تفسير القرآن
البقرة / الآية 236

 الآية 236
 
الآيــــة

{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلّقتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (236).

* * *

معاني المفردات:

] تَمَسُّوهُنَّ[ : أي: تجامعوهن. والمسّ: كناية عن الاتصال الجنسي بهن.

] وَمَتِّعُوهُنَّ[ : أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به في حاجاتهن كبديل عن المهر.

] الْمُوسِعِ[ : الذي يكون في سعة لغناه.

] الْمُقْتِرِ[ : الذي يكون في ضيق لفقره.

] قَدَرُهُ[ : المقدار الذي يطيقه.

* * *

وقوع الطلاق قبل المسّ:

ربما يتبادر إلى الوهم أنَّ الطلاق لا يكون قبل الدخول، على أساس أنَّ الزواج لا يكون كاملاً بدون الدخول. وقد يُظَنَّ أنه لا يتحقّق في صورة إغفال ذكر المهر في العقد، فنزلت هذه الآية لتدل على أنَّ ذلك لا علاقة له بالعلاقة الزوجية التي تتحقّق بالعقد. أمّا الدخول فإنه من نتائجها لا من مقوّماتها. وأمّا المهر، فهو تابع للشرط، ولا علاقة له بصحة العقد، فقد يصح العقد الخالي منه، وهذا ما يؤكد على أنَّ الجانب المالي لا يعتبر أساساً في الزواج، بل هو رمز محبة ومودّة، وعطيّة لا تخضع لطبيعة المعاوضة... ولكنَّ اللّه أراد للإنسان أن لا يُنهي العلاقة بالطلاق من دون أن يقدّم لها إمتاعاً مالياً بالمستوى المعروف بين النّاس بحسب حاله من الإقتار أو اليسار، كنوع من أنواع التعويض المعنوي. وهو أمر واجب ينطلق من موقع الحقّ الذي أراده اللّه منطلقاً من روح الإحسان الذي يتحرّك فيه الطلاق؛ وبهذا لا يتنافى جانب الإحسان مع جانب الوجوب. وهذا مختص بالطلاق قبل الدخول... أمّا إذا كان هناك دخول من دون فرض فريضةٍ، فإنَّ الحكم هو دفع مهر المثل كما ذكره الفقهاء.

] لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً[ ، لأنَّ العقد بين الزوجين هو الذي يحقّق العلاقة الزوجية بينهما، من خلال مدلوله الذي يجعل أحدهما مرتبطاً بالآخر من خلال التراضي بينهما، وليس للدخول وعدمه تأثير فيه، إيجاباً أو سلباً؛ فإنَّ الدخول متفرع على شرعية العقد وليس قيداً في الشرعية، كما أنَّ المهر لا علاقة له بصحته، كما في المعاوضات المالية التي لا تصح إلاَّ مع ذكر العوض، فلا يصح البيع بلا ثمن، والإجارة بدون أجرة… فإنَّ الزواج يمثّل ارتباطاً بين شخصين من خلال إرادتهما الحرة القائمة على التراضي، بحيث يعطي كلّ منهما الآخر من نفسه، في مقابل ما يعطيه الآخر من نفسه في نطاق الدائرة التي يملك فيها أحدهما الآخر من خلال الحقوق المفروضة بالعقد أو بالشرط؛ فلا علاقة للمال في الموضوع، ولذلك عبّر اللّه عن المهر بأنه «نحلة»، وهي العطية من دون مقابل في قوله تعالى: ] وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً[ [النساء:4]. وإذا كان قد عُبّر عنه في بعض الآيات بالأجر، فإنها واردة على سبيل المجاز أو المسامحة، من حيث إيحاء الجانب الشكلي بذلك عندما يذكر في المهر أو يتحقّق الاستمتاع بالمرأة.

وفي ضوء ذلك، لا مانع من الطلاق حتى في حالة عدم المواقعة وعدم فرض المهر، لأنه يتضمن فسخ العقد الذي شرع العلاقة في الواقع، ] وَمَتِّعُوهُنَّ[ أي: أعطوهن من مالكم ما يفتح قلوبهن، ويوحي إليهن بالمحبة، تماماً كما هي الهدية التي يقدّمها الإنسان للإنسان تدليلاً على اهتمامه به، فلا يشعرن بأنَّ هذه العلاقة التي بدأت من موقع الإخلاص للأشخاص الذين ارتبطن بهم، ولذلك لم يشترط المهر في العقد، فأقدمن على زواج لا مهر فيه، سوف تنتهي من دون أن يقدّم لهن هؤلاء الرجال أي شيء يوحي بعرفان الجميل، ولو كان ذلك بشكل رمزي.

وهكذا أراد اللّه لهذه العلاقة أن تنتهي بمبادرة إنسانية، يقدّمها الزوج لزوجته بعد الطلاق كهدية يمتعها بها روحياً ومادياً، بحسب الحجم المادي للزوج، ] عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ[ فيعطي بالكمية التي تتناسب مع إمكاناته المادية الجيّدة، ] مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ[ ، فتكون المتعة رمزية في دلالتها على الاهتمام بها تبعاً لحاله، ] حَقًّا[ مفروضاً ] عَلَى الْمُحْسِنِينَ[ الذين عاشوا الإحسان في حياتهم، فهم يتحرّكون من موقع الإحسان الذي يتقرّبون به إلى اللّه في علاقتهم بعباده بما ألزمهم اللّه به أو استحبه لهم من ذلك كلّه.