الآية 234
الآيــــة
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (234).
* * *
معاني المفردات:
] يُتَوَفَّوْنَ[ : يموتون، بأن يتوفاهم اللّه ويقبض أرواحهم.
] وَيَذَرُونَ[ : يدعون ويتركون.
] أَجَلَهُنَّ[ : غاية الوقت في محل الدِّين ونحوه لتأخيره إلى ذلك الوقت. والآجل: نقيض العاجل لتأخره عن وقت غيره.
] خَبِيرٌ[ : الخبير: العالم بمَخْبر الخبر، وأصله: من السهولة. والخبار: الأرض السهلة. أخبرت بالشيء: فيه تسهيل لطريق العلم به.
* * *
عدّة الوفاة والتوازن العاطفي الاجتماعي:
في هذه الآية حديث عن عدّة الوفاة للمرأة التي يموت زوجها، فعليها الاعتداد أربعة أشهر وعشرة أيام، وعليها ـ في ما جاءت به الأحاديث ـ أن تجتنب عن كلّ مظاهر الزينة التي تدعو إلى الرغبة بها. فإذا انتهت العدّة، كان لها أن تتصرّف في حياتها بما تشاء في ما يصلح أمرها من شؤون العلاقة الزوجية الجديدة بالمعروف، الذي يبني لها مستقبلها على أساسٍ من المصلحة المرتكزة على حدود اللّه في ما يأمر به وينهى عنه. فإنَّ اللّه خبير بما يعمله النّاس في سرّهم وعلانيتهم، ما يدفع بهم إلى مراقبته في ذلك كلّه.
وهناك أحاديث فقهية، أثارها الفقهاء في أجواء هذه الآية حول شمول هذه العدّة للنساء مطلقاً في ما عدا الحامل. أمّا الحامل، فقد ذهب جمهور الفقهاء من أهل السنّة إلى أنَّ عدّتها وضع الحمل، انطلاقاً من الآية الكريمة: ] وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللّه يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً[ [الطلاق:4]. وذهب فقهاء الإمامية، إلى أنَّ عدّتها أبعد الأجلين من وضع الحمل ومن الأربعة أشهر وعشرة. فقد كانت المرأة الأرملة قبل الإسلام لا تمسّ طيباً حتى تمرّ بها سنة ثُمَّ تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير، فتقتض به فقلما تقتض بشيء إلاَّ مات. ثُمَّ تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثُمَّ تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره». والاقتضاض ـ بالقاف ـ هو: التمسح بها قيل: كانت تمسح به جلدها، قال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن الاقتضاض، فذكروا أنَّ المعتدة كانت لا تمسّ ماء ولا تقلم ظفراً ولا تزيل شعراً، ثُمَّ تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثُمَّ تقتض أي تكسر ما كانت فيه من العدّة بطائر تمسح به قُبُلَها، فلا يكاد يعيش ما تقتض به. انتهى، والمراد أنه يموت من نتنها.
فقد نجد في هذا وأمثاله كيف انطلق الإسلام بالتشريع ليراعي الجانب العاطفي والاجتماعي للمرأة دون أن يفقدها إنسانيتها من موقع الحرية في أن تمارس حقّها في الحزن بشكل طبيعي، كما تمارس حقّها في الممارسات الطبيعية للحياة بطريقة معقولة لا تتنكر لمظاهر الحزن ومشاعره... ثُمَّ أعطاها المجال الكبير لتصنع بنفسها ما تريد في الاقتران بإنسان آخر في ما تفرضه عليها الحاجة إلى الزواج، بعيداً عن كلّ التقاليد الظالمة التي تنكر عليها الزواج باسم الوفاء للزوج. فإنه لا معنى للوفاء في هذا المجال لإنسان تحوّل إلى عالم آخر، لا يفكر فيه بأي شيء يحدث في هذا العالم من سرور وحزن، أو لذة وألم... ولهذا فإنَّ للمرأة أن تتزوج بعد انتهاء العدّة من دون أن تشعر بأي تأنيب ضمير من وجهة نظر إنسانية إسلامية.
ولعلّ من الواجب على العاملين في الحقل الإسلامي أن يعمدوا إلى مواجهة هذه التقاليد التي درجت عليها بعض المجتمعات في منع الزوجة من الزواج بعد وفاة زوجها، وذلك من موقع الالتزام الأخلاقي، فيثيروا حولها الشجب والإنكار لتتغير إلى تقاليد إيجابية جديدة من خلال التشريع القرآن العادل.
وقد يجب علينا أن نبادر إلى مواجهة بعض مظاهر الحزن التي تفرض على المرأة من موقع التقاليد الاجتماعية، في ما يزيد على المقدار المتعارف الذي تقتضيه العاطفة الهادئة، وذلك باللجوء إلى صبغ الوجه بالسواد أو لطم الصدور، وما أشبه ذلك مما لا يرتضيه الإسلام، ويعتبره من مظاهر الجزع المحرّم الذي يريد للمرأة ـ حفظاً لكرامتها وإنسانيتها ـ أن لا تنسحق تحت وطأة الحزن المريض.
وقد كانت بعض الأمم تقضي بإحراق الزوجة الحية مع زوجها الميت ودفنها معه، وهناك من يحكم بعدم زواجها بعده إلى آخر عمرها.
* * *
بين التشريع ورقابة اللّه على الإنسان:
] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا[ من زوجاتهم الباقيات على قيد الحياة بعدهم، ] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[ . جاء في كتاب الكافي ـ عن الإمام أبي جعفر محمَّد الجواد(ع)، مما رواه محمَّد بن سليمان عنه، قال: قلت له: جعلت فداك، كيف صارت عدّة المطلقة ثلاثة حيضات أو ثلاثة أشهر، وصارت عدّة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً؟ فقال: أمّا عدّة المطلقة ثلاثة قروء، فلاستبراء الرحم من الولد، وأمّا عدّة المتوفى عنها زوجها، فإنَّ اللّه عزَّ وجلّ شرط للنساء شرطاً وشرط عليهن شرطاً، فلم يجابهن في ما شرط لهن ولم يجر في ما اشترط عليهن. شرط لهن في الإيلاء أربعة أشهر، إذ يقول اللّه عزَّ وجلّ: ] لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ[ [البقرة:226] فلم يجوِّز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء، لعلمه تبارك وتعالى أنه غاية صبر المرأة من الرّجل. وأمّا ما شرط عليهن، فإنه أمرها أن تعتد إذا مات عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً. فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه من حياته عند إيلائه، قال اللّه تبارك وتعالى: ] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[ ، ولم يذكر العشرة الأيام في العدّة إلاَّ مع الأربعة أشهر، وعلم أنَّ غاية صبر المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع، فمن ثَمَّ أوجبه عليها ولها[1].
] وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[ فهو المطلع عليكم في كلّ أعمالكم وأوضاعكم، فاتقوه في ذلك كلّه.
وهذه الملاحظة في الآية وفي غيرها من الآيات، وهي اختتام الجملة المتضمنة للتشريع بالتأكيد على رقابة اللّه على الإنسان من خلال خبرته المطلقة بكلّ خفاياه وقضاياه، تمثّل أسلوباً تربوياً في ربط المكلّف بالحكم الشرعي على أساس الوعي لموقعه من ربه وموقع ربه منه، حتى لا يكون التكليف مجرّد مادة قانونية جامدةٍ يتلقاها الإنسان بشكل عادي، بحيث لا تثير في نفسه أي معنى يربط الإلزام بالخطّ الإيماني الروحي المنفتح على إشراف اللّه عليه.
وقد يكون من الضروري أن ينطلق الدعاة والمبلغون للأخذ بهذا الأسلوب في نطاق التبليغ للأحكام الشرعية الإسلامية، والدعوة إلى الالتزام بها في حياة المسلمين.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الكافي، ج:6، ص:113، رواية:1.
تفسير القرآن