الآية 255
الآيــــة
{اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَـوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ}(255).
* * *
معاني المفردات
{الْقَيُّومُ}: مبالغة بالقيام، وهو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. والقيام هو حفظ الشيء وفعله وتدبيره وتربيته ومراقبته والقدرة عليه، قال الراغب: القيّوم أي القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[1] [طه: 50].
{سِنَةٌ} السِنة النعاس والغفلة والغفوة، وهو مصدر وسن يوسَن وسَناً وسِنة. قال الشاعر: في عينه سنة وليس بنائم.
{يَؤُودُهُ} يشق ويثقل عليه، يقال: أده يؤده أوْداً إذا ثقل عليه وأجهده وأتعبه.
* * *
مما جاء في فضل آية الكرسي
جاء في تفسير العياشي عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: قال أبو ذر: يا رسول الله ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال: آية الكرسي، ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرض فلاة، ثم قال: وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة[2].
في الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة قال: قلت: يا رسول الله أيّما أنزل عليك أعظم؟ قال: {اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ}، آية الكرسي[3].
وقد وردت أحاديث كثيرة، بهذا المعنى عن النبي محمد(ص) وباستحباب قراءتها في كل ليلة، وفي مناسبات كثيرة.
فقد جاء في أمالي الشيخ الطوسي عن أبي أمامة الباهلي أنه سمع علي بن أبي طالب(ع) يقول: ما أرى رجلاً أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها، قلت: وما سوادها؟ قال: جميعها حتى يقرأ هذه الآية: الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم. فقرأ الآية إلى قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِي الْعَظِيمُ} قال: فلو تعلمون ما هي ـ أو قال ما فيها ـ ما تركتموها على حال: إن رسول الله(ص) قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي كان قبلي، قال علي: فما بتّ ليلةً قط منذ سمعتها من رسول الله إلا قرأتها، الحديث[4].
ولعل السرّ في هذا الاهتمام بها هو أنها تتحدث عن التوحيد الخالص بالمستوى الذي يعيش فيه الإنسان حضور الله في وجدانه، في كلّ ما يعنيه هذا الحضور من عظمةٍ وسيطرةٍ وإحاطةٍ حقيقية بالأشياء كلها، ورعاية لكل شؤونها الخاصة والعامة، وتفرّد بالقدرة على كل شيء، فلا شيء هناك غير الله، لأن كل المخلوقات ظل لوجوده، ولا قيمة لأيِّ علم أمام علم الله، ولا سلطة غير سلطته، وأن الخط الذي يرسمه للناس هو الخط الواضح المستقيم الذي لا التباس فيه ولا شك ولا ظلمة، وأنه ـ هو ـ الذي يفتح للمؤمنين أبواب النور في المعرفة والحياة، من خلال الإيمان الواعي المنفتح، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، بينما يقف الكافرون أمام الطاغوت الذي يرتبطون به ويعبدونه ويتبعونه من دون الله، ليخرجهم من النور، الذي يقتحم عليهم وعيهم ووجدانهم، إلى الظلمات التي يحملها الكفر إلى داخل حياتهم، فيحوّل النور في حياتهم إلى ظلمة بما يخلقه من حواجز تحجزهم عن الله. وهذا ما توحي به الآية التالية بعدها التي تمثل الامتداد المعنوي لها.
وبذلك كانت قيمة هذه الآية أنّها تركز في أعماق الإنسان المؤمن التوحيد الخالص بأسمى خصائصه وعناصره، وتوحي له بأن الخط الفاصل بين منهج الله ومنهج الطاغوت هو الخط الفاصل بين النور والظلمة.. وهذا ما نريد أن نستوضحه من خلال مفردات الآية.
* * *
آية الكرسي والتوحيد الخالص
{اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} هذه الكلمة علم لذات واجب الوجود، فلا تطلق على غيره، ومن هنا كان الفرق بينها وبين كلمة إله، لأن كلمة إله عامة شاملة لكل ما يفرض مستحقاً للعبودية، ولذلك أمكن الاستثناء منها، وكانت كلمة لا إله إلا الله ظاهرة في التوحيد باعتبار دلالتها على انحصار المستحق للعبودية في الذات المقدسة، ولو كانت هذه الكلمة تطلق على غيره لما كان لها ظهور في ذلك.
{الْحَي} الذي لا يشوب حياته عدم من قبل ولا من بعد، لأنها لا تخضع لفرضيّة القبل والبعد، فهو القديم الذي لا أول له ولا آخر... وفي هذا الجوّ الممتد للحياة، يمكن للإنسان أن يعيش الشعور بامتداد الارتباط بالله ما امتدت بالإنسان حياته، لأنه يسبق حياة الإنسان، فيعطيها معنى الحياة ويمتد معه ويبقى بعد فنائه، بينما لا يشعر بهذا الارتباط مع غيره من أفراد الإنسان، ما يوحي له بعمق العلاقة التي ينبغي أن تشدّه إلى الله من موقع الحاجة الفعلية الدائمة إليه.
{الْقَيُّومُ} مبالغة في القائم على الشيء، المشرف والمسيطر عليه والمدبر والحافظ له، على ما جاءت به الآية الكريمة: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]. وقوله تعالى في آية أخرى، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
وذلك من خلال ما يعنيه القيام على الشيء من معنى الإشراف عليه، في مقابل القاعد والنائم، فاستعير للسيطرة، للمناسبة بين المعنيين... وهذه الصفة تعني إشراف الله الذي يملك العطاء والمنع من خلال ما يعلمه من استحقاق الموجودات في وجوداتها من العطاء هنا، والمنع هناك، من خلال التوازن في النظام الكوني والإنساني الذي أبدعه في عمق الوجود، لتستمر الحياة من خلال شروطها الطبيعية. وتعني تسلطه على الأشياء، ما يعني التدبير والرعاية والحفظ في ما يستتبعه المعنى بنحو لا يكون لغيره في ما توحي به كلمة المبالغة. وفي هذه الصفة إيحاءٌ بضرورة الرجوع إلى الله في كل شيء باعتبار حاجة الأشياء كلها إليه.
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السنة النعاس الذي يقترب من النوم، والنوم هو الذي يغلب على السمع والبصر، وفي هذا تعميق للمعنى الذي توحيه كلمة القيّوم في ما تستتبعه من الرعاية الدائمة التي لا مجال فيها للتوقف والغياب بالنوم أو بالنعاس الذي تسترخي معه الحواس فتفقد الإحساس الواعي للأشياء... ومن البديهي أن ذلك مستحيل على ذات الله، لأنه من شؤون الجسد، فلا تفرض لمن يتعالى عن الجسمية في ذاته المقدّسة.
وربما يتساءل البعض كيف قدّم السٍّنة على النوم على خلاف الطريقة البلاغية التي يترقى فيها التعبير، في مقام الإثبات، من الأضعف إلى الأقوى، وفي مقام النفي من الأقوى إلى الأضعف، وبناءً عليه، كان ينبغي أن يقال: لا يأخذه نوم ولا سنة.َ
والجواب أن المطلوب هنا هو نفي تأثير أيّ عامل خارجي يضعف قيوميّته على الموجودات، فلا يملك الأضعف الذي هو النعاس الاقتراب منه، بل لا يملك الأقوى وهو النوم النفاذ إليه، لأنه فوق ذلك كله، فهو الذي يؤثر في الأشياء ويحيط بها ويسيطر عليها ويقهرها ولا يملك شيء منها، مهما كان حجمه في الماديات والمعنويات، التأثير عليه، فليس حاله كحال المخلوقين الذين يقترب منهم النعاس ليأخذهم عن اليقظة إلى الخدر والغفلة، ثم ليزيد في التأثير على أجسادهم، فيقودهم إلى النوم الذي يعطل فيهم الإحساس بالأشياء من حولهم.
{لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض} هو المالك للأشياء كلها، فليس لغيره ملك بإزاء ملكه، فهو المالك الحقيقي، أما الآخرون، فإنهم يملكون بالملك الاعتباري في ما ملّكهم إيّاه. فهو المالك لهم ولما ملّكهم... وبذلك كان قيامه عليها قياماً كاملاً لا نقص فيه ولا حدود، لأن هناك فرقاً بين قيامك على الشيء الذي هو تحت سيطرتك وملكك وبين قيامك على ما لم يكن كذلك، وهذا هو ما تريد الآية أن تؤكده ليشعر الإنسان بالاطمئنان لكمال التدبير الإلهي للإنسان وللأشياء، وليعي ارتباط كل الموجودات بالله ارتباط المُلك بالمالك، فتفقد قيمتها وعظمتها في وعي الإنسان، عندما يشعر أنها مثله في عبوديتها ومملوكيتها لله... فكيف يمكن أن يجعل منها شركاء لله كما توحي به الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194].
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ليس هناك إلا كلمته وإرادته، فلا يملك أحدٌ أن يتدخل في إنقاذ أحد من مصير محتوم، أو رفعه إلى درجة عالية من خلال قوة ذاتية أو موقع مميّز خاص، إلا بإذنه الذي يلقيه إلى بعض عباده المقربين في ما يريد وفي وما لا يريد وبذلك يمكن لنا أن نقرّر مبدأ الشفاعة في نطاق الخط الذي يريد، الله للشافعين أن يسيروا عليه في ما يريد الله أن يكرمهم بالمغفرة لبعض المذنبين، أو برفع الدرجة لبعض المطيعين، من دون أن يتنافى ذلك مع مبدأ التوحيد في ما يتوسل به الناس من شفاعة.
وفي هذا الجو، يمكن لنا أن نستوحي طبيعة ما يملكه الشفعاء من ميزة الشفاعة من حيث ارتباطها بإرادة الله وبإذنه، فالمغفرة التي تنال المذنبين من الله، والبلاء الذي يرفع عن المبتلين من الله، والمثوبة التي تحصل للمطيعين منه ـ جل شأنه ـ يمنحها لهذا ولذاك، بكرامة هذا النبي أو هذا الولي التي أراد أن يكرمهم بها. ولهذا فلا معنى لأن يتوجه العباد إليهم حتى عبر الواسطة، بل يكون التوجه إلى الله بأن يجعلنا ممن يشفّعهم بهم، لأنهم لا يملكون الشفاعة بأنفسهم، بل يملكونها من خلال وحيه وإذنه وتعليمه، وبذلك نتخلص من هذا الإغراق في أسلوب الطلب من الأنبياء والأولياء بالمستوى الذي قد ينسى فيه الطالب ربّه في استغراقه العميق في ذات النبي أو الولي، إذا لم يكن واعياً بالدرجة التي يستطيع من خلالها أن يضع الأشياء في مواقعها الصحيحة من العقيدة والشريعة.
* * *
مع صاحب الميزان في شموليته للشفاعة التكوينية
وقد ذكر صاحب الميزان في حديثه عن الشفاعة في هذه الآية أن «الشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب، والوسائط أعم من الشفاعة التكوينية، وهي توسط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعية، أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي يثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة... وذلك أن الجملة، أعني قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معاً، بل المتماسّين بالتكوين ظاهراً، فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة.
فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواَتِ وَالأرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة أن حدّها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسبّبه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة»[5].
ولكننا نلاحظ على هذا الكلام، أن حمل الشفاعة على ما يشمل السببية التي عبر عنها بالشفاعة التكوينية، خلاف ظاهر الكلمة من الناحية اللغوية في معنى المصطلح، لأنها ظاهرة في حركة الإنسان في التوسط لإنسان آخر لإيصال الخير إليه أو دفع الشر عنه من خلال استحقاقه للمنع عن الخير وللوقوع في الشر جزاءً لعمله، وبهذا يكون دور الشفيع الذي يتمتع بالاستقلال في حركته مع المشفوع عنده، أنه يملك التأثير عليه من ناحية مادية أو معنوية، بحيث لا يملك ذاك ردّه أو يصعب عليه دفعه عما يريده أو يطلبه، وذلك إمّا لكونه في الموقع الذي يساويه أو يتقدم عليه في المنزلة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في مدارج السلطة، أو في الموقع العاطفي الذي ينفذ من خلاله إلى مشاعره العاطفية التي لا يستطيع معها أن يتنكر لمطالبه.
وهذا هو المعنى الذي يريد الله أن ينفيه عن نفسه، لأنه يتنافى مع قيوميته في ذاته على الوجود كله وعلى الناس كلهم، فليس كمثله شيء حتى يساويه أو يتقدم عليه ليفرض إرادته على إرادته، وليس موقعاً للانفعالات العاطفية أو غيرها ليتأثر بها، فهو الغني بذاته عن كل خلقه، فلا يملك أحد عنده أي شيء، بل هو المالك لهم في كل وجودهم، فلا معنى للشفاعة بالمعنى الذاتي للشفيع.
ولذلك كان النفي عن ملكية أحد للشفاعة عنده مساوقاً لنفي مساواة غيره له أو تأثيره عليه، باعتبار ارتباط ذلك بمواقع القوة في ذاته المقدسة التي لا يملك أحد الاقتراب منها أو التأثير عليها، لأن الخلق هم الفقراء إليه وهو الغني عنهم، فوجودهم هو وجود الحاجة إليه، أما وجوده، فهو وجود الغني المستقل في كل شيء عن كل الموجودات. وهذا ما يجعل التعبير بنفي الشفاعة عن كل أحد إلا بإذنه، مناسباً للحديث عن قدرته المطلقة في تدبيره الأمور بعد خلقه لها واستقلاله بها، بعيداً عن أي تأثير ذاتي لغيره مما يريد إصداره من قرارات في مجال العقاب والثواب.
وهذا هو الذي يجعلنا لا نفهم معنىً للسببية في الشفاعة والدعاء والمسألة بالمعنى الذاتي لارتباط المسبب بسببه، بل نفهمها بالمعنى الجعلي الإذني للشفعاء والداعين والسائلين الذين يسألون ويشفعون ويدعون، فيمنحهم الله ما يريدون من خلال إذنه لهم بالقيام بهذه الأمور، فلا استقلال لهم في شيء، {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }[الأنبياء: 26 ـ 27].
وفي ضوء ذلك، فإننا لا ننفي اعتبار السببية التكوينية في ارتباط الأشياء بأسبابها، على أساس ما أودعه الله فيها من خصائص في داخل وجودها، مما يعني سرّ السببية أو العليةِّ، لتكون حركتها بإذنه في الجانب الوجودي المتحرك بقدرته التي تَحرّك السبب في اتجاه المسبب، مما يمكن التعبير عنه بالأول التكويني، ولكن هذا لا علاقة له بمصطلح الشفاعة كما بيّنّاه.
* * *
مع تفسير الأمثل في موضوع الشفاعة
وقد ذكر بعض المفسرين ملاحظة حول العلاقة بين الشفيع والمشفوع له، فقال: «الشفاعة تستلزم نوعاً من العلاقة المعنوية بين الشفيع والمشفوع له، لذلك، فإن على من يرجو الشفاعة، أن يقيم في هذه الدنيا علائق روحية مع من يتوقع شفاعته. إن هذه العلائق ستكون ـ في الواقع ـ وسيلة من وسائل تربية المشفوع له، بحيث إنها تقرِّبه من مدرسة أفكار الشفيع وأعماله، وهذا ما سيوصله إلى أن يكون مؤهلاً لنيل تلك الشفاعة.
وبناءً على ذلك، فالشفاعة عامل تربويّ، وليست نوعاً من المحسوبية والمنسوبية، ولا ذريعة للتنصل من المسؤولية.
ومن هذا يتضح أن الشفاعة لا تغيّر إرادة الله بشأن العصاة المذنبين، بل إن العاصي أو المذنب ـ بارتباطه الروحي بشفيعه ـ يحظى بتربية تؤهله لنيل عفو الله تعالى[6].
ولكننا نلاحظ على ذلك أن الشفاعة لا ترتبط بعلاقة المشفوع له بشفيعه، بل ترتبط بعلاقة الشفيع بالله، فلا ضرورة فيها للصلة الروحية بالشفيع، لأنه لا يمثل ـ في معناها القرآني ـ واسطةً ذاتيةً بحيث يتوجه الإخلاص إليه وينفتح الحب عليه، بل هو ـ في هذه الدائرة ـ من شؤون الإخلاص لله والحب له الذي يتمظهر بحب أوليائه والانسجام معهم، باعتبار أنه من شؤون الارتباط بالله.
وفي ضوء ذلك، لا علاقة للمشفوع له بالشفيع من ناحية ذاتية، بل لا بد له من أن يوثق علاقته بالله ويعزز ارتباطه به، ليكون طلبه للشفاعة تعبيراً عن الدعاء لله بأن يجعل بعض أوليائه شافعاً له من خلال توسله به عنده في ما يريده من تكريمه له بشفاعته لبعض المذنبين.
ولذلك، فإنها تكون عاملاً تربوياً يقربه من الله الذي ارتفع الشفيع عنده لقربه منه، لأن أفكاره ومدرسته ليست هي خصوصياته الذاتية، بل هي رسالة الله التي أمره بإبلاغها وحمّله مسؤولياتها، ولعل هذا ما تعبر عنه الفقرة التالية في دعاء يوم الخميس من أيام الأسبوع، حيث تقول: «صل على محمد وآل محمد واجعل توسّلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً»، حيث إن الدعاء مرفوع إلى الله في جعل التوسل إليه برسوله محمد «شافعاً يوم القيامة نافعاً» ولم يجعل توسله بالشفيع المباشر، أي النبي محمد(ص)، وقد تبرز الفكرة بشكل واضح في قوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، حيث يدل على أن أساس الشفاعة هو أن يكون للشخص علاقة بالله بحيث يرضى الله الشفاعة له.
وإذا كان هذا القائل يقول: إنه لا فرق بين الارتباط بالله والارتباط بالشفيع، باعتبار أنه يبلّغ عن الله ويدعو إليه وإلى رسالته، ما يجعل الارتباط بالشفيع ارتباطاً بالله، فإننا نجيب عن ذلك بأن القضية ترتبط بالشكل في إيحاءاته السلبية عندما يأخذ الشفيع دور الواسطة من قبل طالب الشفاعة لا دور المكلف الذي رضي الله له بالشفاعة من خلال إرادته في المغفرة عن هذا الشخص والعفو عنه.
* * *
قدرة الشفيع من قدرة الله
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فكل الأشياء حاضرةٌ عنده، لا يغيب شيٌء منها عن علمه، لأن الأشياء مكشوفةٌ لديه، فلا مجال لاختباء الإنسان عن الله في أي عملٍ يخفيه، أو سرٍّ يكتمه، أو خطأٍ يستره، لأن الإخفاء والكتمان والستر معان تلتقي بالحواجز المادية التي تحول بين الشيء وبين ظهوره، مما لا مجال لتصوره في ذات الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولعل هذا الإحساس هو الذي يتعمق في وعي الإنسان من خلال حركة إيمانه، فيمنعه عن الجريمة الخفية، والمعصية المستورة، والنيّات الشريرة التي تتحفز للاندفاع والظهور.
{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} وتلك هي قصة الخالق في علمه غير المحدود بالنسبة إلى المخلوق المحدود في وجوده المستمد من وجود الله، وعلمه المستمد من علم الله، في ما أعطاه وفتح له من مجالاته وهيَّأ له من أسبابه، فليس للمخلوق أن يحيط بشيء من علم الله في عالم الشهود وفي عالم الغيب إلا بما شاء الله، حتى الأنبياء، فإنهم لا يملكون علم الغيب في تكوينهم الذاتي، بحيث إن الله خلق فيهم الطاقة التي تكشف لهم عالم الغيب بشكل مطلق، فينفتحون عليه باستقلالهم بعد ذلك، بل إن الله هو الذي يفيض عليهم من هذا العلم بما يحتاجون إليه من ذلك في شؤونهم الرسالية من خلال طبيعة الدور الذي يقومون به والتحديات التي تواجههم، وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى في الحكاية عن النبي نوح في خطابه لقومه على ما قصه الله من ذلك في سورة يونس: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50]، وقوله تعالى: {عَاسلِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَـالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدَداً} [الجن: 26 ـ 28] فإنها ظاهرة في أن الله يمنحهم علم الغيب بما يهيىء لهم السبيل لاستقامة أمرهم وسلامة دورهم وحمايتهم من كل ما بين أيديهم وما خلفهم مما هو حاضر عندهم أو غائب عنهم، تأكيداً لبقاء الإشراف الإلهي والسيطرة الربوبية عليهم، بحيث يحتاجونه في كل شيء مما يحدث لهم أو يطرأ عليهم، وهذا ما قد يوحي ببطلان نظرية الولاية التكوينية التي يراها بعض العلماء للأنبياء وللأئمة(ع).
إن الله يريد أن يؤكد في هذه الفقرة من الآية، إحاطته بكل شؤون خلقه في علمه بكل ما يفيضون فيه، وما يتحركون به، في الوقت الذي لا يملكون الإحاطة بأيّ شيء من علمه من خلال قدراتهم الذاتية، فهو الذي يعطيهم ما يريده لهم من العلم بشكل مباشر أو غير مباشر. وبذلك يشعر المخلوق بالتضاؤل أمام الكثير الكثير جداً مما يجهله ومما لا طريق لديه للعلم به، فيتواضع لله الذي خلقه ويبتهل إليه في ما علمه الله من ابتهالات العلم {وَقُل رَّبِّ زِدْني عِلْماً } [طه: 114].
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرضَ} قال في الكشّاف: «الكرسي ما يجلس عليه، ولا يفضل عن مقعد القاعد. وفي قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أربعة أوجه: أحدها أن كرسيّه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط لا كرسي ثمّة ولا قعود ولا قاعد، كقوله {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواَتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، من غير تصوّر قبضة وطيّ يمين، [الأنعام: 91] والثاني: وسع علمه وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم. والثالث وسع ملكه؛ تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك. والرابع: ما روي أنه خلق كرسياً هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء»[7].
وربما كان الأنسب بجوّ الآية المعنى الثالث، الذي يعطي معنى السلطنة المطلقة التي تتمثل في التدبير والإشراف، وبذلك تتخذ كلمة {وَسِعَ} معنى «الإحاطة» والحفظ، فتنسجم مع قوله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِي الْعَظِيمُ} أي لا يجهده حفظهما؛ وتكون خلاصة المعنى، أن ملك الله وسلطته تسع السموات والأرض، فهو الذي يدبرهما ويرعاهما ويحفظهما من دون جهد ولا تعب، لأن قوته لا تقف عند حد، فلا معنى للجهد وللتعب معها في أيِّ حال من الأحوال، وفي أي موقع من المواقع.
{وَهُوَ الْعَلِي الْعَظِيمُ} الذي لا يمكن أن يقترب إليه أحد من مخلوقاته، لأنه العليّ الذي لا تستطيع هذه المخلوقات أن تبلغ مداه الذي لا يحدّ في علوّه، والعظيم الذي تصغر كل الأشياء أمامه مهما بلغت من عظمة وحجم، لأن عظمتها مستمدة من سرّ العظمة في خلقه، الذي يعيش الحاجة المطلقة إليه، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين في دعاء يوم الجمعة والفطر: «كل جليل عندك صغير وكل شريف في جنب شرفك حقير»[8].
* * *
الإيحاءات والدروس
قد تكون قيمة هذه الآية ـ في الجانب الإيحائي من القرآن ـ أنها تمثل وعي العقيدة في العقل والروح والإحساس بالبساطة التوحيدية التي لا تدخل الإنسان في التعقيدات الفلسفية، بل تقدّم له الصورة الإلهيّة واضحةً بسيطةً ينفتح فيها التصوّر على الله في وحدانيته في شمول ربوبيته لكل شيء، بكل ما تعنيه كلمة الربوبية من الخلق والتدبير والإمداد الغيبي والشهودي والقيام على الخلق كله بالمطلق واليقظة الدائمة التي لا مجال فيها لأيّ غيابٍ في وعي الخلق كله، فوجوده هو الوعي كله، فلا سِنة تصيبه ولا نوم يأخذه، وهو المحيط في علمه بكل شؤون خلقه، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ولا يملك أحد منهم أيّ شيء من علمه إلا من خلال مشيئته في إعطاء العلم لمن يشاء، فكما أن كل وجودهم مستمد من وجوده، فإن كل علمهم مستمد من علمه، ولا شفاعة لأحد عنده من خلال ما يملك من قدرة أو تأثير أو دلالة عليه من خلال ذاته، فمنه الشفاعة، فهو الذي يأذن بها، وهو الذي يختار نتائجها من خلال حكمته العميقة الشاملة، وهو الذي اتسع ملكه وامتدت قدرته، وانفتح حكمه على السموات والأرض، فلا يضيق عنه شيء منها أو ممّا فيها، فهو الذي يحتويها ويحتوي ما زاد عنها، وهو الذي يملك العلو في أعلى درجاته، فلا درجة أعلى من موقعه في ذلك، وهو الذي انطلقت عظمته، فلا عظيم أمامه، لأن عظمة الأشياء هبةٌ منه، وخلقٌ من خلقه.
وهكذا يعيش الإنسان مع ربّه في هذا التصور الفطري البسيط، ليبقى في دائرة الوضوح الذي لا يحتاج معه إلى أيّة شروح وتفسيرات مما يلجأ إليه الفلاسفة في تعقيداتهم الفكرية على أساس الفلسفات الآخرى المرتكزة على القواعد البعيدة عن أجواء العقيدة الإسلامية، بحيث يجد الإنسان المسلم نفسه ضائعاً بين الجوّ الإسلامي للعقيدة، والجوّ غير الإسلامي للفلسفة، الأمر الذي يؤدّي إلى الكثير من الضبابية في عالم التصوّر.
إننا لا ننكر وجود قيمةٍ فكريةٍ في الأسلوب الفلسفي في معالجة قضايا الدين والعقيدة، مما يمنح الفكرة شيئاً من العمق الذي يؤكد قوتها أمام الأفكار الآخرى في مجالات الصراع الفكري بين الإسلام وخصومه، ولكننا نعتقد أن للقرآن أسلوبه الفطري في إثارة مفردات العقيدة على أساس الإيحاء الدائم بالبساطة الروحية في الوجدان الإسلامي، فلا بد من ملاحظة هذا الجانب في دراسة الفلسفة الإسلامية.
إن الحديث عن استحباب قراءتها، يوحي بالمسألة التربوية في تعميق التصور الإسلامي للعقيدة في المفردات القرآنية، ليقرأها المسلم في كل يوم أو في كل ليلة، كمنهج تربويّ إسلامي في تثبيت العقيدة في نفس المسلم، فإن قراءة القرآن اليومية تنطلق من تحريك الآيات القرآنية في الوجدان الإنساني، بحيث يكون نموّه في هذا الجوّ الذي يحقّق الصفاء الفكري للتنشئة الفكرية والروحية، حتى لا تختلط عليه الأمور التي تشوّش عليه الصورة من خلال القراءات المتنوعة، فلا تبقى لديه صورةٌ واضحةٌ عن إسلامه، لذلك كانت القراءة اليومية وسيلة من وسائل إعادته إلى الينابيع الإسلامية الصافية للعقيدة وللمفاهيم العامة للحياة، بالطريقة الذاتية التي يواجه فيها الإنسان قضيته العقيدية من موقعه الإنساني في تجربته الذاتية، فهو الذي يقرأ الآية التي قد تثير لديه الكثير من التساؤلات وذهنية اللامبالاة، أمام التيارات الأخرى إذا اندفعت إلى ساحته العامة أو وجدانه الخاص.
إن الإنسان ـ في هذه الحال ـ يمارس رياضة تربوية يومية تقوي عضلاته الروحية والفكرية بالطريقة التي يحصل فيها على المناعة القوية، فلا يزحف الضلال إليه بسهولة، ولا تقتحم الحيرة طمأنينته النفسية.
ــــــــــــ
(1) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، ص:432.
(2) تفسير الميزان، ج:2، ص:341.
(3) السيوطي، عبد الرحمن، جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993م ـ 1414هـ، ج:2، ص:12.
(4) تفسير الميزان، ج:2، ص:342.
(5) تفسير الميزان، ج:2، ص:337 ـ 338.
(6) الشيرازي، ناصر مكار، الأمثل في تفسير كتاب الله تعالى، مؤسسة البعثة، بيروت، ط:1، 1413هـ ـ 1992م، ج:2، ص:175 ـ 176.
(7) الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:1، ص:385 ـ 386.
(8) الصحيفة السجادية الكاملة، دار الأضواء، بيروت، دعاؤه في يوم الفطر، ص:269.
تفسير القرآن