، بينما حقّ المرأة فيه بحدود تكاد تلحقه بالعدم؟ ربما كان هذا الاحتمال هو الأقرب لدى الكثيرين من المفسّرين.

وقد جاء في المجمع أنَّ المراد بذلك في الآية: «ما يرجع إلى حسن العشرة وترك المضارة والتسوية في القسم والنفقة والكسوة، كما أنَّ للزوج حقوقاً عليها مثل الطاعة التي أوجبها اللّه عليها له، وأن لا تُدخِل فراشه غيره، وأن تحفظ ماءه فلا تحتال في إسقاطه»[6]. ونستفيد من ذلك، أنَّ الآية لم تقرّر الحقّ؛ بل هي إشارة إلى ما ثبت من الحقّ في السنة، فلا مجال للاستدلال بها على ذلك.

ولكنَّنا نستقرب الاحتمال الأول بلحاظ الفقرة التالية: ] وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[ ، فإنَّ الحديث عن امتياز الرجال بالدرجة المميّزة والمنزلة المحدّدة، يدل على أنَّ الفقرة السابقة واردة لتقرير المساواة في الحقوق الزوجية الطبيعية التي شرّع الزواج على أساسها، مثل إرادة العفة وتحصين الإنسان نفسه بالزواج، ليملك الحصول على إشباع غريزته من دون حاجةٍ إلى البحث عنها في مكان آخر لدى إنسان آخر. فلا معنى لأن يأخذ الرّجل كلّ حقّه إلى حدّ التعسُّف، بينما لا تحصل الزوجة من ذلك إلاَّ على مثل رشفة الماء السريعة في أجواء العطش الشديد في الصيف الحارق. وهكذا في مسألة حقّه في منع زوجته من الخروج من بيتها بغير إذنه، حتى لو لم يكن هناك سبب يدعوه إلى ذلك إلاَّ الحالة المزاجية الذاتية التي تتعمد الإضرار بها.

وإذا كنا في مجال الحديث عن الدرجة أو المنزلة المميّزة، فإننا نتصوّر أنها إشارة إلى القوامة التي يملك الرّجل من خلالها حقّ الطلاق، دون أن تملكه الزوجة، في مقابل قيامه بالمسؤولية المادية عن الحياة الزوجية، ووجود بعض العناصر المميّزة في شخصيته؛ ما يجعل إدارته للعلاقة الزوجية أكثر توازناً وواقعية من خلال ظروفه التي تسمح له بحرية الحركة أكثر منها، في تكوينها الجسدي وفي دور الأمومة ونحوها.

إنها أفكار نثيرها في الجانب التفسيري، من أجل توجيه التفكير نحو المناقشة الفكرية التي تتحرر من المألوف إلى الفهم الجديد المنفتح على الآيات بكلّ موضوعيةٍ وعمق.

] وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ[ فهو العزيز في ذاته، من خلال أنَّ القوّة له جميعاً لتكون له العزّة جميعاً، وهو الحكيم في تقديره للأمور وتدبيره لشؤون خلقه، فلا ينتقص أحد من عزّته في ما يقرّره من التشريع، ولا يشك أحد في حكمته في تقرير مصالح عباده في كلّ حركة التشريع والتنفيذ.

* * *

مع بعض الأحاديث في حقوق المرأة والرّجل في الزواج:

جاء في الكافي ـ بسند صحيح ـ عن الإمام محمَّد الباقر(ع)، قال: جاءت امرأة إلى النبيّ(ص)، فقالت: يا رسول اللّه، ما حقّ الزوج على المرأة؟ فقال لها: أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدّق من بيته إلاَّ بإذنه، ولا تصوم تطوّعاً إلاَّ بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلاَّ بإذنه؛ وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها ملائكة السَّماء، وملائكة الأرض، وملائكة الغضب، وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها. فقالت: يا رسول اللّه، من أعظم النّاس حقاً على الرّجل؟ قال: والده. فقالت: يا رسول اللّه، من أعظم النّاس حقاً على المرأة؟ قال: زوجها. قالت: فما لي عليه من الحقّ مثل ما له عليّ؟ قال: لا ولا من كلّ مائة واحدة. قال: فقالت: والذي بعثك بالحقّ، لا تزوجت زواجاً أبداً. ـ وفي رواية ـ لا يملك رقبتي رجل أبداً[7].

ولا بُدَّ لنا من أن نحمل هذا الحديث على الإشارة إلى الحقّ المعنوي الذي يفرض على المرأة ـ من ناحية روحية ـ أن تنفتح على زوجها انفتاح الإنسان المؤمن على الإنسان الذي حمله اللّه مسؤوليته، من أجل إيجاد الضوابط النفسية للالتزام بالحدود التي فرضها اللّه عليه؛ وذلك بتقوية الطاقة الروحية في خلفيات سلوك المرأة مع الرّجل، لتعتبر حياتها معه جهاداً على هدى الحديث المأثور: «جهاد المرأة حسن التبعل»[8]؛ أو عبادة تتقرّب إلى اللّه لتصبر على المشاكل المتنوّعة التي تحصل في الحياة الزوجية، وليكون ذلك أساساً للانسجام مع متطلباتها في موقع الرّجل القيادي في هذه الخلية الاجتماعية الإنسانية لتحقيق التوازن من خلال العنصر الروحي والعاطفي الذي يشدّ المرأة إلى زوجها، لأنَّ ذلك هو الذي يحميها من الانحراف وفقدان التوازن والسقوط تحت تأثير العوامل الطارئة.

ولعلّ وقوع الحديث عن حقوق الزوج على الزوجة، في سياق الحديث عن حقوق الوالد على ولده، يشير إلى ذلك، باعتبار أنَّ اللّه يريد للولد أن يتحسس حقّ والده عليه من الناحية المعنوية والروحية، التي تتحوّل إلى ناحيةٍ شعورية تؤدي إلى إيجاد قاعدةٍ للتوازن في داخل الحياة العائلية بعيداً عن الحسابات المادية؛ فإنَّ للجانب الشعوري دوراً في العلاقات الإنسانية أقوى من الجانب المادي، لأنه هو الذي يقوي عنصر التضحية في حركة الإنسان تجاه الإنسان الآخر؛ ويتعاظم هذا الجانب في الحديث المأثور عن رسول اللّه(ص) قال: «ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحدٍ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»[9]، فإنَّ الكلمة توحي بالروحية الانقيادية للموقع القيادي للزوج، لا للذات في طبيعتها الإنسانية.

ولولا هذه الملاحظة الإيحائية في فهمنا للمسألة، لكان هذا الحديث غير منسجم مع الآية الكريمة: ] وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[ فإننا لا نستطيع التوفيق بين الدرجة التي يتميّز بها الرّجل عن المرأة، وبين المائة بالمائة في ميزته عليها حتى لا حقّ لها معه بنسبة الواحد بالمائة، ما لا يجعل الحديث موافقاً لكتاب اللّه الذي هو الأساس في قبول الحديث من حيث انسجام الحديث مع المفاهيم العامة للقرآن.

وفي ضوء ذلك، يختلف اتجاه الآية عن اتجاه الرِّواية؛ فإنَّ الآية تؤكد على الحقوق القانونية الشرعية، بينما تؤكد الرِّواية على الحقّ المعنوي الروحي.

أمّا مسألة عدم خروج المرأة من بيتها إلاَّ بإذن زوجها، فإننا لا نحتمل أن يكون ذلك حكماً مستقلاً بذاته إلى جانب الأحكام الأخرى ـ كما هو المشهور بين الفقهاء ـ بل أستقرب ما ذهب إليه أستاذنا السيِّد أبو القاسم الخوئي ـ رحمه اللّه ـ من اعتباره حكماً مرتبطاً بحقّ الرّجل في الاستمتاع كلّما أراد منها ذلك، فليس للمرأة الحرية في الخروج من بيتها في أيّ وقت شاءت، بل لا بُدَّ لها من استئذان زوجها في ذلك، للتعرف على حاجاته وللتفاهم على تنظيم مسألة البقاء في البيت والخروج منه؛ لتركيز الحقوق الزوجية على قاعدة صلبة قائمة على التنسيق بينهما، بعيداً عن حركة التمرّد على الزوج من جهة الزوجة؛ لأنَّ ذلك ما تفرضه التزاماتها العقدية التي يفرضها عقد الزواج في التشريع الإسلامي.

وإننا نرتكز في هذا الفهم الاجتهادي على عناوين «المعاشرة بالمعروف» و «الإمساك بالمعروف» ونحو ذلك... فإنها لا تنسجم مع إعطاء الزوج الحقّ المطلق في منع الزوجة من الخروج من البيت إلاَّ بإذنه، الذي يملك ـ بمقتضى هذه الفتوى المشهورة ـ أن يحرّكها من خلال مزاجه الذاتي؛ لا من خلال دراسة المرأة في حاجاتها الذاتية أو الاجتماعية أو الإنسانية، بحيث يكون له الحقّ في تحويل البيت إلى سجن دائم من حين العقد إلى حين الوفاة لمجرّد رغبته الشخصية أو عقدته الذاتية؛ دون أن يكون في ذلك أي إثم أو خطيئة من ناحية الحكم الشرعي. فله أن يسافر مدّة طويلة من دون أن يأذن لها في الخروج من بيته، مع توفير حاجاتها المادية من النفقة الواجبة؛ وله أن يفصلها عن المجتمع كلياً وعن جذورها العائلية وعلاقاتها الاجتماعية... فيمنعها من الخروج في الوقت الذي يكون مشغولاً عنها بعمله أو بعلاقاته الاجتماعية العامة والخاصة.

إنَّ هذا لا يصدق عليه «المعاشرة بالمعروف» أو «الإمساك بالمعروف»، وربما كان مصداقاً للظلم في النظرة العامة بلحاظ الارتكاز الإنساني للعدل في وعي النّاس للعلاقات الزوجية التي هي جزء من العلاقات الإنسانية. فإنَّ المرتكز في الذهنية العامة، أنَّ حبس إنسان في البيت بشكل دائم، من دون ذنب جناه سوى كونه مرتبطاً بالزوج في عقد الزواج، يعتبر تصرّفاً غير عادل؛ كما أنه يتنافى مع الخطّ العام الذي ارتكز عليه التشريع الإسلامي في قوله تعالى: ] وَجَاهِدُوا فِي اللّه حقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاس فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَولَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[ [الحج:78] أو: ] شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى للنّاس وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ [البقرة:185] أو في الحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار»[10]. فإنَّ هذا الحكم الشرعي ـ على أساس الفتوى المشهورة ـ من أوضح مصاديق الحرج والعسر والضرر، بحسب المفهوم العرفي أو العقلائي لهذه العناوين.

وقد يستدل بعض الفقهاء على حرية الزوج المطلقة، في منع زوجته من الخروج بغير إذنه، بالحديث المعروف الذي رواه في الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق (ع) قال: «إنَّ رجلاً من الأنصار على عهد رسول اللّه (ص) خرج في بعض حوائجه، فعهد إلى امرأته عهداً ألاّ تخرج من بيته حتى يقدم؛ قال: وإنَّ أباها مرض، فبعثت المرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: إنَّ زوجي خرج وعهد إليّ أن لا أخرج من بيتي حتى يقدم، وإنَّ أبي قد مرض، فتأمرني أن أعوده؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك. فثقل فأرسلت إليه ثانياً بذلك، فقالت: فتأمرني أن أعوده؟ فقال: اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك. قال: فمات أبوها، فبعثت إليه: إنَّ أبي قد مات، فتأمرني أن أصلي عليه؟ فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك. قال: فدفن الرّجل، فبعث إليها رسول اللّه (ص): إنَّ اللّه قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك»[11].

فإنهم يرون أنَّ النبيّ (ص) منع هذه المرأة من الخروج من بيتها لعيادة أبيها أولاً، ولحضور جنازته ثانياً إطاعةً لزوجها. فلو كان لها الحقّ في الخروج في مثل هذه الحالة التي كان فيها زوجها في السفر، بحيث لا حاجة له بها من ناحية الاستمتاع، لكان خروجها أمراً راجحاً في نفسه لقضاء حقّ أبيها، من دون الابتعاد عمّا لزوجها من الحقّ. ولكنَّنا نلاحظ أنَّ المورد من موارد الحقّ الزوجي الطبيعي، لأنه أراد منها أن تكون على استعداد دائم لاستقباله، لأن من الممكن أن يأتي في أية لحظة فيجدها في البيت.

كما أنَّ هناك نقطة أخرى، وهي أنَّ الزوج الذي يكون على علاقة طبيعية مع أهل زوجته، أو الذي لا يكون على مثل هذه العلاقة، لا يمكن أن يمنع زوجته من عيادة أبيها أو حضور جنازته، لأنه من الحقوق الاجتماعية أو العائلية العامة في نظر النّاس، بحيث يعدّ الإنسان الذي لا يقوم بها، أو الذي يمنع منه، خارجاً عن المألوف وبعيداً عن الحسّ الإنساني مما لا يقبله أي إنسان لنفسه. ولذلك نجد أنَّ الأشخاص المعقّدين من أهل زوجاتهم لا يمانعون في ذهاب زوجاتهم إلى آبائهن أو أمهاتهن، وربما يبادرون ـ هم ـ إلى الذهاب للعيادة أو لحضور الجنازة، ما يعني أنَّ المورد هو مورد إحراز رضى الزوج في الخروج لعدم شمول المنع لمثل هذه الحالة، الأمر الذي يجعل أمر النبيّ (ص) لها في البقاء في البيت وعدم الخروج، وارداً على سبيل الاستحباب لإفهامها أنَّ طاعتها لزوجها، حتى في مورد عدم الوجوب، أفضل ـ عند اللّه ـ من عيادة أبيها وحضور جنازته، لا سيما أنَّ ذلك يؤكد الانسجام بينهما، ويعمّق الإحساس بالمودّة والرحمة بينهما. فإذا رأى الزوج أنَّ زوجته تلتزم بأمره، حتى في مثل هذه الحال الصعبة القاسية من الناحية العاطفية، فإنَّ علاقته بها ستزيد وستمتد إلى أبعد من الحالة الطبيعية في العلاقة الزوجية، ما يؤدي إليه ذلك من عمق المحبة لها؛ فينعكس ذلك إيجاباً على ثبات الزواج.

وربما نستوحي ذلك من حديث النبيّ(ص) لها أنَّ اللّه غفر لها ولأبيها بطاعتها لزوجها، للتدليل على فضل مبادرتها تجاه زوجها، بحيث حصلت على غفران اللّه لها ولأبيها، فكانت حصة أبيها من امتناعها عن زيارتها له وحضور جنازته أكثر من حصته على تقدير حضورها عنده أو بعد وفاته، ما يوحي بالاستحباب لا بالوجوب؛ واللّه العالم بحقائق أحكامه.

وبعد، فإنّ هناك عدّة أحكام ومفاهيم في هذه الآية، تتعلّق ببعض أوضاع المطلقات التشريعية؛ ولا بُدَّ لنا من الحديث عنها في عدّة نقاط...

* * *

ضرورة العدّة:

1 ـ إنَّ المطلقة التي قاربها زوجها، لا بُدَّ لها من العدّة قبل أن تتزوج إنساناً آخر. والعدّة أن تنتظر مدّة ثلاثة قروء؛ فإذا خرجت من القرء الثالث، جاز لها الزواج. وقد اختلف في معنى القرء، فقال بعضهم: إنه الحيض وعلى هذا، فلا بُدَّ لها من انتظار الحيضة الثالثة، واستشهدوا بقول النبيّ (ص): «دعي الصلاة أيام أقرائك»[12]، والصلاة إنما تترك في أيام الحيض، وقال بعضهم: إنه الطهر. فلا بُدَّ في حلية تزويجها من انقضاء الطهر الثالث، فيجوز لها الزواج في بداية الحيضة الثالثة. وروي عن زرارة قال: "سمعت ربيعة الرأي وهو يقول: إنَّ من رأيي أنَّ الأقراء التي سمى اللّه في القرآن، إنما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليس بالحيض. قال: فدخلت على أبي جعفر (ع) فحدثته بما قال ربيعة، فقال: كذب ولم يقل برأيه، وإنما بلغه عن عليّ(ع). فقلت: أصلحك اللّه، أكان عليّ(ع) يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: إنما القرء الطهر، فتقرأ فيه الدم فتجمعه. فإذا جاءت قذفته. قلت: أصلحك اللّه، رجل طلّق امرأته طاهراً من غير جماع بشهادة عدلين؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدّتها وحلّت للأزواج. قال: قلت: إنَّ أهل العراق يروون عن عليّ (ع) أنه كان يقول: هو أحقّ برجعتها، ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة؟ فقال: كذبوا[13].

* * *

حرمة الكتمان:

2 ـ لا يجوز للمرأة أن تكتم ما خلق اللّه في رحمها في أثناء العدّة، والظاهر منه بادىء ذي بدء الولد. وقد وردت بعض الرِّوايات عن بعض أئمة أهل البيت، أنه الأعم من الولد والدم، وهو أشمل. وقد يؤيد ذلك، بأنَّ اللّه قد فوض إلى النساء ثلاثة أشياء: الحيض والطهر والحمل، كما روي عن الإمام جعفر الصادق (ع). وقد فسّر حرمة الكتمان، بأنَّ ذلك يوجب منع الزوج عن المجامعة فيكون ظلماً له، أو بنسبة الولد إلى غيره كما كان يفعل في الجاهلية. وقد أثارت الآية الجانب الإيماني في التشديد على الالتزام بالحكم الشرعي، فربطت الموضوع بالإيمان باللّه واليوم الآخر، للإيحاء بأنَّ قضية الإيمان تفرض الالتزام، فلا إيمان بدون التزام.

* * *

حقّ الرجعة:

3 ـ إنَّ للزوج حقّ الرجعة في أثناء العدّة، في غير موارد الطلاق البائن، من دون حاجة إلى عقد جديد، ولا حقّ لها في الامتناع عن ذلك. وقد ورد أنَّ المطلّقة الرجعية بمنزلة الزوجة في أثناء العدّة، ولذا وجبت لها النفقة، وثبت التوارث بينها وبين الزوج، وحرم عليها الخروج بغير إذنه... إلى غير ذلك من الأحكام التي تدل على أنَّ الطلاق الرجعي بمنزلة تجميد حالة الزوجية في زمن معيّن، وليس إلغاء لها. وقد قيّدت أحقية الرجعة بإرادة الزوج الإصلاح من خلال ذلك، وعدم قصده المضارة. والظاهر أنه قيد للتكليف بالجواز لا لصحة الرجعة، فقد ثبت نفوذها حتى في غير حالة القصد الطيّب... فهو أشبه بالإرشاد منه بالتقييد، للإيحاء بأنَّ الرجوع مما ينبغي أن يكون بقصد الإصلاح لا بقصد المضارة، انطلاقاً من حكمة التشريع المرتكزة على علاج المشاكل لا تعقيدها.

* * *

وللرجال عليهن درجة:

4 ـ في أجواء الحديث عن الطلاق، جاءت هذه اللفتة القرآنية: ] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ...[ لتضع العلاقة بين الرّجل والمرأة في نطاقها الإسلامي، الذي يرتكز على الأسلوب الواقعي الحكيم، من خلال تشريعه لبناء الأسرة في حياة المجتمع.

فالرّجل والمرأة يلتقيان في خطّ المسؤولية على صعيد واحد، فليس هناك أيُّ انتقاصٍ من شخصية المرأة كإنسان في ما أوجبه اللّه وما حرّمه، وفي ما أباحه وما دعا إليه... فالمرأة الزانية والسارقة في نص القرآن، كالرّجل الزاني والسارق في ما ألزمهما به من حدّ وعقوبة؛ والمرأة الصالحة كالرّجل الصالح في ما أعدّ اللّه لهما من ثواب. فلا زيادة لثواب الرّجل على صلاته وصومه وصدقه وعفته على ثواب المرأة في ذلك كلّه. وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة:

] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراَتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذَاكِـرِينَ اللّه كَثِيراً وَالذَاكِرَاتِ أَعَدَّ اللّه لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً[ [الأحزاب:35].

فإننا نستشف من هذه الآية وغيرها أنَّ الرّجل والمرأة سواء في التقييم من حيث طبيعة المسؤولية كمبدأ، ومن حيث نتائجها العامة والخاصة... ما يعني تسوية مطلقة في هذا المجال. وتبقى القضية، في مجال العلاقات بينهما، تتخذ سبيلاً آخر في حساب المسؤولية المشتركة، من حيث توزيع الأدوار في نطاق نظام العائلة وفي غيره. فقد جعل الإسلام للرّجل امتيازاً نابعاً من بعض الخصائص الذاتية التي قد تجعله أكثر قدرة على الممارسة، ومن تحمله المسؤولية المالية للعلاقة، وذلك على أساسٍ تنظيمي لقانون الأسرة؛ وذلك ما أوضحته الآية الكريمة:

] الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِما أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ[ [النساء:34].

فإنَّ الآية تحدّد الموقع للرّجل في نطاق العائلة، في مركز القوامة التي تعني الإدارة والرعاية والإشراف... أمّا خارج نطاق العائلة، فلا قوامة ولا رعاية ولا تمييز؛ فللمرأة الحرية في أن تمارس كلّ ما تستطيع ممارسته في الحياة كإنسانة في حدود التشريع الإسلامي العام، كما كان للرّجل أن يمارس الدور نفسه من غير فرق في ذلك بين مجالات العلم والعمل ومراكز المسؤولية في الحياة، مع بعض الاستثناءات التي تقتضيها طبيعة الاحتياط للعدالة، وذلك في مجالات القضاء والشهادة والحكم... وربما كانت الدراسة لهذه الاستثناءات تضع القضية في الموضع الدقيق للفكرة الإسلامية، التي يلاحظ الإنسان معها أنَّ بعض هذه الاستثناءات قد وردت في نطاق مسؤولية الرّجل من حيث صفاته الأخلاقية والعلمية والعملية، على أساس الاحتياط لحقوق النّاس في شهادة أمينة، وقضاء متزن، وحكم قوي عادل...

وفي ضوء ذلك، نفهم أنَّ الدرجة التي جعلت للرّجل في نطاق التشريع الإسلامي العام، لا تعتبر امتيازاً للرّجل على حساب كرامة المرأة وإنسانيتها، بالمستوى الذي يبرّر هذا التمايز الاجتماعي الذي يضغط على المرأة لحساب الرّجل، بحيث تتحوّل إلى أداة للمتعة، أو كميةٍ مهملة لا تمثّل شيئاً كبيراً في مقياس الإنسانية... فإنَّ دراسة المساحة الواقعية بين ما هو التشريع الإسلامي في عدالته وإنسانيته، وبين ما هي الممارسة العملية في ظلمها وانحرافها؛ تبين لنا البون الشاسع بين معنى الإسلام، وبين سلوك المسلمين الذي لا يتحمل الإسلام سلبياته في أي حال.

موقع الطلاق من التشريع الإسلامي:

5 ـ ربما يثير البعض اعتراضاً على التشريع الإسلامي للطلاق، لأنه يسيء إلى استقرار الحياة الزوجية عندما يفسح المجال لفسخها في أيّة لحظة، ولو من دون مبررات معقولة، ما يسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية للزوجة وللأولاد بشكل خاص... ولا يزال علماء الاجتماع يتابعون الحديث عن المشاكل الصعبة الناتجة عن ذلك، من تعقيد لأولاد الطلاق في نطاق الإحصائيات الكثيرة البالغة الدلالة على النتائج الوخيمة للطلاق.

ولكنَّنا نريد هنا أن نؤكد على أنَّ تشريع الطلاق ينسجم مع طبيعة الأشياء، ومع طبيعة العلاقات الإنسانية التي تمثّل العلاقة الزوجية إحدى مظاهرها، لأنها مثل العلاقات التي تجمع النّاس مع بعضهم البعض تحت تأثير أي عنصر من العناصر المتنوّعة: اجتماعية، وفكرية، وعاطفية، واقتصادية، ودينية، وسياسية... وقد يكون من الطبيعي أن يخضع استمرارها وامتدادها للظروف النفسية والحياتية التي يعيشها الطرفان، فإنَّ من الصعب بقاء أية علاقة بشكل طبيعي ومعقول في حالة فقدان العناصر التي تكفل الاستمرار.

ولنتصوّر ـ في هذا المجال ـ شريكين في علاقة مادية، اختلّت ثقتهما ببعضهما البعض، أو اكتشفا اختلاف أفكارهما أو مزاجيهما بالمستوى الذي تتحوّل فيه الشركة إلى مشاكل وحوادث يومية... فإنَّ الحلّ المعقول لذلك أن تُفسخ الشركة لئلا تتحوّل الحياة بينهما إلى جحيم لا يطاق لكلّ من الطرفين. فإذا انتقلنا إلى العلاقة الزوجية، رأيناها ترتكز على عنصري المودّة والرحمة، وذلك في قوله تعالى: ] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ [الروم:21].

فإذا استمرت الحياة بينهما على هذا الأساس، أمكن لها أن تكون طبيعية مستمرة، سواء كان الاستمرار ناشئاً من التعاون بينهما في تحقيق ذلك، أو من تضحية أحدهما بمزاجه وسلوكه لمصلحة الفريق الآخر... أمّا إذا تحطم هذا الأساس؛ فحدثت العداوة بدلاً من المحبة، والقسوة بدلاً من الرحمة؛ أو اكتشف أحد الطرفين أو كلاهما أن الانسجام مفقود في أكثر من جهة... فإنَّ أمامنا أحد حلين: إمّا أن نقول لهما: استمرا على هذه العلاقة وليصبر كلّ منكما على صاحبه، وليضحّ كلّ منكما بمزاجه وذوقه وطريقته في الحياة... وهذا حلٌ غير عملي، لأنَّ الزواج من العلاقات المستمرة المتصلة بكلّ جوانب الحياة اليومية للإنسان بشكل متداخل، فليس من الطبيعي أن يفرض على الإنسان الاستمرار في الخضوع للضغط النفسي إلى ما لا نهاية؛ بل قد يؤدي ذلك إلى الانفجار ـ ولو بعد حين ـ كنتيجة للحياة الرتيبة التي تخلق المزيد من المشاكل على أساس حالة التماس الدائم.

ولعلّ من أوضح الدلائل على صعوبة هذا الحل وعدم واقعيته، أنَّ الفئات التي حرّمت الطلاق لجأت إلى حلّ الانفصال الجسدي والهجران، لإدراكها أنَّ الاستمرار غير عملي. ولكنَّها وقعت في مشكلة أخرى، وهي الإحساس بالارتباط الذي لا يمثّل أي شيء للطرفين، في الوقت الذي لا يستطيعان معه التخلّص منه، ليتفرغا لعلاقة جديدة ناجحة بدلاً من العلاقة القديمة الفاشلة؛ ما يجعل الحياة لديهما جحيماً لا يطاق، أو طريقاً للانحراف... فلم يبقَ إلاَّ الحل الثاني، وهو أن نقول لهما: إنَّ بإمكانهما أن ينفصلا ويبحثا عن تجربة جديدة، باعتبار ذلك ضرورة حياتية، فيكون أبغض الحلال إلى اللّه، تماماً كما هي العملية الجراحية عند استفحال المرض.

وفي ضوء هذه الفكرة، لا ينبغي للمؤمن أن يلجأ إلى الطلاق إلاَّ بعد استنفاد كلّ الوسائل المفضية إلى استمرار الحياة الزوجية، حيث يكون الطلاق حلاًّ لمشكلة المرأة والرّجل معاً. أمّا الأولاد، فقد لا يكون الطلاق هو المشكلة الكبيرة في حياتهم، نتيجة ما يحصل لهم من تعقيد؛ بل هي المشاكل الحاصلة من الخلافات والمنازعات بين آبائهم، فإنَّ تأثيرها عليهم أشدّ من تأثيرات الطلاق؛ بل ربما يكون الطلاق حلاًّ ضرورياً للجزء الكبير من المشكلة، وتخفيفاً للكثير من السلبيات.

وقد قرأت للدكتور بروتللي أحد الأطباء النفسيين الفرنسيين في إحدى المجلات النسائية المصرية أنه «لا يوجد ما يسمى ابن الطلاق... إنَّ ذلك مجرّد عذر سهل وتبرير غير واعٍ لكلّ حماقات سوء التربية ولعدم كفاية النصح والعجز عن التفتح، ولكن ما يوجد حقّاً هو الصراع بين أبوين متنافرين، فالطلاق إذاً لا يخلق حالةً، ولكنَّه يعمل على تسوية مشكلة. والصراع هو الذي لا يتحمله الطفل، فحين يتفتح الطفل يكون محتاجاً إلى الدفء والحنان والاستقرار والأمانة؛ وكلّها مستوحاة من الأب والأم معاً...».

إنَّ مشكلة الطفل في الطلاق هي أنه لا يعيش جوّ الحنان الطبيعي بين أبويه، ولكنَّ هذا الجوّ لم يكن موجوداً في ظلّ المشاحنات الزوجية، بل قد يكون الموجود شيئاً مضاداً له في ما يستتبعه من التأزم والتعقيد... وربما يحصل على العاطفة في خارج الحياة الزوجية بعد الطلاق أكثر مما فقده في داخلها، بالمستوى الذي يعتبر تعويضاً كاملاً عمّا فقده..

ولا بُدَّ لنا من الإشارة إلى حقيقة أساسية في كلّ قضايا التشريع الإسلامي في الحياة، وهي أنَّ أي تشريع في جانب السلب والإيجاب لا يمكن أن يكون حلاًّ مطلقاً للمشكلة؛ بل كلّ ما هناك، أنه يمثّل الحل النسبي الذي يجمع إلى الإيجابيات بعض السلبيات. ففي جانب الإلزام بالفعل، لا بُدَّ من أن تكون إيجابيات الفعل أكثر من سلبياته؛ وفي جانب الإلزام بالترك، يكون الأمر بالعكس، فتكون إيجابيات الترك أكثر من سلبياته... وهكذا تكون النتيجة الحاسمة في موضوعنا هذا، وهي أنَّ الطلاق يعتبر عملاً إيجابياً في حركة العلاقة الزوجية في الحياة، ولكنَّه ـ في الوقت نفسه ـ لا يخلو من بعض السلبيات في نتائجه العملية بالنسبة إلى الزوجين والأولاد وإلى المجتمع بشكل عام...

* * *

الطلاق بيد من؟

6 ـ لماذا جعل الإسلام الطلاق بيد الزوج، ولم يجعله بيد الزوجة بمفردها أو بالإضافة إلى الزوج؟ والجواب عن ذلك هو: أنَّ الإسلام حمّل الزوج مسؤولية الحياة الزوجية في المهر والإنفاق على الزوجة والأولاد، فهو الذي يخسر في انهدام العلاقة أكثر مما تخسره الزوجة من ناحية مادية ومعنوية؛ فقد دفع المهر والنفقة الزوجية من دون أي تعويض؛ وهو الذي يتابع تحمل المسؤوليات المالية للأولاد، ويواجه بناء بيت زوجي جديد على أساس نفقات جديدة؛ بينما لا تتحمل الزوجة أية مسؤوليات مادية تجاه زوجها، ولا تواجه أية خسارة في زواجها الجديد ـ لو تزوجت ـ بل الأمر بالعكس. نعم قد تواجه بعض المشاكل الاقتصادية إذا كانت فرص الزواج قد ضاعت منها، ولكن ذلك لا يمنع من وجود بعض فرص العمل التي يمكن أن تعوضها عمّا فاتها من الاكتفاء الاقتصادي في فرصة الزواج من قِبَل الزوج...

وفي ضوء ذلك، لا يمكن أن نعطي الزوجة حقّ إنهاء العلاقة بطريقة طبيعية أصلية، لأنها لا تتحمّل مسؤولية الحياة الزوجية من جميع الجهات... وقد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنَّ الإسلام لم يسدّ الباب أمام الزوجة في أخذ المبادرة في طلاق نفسها لبعض الأسباب، فرخّص لها أن تجعل لنفسها الوكالة من قبل الزوج في طلاق نفسها في ضمن العقد ـ على رأي بعض الاجتهادات الفقهية ـ، أو أن تكون العصمة بيدها ـ على بعض الاجتهادات الأخرى ـ وهناك حالات أخرى يمكن للحاكم الشرعي أن يتدخل بها في الطلاق، كما إذا رفض الزوج الطلاق والإنفاق؛ فإنَّ للحاكم الشرعي أن يطلّقها. وهناك بعض الحالات الأخرى التي يختلف فيها المجتهدون، ومجالها البحث الفقهي لا التفسيري.

* * *

ما الحكمة في العدّة؟

7 ـ ما الحكمة في العدّة بعد الطلاق، الذي يكون على المرأة فيه العدّة، وهو ما يسمى بالطلاق الرجعي؟.

قد تكون الحكمة في المحافظة على عدم اختلاط الأنساب ـ كما يعبّر الفقهاء ـ ليظهر من خلال هذه الفترة، ما إذا كانت المرأة حاملاً أو غير حامل؛ فلا يبقى هناك مجال للاشتباه، بينما يؤدي الزواج المباشر بعد الطلاق إلى اشتباه المولود بين أن يكون ثمرة الزواج الأول، وبين أن يكون ثمرة الزواج الثاني على أساس أقل الحمل وهو ستة أشهر.

وقد يكون هناك جانب آخر ـ من الحكمة ـ وهو أن يفسح الإسلام المجال للزوجين للتفكير الهادىء في إيجابيات العلاقة الزوجية وسلبياتها، بعيداً عن الأجواء المتوترة في داخل هذه العلاقة، لأنَّ الإنسان الذي يعيش في الأجواء المحمومة للمشكلة، لا يستطيع أن يفهم طبيعتها الحقيقية بشكل سليم. أمّا إذا انفصل عنها ـ ولو قليلاً ـ فإنه يستطيع أن يحصل على وضوح الرؤية، الذي يساعده على التفكير الهادىء والقرار المتزن.

وفي ضوء ذلك، كانت العدّة الرجعية تجميداً للعلاقة الزوجية باسم الطلاق. فقد جعل الشارع للمرأة ـ في هذه الفترة ـ حقّ النفقة والسكنى على الرّجل، وجعل للرّجل الحقّ في الرجوع من دون أية اتفاقات جديدة من المهر ونحوه، ومن دون عقدٍ جديد؛ بل يكفي أن يعبّر عن رجوعه بأية طريقة، وبأي أسلوب لتعود العلاقة الزوجية كما كانت... وجعل الإرث بينهما ثابتاً في هذه الفترة، فلو مات أحدهما ورثه الآخر، كتأكيد لبقاء العلاقة في بعض أحكامها القانونية، وإن كانت منحلّة قانوناً.

وقد يعترض بعض النّاس على ما ذكرناه، بأنَّ العدّة شرّعت في حالات إمكانات الحمل، وأمّا في حالات عدمها، كما إذا كانت المرأة عقيماً، أو كان الزوج عقيماً، أو غائباً عن المرأة غيبةً لا مجال فيها للحمل... وما إلى ذلك من الموارد التي تقطع فيها بعدم الحمل، فقد أثبتت الشريعة الإسلامية العدّة من دون أن تتحقّق العدّة في نطاقها الطبيعي.

ولنا أن نجيب عن ذلك، بأنَّ الشارع ـ في تشريعه للأحكام ـ يتحرّك من خلال الصفة النوعية للأشياء، فيلاحظ الأوضاع العامة، فيوجب الفعل فيه أو يحرّمه، وإن كانت بعض خصوصياتها لا تخضع للحكمة النوعية، وذلك كوسيلة احتياطية للحصول على الغاية، ولإمكانية وجود حالات نادرة تحدث في بعض هذه الخصوصيات، كما يمكن للعاقر أن تحمل صدفة لبعض الطوارىء، أو للغائب أن يعود من دون أن يشعر به أحد... وما شاكل ذلك، مما يخلق جواً من الارتباك والاختلاف حول تحقّق الشرط وعدمه. فربما أراد الشارع أن تسير الأمور بشكل منضبط، ولو على حساب بعض الحالات الجزئية؛ هذا مع ملاحظة الجانب الثاني المتمثّل في إفساح المجال للرجوع بعد الطلاق؛ واللّه العالم.

* * *

الرجوع بيد من؟

8 ـ لماذا جُعل الرجوع حقاً للرّجل، ولم يجعل حقاً مشتركاً بينهما مع أنَّ المشكلة قد تكون في حياة المرأة، لا في حياة الرّجل؟

لعلّ السرّ في ذلك، أنَّ العلاقة الزوجية هي مسؤولية الرّجل في الإدارة والإنفاق، ولذا جُعل الطلاق بيده؛ الأمر الذي يجعل قضية الرجوع بيده. لأننا ذكرنا ـ في حديثنا المتقدّم ـ أنَّ الطلاق الرجعي يعتبر تجميداً للحياة الزوجية في الحكم، وليس إلغاءً نهائياً؛ وقد نستوحي ذلك من اعتبار الرجوع امتداداً للحياة الزوجية، لا علاقة جديدة. فلو طلقها الزوج بعد الرجوع من دون أن يدخل بها، لا يكون طلاقه هذا طلاقاً قبل الدخول، بل يكون طلاقاً بعد الدخول لأنه استمرارٌ للعلاقة السابقة. ولم يترك القرآن الكريم القضية لمزاج الزوج ونزوته، بل أراد أن تكون خاضعة لإرادة الإصلاح المشتركة التي ترتكز على أساس القيام بالحقوق والمسؤوليات اللازمة على الطرفين. وعلى أيّ حال، فإنَّ المشكلة التي تُثار في جعل الرجوع بيد الزوج، هي المشكلة نفسها المثارة في جعل الطلاق بيده، وبذلك يكون التفسير هو التفسير في ما تعالج به قضية تنظيم العلاقة الزوجية؛ واللّه العالم بحقائق أحكامه.

ــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:413.

(2) مجمع البيان، ج:2، ص:572.

(3) الدر المنثور، ج:1، ص:656.

(4) انظر: مجمع البيان، ج:2، ص:574.

(5) مجمع البيان، ج:2، ص:574.

(6) مجمع البيان، ج:2، ص:575.

(7) الكافي، ج:5، ص:506، رواية:1.

(8) البحار، م:4، ج:10، ص:277، باب:7، رواية:1.

(9) البحار، م:6، ج:17، ص:810، باب:5، رواية:11.

(10) البحار، م:1، ج:2، ص:518، باب:33، رواية:27.

(11) الكافي، ج:5، ص:513، رواية:1.

(12) التهذيب، ج:1، ص:384، باب:19، رواية:6.

(13) البحار، م:37، ج:101، ص:379، باب:119، رواية:22.