الآية 240
الآيــــة
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (240).
* * *
وصية الزوج لزوجته:
كانت النساء في الجاهلية يقعدن حولاً كاملاً بعد وفاة أزواجهن، وربما كان هذا هو السرّ في تعريف الحول، باعتبار أنه من الأمور المعروفة لديهم؛ فجاءت هذه الآية لتوصي الأزواج بأن يتركوا لهن ـ على سبيل الوصية ـ ما يقوم بشؤونهن من النفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك... من أجل إعانتهن على الاستمرار في العدّة من دون جهد ومشقة. فإذا خرجن بإرادتهن طوعاً، فلا حقّ لهن بعد ذلك ] فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ[ لأنَّ ذلك بمثابة إسقاط لحقّ... وقد ذكر في مجمع البيان أنَّ العلماء اتفقوا على أنَّ الآية منسوخة بآية الربع والثمن، وبآية تحديد العدّة بأربعة أشهر وعشرا[1].
وروي عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق(ع) «كان الرّجل إذا مات، أنفق على امرأته من صلب المال حولاً، ثُمَّ أخرجت بلا ميراث، ثُمَّ نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة يُنفق عليها من نصيبها»[2].
] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ[ أي الذين يكونون على مشارف الموت[3]، بقرينة توجيه الخطاب إليهم بالتكليف بالوصية ] وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً[ من بعدهم، فعليهم أن لا يهملوهن بتركهن بدون مال يستعنَّ به على إدارة أمورهن وقضاء حاجاتهن، بل لا بُدَّ لهم من التفكير بهن من بعدهم بتخصيص مقدار من المال، ] وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ[ مما ينتفعن به من النفقة والكسوة والسكنى، حتى يتدبرن أمرهن ريثما يتخففن من ثقل الواقع الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع عليهن من الإقامة سنة، بدون زواج، أو في دائرة احترام ذكرى الزوج.
] غَيْرَ إِخْرَاجٍ[ فلهن الحقّ بالبقاء في بيوت أزواجهن، ] فَإِنْ خَرَجْنَ[ واخترن الحرية في المسكن وغيره، ليمارسن حياتهن بعيداً عن أجواء أهل الميت، ] فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ[ والظاهر أنَّ الخطاب لأهل الميت، أو هو كناية عن أنه لا حقّ للميت في بقائها في البيت من بعده. فليس لأحد حقّ التدخل في قرارهن ولذلك فلا مسؤولية على أي إنسان، بقدر ما يتعلّق الأمر به، في خروجهن وتصرفهن في أنفسهن ما دمن يتحرّكن في دائرة المعروف ولا يبتعدن عن خطّ الشرع.
وقد اختلف المفسرون في متعلّق رفع الجناح، فقال بعضهم إنه قطع النفقة والسكنى؛ وهذا ما ذهب إليه الحسن والذي قال ـ على ما نقله صاحب المجمع ـ وهذا دليل على سقوط النفقة بالخروج، وإنَّ ذلك كان واجباً لهن بالإقامة إلى الحول. فإن خرجن قبله، بطل الحقّ الذي وجب لهن بالإقامة. وقال بعضهم لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأنَّ مقامها سنة في البيت غير واجب، ولكن قد خيّرها اللّه في ذلك، عن الجبائي. وقيل: لا جناح عليكم إن تزوجن بعد انقضاء العدّة. وهذا ما اختاره الطبرسي، فقال: وهذا أوجه، وتقديره إذا خرجن من العدّة بانقضاء السنة، فلا جناح إن تزوجن. وقوله: ] مِن مَّعْرُوفٍ[ يعني طلب النكاح والتزين[4].
* * *
مع تفسير الأمثل:
وقد ذهب بعض المفسّرين المتأخرين إلى أنَّ الآية متعرضة لدفع نفقات المعيشة لمدّة سنة، باعتبار أنه من حقوق المرأة على ورثة زوجها. فإذا رفضته مختارةً، ولم تبقَ في بيت زوجها المتوفى، فلم تعد هناك مسؤولية على أحد، ولها أن تتزوج.
ويتابع هذا المفسّر فيقول: إنَّ هذا المعنى لا يستوجب نسخاً، لأنَّ هذه الآية تقول بأنَّ مدّة العدّة سنة كاملة بشرط الاستفادة من النفقة والمسكن في تلك المدّة، كما أعطيت المرأة الحقّ إن شاءت أن تبقى في بيت الزوج، وأن تأخذ النفقة حسب وصية الزوج مدّة سنة وفاته. أمّا إذا لم ترغب في ذلك، فلها بعد أربعة أشهر وعشرة أيام أن تخرج من بيت زوجها وتتزوج من جديد، وبخروجها من بيت زوجها المتوفى، تنقطع عنها النفقة.
إنَّ فترة الأربعة أشهر وعشرة أيام عدّةٌ إلزامية لا تتأثر برغبة المرأة، ولكن إدامتها حتى نهاية السنة حقّ من حقوق المرأة، ولها أن تستفيد منه بالبقاء في بيت الزواج والحصول على نفقةٍ، أو أن تترك بيت زوجها وتتزوج ثانية[5].
ونلاحظ على هذا الرأي أنَّ هذه الآية اقتصرت في حديثها على وصية الزوج لزوجته بالنفقة والسكنى بعد موته لمدّة سنة حقاً على أولياء الميت وورثته، من خلال ما تركه من مال ومسكن، من دون أن تتحدّث عن أي حقّ لهم في بقائها وخروجها من المنزل. فالأساس في القضية هو أن لا يخرجوها، ولذلك كانت مسألة خروجها أمراً متعلّقاً بها في أي وقت شاءت؛ فلها أن تختار الخروج بعد موته مباشرة أو قبل انتهاء الحول بمدّة قليلة أو كثيرة، ولذلك تحدّثت عن نفي مسؤوليتهم عنها في أي شأن من شؤونها، فهم لا يملكون أي وضع خاص أو عام للسيطرة عليها، فمن أين جاءت مسألة اشتراط تحديد العدّة بالسنة باختيارها البقاء في البيت، واعتبار الأربعة أشهر وعشرة أيام مشروطة بعدم رغبتها بالبقاء؟ ثُمَّ الحديث عن اشتراط خروجها من البيت بمضيّ الأربعة أشهر وعشرة أيام، فإنَّ بقاء المرأة في بيت زوجها في العدّة رخصة لا عزيمة. ثُمَّ إنَّ الحديث عن عدّتين في التشريع مختلفتين في الشرط ـ وجوداً وعدماً ـ أمر غريب عن الجوّ الشرعي الفقهي والتفسيري. فلم يعهد من أحد من الفقهاء أو المفسّرين أنه التزم بدوران عدّة المتوفى عنها زوجها بين مدّتين، تبعاً لاختيار الزوجة وبقاء هذا الحكم حتى الآن، لأنَّ هذا المفسّر يرى أنَّ هذا المعنى يخرج الآية عن فرضية النسخ.
وقد جاءت الرِّواية عن الإمام جعفر الصادق (ع) عن ابن أبي عمر، عن معاوية بن عمّار قال سألته عن قول اللّه: ] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ[ ؟ قال: منسوخة، نسختها آية: ] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[ ونسختها آية الميراث[6].
ــــــــــــــــ
(1) انظر: مجمع البيان، ج:2، ص:602.
(2) البحار، م:37، ج:101، ص:382، باب:119، رواية:40.
(3) ربما توحي الرواية الواردة في سبب النـزول بأن الخطاب لأولياء الميت الذي مات من دون وصية، فقد أخرج إسحاق بن راهويه عن مقاتل بن حيان: "أن رجلاً من أهل الطائف قدم المدينة، وله أولاد ورجال ونساء، ومعه أبواه وامرأته، فمات بالمدينة، فرفع ذلك للنبي(ص) فأعطى الوالدين، وأعطى أولاده بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئاً، غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول، وفيه نزلت: {والذين يُتوفّون منكم ويذرون أزواجاً} الآية". [الدر المنثور، ج :1، ص: 739]. وفي ضوء ذلك يكون المراد بالوصية من الله لا من الزوج، فتكون تكليفاً موجهاً لأولياء الميت في قيامهم بحق الزوجة في النفقة والمسكن إلى الحول، وهو غير مقيد، لأن القرآن قد عبّر عن الفريضة الإلهية بأسلوب الوصية، كما في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء:11]، ولكن الرواية غير معتمدة من حيث السند، فلا يرفع إليها عن الظهور الأولى لأجلها.
(4) انظر: مجمع البيان، ج:2، ص:602.
(5) انظر: تفسير الأمثل، ج:1، ص:134ـ136.
(6) البحار، م:37، ج:101، ص:381، باب:119، رواية:39.
تفسير القرآن