تفسير القرآن
البقرة / الآية 232

 الآية 232
 
الآيــــة

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (232).

* * *

معاني المفردات:

] تَعْضُلُوهُنَّ[ : تمنعوهنّ ظلماً وقسراً. وهو مأخوذ من العضلة، وهي كلّ لحم صلب في عصب. وعضلته: شددته بالعضلة، مثل عصبته: شددته بالعصب. ويستعمل في كلّ منع شديد، ومن هنا قيل: داءٌ عُضال للمرض الذي يصعب برؤه. وعضل المرأة يعضلها عضلاً، إذا منعها من التزويج ظلماً.

] أَزْكَى[ : أصلح وأنمى وأحرى أن يجعلكم أزكياء. وأصل الزكاة: النمو الحاصل عن بركة اللّه تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية.

] وَأَطْهَرُ[ : أطهر للقلوب والنفوس، وأسلم للأخلاق. والطهارة ضربان: طهارة جسم، وطهارة نفس، وحمل عليها عامة الآيات.

* * *

مناسبة النزول:

روى البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معقل بن يسار، قال: «كانت لي أخت، فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثُمَّ طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته، ثُمَّ خطبها مع الخطّاب، فقلت له: يا لكع أكرمتك بها، وزوجتكها، فطلقتها ثُمَّ جئت تخطبها؟ واللّه لا ترجع إليك أبداً. وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم اللّه حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل اللّه تعالى: ] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَجَهُنَّ[ قال: ففيّ نزلت هذه الآية. فكفّرت عن يميني وأنكحتها إياه. وفي لفظ: فلمّا سمعها معقل، قال: سمعاً لربي وطاعةً، ثُمَّ دعاه فقال: أزوجك وأكرمك»[1].

* * *

لا تمنعوا المطلقات من العودة:

وهذا نداء آخر للأشخاص الذين يملكون أمر الضغط على النساء، من الآباء والأمهات والإخوة والأعمام والأخوال... وغيرهم، ممن جرت عادتهم بالتدخل في أمورهن الخاصة والعامة، انطلاقاً من الضعف الطبيعي للمرأة الذي يبرز خضوعها للاضطهاد وانسحاقها تحت ضغط إرادة الآخرين. فلا يكون لها أيُّ موقف في حياتها العملية، ولا يسمح لها بإبداء أي رأي في علاقاتها الزوجية أو المالية أو الاجتماعية.

] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ[ من خلال بعض الحالات الانفعالية الطارئة التي تحوّلت إلى عنصر ضغط سلبي نفسي ضدّ الزوجة، أو شقاق بينهما، أو من خلال بعض المصالح الآنية التي فرضت ذلك عليكم... ] فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ[ أي: انتهت العدّة، فلم يعد لكم حقّ شرعي في الرجوع بطريقة تلقائية؛ ] فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ[ وتمنعوهن عن العودة إلى الزواج من جديد، ] أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ[ استجابةً للرغبة النفسية التي عاشتها المرأة وعاشها الرّجل بعد تجربة الطلاق الذي شعرا فيه أنهما لا يستغنيان عن بعضهما البعض، وأنَّ ما حدث لهما كان صدمة لهما هزت أعماقهما؛ فرأيا أنَّ الانفصال ليس من مصلحتهما؛ وذلك ] إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ[ وأرادوا الدخول في ميثاق جديد وشروط جديدة، تمنح العلاقة الزوجية قوّةً وثباتاً وصلابة حتى لا تهتز بفعل الحالات الطارئة، كما حدث سابقاً، فإنَّ التجربة الصعبة قد أعطتهما درساً جديداً للمستقبل.

وقد نستوحي من الآية، أنَّ القضية لا تقتصر على التحذير من المنع، بل تتعداه إلى التشجيع على العودة، فإنَّ النهي عن شيء قد يختزن في داخله الدعوة إلى الأخذ بالخيار الآخر، باعتبار أنَّ اللّه يريد للإنسان أن يستفيد من تجربته؛ فيتراجع عن الخطأ الذي وقع فيه، لا سيما في مسألة الزواج والطلاق التي قد تكون لها علاقة بالحياة الروحية والعملية للزوجين، بحيث يتحوّل الطلاق إلى عقدة نفسية لدى أيّ واحد منهما، أو أزمة عملية، أو يؤدي إلى مشاكل صعبة في أوضاعهما الخاصة والعامة، أو يترك تأثيره على أولادهما الذين قد يتعرضون للضياع أو للتعقيد النفسي أو للسقوط في أوحال الجرائم الاجتماعية، ما يجعل من العودة إلى الحياة الزوجية ضرورةً نفسيةً وعمليةً.

وخلاصة النداء، أنَّ على هؤلاء أن لا يمنعوا المطلقات من العودة إلى أزواجهن من جديد بالعقد بعد العدّة إذا تراضوا بينهم بالمعروف، بل أن يتركوا لهن الحرية في ذلك، لأنَّ القضية هي قضيتهن الخاصة المتعلّقة بحياتهن الحاضرة والمستقبلة، فمن حقّهن أن يملكن الإرادة في ما يردن وما لا يردن.

* * *

الأخذ بموعظة اللّه أزكى وأطهر لمن يؤمن:

] ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[ وتلك هي موعظة اللّه لمن يخافون اللّه ويخافون حساب الآخرة، انطلاقاً من الإيمان باللّه واليوم الآخر الذي يدفع الإنسان إلى التفكير في الأمور من خلال الآفاق الرحبة التي تتجاوز الزوايا الضيقة التي تحاصره، فتضعه في دائرة معزولة عن الأفق الواسع. فإنَّ قيمة الإيمان باللّه، أنه يدفع الإنسان للتفكير بالأشياء من خلال ما يحبّه اللّه له في حياته، لأنه الأعلم بما يصلحه ويفسده. أمّا قيمة الإيمان باليوم الآخر، فتتمثّل في الرغبة في الحصول على ثواب اللّه والابتعاد عن عقابه، من خلال ما يأخذ به أو يترك من الأقوال والأعمال والمواقف والعلاقات.

] ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ[ فهو الذي يحقّق لكم التوازن النفسي والعملي، ويربطكم بالواقع الذي تتحرّكون فيه؛ لتنظروا إليه من خلال حركة النمو الروحي في وجدانكم بما يفتح لكم من الآفاق الواسعة التي تتحسس النتائج الإيجابية في الأمور من أكثر من موقع، ومن خلال الطهارة الفكرية والعملية التي تجعلكم تبتعدون عن كلّ قذارات الجاهلية في أنانياتها وعصبياتها وآفاقها الضيقة وعنفوانها الكاذب... ] وَاللَّهُ يَعْلَمُ[ كلّ أسرار الحياة الخفية الكامنة في الواقع الفردي والاجتماعي للنّاس، فيأمركم وينهاكم تبعاً لذلك. ] وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[ حقائق الأشياء، فتتحركون من خلال الحالة الانفعالية الضبابية التي تحجب عنكم وضوح الرؤية للأشياء، فتتخبطون في مشاكلكم من خلال الجهل الضاغط على حياتكم كلّها.

وبذلك يتحقّق لهم النمو والطهارة بشكل أفضل وأعلى، لأنَّ ذلك يحفظ للمجتمع شرفه وعفته وانسجامه مع خطّه المستقيم في الحياة، بينما يستلزم الضغط والمنع عن ممارسة الحقّ الطبيعي للإنسان في تقرير مصيره في الوقوع في الانحراف. فلا بُدَّ للإنسان من الالتزام بتوجيهات اللّه ووصاياه وتعاليمه، لأنه الذي يعلم مصلحة الإنسان أكثر مما يعلمها الإنسان نفسه.

* * *

الآية وحرية الاختيار عند المرأة:

وإذا كانت هذه الآية تتحدّث عن المنع من عضل النساء في العودة إلى أزواجهن من جديد، فإنَّ هذه المسألة ليست هي كلّ شيء في خطّ الفكرة، بل هي جزء من الخطّ العام الذي يمنح المرأة الحرية في الاختيار بما يتصل بحياتها الخاصة. فليس لأحد من أقربائها، ولا لأي شخص من رموز المجتمع، ولا للمجتمع نفسه، الحقّ في الضغط على حريتها في اختيار ما تريد، لأنها إنسان كامل في عقله، ومستقل في قراره، وحر في إدارة شؤونه الذاتية والمالية والاجتماعية... فلا سلطة لأحد عليه، إلاَّ بالحقّ المنفتح على شريعة اللّه في أوامره ونواهيه.

ــــــــــــــــ

(1) الدرّ المنثور، ج :1، ص:685.