تفسير القرآن
البقرة / من الآية 246 إلى الآية 252

 الآية 246-252

الآيــات

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللّه كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّه وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّه الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (246ـ252).

* * *

معاني المفردات:

] الْمَلأ[ : أشراف القوم ووجوههم، سموا بذلك لأنهم يملأون العيون رواءً ومنظراً، والنفوس بهاءً وجلالاً.

] بَسْطَةً[ : سعة، من بسط الشيء: نشره وتوسّعه وامتداده.

] التَّابُوتُ[ : روي أنه الصندوق الذي أنزله اللّه على أم موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر، وقد وضع فيه موسى الألواح ودرعه، وما كان عنده من آثار النبوّة.

] سَكِينَةٌ[ : السكينة: الهدوء وطمأنينة القلب. وأصله: السكون الذي هو ثبوت الشيء بعد تحرّك.

] دَفْعُ اللّه[ : الدفع: الردّ بقوّة. وهو ـ هنا ـ بمعنى قانون الصراع التاريخي في حركة المجتمعات.

* * *

قصة طالوت وجالوت: درس في الثبات والنكوص:

وهذه قصة أخرى من القصص القرآني، الذي أريد به التأكيد على بعض المفاهيم التربوية العامة في الحياة العملية للإنسان، وقد أفاض المفسّرون فيها بما رووه من التفاصيل المتعلّقة بالأشخاص والأحداث والأشياء. ولكنَّنا نتبع الأسلوب القرآني في طريقة تناولنا للقصة، فنجمل في ما أجمل ونفصل في ما فصّل فيه الحديث، لأنَّ القضية في هذه القصة ـ وفي غيرها من القصص ـ هي قضية الفكرة التي توحي بالهدف، لا السرد الذي يدفع إلى أجواء الملهاة، فلا بُدَّ من أن نتناول منها الإنسان النموذج والحدث النموذج، في ما نتناوله من تفاصيلها...

إنها قصة نبيّ من أنبياء بني إسرائيل مع قومه، ولا يهمنا معرفة اسمه، لأنَّ ذلك لا قيمة له في ما نحن بصدده من الانفتاح على الفكرة التي نريد أن نخرج بها من الحوار القصصي في هذه القصة القرآنية.

] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى[ الذين كانوا يشعرون بالفراغ في جانب الواقع الاجتماعي من حولهم، فقد ابتعدوا عن حركة الصراع، وأصبحوا على هامش مواقع القوّة في النّاس، لأنَّ الذي يربح الموقع المتقدّم، هو الذي يقاتل الآخرين الذين يملكون السيطرة الكبيرة بين النّاس، فيفرضون كلمتهم ورأيهم وسلطتهم على الفئات المستضعفة في المجتمع ـ كما هو واقعهم آنذاك ـ ولهذا جاؤوا إلى نبيهم الذي أرسله اللّه إليهم ـ في سلسلة النبوات الرسالية ـ ليتحدّثوا معه حول المستقبل الذي يتطلّعون إليه في حركة القوّة كأصحاب رسالةٍ مفتوحةٍ على قضايا الإنسان والحياة. فقد انطلقت التوراة في عهد موسى، لتكون قاعدة للتشريع والحكمة والحركة والقوّة، ما يجعل القائمين عليها في موقع الامتياز الكبير على المستوى المادي والروحي.

] إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ[ اختلف المفسّرون في اسمه، فقال بعضهم: إنه صموئيل وهو بالعربية إسماعيل، وقيل شمعون، وقيل يوشع وغير ذلك مما لا جدوى من الحديث فيه. ] ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه[ . وقد جاء عن الإمام الصادق (ع) ـ كما في المجمع ـ كان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود، والنبيّ يقيم له أمره ويثبته بالخير من عند ربه[1]. ولعلّ هذا ما دعاهم إلى طلب تعيين الملك، لأنَّ النبيّ لم يكن في هذا الموقع من الناحية الفعلية. وقد أعطوا حركتهم المبتغاة عنوان القتال في سبيل اللّه، لأنَّ هذا العنوان هو الذي يمنح الصراع قدسيته ويخرجه من ماديته إلى عنوان الروح، وهو الذي يستثير النفوس ويحوّلها إلى طاقة عظيمة منفتحة على الإيمان باللّه ومنطلقة في سبيله، فكأنها تؤدي واجباً دينياً في الحرب الدفاعية، لا حاجة ذاتية في الواقع.

إنَّ الظاهر ـ في هذه المرحلة أو في ما قبلها من مراحل النبوّة في بني إسرائيل ـ هو توزيع الأدوار بين النبوّة والملك، فللنبيّ دور التوجيه والتربية والدعوة إلى اللّه والإشراف على تعيين المراكز القيادية، وللملك دور الحرب والقتال والممارسة العملية للقيادة. ولهذا لم يطلب هؤلاء القوم من نبيّهم أن يقودهم للقتال، كما هو الحال في الإسلام عندما كان النبيّ(ص) أو الإمام هو الذي يقود الجيوش في المعارك الكبيرة، بل طلبوا منه أن يعيّن لهم ملكاً، يشعر الجميع بأنَّ له حقّ الأمر، ليكون عليهم حقّ الطاعة.

] قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ[ وكان هذا النبيّ في شك من جدية هذا الطلب، فقال لهم: إنه يخشى أن لا يستجيبوا للقتال إذا فرضه اللّه عليهم، ] قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه[ فأعلنوا ـ في جوابهم له ـ تصميمهم على القتال ] وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا[ انطلاقاً من واقع الاضطهاد الذي تعرّضوا له، من إخراج الظالمين لهم من ديارهم وأهاليهم، ما يجعل من قضية القتال قضية ترتبط بالذات من جهة، وبالعقيدة من جهة أخرى. ] فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[ الذين ينكصون عهدهم...

وبدأت التجربة: ] وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا[ فقد عيّن النبيّ القائد، وأوضح لهم أنَّ التعيين من اللّه لا منه، ] قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا[ ولم يخفوا اعتراضهم على ذلك، لما يحسبونه أساساً للملك أو للقيادة، ] وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ[ وهي القدرة المالية الواسعة التي لا يملكها هذا القائد المعين، في الوقت الذي كانوا يأملون أن يكون القائد أحدهم، لأنهم يرون أنفسهم حائزين على هذا الامتياز، ما يجعلهم أحقّ منه بالملك.

] قَالَ إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ[ ووقف النبيّ ليشرح لهم أنَّ المال لا يمثّل قيمة مميّزة في الملك القائد، لأنَّ القيادة تحتاج إلى قوّة يقاتل بها، وعلمٍ يخطط به خطط الحرب والقتال. وكلاهما موجودان في هذا الإنسان الذي زاده اللّه بسطة في العلم والجسم، ] وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[ فالقضية، أولاً وأخيراً، قضية الإرادة الإلهية التي تتحرّك من موقع الحكمة.

ثُمَّ شرح لهم علامة ملكه: ] وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ[ وهي أن يأتي حاملاً الصندوق الذي فيه السكينة، وهي الإيمان في ما روي عن الإمام محمَّد الباقر (ع)، ] وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى[ من مواريث العلم والحكمة.

] فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ[ وانطلق طالوت، وهذا هو اسم الملك الذي عيّنه النبيّ، ومضى معه جنوده. ] قَالَ إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ[ وبدأت التجربة بين القائد وجنوده، فقد أعلن لهم أنَّ اللّه قد ابتلاهم وامتحنهم ـ ليختبر انقيادهم ـ بالنهر الذي يمرّون به، ] فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ[ فعليهم أن لا يشربوا منه إلاَّ بمقدار غرفة مهما بلغ عطشهم.

وسقط الأكثرون في الامتحان، ووهنت عزائمهم، ودبّ الضعف فيهم، ووقف المؤمنون المخلصون، ليكون النصر لهم في نهاية المطاف.

* * *

إيحاءات ودروس:

تلك هي خلاصة القصة؛ فما الذي نستوحيه منها لحركة الدعوة إلى اللّه في الحياة، وما الذي نستفيده منها من نقاط توضيحية للواقع الذي كان يعيشه هؤلاء القوم آنذاك؟.

هذا درس للعاملين في سبيل اللّه أن يقفوا موقف الحذر من كثير من المتحمسين والمندفعين الذين يطرحون الشعارات الحادّة، ويعلنون ـ في حماسٍ زائد ـ استعدادهم للجهاد والقتال في ما إذا حصلت لهم القيادة الحكيمة الصالحة، وهم يظنّون أو يأملون في أنفسهم أن لا تحصل.

إنَّ علينا أن نستفيد من هذه القصة، بالطريقة التي يمكننا ـ فيها ـ التفاهم معهم، من أجل اكتشاف ما هم عليه من جدّية وتصميم، لتتميز العناصر المخلصة من العناصر المزيفة، سواء في وضعهم أمام التجربة العملية في ما يريدون، أو في إدارة الحوار معهم في بعض القضايا التي توضح لنا الفرق بين الجوانب المرتبطة بالذات وبين الجوانب المرتبطة بالعقيدة.

إنَّ قضية النصر والهزيمة ليست بالقلة والكثرة، بل هي بالإيمان والتخطيط والتنظيم، والأخذ بأسباب القوّة؛ ما يجعل النصر في جانب القلة المؤمنة المنظمة، على الكثرة التي تفقد الإيمان والتنظيم والتخطيط، انطلاقاً من الشعار الذي طرحه هؤلاء المؤمنون الذين واجهوا المعركة بقلوبٍ مؤمنة واثقة باللّه: ] كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ ، الأمر الذي يجعل العاملين في موقع الثقة، مهما كانت قوّة الخصوم كبيرة.

إنَّ قيمة الحوار في هذه القصة، هو أننا استطعنا أن نتمثّل كلّ المشاعر والأجواء التي كان يعيشها هؤلاء من خلال مواقفهم القلقة في جانب، والثابتة في جانب آخر؛ مما لا يتسنى لنا معرفته لو كانت القضية تعيش في إطار التقرير العادي للقصة. إنه الفرق بين أن يُحكى لك الموقف من خلال الآخرين، أو ينقل لك الموقف بنفسه وتتمثّله بنفسك.

أن يبقى المؤمن المجاهد في موقف الاستعانة باللّه، والشعور بالحاجة إليه في ما يحصل عليه من قوّة، وما يحتاج إليه من مواقف الصبر والصمود والثبات، وما يتطلّع إليه من نصر لاعتقاده بأنَّ النصر من عند اللّه أولاً وأخيراً، فلا يدفعه الشعور بالقوّة إلى الغرور والتعالي ونسيان اللّه، ولا يمنعه الشعور بالضعف من التماسك إزاء قوّة اللّه، كما يحصل لكثيرين من الذين ينسون اللّه في مواقف الحرب والسلم، فينسيهم أنفسهم، فيخيّل إليهم أنهم على شيء، وليسوا بشيء.

إنه الفرق بين المؤمن الذي يشعر بالقوّة الروحية والمعنوية التي تمتد من الأرض إلى السَّماء فلا تقف عند حد، فيتحوّل إلى قوّة تدمّر كلّ قوّة تقف أمامها؛ وبين غير المؤمن الذي يستمد قوّته من الأرض، ومما يحوطه من إمكانيات محدودة، فيبقى حيث هو في إطار محدود.

إنَّ إيتاء اللّه الملك لمن يشاء، لا يعني رضى اللّه عن كلّ هؤلاء الذين يملكون زمام الأمور في الحياة، فإنَّ فيهم الكافرين والظالمين والمنحرفين، بل قد يعني خضوع الحوادث في الكون لمشيئة اللّه التي قد تتعلّق بالأشياء بطريقة مباشرة، كما في الأمور التي يحدثها اللّه من خلال إرادته التكوينية المباشرة، كما في خلقه للكون في ابتداء الخلق. وقد تتعلّق بالأشياء بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال القوانين العامة التي أودعها في حدوث الأشياء وحركة المجتمعات وسير التاريخ، انطلاقاً من حكمته النوعية في ما يصلح أمر الحياة ويبنيها على أساس متين. وقد جعل إرادة الإنسان، فرداً أو جماعة، قانوناً طبيعياً يحرّك الحياة في اتجاه النمو والتطوّر والاستقامة والانحراف. وفي ضوء ذلك، لا مانع من أن نلتزم بأنَّ اللّه لا يرضى عن ملك كثير من الأشخاص في ما يمارسونه من أعمال الكفر والانحراف، ولذلك نهاهم عنها أشدّ النهي؛ ولكنَّه ـ في الوقت نفسه ـ ليس بعيداً عن سلطة اللّه وإرادته في الكون، فإنَّ من الممكن للّه أن ينزع ملكه قهراً بإرادته التكوينية، ولكن حكمته اقتضت أن يملي للإنسان في ما يعيش وما يعمل، ليقرر مصيره بإرادته واختياره.

إنَّ الآية تؤكد بأنَّ الإخراج من الديار والأموال يشكِّل عدواناً على الإنسان الفرد والمجتمع، وذلك لو قام بها إنسان فرد أو جماعة، وبذلك يعتبر مبرراً للدخول في قتال ضدّ المعتدي، بحيث يعتبر ذلك شرعياً عند اللّه. وهذا ما نستظهره من خلال التركيز على هذا المبرر، ما يعطينا الفكرة الواضحة بتقرير النبيّ لهم على ذلك. ولا بُدَّ لنا، في هذا المجال، من أن نحدّد الموضوع في نطاق الإيمان الذي يتعرّض لعدوان الكفر، كما حدث في المبررات التي سبقت الإذن للمسلمين بالقتال، لأنهم ] الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللّه وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّه كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللّه مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[ [الحج:40].

قوله تعالى: ] وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[ .

ربما نستوحي من هذه الفقرة من الآية، أنَّ هناك قانوناً طبيعياً فطرياً في حركة الحياة الاجتماعية التي يعيشها النّاس، في ما أودعه اللّه في الحياة من قوانين تنظّم لها سيرها، وتدفع بها إلى المجالات الكبيرة التي تحقّق لها أهدافها العليا... وخلاصته: إنَّ كلّ إنسان منا يعمل في اتجاه الأشياء التي يألفها ويريدها ويؤمن بها، وفي اتجاه مقاومة الأشياء التي يكرهها ويرفضها أو يكفر بها، لأنها تعطله عن الحصول على ما يريد... وربما يتحقّق ذلك في الأفكار، وربما يتحقّق في الأشياء العامة، وقد يحصل في القوى التي تحيط به. فإذا لاحظ أنَّ هناك فكراً يقاوم فكره، أو شيئاً يواجه بعض الأشياء التي يحبّها، أو قوّة تريد أن تصادم قوّته فتصرعها وتهزمها... فإنه يبادر إلى الوقوف أمام تلك الأفكار والأشياء والقوى، ليحمي فكره وأشياءه وقوّته... وهكذا تسير الحياة في أجواء الصراع، فيتولد من ذلك الفكر المتنوّع المتحرّك، والقوّة المتجدّدة بما تملك من أساليب الحرب وأدواتها، والأوضاع المختلفة المحيطة بالأشياء في وجوهها المختلفة...

إنَّ اللّه يريد أن يشير إلى هذا القانون الفطري الذي سارت عليه الحياة، ولا تزال تسير، في حركتها الاجتماعية؛ فيقرر لنا قيمة هذا القانون ودوره في إصلاح الحياة؛ فلولاه لفسدت الأرض، لأنَّ الإنسان الذي يبلغ مقداراً كبيراً من القوّة، يستطيع من خلاله أن يفرض رأيه وموقفه وذاته على الآخرين، لا بُدَّ له من ممارسة السيطرة عليهم من خلال قوّته. فإذا وقفوا منه موقفاً سلبياً ضعيفاً وتركوه يفعل ما يشاء، كانت النتيجة أن يمتد في قوّته وفساده، ولا يفسح المجال للخير وللحقّ أن ينمو أو يعيش. ولما كان اللّه يريد للحياة أن تزدهر وتصلح، كان الصراع في عملية دفع النّاس بعضهم ببعض يفسح المجال لقوى الخير أن تؤكد وجودها، ولو في نهاية المطاف، عندما تتحرّك نحو أهدافها لتقاوم كلّ الموانع والقوى التي تقف ضدّ الأهداف، فيحصل من خلاله ما يصلح الأرض من قوى جديدة تنشأ بفعل الصراع، وأفكار كبيرة تندفع من خلال النزاع، وخطوات عملية تنطلق في حياة النّاس؛ وتلك هي قصة الصراع، في ما يريد أن يوحيه لنا القرآن الكريم؛ فهو لا يمثّل مزاجاً للتحكم وللسيطرة، وإنما يمثّل دفع سيطرة الشر على الخير، والحقّ على الباطل، والعدل على الظلم والطغيان... من أجل أن تعيش الأرض في بعض مراحلها، أو المرحلة الأخيرة منها، الجوّ الإنساني المنفتح الذي يحصل فيه الإنسان على ما يوجب له الطمأنينة والراحة والكرامة... وتلك هي قصة الدوافع الفطرية التي أودعها اللّه في تكوين الفرد والمجتمع. فهي التي تقود الإنسان إلى ما يبني له حياته ويصلحها ويرفع مستواها في جميع مجالاتها، وذلك هو فضل اللّه على العالمين.

] تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ[ ويختم اللّه هذا الفصل وهذا الجزء، بالإشارة إلى آيات اللّه في الكون وفي الوحي، لتكون دليلاً للإنسان على اللّه الذي يفتح له آفاق الوعي في ما يفتح له من آفاق المعرفة بالحقّ. فلا بُدَّ للإنسان من أن ينفتح عليها ويسير في هداها ليحصل على المصير السعيد. ثُمَّ يؤكد للنبيّ بعد ذلك أنه من المرسلين، ] وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ[ ليؤكد في نفسه الشعور بالرسالة بعمق من أجل تعميق الشعور بالمسؤولية تجاهها، وليؤكد في نفوس النّاس الشعور الحي بضرورة اتباع الرسول في ما بلغهم وما دعاهم إليه، عندما يعرفون أنها رسالة اللّه على لسان رسول اللّه، ما يجعل طاعته طاعة للّه ومعصيته معصية للّه. والحمد للّه ربّ العالمين.

ــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:611.