تفسير القرآن
البقرة / الآية 235

 الآية 235
 
الآيــــة

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ} (235).

* * *

معاني المفردات:

] عَرَّضْتُم[ : التعريض: ضدّ التصريح، وهو أن تضمن الكلام دلالة على ما تريد. وأصله: من العرض من الشيء الذي هو جانبه وناحية منه. وقيل: من عرض، جعله عريضاً، فهو ما توسع في دلالته فصار له وجهان: ظاهر وباطن. والفرق بين التعريض والكناية، أنَّ التعريض هو تضمين الكلام دلالة على شيء ليس فيه ذكر، والكناية العدول عن الذكر الأخص بالشيء إلى ذكر يدل عليه. فالأول كقول القائل: ما أقبح البخل، تعرض بأنَّ المخاطب بخيل، والثاني كقولك: كثير الرماد دليل على أنه سخيّ. والمراد به هنا، مثل قول القائل: عسى اللّه أن ييسر لي امرأة مثلك.

] خِطْبَةِ[ : الخطبة: طلب المرأة للتزوج، من الخطب. والمخاطب والتخاطب: المراجعة في الكلام. والخُطبة تختص بالموعظة، والخِطبة بطلب المرأة. وأصل الخِطبة: الحالة التي يكون عليها الإنسان إذا خطب، نحو الجِلسة والقِعدة.

] أَكْنَنتُمْ[ : أسررتم وأضمرتم في أنفسكم. والإكنان من الكن، بمعنى الستر، لكن يختص الإكنان بما يستر في النفس، والكنّ بما يستر ببيت أو ثوب وغير ذلك من الأجسام... ومنه قوله تعالى: ] كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ[ [الصافات:49].

] وَلاَ تَعْزِمُواْ[ : العزم: عقد القلب على أمر تفعله.

] عُقْدَةَ[ : العقدة: من العقد وهو الشدّ. والتعبير في الآية وارد على تشبيه عقد النكاح بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر، بحيث يصيران واحداً بالاتصال. وكأنَّ علاقة الزواج تصيّر الزوجين واحداً متصلاً.

* * *

الخطبة بين التعريض والتصريح:

في هذه الآية معالجة واقعية للموقف الشرعي أمام المرأة المطلّقة، التي قد يرغب بعض النّاس في الزواج منها، فربما تظهر هذه الرغبة على فلتات النفس في ما يعبّر به الإنسان عن إرادته المستقبلية للخطبة من أجل خلق جوّ طبيعي للعلاقة على أساس إبعاد الموانع والحواجز التي قد تحدث من خلال رغبةٍ أخرى لشخص آخر؛ وربما تبقى هذه الرغبة حديثاً مكتوماً في النفس، فليس في القضية أيُّ إثم ما دامت في الحدود الشرعية التي تبقي الموقف في نطاق المشاعر الداخلية أو الرغبة المستقبلية، بعيداً عن أجواء المواعدة السرية التي قد تفضي إلى أجواء حميمة تؤدي إلى الانحراف.

أمّا إذا كانت تتمثّل في القول المعروف، فلا جناح على الإنسان فيه. وتبقى القضية في نطاق الإعلان عن مشروع زواج، أمّا الزواج نفسه الذي عبّرت عنه الآية الشريفة بـ ] عُقْدَةَ النِّكَاحِ[ فلا يجوز للإنسان أن يحقّقه إلاَّ بعد بلوغ الكتاب أجله، وهو انتهاء مدّة العدّة، لأنه غير مشروع في أثنائها. ويأتي ختام الآية، ليثير في داخل الإنسان الشعور العميق برقابة اللّه الخفية، التي تطّلع على ما في النفس فترصده، وتتابع حركته في ما يحل وما يحرم مما يوجب على الإنسان الحذر من اللّه بالحذر من عقابه… ثُمَّ يوحي من جديد بأنَّ اللّه غفور رحيم إذا أخطأ العبد وتجاوز حدوده، ثُمَّ رجع إلى اللّه وتاب عليه، لأنه لا يترك الإنسان واقعاً تحت ضغط الخطيئة، لتعيش كعقدة متأصلة في نفسه، بل يريد له ـ دائماً ـ أن يتحرر منها بالشعور بزوالها عن حياته بزوالها من داخل ضميره. وهذا هو الأسلوب القرآني الحكيم الذي لا يريد أن يعقّد الإنسان أمام رغباته الذاتية في ما لا ضرر منه. ولذلك فقد أثار أمام الإنسان أن اللّه يعلم أنه سيذكرهن، فلا ينبغي له أن يشعر بالإثم من ذلك. ثُمَّ أكد عليه كيف يقف عند حدود اللّه في ما يعلم أن اللّه مطّلع عليه، في موقف يدعوه إلى الالتزام، ولكنَّه لا يغلق عليه باب المغفرة على تقدير الخطأ؛ واللّه العالم.

] وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ[ أي: لا حرج عليكم أيها الرجال ] فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَآءِ[ اللاتي تنفصلن عن أزواجهنّ بالطلاق في أوقات العدّة؛ وذلك بالحديث عن الرغبة بالزواج بهنّ، من ناحية المبدأ، بطريقة لا صراحة فيها في الدلالة على الفكرة، بل على سبيل التعريض الذي لا يحرج الموقف ولا يسيء إلى الجوّ؛ وذلك بالحديث عن صفاتها الحسنة التي تجعلها محل رغبة للرجال في اتخاذها زوجة، أو بالتنديد بقضية طلاق زوجها لها بأنَّ مثلها لا يمكن أن يستغني عنها الزوج الذي يريد أن يحقّق لنفسه السعادة في الحياة الزوجية، ونحو ذلك من الأساليب التي تتنوّع تبعاً للأوضاع وللظروف وللتقاليد الاجتماعية... ولا حرج عليكم في ذلك ] أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ[ وذلك بأن أضمرتم وأسررتم التخطيط لمشروع الزواج بعد العدّة، من خلال الرغبة الدفينة، فلم تظهروه لأحد، إذ لا فرق في الرخصة بين إضمار الرغبة في النفس أو التعبير عنها بأسلوب التعريض.

] عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ[ لأنَّ طبيعة أية حالة نفسية كامنة في الذات تفرض التعبير عنها بطريقة أو بأخرى، إذا كانت مرتبطة بحياة الإنسان في مستوى الأهمية الكبرى في أوضاعه الخاصة والعامة. ] وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا[ لأنَّ أجواء الاجتماعات السرية ـ على أساس المواعدة بينها وبينكم ـ قد يفسح المجال لبعض الوساوس الشيطانية التي تطوف في الخيال الغريزي. فإنَّ التقاء ذكر وأنثى في مثل ظروفهما، ربما يثير الرغبة الكامنة في النفس لدى الرّجل، والحرمان العميق في جسد المرأة، بانفصالها عن الفرصة التي كانت تهيىء لها إشباع غريزتها مع زوجها، فيؤدي إلى الانحراف والوقوع في المعصية.

وربما كان هذا هو مدلول الحديث الذي رواه أبو بصير، عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: هو الرّجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدّتها: أوعدك بيت أبي فلان أوعدك بيت فلان لترفث ويرفث معها[1]. فقد لا يكون الحديث المذكور إشارة إلى فعلية ذلك في سلوكهما العملي، بل ربما كان المقصود منه أداء الجوّ إلى ذلك.

] إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا[ فلا يتخلل الحديث أي كلام فحش، بما يتصل بالعملية الجنسية التي قد يتحدّث بها بعض الرجال مع بعض النساء، للتدليل على قدرته على إشباع المرأة بطريقة فريدة أو ما أشبه ذلك؛ بل يتحدّث معها عن صفاته الذاتية، وعن احترامه للحياة الزوجية وللمرأة، وعن أوضاعه المادية التي ترغبها في الارتباط به... بالمستوى الذي تشعر فيه بأنَّ الحياة معه قد تحقّق لها السعادة، فقد يكون من حقّها أن تتعرف طبيعة هذا الرّجل الذي يريد أن يتزوجها؛ وقد يكون من حقّه أن يسألها عن نفسها، وعن نظرتها إلى الحياة الزوجية، وعن طبيعة الظروف التي فرضت عليها الطلاق...

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: ] إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا[ قال: «يقول الرّجل للمرأة وهي في عدّتها: يا هذه، ما أحبّ لي ما أسرّك، ولو قد مضى عدّتك لا تفوتي إن شاء اللّه، فلا تسبقيني بنفسك»[2].

* * *

بين إباحة التعريض بالخطبة والعودة إلى الزوج الأول:

] وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ[ فلا بُدَّ من البقاء في حالة الانتظار التي تفرضها العدّة في تشريعها بالامتناع عن الزواج في مدّتها حتى تنقضي أيامها. فإذا بلغ الكتاب ـ وهو الفرض الإلهي الإلزامي بالتربص والامتناع عن الزواج ـ الأجل المضروب في العدّة، فلهما أن يتزوجا.

وقد يثار ـ أمام مدلول هذه الآية ـ سؤال: وهو أنَّ إباحة التعريض بالخطبة لذات العدّة قد يبعد الفرصة التي استهدفها التشريع في إيجاد الظروف الملائمة لعودة الزوجين إلى حياتهما الزوجية، باعتبار أنَّ العدّة تمثّل فرصة تدبّر وتفكير وإعادة النظر في العودة إلى الزواج من جديد، من خلال السلبيات التي يكتشفانها في تجربة الانفصال. فإذا أفسحنا المجال لإنسان جديد ليغري المرأة بتجربة جديدة، فقد لا تفكر في العودة إلى زوجها.

ويمكن الردّ على ذلك، بأنَّ هذه الفرصة الجديدة المطروحة أمام الزوجة قد تجعلها في الوضع الطبيعي المميّز، الذي تدخل فيه في مقارنة بين الزوج القديم والزوج المنتظر، فلا تسقط في حصار ظروفها الصعبة التي قد تفرض عليها العودة إلى زوجها الأول، لأنها تفقد الخيارات الأخرى. فإذا جاء الخيار الجديد، أعطاها الحرية في دراسة المسألة بدقة وانفتاح ومقارنة بين سلبيات العودة وإيجابياتها، من خلال المقارنة بين سلبيات الأول وإيجابياته. لأنَّ قصة العودة ليست مستحبة أو مرغوبة بقول مطلق، بل هي مطلوبة في نطاق النتائج الإيجابية التي يمكن اكتشافها في مدّة العدّة من قبل الزوجين. فإذا كان الأمر بالعكس، فعليهما الاستمرار في الانفصال حتى لا يواجها تجربةً جديدة فاشلة.

* * *

الحذر من اللّه العليم الخبير:

] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ[ من الدوافع التي تدفعكم إلى خطبة هذه المرأة، من استغلال ظروفها الصعبة، أو الرغبة في الحصول على أموالها ـ إذا كانت غنية ـ أو إبعاد الزوج السابق عن العودة إليها بفعل العداوة بينهما، أو للإضرار به أو بها، أو الوصول إلى بعض الغايات السيئة في الواقع الاجتماعي الذي قد يسيء إليها أو إلى أحدهما… أو غير ذلك من الدوافع الخيرة الطيبة المنطلقة من الرغبة فيها من خلال القناعة بصلاحيتها لإسعاده، وبقدرته على إسعادها وتخليصها من تعسف زوجها الأول، أو التقرّب إلى اللّه بذلك بلحاظ وجود بعض عناوين القربى في الموضوع. فلا بُدَّ لكم من أن تفحصوا ما في أنفسكم من خير أو شر أمام اللّه، الذي يعلم كلّ شيء ] فَاحْذَرُوهُ[ في كلّ خطواتكم، ولا تأمنوا مكره، ولا تستهينوا بعقابه؛ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ[ فهو الذي يغفر لكم إذا أخطأتم في هذا وغيره، وإذا تراجعتم عن الخطأ قبل أن يتحوّل إلى جريمة في حقّ الآخرين من الأبرياء؛ وهو الذي يحلم عنكم، حتى كأنه لا ذنب لكم في كلّ ما تتحرّكون فيه.

ـــــــــــــــــــ

(1) البحار، م:37، ج:101، ص:381، باب:119، رواية:34.

(2) البحار، م:37، ج:101، ص:381، باب:119، رواية:37.