تفسير القرآن
البقرة / الآية 254

 سورة البقرة الآية 254

الآيــــة

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِي يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(254).

معاني المفردات

{لاَّ بَيْعٌ} البيع هو استبدال المتاع بالثمن، والبيع نقيض الشراء، والبيع، أيضاً، الشراء، لأنه تارة عقد على الاستبدال بالثمن وتارة على الاستبدال بالمتاع، والبيع، الصفقة على إيجاب البيع، والبيعة الصفقة على إيجاب الطاعة، والبيّعان: البائع والمشتري.

{وَلاَ خُلَّةٌ} الخلّة خالص المودة، والخلل الانفراج بين الشيئين، وخللته بالخلال أخلّه إخلالاً إذا شككته به، واختلال الحال انحرافها بالفقر، والخليل الخالص المودة، من الخلة، لتخلل الأسرار بينهما، وقيل: لأنه يمتنع من الشوب بينهما.

* * *

الإنفاق من رزق الله

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ} ثم تتعرض هذه الآية إلى توجيه النداء إلى المؤمنين، في ما يفرضه عليهم الإيمان من أفكار للحياة وانسجام معها في الخط العملي، بالإنفاق مما رزقهم الله على كل من يحتاج إلى ذلك من الفئات المحرومة والمستضعفة، من أجل تحرير هؤلاء من سيطرة القوى الطاغية الغاشمة عليهم من خلال حاجاتهم التي قد تستعبدهم بفعل الضرورة، وإنقاذ واقعهم من الانهيار المادي الذي قد يتحول إلى سقوط روحي أو معنوي تحت تأثير الضغط الجسدي في إلحاح الجوع والعطش والعري والتشريد على الإنسان في واقعه المرير، حتى لا يدفعهم ذلك إلى الانحراف والاختلاف المرضي الذي يؤدي إلى الاقتتال، ويدفع بهم إلى مواقع الضعف أمام ضغط القوي الذي قد يتحول إلى ضغط على قناعاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية. وبهذا نعرف أن مسألة الإنفاق لا تنحصر في قاعدتها الشرعية من الناحية الفكرية في سدّ حاجات الفقراء والمعوزين، بل تمتد إلى تحرير حاجاتهم من ضغط الأغنياء والمستكبرين ليتحركوا في مواقعهم ومواقفهم من خلال حريتهم في القناعة والإرادة والحركة.

وربما كان في التعبير بـ {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} إيحاءٌ بأن الإنسان لا ينفق ممّا يملكه، بل ينفق مما أعطاه الله؛ الأمر الذي لا يجعل له الحرية في الإنفاق وعدم الإنفاق، بل هو مسؤول أن ينفق منه على نفسه، ثم ينفق ما يفضل عنه على الآخرين من موقع إنفاق مال الله على عباد الله.

{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِي يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} وقد أثار الله أمام الإنسان قضية الإنفاق من موقع المصير الذي يقدم عليه يوم القيامة، حيث لا يجد الإنسان أية وسيلة للخلاص في ما اعتاده من وسائل الخلاص في الدنيا، فهناك لا مجال للبيع الذي يحاول الإنسان فيه أن يطرح ما يملكه من السلع ليحصل من خلال ذلك على ما يحتاجه مما لا يملكه عن طريق المعاوضة، ولا مجال للصداقات التي يتوسّل بها الإنسان ويلجأ إليها لتدعم موقفه ولتقضي له حاجاته، {وَلاَ شَفَاعَةٌ} يقدمها الإنسان أمام ما ينتظره من عقاب وما يواجهه من نتائج المسؤولية الصعبة، لأن يوم القيامة قد ألغى ذلك كله، وأبقى وسيلة واحدة وهي أعمال الإنسان التي يقف في مقدمتها الإنفاق على السائل والمحروم... ثم لا شيء إلاّ رحمة الله، فهذه هي الفرصة الوحيدة التي يحصل عليها في الدنيا ليستكمل استعداده للوصول إلى رضوان الله والحصول على ثوابه في الآخرة، فإذا كان يريد بيعاً في حركة الربح، فالله هو الأفضل في ما يقدمه له من أرباح الدنيا والآخرة، وإذا كان يريد الحصول على صداقة خالصة تفتح له قلبه وتقوي له موقفه، فالله هو الخليل الصديق الأعظم الذي أعطاه وجوده بكل تفاصيله من خلال رحمته ولطفه به وإخلاصه لمصيره في الدنيا والآخرة.

{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ثم يعقب على ذلك بأن الكافرين الذين لا يعيشون الإيمان عقيدة، ولا يمارسونه عملاً في ما تفرضه العقيدة من عمل، هم الظالمون، لأنهم يظلمون أنفسهم بالمعصية، ويظلمون الحياة بالسير على الخط المنحرف بعيداً عن الخط المستقيم، وبذلك تبرز معادلة ثانية في الخط المعاكس، وهي أن المؤمنين هم العادلون، الذين يسيرون على خط العدالة في الفكر والعاطفة والحياة، وذلك من خلال ارتباط العدل بالله في صفاته الحسنى، وبالإنسان في مسؤوليته عنه أمام ربّه، فإن الإيمان في أساس حركة الرسالات في وحي الرسالة وميزان الحق، هو حركة عدلٍ مع النفس ومع الله ومع الإنسان الآخر والحياة.