الآية 253
الآيــــة
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(253).
* * *
معاني المفردات
{بِرُوحِ الْقُدُسِ}: قد يعني اللطف الإلهي والتأييد، وقد يعني جبرائيل، وقيل غير ذلك. قال الطبرسي: وأقوى الأقوال والوجوه قول من قال هو جبرائيل(ع)، وإذا قيل لِمَ خص عيسى(ع) من بين الأنبياء بأنه مؤيد بجبرائيل وكل نبي مؤيّد به؟ فالقول فيه إنه إنما خص بذلك لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره[1].
* * *
تفضيل الرسل بعضهم على بعض لا يعني اختلاف الهدف
في الآية حديث عن تفضيل الله لبعض الرسل على بعض، وحديث عن اختلاف أممهم من بعدهم واقتتالهم، فكيف نفهم ذلك؟
1 ـ أما التفضيل، فقد يخطر في البال، أن المراد به تفضيل القيمة، لما توحي به الكلمة من الأفضليّة، ولكن التدبّر في الآية يوحي أنه بمعنى الميزة والخصوصية التي يمنحها الله لبعض الناس دون بعض لحكمةٍ يراها، من دون أن تعني امتيازاً ذاتياً. وهذا ما نستوحيه من الآيات التي تحدثت عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، حيث إن البارز فيها هو تفضيل النعمة لا تفضيل القيمة، ولهذا لم يمنع ذلك من ذمّهم ولعنهم في آياتٍ كثيرة من القرآن، وربما يؤكد ذلك، أن الله عندما فصَّل التفضيل، جعل منه تكليم الله لبعضهم، وجعل منه رفعه لبعضهم درجات، الأمر الذي نستوحي منه، أن التفضيل قد يأتي بمعنى لا يفرض ارتفاع المنزلة. وبهذا نرُدّ على من تساءل أن فقرة {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} بمثابة تكرير لما تفيده كلمة التفضيل. فإن المعنى الذي أشرنا إليه يبتعد بالآية عن ذلك كما هو واضح.
ولكن ذلك لا ينفي انطلاق القيمة في التفضيل من تفاضل العناصر الذاتية الموجودة في كل واحد منهم، كما قد تكون من الألطاف الإلهية التي اختص بها الله بعضهم ببعض الامتيازات والمهمات، انطلاقاً من الظروف الموضوعية المحيطة بالمرحلة الزمنية، والتحديات المتنوعة، والأوضاع الاجتماعية أو بعض القضايا الخفية التي اختص الله بعلمها، ما يفرض الحاجة إلى معجزةٍ معينة في مجتمع ما، ومعجزةٍ أخرى في مواجهة هذا التحدي، وصفات مميزة في هذا النبي أو ذاك تبعاً للدور الذي أوكل إليه أو المهمة التي كلف بها.
وقد يطرح سؤال: كيف نوفق بين تفضيل بعض الرسل على بعض ورفع بعضهم درجات، وبين قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 258 ] التي قد يستوحي منها البعض المساواة؟ والجواب عن ذلك، أن تلك الآية واردة في مسألة الإيمان بالرسل وأن الله يريد للمؤمنين أن يؤمنوا بجميع الرسل، فلا يؤمن أحدهم برسول لينكر الرسول الآخر، كما يحدث لدى اليهود الذين أنكروا رسالة عيسى(ع) والنصارى الذي أنكروا رسالة محمد(ص)، وليست واردة في الحديث عن الخصائص النبوية في مسألة التفاصيل في المساواة أو الفضل.
وقد يطرح سؤال ثان، لماذا تحدث القرآن عن تفضيل الرسل بعضهم على بعض ليتحدث بعد ذلك عن اختلاف أتباعهم واقتتالهم؟
وربما يجاب عن ذلك بما أجاب به صاحب الميزان، بأن الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم، أن الرسالة، خاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة، ينبغي أن يختم بها بليّة القتال: إمّا من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والآخروية بإرسال الرسل وإيتاء البينات، كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال بعد ويجمع كلمتهم على الهداية، فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أممهم، وخاصةً بعد انتشار دعوة الإسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه وأصول قوانينه؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لفرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوةً وقهراً، فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوّة؟
ويتابع السيد العلامة الطباطبائي الحديث، فيجيب عن هذا التوهم: إن الذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم، إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلّة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم، ولو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده، لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، قد أراد جري الأمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف، فوجد القتال، فهذا إجمال ما تفيده الآية.
ويقول في سياق الحديث: وعلى هذا، فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل(ع)، مقام تنمو فيه الخيرات والبركات وينبع منه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى، كالتكليم الإلهي، وإيتاء البينات، والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم[2].
وهو توجيه متين، ولكن قد نستوحي من الآيات أن الله قد أرسل الرسل ليبلغوا الناس رسالات الله، التي ترجع ـ في عمق مضمونها ـ إلى رسالةٍ واحدة وهي الإسلام لله، فلم تختلف رسالاتهم مع اختلاف خصائصهم التي يفضل بعضهم على بعض بها، سواء كانت متصلة بالذات في عناصرها المميزة أو بالدور، أو بالمعجزة، أو بالصلة المباشرة بالله أو نحلة الله له، أو بشمولية الرسالة وخاتميتها، ليكون الرسول خاتم النبيين الذي يجمع الكتاب كله والرسالة كلها في رسالته، فقد كانوا موحّدين يصدق بعضهم بعضاً ويبشر بعضهم ببعض، لأنهم انطلقوا من الروحية النقية الصافية المنفتحة على الله وعلى كل سننه، ومن إدراك الحاجة الإنسانية لكل رسالاتهم من خلال ارتباط مسيرة الإنسان بعضها ببعض، فإن لكل مرحلة حاجاتها وقضاياها وتحدياتها؛ الأمر الذي يفرض التكامل والتواصل، لتستقيم الحياة كلها في الطريق الواحد الذي يصل بالإنسان إلى الله في كل مراحله المتنوعة.
وقد عرّفوا الناس هذه الحقيقة الواحدة التي وحدت بينهم عندما التقى الخط عندهم على الدعوة إلى عبادة الله وحده التي تختصر كل تفاصيل الرسالات.
فكان من المفروض لأتباعهم أن يستجيبوا لهم في حركة الوحدة الإنسانية على خط الرسالات التي جاء بها الرسل، وأن تكون وحدة الأتباع من خلال وحدة المتبوعين، ولكن المشكلة أن الله لم يخلق الناس على طريقة واحدة ومزاج واحد وذهنية واحدة، لأن طبيعة اختلافهم في مواقعهم ومؤثراتهم وأوضاعهم، تؤدي إلى اختلاف الأفكار، وتنوّع المصالح، وانحراف السلوك، وطغيان المنافع والمطامع، فلا تكون الرسالة هي العنوان الكبير لالتزاماتهم، بل تكون الذات هي الخلفية اللاشعورية أو الشعورية لتصرفاتهم، فيجعلون الدين وسيلة من وسائل تحقيق مآربهم، فتشتد الحساسيات وتصطدم المصالح وتضرى الأنانيات التي تطلّ بهم على ساحة القتال الذي يتحرك بضراوة، لأن ما يختلفون فيه، وهو الدين، يمثل معنى القداسة العميق في عمق الذات، ما يجعل حرارة التحرك باسمه أكثر تأثيراً من أيّ موقع أو فكر آخر، ولم يعطِّل الله فيهم هذه الحالة الإنسانية المتحركة في اندفاع الغرائز الذاتية التي لا يخضع فيها الإنسان لعاملٍ واحد، ولوجهٍ واحد، بل يخضع لتأثيرات أكثر من عامل في أكثر من وجه، ما يدخل في تنوّع موارد الحياة ومصادرها في حركة الإنسان في داخلها وخارجها، ويحقق لها الإيجابيات الكبيرة إلى جانب السيئات، فإذا كان هذا الاختلاف سلبياً في جانب، فإن له أكثر من إيجابية في الجوانب الآخرى التي يتنوع فيها الإنسان تبعاً لتنوع حاجاته ومطامعه وتطلعاته وأفكاره.
وهكذا أراد الله للرسالات أن تنطلق من موقع الرسل الذين يبلغونها من دون أن يفرضوها، لتتجه إلى مواقع الناس الذين ينطلقون في عملية الاختيار نحو الإيمان هنا، ونحو الكفر هناك، لتتطور الأمور إلى الاقتتال الذي يحاول فيه كل فريق أن تكون الساحة له من موقع القوّة الراغبة في السيطرة لمصلحة الإيمان أو لمصلحة الذات.
وربما حاول البعض من هؤلاء أن يجعلوا من تفضيل بعض الرسل على بعض وسيلةً من وسائل الوقوف عند هذا الرسول، فلا يتعداه للإيمان بالرسول الآخر، بالإضافة إلى إيمانه به، فيثور الخلاف والنزاع الذي يعدّد الأديان ليدّعي أحدهم أن دينه هو دين الحياة الأخير ويدّعي الآخر الدعوى نفسها في دينه.
إنها إرادة الله في حركة التكوين في خضوعها للأسباب والمسببات الطبيعية التي أودعها في الكون، القائمة في الإنسان على أساس حرية الإرادة وحيوية الاختيار، في الوقت الذي كانت إرادته التشريعية تدعوه إلى أن يمتنع عن القيم السلبية ليلتزم بالقيم الإيجابية في الدين والحياة، لأن الله يريد لدينه ولشريعته ولحركة الحياة في الإنسان أن تنطلق من موقع الحرية لا من خلال الجبر، لأن المصلحة تقتضي ذلك في عمران الكون القائم على التنوع والصراع والتوازن.
* * *
الآية ظاهرة بشمولها ولا اختصاص لها
2 ـ وقد استقرب المفسرون أن المراد بقوله: {مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} موسى(ع) بقرينة قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وأن المراد بقوله {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} نبينا محمد(ص)، لما ثبت من تفضيله على جميع الأنبياء. وذكروا أنّ القرينة على ذلك ذكر عيسى(ع)، مما يدلّ على أن الحديث كان يتركز على الأنبياء الثلاثة الذين لا يزال لهم أتباع يتقاتلون ويختلفون. ولكن هذه أمور لم يثبت الدليل عليها، لأن من الممكن أن يكون هناك ممن كلمهم الله كما يمكن أن يكون هناك ارتفاع في الدرجات لبعض الأنبياء على بعض، وليس في الآية ظهور في رفع الدرجة المطلقة على الأنبياء لينطبق ذلك على النبي محمد(ص)، الذي يملك الدرجة العليا التي تميزه عن الأنبياء، في شمولية رسالته لجميع الخلق، وفي جعله رحمة للعالمين وخاتم النبيين، وامتداد معجزته إلى نهاية الحياة، وبالدين القيّم الذي يشمل صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة في انفتاح الشريعة على كل حاجاته وشؤونه وقضاياه وتطلعاته في امتداد نوعيّ وكليّ لم يسبق لنبي من قبله، فهذه هي الحقيقة البارزة في رسالته ودوره بالإضافة إلى صفاته المميزة في كل مواقع الكمال، لا سيما خلقه العظيم الذي انفتح فيه على كل الناس، ولكن إرادة هذا من الآية بالخصوص لا دليل عليه.
والظاهر من الآية أنها شاملة لكل الرسل ولا اختصاص لها بمن ذكر في القرآن، لأنها واردة في مورد إعطاء الفكرة العامة عن الرسل، مما لا يجعل لفريق منهم دون فريق خصوصية عن الفريق الآخر ما دامت مسألة التفضيل وارتفاع الدرجة ساريةً في كل مواقع الظاهرة الرسولية.
أما تخصيص عيسى(ع)، فللتدليل على ميزته في ذاته من خلال كونه مظهراً لقدرة الله في خلقه في ما يوحي به اسمه، وللإيحاء بصفة الرسالة في شخصه من خلال البينات التي جاء بها من أجل أن يقيم الحجة على الناس في ذلك، من دون أن يكون في ذلك أيّ معنى إلهي يكمن في ذاته، بل هو منطلق من تأييد الله له بروح القدس، الذي قد يعني جبرائيل ـ فيما يفسره به البعض ـ وقد يعني اللطف الإلهي الذي يمنحه الله لعباده في ما يلهمهم إيّاه وفي ما يُقدرهم عليه ويؤيدهم به من مواقف… وتلك من ميزات عيسى(ع) التي قد يشاركه فيها غيره من الأنبياء الذين أرسلهم الله بالبينات، وأنزل الملائكة بالروح عليهم وعلى غيرهم في ما حدثنا الله عنه في القرآن.
* * *
معنى كلام الله
3 ـ وقد أفاض المفسرون وعلماء الكلام الحديث حول كلام الله، لأن الكلام في ما يعنيه من مدلول، لا يتناسب مع الخالق، فلا بد من أن يراد به معنى آخر على نحو المجاز، ولكن الظاهر أن الكلمة واردة بمعناها الحقيقي؛ وهو التعبير عن المعنى باللفظ، من دون حاجةٍ إلى صدوره من اللافظ بأدوات اللفظ المتعارفة من اللسان ونحوه، بدليل ما حدثنا الله عنه من تكلُّم الأيدي يوم القيامة في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[يس:65]. وفي ضوء ذلك، يكون نسبة الكلام إليه تعالى من خلال أنه يخلق أصواتاً في ضمن ألفاظ بصيغة المتكلم بحيث يسمعها النبي أو غيره، ولهذا قيل بأن صفة التكلم من أفعال الله التي تتوقف على وجود الذات، وليست من صفاته التي توجد بوجود ذاته، لأنها عين ذاته، فإنه سبحانه يخلق الكلام، كما يخلق الإنسان والأرض والسماء والأشياء الأخرى، وهذا ما وردت به الأحاديث عن أئمة أهل البيت(ع)، فقد جاء في أمالي المفيد عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله ـ جعفر الصادق ـ(ع) يقول: لم يزل الله ـ جلَّ اسمه ـ عالماً بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلت: جعلت فداك، فلم يزل متكلماً؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام[3]...
وفي الاحتجاج: عن صفوان بن يحيى قال: سأل أبو قرَّة المحدِّث عن الرضا(ع) فقال: أخْبِرني ـ جعلت فداك ـ عن كلام الله لموسى، فقال: الله أعلم بأي لسان كلَّمه بالسريانية أم بالعبرانية، فأخذ أبو قرّة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان، فقال أبو الحسن(ع): سبحان الله عما تقول ومعاذ الله أن يشبَّه بخلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون، ولكنه ـ سبحانه ـ ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم أو لسان، ولكن يقول له كن، فكان بمشيّته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردّد في نفس ـ الخبر ـ[4].
وخلاصة الفكرة: أن الكلام هو التعبير عن المعنى باللفظ من دون أن يكون لوسائل التعبير وأدواته مدخل في طبيعة المدلول. فالاستعمال ـ على هذا ـ حقيقي لا مجازي.
* * *
التفاضل بين الرسل لم يمنع من اللقاء
4 ـ ولكن ما هو مغزى هذا الحديث هل هو مجرد تقرير الفكرة، أو هو تمهيد لفكرة أخرى؟ الظاهر ـ بقرينة السياق ـ هو الثاني. فإن القضية هي حركة الرسالة في حياة الناس الذين عاشوا مع الرسل أو جاؤوا بعدهم، فاختلفوا وتقاتلوا حولهم وحول رسالتهم، في طريقة الإيمان بها، أو في أصل الإيمان بها... فلعل الآية كانت تريد أن توحي بالتقاء الرسل على رسالة الله، باعتبارها سر شخصيتهم الرسالية، وبأن تفضيل الله لبعضهم على بعض لم يمنع من هذا اللقاء، لأن جهات التفضيل لا توجب الخلاف فيما بينهم ليختلف من بعدهم على هذا الأساس، بل هي من مميزات شخصيتهم ورسالتهم في ما تحتاج إليه من مميزات.
* * *
كيف حدث اختلاف أممهم؟
5 ـ كيف حدث الاختلاف والتقاتل بين أمم الأنبياء ولماذا؟
لقد قرر الله أنه كان قادراً على أن يمنع الاقتتال والاختلاف بين الأمم بالقوة القاهرة، التي تجعل من وحدة الإيمان عنصراً من العناصر الذاتية للإنسان كما هو لونه وصفات جسده الآخرى، ولكنه أراد للإنسان أن يتحرك نحو الإيمان أو الكفر بإرادته واختياره، من خلال السنّة الكونية التي أراد أن يربط فيها الأسباب بمسبباتها، ما قد يفرض الكفر إذا تحقق سببه كما يفرض الإيمان إذا تحقق سببه، الأمر الذي قد يؤدي إلى التقاتل والتنازع في الأجواء الحادّة التي تتجمع ظروفها الموضوعية في هذه الساحة أو تلك. وهذا ما جرت عليه سنة الحياة في ما سنّ الله للحياة من خطط أو قوانين، ولكن ذلك لا يعني أن الله يرضى به أو يريده في الإطار التشريعي، بل كان ينهى عنه في هذا الإطار من أجل أن يقود الإرادة الإنسانية للاختيار الأفضل من موقع القناعة الذاتية، وهذا هو معنى أن الله يفعل ما يريد، من دون أن يكون ذلك منطلقاً من فكرة الجبر ومبتعداً عن فكرة الحرية والاختيار.
وقد يقول قائل: لماذا أقدر الله الإنسان على الشرّ وهو قادر على أن يشلّ قدرته عنه؟ والجواب: أن السر في ذلك، هو السرّ في خلق الإنسان على أساس الاختيار الذي قد يحصل من خلال المنفعة للإنسان أو للوجود أكثر مما يحصل له من مضرّة، وليس في ذلك أيُّ قبح في فعل الله، ما دام الله ـ سبحانه ـ لا يعطي الإنسان قدرة عمياء لا تستطيع أن تعرف طريقها جيداً عند اختلاف الطرق، بل أعطاه قدرة مفتوحة الأعين على كل خير وعلى كل شرّ، واعيةً لكل ما حولها من خلال الفكر الذي تملكه ومن خلال الرسالات التي أرسل الله بها رسله ليوجهوا الناس إلى استخدام الإرادة الواعية المنفتحة على الحق والخير، في ما توعد الله عليه من عقاب في جانب السلب، وما وعد به من ثواب في جانب الإيجاب، ولذلك كان القرآن الكريم يكرر في أكثر من آية قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود:101]َ .
* * *
هل الدين أساس الحروب بين الناس؟
6 ـ ربما يثير الكثيرون من الناس أن الدين هو العنصر الحادّ السريع الاشتعال في الوجدان الإنساني، لما يتضمنه من حسّ القداسة الغيبية التي تدفعه إلى التحرك من أجل إلغاء الآخر، لأن هذا الجوّ الغيبي المنفتح على الإيمان بالله يمنع الوصول إلى أيّة تسوية مع الكفر به ويجعل من الإنسان الكافر إنساناً لا يستحق الوجود، فلا بد من إزالته من الحياة ليبطل تأثيره في إضلال الناس عن خط الإيمان، لتكون مواجهته ثأراً لله وللرسول وللدين، فلا مجال للحوار معه، لأن القضية تفرض نفسها على الواقع الحيّ من خلال وضوحها الذي لا يلتقي بأيّة شبهةٍ في احتمالات الخطأ، ليكون هناك مجال للجدل من خلالها، وبذلك يتحول المؤمن بالدين إلى شخصية عدوانية ساحقة ضد الإنسان الآخر الكافر، وإلى نار محرقةٍ لكل وجوده، وهذا ما يجعل من الحروب الدينية أمراً طبيعياً أمام الخلافات الدينية، سواء كانت منطلقة من عمق الإيمان، أو من استغلال الشعار، ولهذا، بدأ البعض يدعو إلى إلغاء الدين من حياة الإنسانية لتستطيع الإنسانية أن تحصل على السلام.
ونلاحظ على ذلك، أولاً: إننا لا ننكر أن للدين تأثيراً على الوجدان الإنساني أكثر من أيّ فكر آخر، لأن القداسة التي يختزنها في مضمونه الإلهي والتي تجعل المؤمن في حالة ذوبان في الله وإخلاص عظيم له، قد تثير في النفس الكثير من المشاعر والانفعالات الحادّة التي تنطبع في السلوك العام والخاص في علاقته بنفسه أو بالآخر.
ولكن، ليس معنى ذلك أن الروح الدينية تنطلق من فكرة إلغاء الآخر، بل هي، في مضمونها الرسالي، تدفع بأتباعها إلى الانفتاح على الآخر بالدعوة القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن بالأسلوب الذي يعمل على الدخول إلى عقله وقلبه والنفاذ إلى واقع حياته، ومناقشة فكره باحترام في عملية أخذ وردّ، بالطريقة التي يملك فيها حرية المناقشة بلا حدود أمام الهدف الذي يحوّل الأعداء للرسالة والقضية والموقع والموقف إلى أصدقاء لها. وهذا هو شأن الواعين من المؤمنين الذين يعيشون الإيمان حركة دعوة منفتحة على الإنسان كله والحياة كلها من أجل هدايته وهداية الحياة في حركته ووجوده.
ولكنّ الجهل والتخلف اللَّذين يسيطران على بعض المجتمعات المتدينة أو الأشخاص المتدينين، هما اللذان يدفعان بالإنسان إلى مواجهة الفكر الآخر بالانفعال والحماس المضاد والأسلوب العاطفي الذي لا يفكر بعقل واتزان، لأنه لا يملك العقل الذي يواجه العقل الآخر والاتزان الذي يلتقي من خلاله بالخلفيات التي تكمن في قناعات الفئات المضادّة، فلا يملك في هذا الجو شجاعة المجابهة العقلانية، فيحول الموقف إلى المجابهة العدوانية.
ويمكن أن تتحرك الحرب من خلال الطرف الآخر الذي يعمل على العدوان على الموقع الديني، وذلك من خلال عملية احتلال عسكري أو سيطرة اقتصادية أو سياسية، مما يجعل القضية دفاعاً عن النفس، أو وقاية من العدوان المحتمل، وذلك من خلال روحيةٍ منفتحةٍ على القضايا الكبرى في عناوينها الحيوية التي يرى فيها المحاربون فريضة إلهيّةً لا تحمل عقدة في الذات الطائفية، بل علاجاً للواقع الصعب الذي يختزن الأخطار على مصير الدين والمستضعفين وعلى حرية المؤمنين في الدعوة إلى الله.
وهكذا نجد أن الحرب الدينية ليست حركة عدوانية ضد الإنسان الآخر، بل هي حركة دفاعية أو وقائية من أجل المحافظة على الذات والموقع والإنسان.
ثانياً: إننا لا نرى في الحديث عن مسؤولية الدين عن الحرب في حياة الإنسان حديثاً واقعياً دقيقاً، بحيث يكون السبب الرئيسي في حركة الحرب في الواقع، فهناك الحروب العرقية والقومية والاقتصادية والسياسية التي قد تختبىء وراء الشعارات الدينية في بعض الحالات، وقد تكشف عن وجهها الحقيقي في حالات أخرى، ما يجعل من هذه الأمور أساساً للحرب الدائبة بشكل مباشر أو غير مباشر.
ثالثاً: إن الدين الذي ألغى الفروق العرقية والعنصرية والجغرافية، يمثل العنصر الحيوي في تجفيف منابع الحرب وإلغاء أسبابها، لأنها حرب قائمة على العصبية، وهي مرفوضة من الدين، لاسيّما في الإسلام، جملةً وتفصيلاً. فقد جاء في الحديث: من تعصب أو تُعصب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه[5]. وعلى ضوء هذا، فإن الحروب ناشئة غالباً من انعدام الدين، لا من الدين نفسه.
رابعاً: إن الدين قد طرح القضايا الإنسانية للطبقات المضطهدة أو المحرومة أو المستعبدة، كعناوين كبرى لحركته في ساحة الصراع، ما يجعل من الحرب التي يخوضها المؤمنون حرباً جهادية إنسانية لا دينية بالمعنى المباشر التقليدي للدين، وهذا ما نراه في الحرب التي يخوضها الإسلاميون في هذا العصر ضد المستكبرين والمستغلين والظالمين، بحيث نجدهم يتعاونون مع غير المسلمين من أتباع الديانات الأخرى أو التيارات الأخرى في مواقع اللقاء على طريق الأهداف المشتركة.
* * *
لا مجال لليأس أمام السلبيات
7 ـ أمَّا ما نستوحيه من ذلك، فهو التأكيد على العاملين في الاستمرار على الخط الرسالي في الدعوة إلى الله من دون أن يقعوا في قبضة اليأس تحت تأثير الأجواء السلبية التي تواجههم في طريق العمل، عندما تواجههم الخلافات الدينية بين الأديان المتعددة، أو الخلافات المذهبية بين أبناء الدين الواحد، أو الخلافات الشخصية بين أتباع المذهب الواحد، أو غير ذلك من الأوضاع التي تدعو إلى التشنج وتقود إلى اليأس، وقد تؤدي إلى التشكيك في أصل الفكرة لدى بعض الناس، لأن قضية الاتفاق المطلق بين الناس في أيِّ شأن من شؤون الحياة؛ ديناً أو غيره، هو مما لم يتعهد به الله في ما تعهده من الأمور التكوينية التي تتعلق بطبيعة وجود الأشياء وخصائصها الذاتية، بل القضية بالعكس، وهي أن الله أجرى الحياة على أساس قد يدعو إلى الاختلاف والتنازع والتقاتل من خلال تنوّع الإرادات وتمايز عناصر الاختيار.
وهذا ما يفرض على العاملين أن يجاهدوا كما جاهد الأنبياء من قبلهم في سبيل توفير الأجواء الملائمة للناس لكي تتحرك إراداتهم في طريق الخير بدلاً من أن تتحرك في طريق الشر، سواء اتفقت خصائص العاملين أو درجاتهم أو اختلفت، ما دام الخط يسير على هدى الغاية المثلى، وهي إعلاء كلمة الله في الأرض، فإن الاختلاف في الخصائص قد يغني التجربة من خلال تنوع جوانبها إذا عرف العاملون كيف يثيرون ذلك كله في الساحة بصدق وأمانة.
* * *
اختلاف الخصائص لا يثير التحدي
8 ـ وهناك نقطة أخرى نستوحيها من الآية، هي أن الله قد تحدث عن اختلاف الخصائص والدرجات في هذه الآية من دون أن يثير أية حالةٍ من حالات التحدي التي تربط القضية بالجانب الذاتي للنبي، بل اعتبرها أموراً واقعية يتميز بها الرسل في حركتهم الرسالية.
وفي ضوء ذلك، لا بد لنا من أن نلتفت إلى الجهود الكلامية المضنية التي يبذلها علماء الكلام وغيرهم في إقامة البراهين، على أن هذا النبي ـ لا سيما نبينا محمد(ص) ـ أفضل من هذا النبي أو ذاك أو من كل الأنبياء، كما لو كانت القضية من القضايا الأساسية التي تتعلق بالجانب الحيوي للعقيدة، وقد يتصاعد الخلاف ويتجه اتجاهات غير دقيقة، ثم يتحول إلى أن يكون صفةً لازمة للشخصية، بحيث يفرض على الفكر أن يلاحق كل الشخصيات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية في نطاق عمليات التفضيل الذي يراد به إرضاء الزهو الذاتي الذي يرتاح إليه الإنسان تحت تأثير الشعور بأفضلية الشخص الذي ينتمي إليه، وقد يتطور الأمر، فينتقل إلى البحث عن النقائص والعيوب المتمثلة في شخصية الشخص الآخر، وقبول ما ينقل إليه منها، وإن لم يكن ثابتاً بطريقة شرعية، وقد لا يكون لهذا كله أيّ أثر عملي في جانب العقيدة والعمل، كما هي القضية في فكرة تفضيل نبي على آخر، أو تفضيل إمام على نبي، كما قد يثار ذلك لدى بعض الفرقاء، أو في ما يثار من تفضيل فاطمة الزهراء(ع) على مريم أو العكس.. فإن هذا حديث لا يجني منه الخائض فيه أية فائدة على مستوى الدين أو الدنيا، سوى إتعاب الفكر أو إرضاء الزهو الذاتي، فإن الأنبياء السابقين قد مضوا إلى ربهم بعد أن أدوا رسالتهم كاملة غير منقوصة؛ ونحن نؤمن بهم، كما أمرنا الله بذلك، من دون أن يكون لنا أيُّ تكليف خاص متعلق بشريعتهم، كما أننا ملزمون بالسير على شريعة الإسلام التي جاء بها نبيّنا محمد(ص) من دون أن يكون لمنزلته بالنسبة إلى بقية الأنبياء أيّ دخل في ذلك، وإن كنا نؤمن بالمنزلة العظمى التي جعلها الله له من خلال ملكاته وجهاده وامتداد رسالته.
إنّ علينا أن نتعلم من القرآن أسلوب التعامل مع القضايا الفكرية والعملية وكيف نجمل الأشياء التي لا تحتاج إلى تفصيل، ونفصل الأمور التي تحتاج إلى ذلك في نطاق العقيدة والعمل.
* * *
ولكن الله يفعل ما يريد
{وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} إن هذه الفقرة من الآية تحمل الحقيقة العقيدية الإيمانية في النظرة إلى مقام الله في وعي الإنسان المؤمن، وموقعه منه، فإن الله الذي يملك العبد بكل وجوده، فله كل شيء فيه، وليس له من ربه شيء، ليس من شأنه أن يقدّم أيّ تفسير لأفعاله وأوامره ونواهيه أمام عباده، بل إن الواجب عليهم أن يخضعوا له في ذلك كله، فهم لا يملكون حرية الاختيار معه، وهذا هو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وقوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسألونَ} [الأنبياء: 23]، فهو الرب الخالق المهيمن على الكون كله والإنسان كله، الحكيم في ما يقول ويفعل، وهم المربوبون له، فعليهم أن يسلّموا له كل أمورهم في الوعي انسجاماً مع حركة هذا الخط في التكوين، وهذا هو معنى الإيمان الحق في أصالة العقيدة في الذات والفكر والشعور.
وليس معنى ذلك أن لا يتطلبوا المعرفة في أسرار أفعاله وأقواله المتعلقة بهم وبالحياة من حولهم، فإن الله قد وجههم ليعلموا علم ذلك، ولكن من باب المعرفة التي تبحث عن وعي الكون والحياة في تقدير الله وتدبيره وقضائه وقدره، لا من باب البحث عن أساس الشرعية في انسجامهم مع إرادات الله وأفعاله، فهو الذي يفعل ما يريد، لأن الوجود كله صنع إرادته، فله أن يصنع فيه ما يشاء لتكون مشيئته هي الأساس، بعيداً عن أية مشيئة أخرى، وهذه هي العبودية الحقة في موقف العبد أمام ربه، المتمثلة بالتسليم المطلق {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود: 118]، لأن حكمته اقتضت ذلك، وهو أعلم بأسرارها، ولأن إرادته فرضت ذلك.
ـــــــــــ
(1) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط:1، 1412هـ، 1992م، ج:1، ص:199.
(2) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط:1، 1411هـ ـ 1991م، ج:2، ص:313 ـ 314.
(3) تفسير الميزان، ج:2، ص:327 ـ 329.
(4) م.ن، ج:2، ص:329.
(5) الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، دار الكتاب الإسلامية، طهران،
تفسير القرآن