تفسير القرآن
البقرة / من الآية 243 إلى الآية 244

 من الآية 243 الى الآية 244

الآيتــان

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاس وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لاَ يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (243ـ244).

* * *

معاني المفردات:

] أَلَمْ تَرَ[ : ألم تعلم. فالرؤية هنا بمعنى العلم. عبّر بذلك لدعوى ظهوره، بحيث يعد العلم فيه رؤية، وأصله: ألم ترأ، وأسقطت الهمزة للتخفيف.

قال الزمخشري: ويجوز أن يخاطب به من لم يرَ ولم يسمع، لأنَّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التّعجب.

] أُلُوفٌ[ : ألوف كثيرة العدد.

* * *

مناسبة النزول:

يذكر المفسّرون لهذه الآية، قصة من قصص الأمم السالفة، ففي الكافي في ما رواه ـ بسند ضعيف ـ عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق (ع) ـ وعن أبيه أبي جعفر محمَّد الباقر (ع) في قول اللّه تعالى: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ[ ، فقال: إنَّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام، وكانوا سبعين ألف بيت، وكان الطاعون يقع فيهم في كلّ أوان. فكانوا إذا أحسّوا به، خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم، وبقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ويقلّ في الذين خرجوا. فيقول الذين خرجوا: لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت، ويقول الذين أقاموا: لو كنا خرجنا لقلّ فينا الموت. قال: فاجتمع رأيهم جميعاً، أنه إذا وقع الطاعون فيهم وأحسّوا به، خرجوا كلّهم من المدينة. فلمّا أحسّوا بالطاعون، خرجوا جميعاً، وتنحوا عن الطاعون حذر الموت؛ فساروا في البلاد ما شاء اللّه.

ثُمَّ إنهم مروا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها وأفناهم الطاعون، فنزلوا بها. فلمّا حطوا رحالهم واطمأنوا بها، قال لهم اللّه عزَّ وجلّ: موتوا جميعاً. فماتوا من ساعتهم، وصاروا رميماً يلوح. وكانوا على طريق المارة، فكنستهم المارة فنحوهم وجمعوهم في موضع. فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، يُقال له حزقيل، فلمّا رأى تلك العظام بكى واستعبر وقال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتّهم، فعمروا بلادك، وولدوا عبادك، وعبدوك مع من يعبدك من خلقك. فأوحى اللّه إليه: أفتحبّ ذلك؟ قال: نعم يا ربّ، فأحيهم. قال: فأوحى اللّه عزَّ وجلّ إليه أن قل كذا وكذا. فقال الذي أمره اللّه عزَّ وجلّ أن يقوله ـ فقال أبو عبد اللّه (ع)، وهو الاسم الأعظم ـ، فلمّا قال حزقيل ذلك الكلام، نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض، فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض، يسبّحون اللّه عزَّ ذكره، ويكبرونه ويهللونه. فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أنَّ اللّه على كلّ شيء قدير[1].

وقد أورد الطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور عدّة روايات تشبه هذه الرِّواية، مع بعض الاختلاف في التفاصيل[2]. وقد ذكر بعض المفسّرين أنَّ الآية واردة مورد المثل. وحاول بعضهم أن يوجه الحياة والموت إلى الجانب المعنوي منهما بما يقرب من العزّ المتمثّل في مواجهة الأعداء، والذل الذي يتمثّل في الوقوع تحت سيطرتهم. واعتبر الأحاديث الواردة في هذا الباب من الإسرائيليات التي لا يعتمد عليها في تفسير القرآن أو في تقرير أية حقيقة من حقائق الإسلام... ونحن لا نريد أن نتوقف طويلاً أمام هذه الرِّوايات لنحقّق صحة سندها وضعفه، ولنجمع بينها في ما تتفق فيه، ولنعالجها في ما تختلف فيه، لأنَّ ذلك كلّه لا يقدّم شيئاً ولا يؤخر في ما نحن بصدده من فهم معنى الآية واستيحائها.

* * *

الأمّة والتحدّيات: بين الهروب والمواجهة:

] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ[ ... فإنها تحدّثنا عن جماعة من النّاس خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت، دون أن تعرّفنا ظروف هذا الخوف، هل هو العدو المتربص بهم، أو هو المرض الذي يوشك أن يحل بهم أو هو شيء آخر... ولم يرضَ اللّه لهم بهذا الخروج، لأنَّ ذلك لن يحل لهم المشكلة، فللموت أسباب كثيرة تنتظر النّاس في الطريق. فإذا هربوا من سبب التقوا بسبب آخر، فكأنَّ اللّه يريد لهم أن يواجهوا الموقف من موقع الصمود الواعي الذي يتعامل مع الحياة والموت بإرادة واعية، لا تبتعد عن الواقع عندما تقترب من الإيمان... فأماتهم اللّه جميعاً ] فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُواْ[ ، ليعرّفهم أنَّ الموت بيده، فهو الذي يحدّد وقته من خلال حكمته في الكون بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد يأتي الموت للإنسان من حيث لا يحتسب، وقد يتركه من حيث يرى أنه قادم إليه.

] ثُمَّ أَحْيَاهُمْ[ بما يملكه من القدرة على الإحياء، لأنه مالك الحياة والموت، ليأخذوا العبرة من ذلك في ما يستقبلون من حياة جديدة، فلا يهربون من الموت عندما تدعوهم المسؤولية إلى مواجهة الخطر الذي يقترب بهم من الموت، بل يُقبلون عليه إقبال الإنسان الواثق بأنَّ قضية الحياة والموت بيد اللّه، ولا رادّ لقضاء اللّه تماماً كما هو وحي الآية الكريمة في قوله تعالى:

] يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ[ [آل عمران:154].

وقوله تعالى في آية أخرى:

] وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه كِتَـباً مُّؤَجَّلاً[ [آل عمران:145].

وهكذا كانت الآية تعبّر عن صورة من صور الواقع بما توحيه من حكاية التاريخ في مدلولها اللفظي. وربما كان قوله تعالى لهم: ] مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ[ ، دلالة واضحة على أنَّ للقضية وجهاً مادياً في ما تعنيه كلمة الحياة والموت، لا سيما بعد حديثه عنهم بأنهم خرجوا من بيوتهم حذر الموت. فكأنه أراد أن يأخذهم بعكس ما قصدوه، فقد فكروا بأنَّ الخروج يحقّق لهم النجاة من الموت، فإذا به يلقيهم في منتصف الطريق.

وفي هذا الجوّ، نفهم من الإحياء بعد ذلك معنى يلتقي بالعبرة التي أراد اللّه لهم أن يأخذوها من ذلك كلّه. ولعلّ في ابتداء الآية بكلمة ] أَلَمْ تَرَ[ ما يوحي بأنَّ القصة كانت معروفة بشكل واضح، أو هكذا تريد الآية أن توحي، ما يؤكد الطبيعة الواقعية للقصة. ولهذا كلّه، فإننا نتحفظ بشدّة في تأويل كلمات الآية إلى غير ما هو ظاهر من معناها اللغوي، لا لأننا نرفض الاستعمالات المجازية في القرآن، بل لأنَّ جوّ الآية لا يسمح بذلك... ولكن هذا لا يمنع من أن يستوحي القارىء للقرآن من هذه الآية المعاني الكبيرة التي تربط النّاس بالفكرة.

* * *

اتجاهان متعاكسان في التفسير:

وقد يكون من المناسب ـ في هذا السياق ـ أن نشير إلى قضية حيوية في التفسير القرآني المشتمل على قصص التاريخ في ما يتحدّث لنا به عن الأمم السابقة التي عاشت في إطار النبوّات وفي غيرها... وهي أنَّ البعض يحاول أن يندفع إلى الأخذ بكلّ أقاصيص الرواة، من دون تمييز بين الصحيح والفاسد منها، ولا بين المعقول وغير المعقول، ولا بين الموضوع وغير الموضوع... لأنه يعتقد أنَّ مجال ذلك هو الأحكام الشرعية التي تتمثّل بالحلال والحرام، فلا بُدَّ فيها من التدقيق في الرِّوايات من خلال سند الرواية ومضمونها، لئلا نحكم بحلية ما حرّمه اللّه، أو بحرمة ما أحله اللّه، فنستحق بذلك عقاب اللّه عندما ننسب إلى اللّه ورسوله شيئاً لم يقله أو لم يشرعه.

أمّا الأقاصيص، فإنها لا تمثّل أي جانب سلبي من هذه الجهة، لأنها مما لا يترتب عليها أي أثر في الشرع وفي الحياة، كما في هذه القصة التي رواها المفسّرون في تفسير هذه الآية، فما الذي يترتب من الأثر السلبي على مثل هذا التفسير ـ سواء أكان خطأً أم كان صواباً ـ فالفكرة هي الفكرة من حيث العبرة والإيحاء، فلا ضرورة للتدقيق والأخذ والردّ من المناقشات، التي قد ترد في هذا الباب.

وهناك من يحاول أن يقف في الخطّ المعاكس لهذا الاتجاه، فيرى أنَّ علينا أن نثير الكثير الكثير من علامات الاستفهام أمام ما ورد من روايات القصص القرآني في التفسير، لأنَّ الإسرائيليات قد اقتحمت علينا الساحة بما أثاره الرواة الذين تتلمذوا على كعب الأحبار ووهب بن منبه، من قضايا أراد اليهود أن يدخلوها في الفكر الإسلامي في ما يتصوّرونه للحياة والتشريع والتاريخ من تصوّرات لا تتفق مع المفاهيم الأصيلة للتصوّر الإسلامي الصحيح...

ولذلك، فإنَّ علينا أن نواجه الموقف بطريقة الرصد الواعي لكلّ رواية نحتمل فيها السير في هذا الاتجاه ولو من بعيد. وقد يؤكد هذا البعض على رفض الرِّوايات التي تدخل عنصر الغيب في القصص والأحداث؛ فتكثر من ربط الحياة بالغيب، من خلال التفسير الغيبي للمفاهيم القرآنية التي لا تبتعد كثيراً عن الواقع في طبيعتها الواقعية الأصيلة... وقد يحاول مثل هؤلاء أن يفسّروا هذه الغيبيات تفسيراً مادياً خالصاً، لأنهم يستبعدون الغيب كفكرة، وإن كانوا لا يكفرون به كعقيدة؛ وبذلك اعتبروا كثيراً من التعابير القرآنية أدباً رمزياً يعتمد على الرمز في ما يريده، ولا يرتكز على الوضوح والبيان...

أمّا نحن، فنقف موقفاً وسطاً بين هذين الاتجاهين؛ فلا نوافق الاتجاه الأول في الأخذ بكلّ الأقاصيص والتخفيف من خطورة السلبيات الناشئة من الأقاصيص التي قد تكون مكذوبة، لأنَّ ذلك يمثّل مسؤولية شرعية في القول في القرآن بغير علم، بل ربما كان ذلك أعظم إثماً من تفسير القرآن بالرأي الذي رفضته الأحاديث الشريفة المتواترة. وثانياً، إنَّ طبيعة التصوّر الذي تحدثه القصة في النفس يخلق لدى الإنسان مفهوماً معيناً من خلال القصة، الأمر الذي قد يترك تأثيرات سلبية على طبيعة الممارسة العملية لكثير من قضايا الواقع والحياة. ولعلّ الأثر الذي تحدثه القصة في تربية المفاهيم السلبية أو الإيجابية في عمق الشخصية، أكثر من الأثر الذي يحصل من خلال أسلوب فكري أو تحليلي مجرّد، وهذا ما نعرفه في مهمّة الأسلوب القصصي في التربية العامة والخاصة.

وفي ضوء ذلك، فإننا نؤكد على ضرورة التدقيق في سند القصة التفسيرية ومضمونها، من أجل أن نعرف صحيح الحديث من فاسده على أساس الموازين العلمية الصحيحة؛ فلا نأخذ بحديث إلاَّ بعد أن تثبت لنا صحته وواقعيته وأصالته، وبهذا نستطيع أن نكتشف زيف الإسرائيليات الموضوعة التي لا أساس لها في كتب اللّه ورسالاته. وقد نتعرف في بعض هذه الإسرائيليات التي رواها علماء اليهود، ما قد يكون صحيحاً في فكرته وأسلوبه، لأنَّ وجود الوضع والدس والافتراء لا يعني أنه يمثّل ظاهرة شاملة في كلّ هذه الأحاديث.

أمّا وجود الغيب في بعض القصص والأحاديث، فلا يكون دليلاً على الضعف، لأننا لا نستطيع أن نمنع ما في الغيب من أصالة الإيمان والحقيقة، فإنَّ الإيمان بالغيب عقيدة إسلامية إيمانية أصيلة. ولكنَّنا لا نوافق ـ في الوقت نفسه ـ على أنَّ الغيب ظاهرة شاملة في كلّ الواقع، فإنَّ اللّه قد أقام الحياة على أساس القوانين الطبيعية المودعة في الكون، وأراد منا أن نفهم الحياة من خلالها، من خلال ربط المسببات بأسبابها، مع إعطاء فسحة للغيب في بعض المجالات.

ولهذا فإننا قد نقبل التفسير الغيبي في بعض الموارد التي لا نجد لها أساساً معقولاً للتفسير الطبيعي للأشياء؛ ونتحفظ في بعض الموارد التي نجد لها أسساً واقعية تربط القضية بالقوانين الطبيعية للأشياء؛ فنستبعد الجانب الغيبي، لأنه لا يقدّم لنا تبريراً لإنكار السبب الواقعي واستبداله بالسبب الغيبي، من دون أن يضر ذلك بقضية الإيمان بالغيب، لأنه لا يرفض الغيب كعقيدة تعيش في الحياة وفي الإيمان، ولكنَّه يتحفظ فيه كظاهرة شاملة ترفض الأسباب الواقعية للأشياء.

* * *

القتال في طريق الحياة:

] وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ . وهذا نداء للمؤمنين، بالاندفاع في مواجهة الموت، وعدم الخوف منه بالتراجع عن المسؤوليات الجهادية التي تفرض عليهم القتال في سبيل اللّه، فإنَّ ذلك هو ما يحقّق لهم سبيل الحياة القويمة الحرة الكريمة. فإننا نستوحي، من ذكر هذه الآية، بعد القصة المتقدّمة التي خرج أشخاصها من ديارهم حذر الموت فماتوا ثُمَّ أحياهم اللّه، أنَّ الأمّة التي تفر من الموت لتفرض على نفسها الهزيمة لا تستطيع تفادي الموت، وأنَّ الأمّة التي تموت في خطّ العزّة والجهاد قد يعيدها ذلك إلى الحياة.

وهو إعلان لهم بأنَّ اللّه يسمع كلّ ما يفيضون به من حديث في ما يتحرّكون فيه من الإقبال على الجهاد أو الإدبار عنه، ويعلم كلّ ما يضمرونه وما يعملونه من طاعة ومعصية. وفي هذا التأكيد على هاتين الصفتين من صفات اللّه، إيحاءٌ بالرقابة الشاملة للّه على الإنسان في كلّ ما يضمره أو يقوله وما يفعله، ليتعمق في داخله الشعور بالانضباط الواعي أمام مسؤولياته.

ـــــــــــــــــ

(1) الكافي، ج:8، ص:198، باب:8، رواية:237.

(2) انظر: تفسير الطبري، ج:2، ص:792ـ800، والدر المنثور، ج:1، ص:741ـ743.