تفسير القرآن
البقرة / الآية 256

 الآية 256
 

الآيــــة

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(256).

معاني المفردات

{إِكْرَاهَ} الإكراه: الإجبار والحمل على الفعل من غير رضا.

{الرُّشْدُ}: خلاف الغيّ، وهو إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق، ويستعمل استعمال الهداية. يقول صاحب تفسير الميزان: إنّ معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعنايةٍ خاصة على مصاديق الآخر... وكذلك القول في الغيّ والضلال[1].

{بِالطَّاغُوتِ} كل متعدّ، وكل معبود من دون الله، كالأصنام والشياطين وأئمة الضلال من الناس، وكل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه. والطاغوت مبالغة في الطغيان والتجاوز عن الحد.

{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: العصمة الوثيقة، وهي استعارة تصريحية تمثيلية، فقد شبّه من يسلك سبيل الله بمن أخذ بحبل وثيق مأمون لا ينقطع.

{انفِصَامَ}: انقطاع، من الفصم وهو الكسر.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول للواحدي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد، فتحلف لئن عاش لها ولد لتهوّدنه، فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا، فأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال سعيد بن جبير: فمن شاء لحق بهم، ومن شاء دخل في الإسلام.

وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له صبيح، وكان يكرهه على الإسلام. وقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار يكنى أبا الحصين، وكان له ابنان، فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع من المدينة، أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وخرجا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) فقال: اطلبهما، فأنزل الله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): أبعدهما الله هما أول من كفر.

وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان، فتنصرا قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وسلّم)، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام، فأتاهما أبوهما فلزمهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى النبي (صلى الله عليه وسلّم)، فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قد تبيّن الرشد من الغيّ} فخلى سبيلهما.

وعن مجاهد، قال: كان ناس مسترضعين في اليهود، قريظة والنضير، فلما أمر النبي (صلى الله عليه وسلّم) بإجلاء بني النضير، قال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[2].

فإذا صحت هذه الروايات التي اختلفت في مواردها واتفقت في مضمونها، فإنها تشير إلى أن مدلول الآية يوحي بالمنع من إكراه الإنسان الذي انتقل إلى دين آخر، أو كان فيه من خلال البيئة التي عاش فيها، بالرجوع عنه والعودة إلى الإسلام أو الانتقال إليه، انطلاقاً من إرادة الله للإنسان بالالتزام بالإسلام في مرحلة الحدوث أو البقاء من خلال التأكيد على حريته في الانتماء الديني.

وهذا ما قد يتنافى مع المشهور بين العلماء من حكم المرتد بإكراهه على العودة إلى الإسلام أو منعه من الانتقال عنه، فلا بد من دراسة هذه المسألة بالمقارنة مع هذه الروايات، ولكن لم تثبت لنا صحتها.

* * *

لا إكراه في الدين ـ مدلولها ومغزاها

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟ هل تعني نفي الإكراه من خلال إعطاء الإنسان الحرية في أن يؤمن أو لا يؤمن، على أساس أنها قضيته الشخصية التي لا تستتبع أيّة مسؤولية، تماماً كما هي قضية أن يأكل الإنسان أو لا يأكل في ما يباح للإنسان أن يفعله أو يتركه، أو أنها تعني نفي الإكراه من خلال إعطاء فرصة الاختيار للإنسان على أساس تقديم البراهين على ما في الدين من الحق، وما في الكفر من الباطل، مع التأكيد على أنّ الاختيار المضاد يستتبع المسؤولية بالعقاب في الآخرة، بالنظر إلى وضوح الرؤية في الحق الذي يمثله الدين، وفي الباطل الذي يمثله الكفر، فلا شبهة ولا ريب، لأن كلَّ ما يثار من عناصر الريب والشبهة لا يمثل قيمةً كبيرةً في حساب الفكر والوجدان، لضعف الحجج المضادة، وقوّة الأدلة الموافقة، ولعلّ هذا ما يظهر من ختام الآية.

ثم يبرز سؤال آخر: هل الفقرة واردة في مورد الإخبار، أو هي واردة في مورد الإنشاء والتشريع؟

ربما يبدو للبعض الفرض الأول، باعتبار أنّ قضية الدين تتعلّق بالقناعة الداخلية الفكرية للناس، وهي من الأمور التي لا تقع تحت طائلة الإكراه، ويرى هذا البعض في قوله تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، دليلاً على هذا الفرض، لأن معنى هذا ـ في ما يراه ـ هو أن هناك ما يدعم حجة الدين من خلال وضوحه في مقابل الكفر، فلا معنى للإكراه على أيّ حال، لأن الدعوة إليه تنسجم مع الطبيعة الذاتية لعلاقة الفكر بالقناعة الدينية.

وهناك من يرى في هذه الفقرة حكماً شرعياً يدعو النبي إلى عدم إكراه الآخرين على الدخول في الدين، بل كل ما هناك أن يدعوهم إليه بالحجة والبرهان والحكمة والموعظة الحسنة، فيعرض أمامهم الرشد الواضح في مقابل الغيّ الواضح، ويترك لهم المجال لكي يتحملوا مسؤولية مصيرهم في الدنيا والآخرة من موقع الإرادة السلبية أو الإيجابية.

ويذكر أصحاب هذا الرأي، أنّ مثل هذه الكلمة قد وردت في أكثر من موقع تشريعي، كما في قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 187] أو في الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار»[3] ،وغيرهما، فإن مفادها هو نفي تشريع مثل هذه الأمور، ويرون في آية {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أساساً لهذه الفكرة، باعتبار أن الاعتماد على البلاغ والدعوة من موقع الوضوح في القضية هو الذي يخدم الدين أكثر مما يخدمه الإكراه، فإذا كان الله قد خلق الإنسان مختاراً في ما يأخذ وفي ما يدع من موقع التكوين، لأنه يريد للحياة الإنسانية أن تتحرك في خط الاختيار على أساس المسؤولية، فإنه يريد لرسالاته من خلال رسله أن لا تفرض على الناس من موقع التشريع، وعلى هذا، فتكون الآية واردة في أسلوب الدعوة من جهة، وفي خط مهمّة النبي الداعية من جهة أخرى. ففي الخط الأول، ينطلق الأسلوب في إطار الوضوح الذي هو سِمة الدين الحق، وفي الخط الثاني، يتحرك النبي الداعية في أجواء الإبلاغ والإقناع وحركة حريّة الفكر... وفي هذا الخط، تلتقي الآية، في ما توحيه، بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الغاشية: 21 ـ 22]، وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [يونس: 99].

وربما كان هذا الاتجاه في تفسير الآية أقرب إلى هذه الأجواء القرآنية من الاتجاه الأول، بل ربما نستطيع أن نؤكد ذلك على أساس أنه لا معنى لسوق الآية مساق الإخبار، لأن عدم قابلية الدين للإكراه من حيث هو فكر، من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى المزيد من التوضيح والاهتمام.

* * *

موقع القتال من قضية الإكراه في الدين

وهنا قد يُطرح السؤال الآتي:

كيف نفهم القتال في الإسلام، ألم يكن جهاداً من أجل الدعوة؟ وكيف نفهم تخيير المشرك بين الإسلام وبين السيف، أليس هذا إكراهاً في الدين؟ فإذا لم يكن كذلك، فما معنى الإكراه؟

ونجيب على ذلك، أن القتال في الإسلام، كما ألمحنا إليه، لم يستهدف إجبار الناس على الدخول في الدين، بل هو خاضع للأسباب والمبررات الواقعية التي تفرضها طبيعة الساحة من خلال الأهداف الدفاعية أو الوقائية… أمّا الجهاد من أجل الدعوة، فليس هدفه إكراه البلاد على الدخول في الإسلام، بل هدفه إيصال الدعوة إلى كل إنسان من قاعدة «إن الدين لله…»، فلا بد من إيصاله إلى كل عباده ليعبده الناس كما يريد، وإن الله أرسل رسوله برسالته للناس كافّة، فلا بد من أن يعرفه كل الناس... وإذا كان هناك من يقف بين الإسلام وبين حريته في ذلك، فله الحق في أن يواجه هؤلاء بمختلف الأساليب السلميّة وغير السلميّة...

فإذا وصلت الدعوة إلى الناس من خلال الدعاة، وقامت الحجة بهم على الناس بما يقدمونه من أدلة وبراهين، فهناك فريقان من الناس؛ فريق أهل الكتاب الذين يطرح عليهم الإسلام التعايش في ضمن شروط الذمّة التي تكفل لهم حرية المعتقد والعبادة والشؤون الشخصية في نطاق مجتمعهم الخاص، وبذلك يمكنهم أن يعيشوا مع المسلمين وفي حمايتهم مما يحمي به المسلمون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، دون أن يتكلفوا بأية مسؤوليات في الحرب والقتال، لا سيما إذا كان القتال لأشخاص يدينون بدينهم... فإذا لم يستجيبوا لذلك ولا للإسلام، فإن معنى ذلك إعلان الحرب والتمرد الذي يبرر للإسلام أن يدافع عن نفسه ضد كل محارب له ومتمرد على سلطته.

أما الفريق الثاني، فهو فريق المشركين والملحدين الذي يمكن للمسلمين أن يدخلوا معهم في معاهدة ضمن المصلحة الإسلامية العليا، على رأي فقهي خاص، أما إذا لم يكن هناك مصلحة في ذلك، فليس هناك إلا الإسلام لقيام الحجة عليهم، ولأن الإسلام لا يعتبر الشرك والإلحاد ديناً يبعث على الاحترام، بل هو ضد مصلحة الإنسان والحياة، بل إن الإسلام قد جاء من أجل أن يزيل كل عوامل الشرك والإلحاد في دعوته التوحيديّة، فلا معنى لأن يسمح بالتعايش معهما على أساس الاحترام المتبادل، لأنه يعني إعطاء الحرية لنقيضه، مع أن هذا يعتبر ـ في نظر بعض المفكرين ـ تأكيداً لسلطة الإسلام على هؤلاء، لا إكراهاً لهم على الدين، لأن السبيل الوحيد لممارسة هذه السلطة عليهم هو ذلك، لأنه الذي يمنعهم من ممارسة الكفر من ناحية عملية. وهذا ما جعل القرآن يفرق في المصطلح بين الإسلام الذي يعني الخضوع لسلطة الإسلام في الجانب العملي من دون دخل للجانب العقيدي، وبين الإيمان الذي يعني إسلام القلب والوجه واللسان، إلى جانب إسلام العمل... وبذلك جرى اعتبار المنافقين من المسلمين، مع أن القرآن يعلن أن الله يشهد أنهم لكاذبون.

وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن هذا الموضوع خاضع في حركيته للمتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي قد تفرض بعض العناوين الثانوية التي يتبدل فيها الموضوع الذي يتبعه الحكم الشرعي، فيمكن للدولة الإسلامية، أو للمجتمع الإسلامي، إبقاء الملحد أو المشرك على عقيدته في نطاق القوانين والأنظمة العامة، ومنحه الحرية في بعض شؤونه الثقافية ليدخل في حوارات متنوعة مع المراكز الثقافية الإسلامية حول عقيدته الإلحادية أو المنحرفة أو الإشراكية من أجل الوصول معه إلى الوضوح في المسألة الفكرية في هذا الجانب أو ذاك، خصوصاً أنه من الصعب أن تلتقي إنساناً يؤمن بالإلحاد بمعنى اعتقاد النفي، لأن النفي يحتاج إلى دليل لا يملكه النافي، كما هو الإثبات بحاجة إلى الدليل، بل كل ما هناك، أن الإنسان يشك في الله وفي الرسالة وفي اليوم الآخر، وفي بعض المفاهيم الإسلامية الثابتة كضرورة في الدين، وفي هذه الحالة، لا يُعتبر الشاك كافراً إذا لم يتحوّل الشك إلى جحود لا يملك الدليل عليه، وفي ضوء هذا، لا ينطبق عليه حكم الكافر الذي لا يسمح الإسلام له بالحرية من ناحية المبدأ في الظروف الطبيعية.

* * *

الآية ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد يشكل البعض علئ الجانب الخاص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمتمثل بفرض التغيير بالقوة لجهة اعتباره نوعاً من أنواع الإكراه، كما حاول البعض أن يهاجم هذا الأسلوب المتّبع في المجال التطبيقي للإسلام في المجتمع بهذه الحجة، فطرح فكرة «لا إكراه في الدين» التي تتنافى مع كل أساليب العنف والضغط في كل أعمال الإنسان وأقواله. ونجيب على ذلك، بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل في نطاق تطبيق النظام على الفرد والمجتمع، أو ما يسمى بتنفيذ القانون، ولا معنى لأن يمنح القانون للناس حرية التمرّد عليه أو تعطيله. ونحسب أن هؤلاء الذين أثاروا هذا الجانب من الاعتراض، يعتقدون بأن للفرد حرية من نوع خاص، فهم يرون الإنسان حراً في مأكله ومشربه وألعابه وشهواته التي لا تسيء إلى الآخرين... كما يرون الإنسان حراً في أن يعبد الله أو لا يعبده، ولكن الإسلام لا يؤمن بهذه الحرية للفرد، بل هو يشرّع للفرد في حياته الخاصة كما يشرّع له في حياته العامة، ويتدخل في شؤونه الذاتية حتى في أشد الأشياء خصوصية له... وبذلك يتسع القانون حتى يشمل ذلك كله، ويتّسع ـ تبعاً لذلك ـ تنفيذه حتى يسيطر على ذلك كله. وعلى ضوء هذا، فإن الاختيار لا يمنح في هذه الدائرة، بل يمنح في دائرة اختيار الطريق في ما يعتقد وفي ما لا يعتقد، كما أشرنا إلى ذلك آنفاً.

{قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. إن الإسلام هو دين الفطرة في تقريره الإيمان بالله، وفي ما يأمر به وينهى عنه، ولذلك فإن الإنسان لا يحتاج في إيمانه بالله وبالإسلام إلا أن ينفتح على الفكرة ويرجع إليها ليلتصق بها... وهذا ما عبرت عنه بعض الآيات كما في قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ} [إبراهيم:10]َ وذلك بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي بأن الموضوع غير قابل للشك جملةً وتفصيلاً. أمّا الذين كفروا، أو عاشوا في أجواء الشك، فإنهم أغلقوا عيونهم عن النظر، وآذانهم عن السماع، وعقولهم عن التفكير {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]، إن قضية الإيمان والكفر لدى الإنسان هي قضية استعمال أدوات المعرفة التي تفتح قلبه على الحقيقة وعينه على الحياة، أو عدم استعمالها، وليست قضية فكرٍ معقدٍ يحتاج إلى تحليل وتفسير، تماماً كما هي الشمس عندما تغمض عينيك، وتبادر إلى إنكارها، إن ذلك لا يعني وجود إشكال في وجود الشمس، بل كل ما يعنيه هو وجود مشكلة في طريقة مواجهتك للحقيقة من خلال أدوات المعرفة التي تستخدمها للكشف عنها.

* * *

الكفر بالطاغوت وعلاقته بالإيمان

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

إن حبل الإيمان بالله قوي وشديد ومتماسك، وإن جذور الإيمان عميقة عمق الحياة الممتدة في الكون، فمن آمن بالله، فقد استمسك حينئذٍ بالقوة التي لا مجال فيها لضعف أو انحلال، ومن يكفر بالطاغوت، فقد انفصل عن كلّ عوامل الضعف والفساد والخذلان، لأن الطاغوت يمثل ما يعنيه الطغيان من معاني الانحراف والانهيار المنفصلة عن كل ما تمثله الإنسانية من قوّة وعمق وامتداد.

إنها دعوةٌ موحيةٌ للكفر بالطاغوت في جميع مجالاته التي يتحرك فيها في حياة الناس في مجال الفكر والعقيدة والحكم والسياسة والاجتماع، فالقوى التي تمثل الفكر الباطل أو الحكم الباطل أو السياسة الباطلة أو القوة الغاشمة المعتدية، هي قوى طاغوتية في مفهوم الإسلام، لأنها تتنافى مع الفكر الحق والحكم الحق والسياسة الحقة والقوة العادلة المنفتحة على كل حركة الإنسانية في الحياة، وبذلك فهي ضد الإيمان بالله في ما يعنيه هذا كله.

وربما كان التركيز على الطاغوت الحاكم من الأمور الحيوية في هذا الرفض للطاغوت، لأن خطورته تتمثل في سيطرته على مقدرات الواقع كله من الناحية الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية، من خلال أن ذلك يمكّنه من احتواء الساحة كلها في جميع جوانبها، لأن ذلك هو الذي يؤكد حاكميته في الخط الذي جعله لحكمه وموقعه الطاغوتي بتأكيد المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفتح له آفاق الذهنية العامة للناس في عناصر الفساد المتنوعة الداخلية والخارجية، بحيث يتحركون تبعاً لإيحاءاتها ومعطياتها ونتائجها.

فإن الحاكم الطاغوتي الذي يرتكز حكمه على قاعدة ثقافية ذهنية عامة، أكثر قوّة من الحاكم الذي ينطلق بالقوة وحدها في فرض سيطرته على الناس.

وبذلك يقف الإنسان المسلم في الحياة أمام خيارين لا ثالث لهما، الإيمان بالطاغوت الذي يعني الارتباط بخط الكفر والباطل ويؤدي إلى الكفر بالله، والإيمان بالله الذي يعني الانطلاق في حركة الحياة من موقع الحق في ما يمثله من امتداد ومسؤولية وشمول، ويمثل في مدلوله العميق الكفر بكل ما عدا الله ومن عداه من خطوط الباطل وقواه. فلا يمكن أن يجتمع في قلب إنسان مؤمن وحي الله ووحي الطاغوت، وفي حركة إنسان مؤمن خطوات الحق وخطوات الباطل، لأن آفاق الإنسان لا تتحملهما معاً إذا كان الإنسان يتحرك في الحياة من موقع الجديّة والمسؤولية في ما تعنيه كلمة الإنسان المسؤول.

وربما ينطلق التساؤل: لماذا هذا الحديث عن الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله في هذه الآية كما هو الأسلوب نفسه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر:17].

والجواب عن ذلك: أن الإيمان ينطلق من انفتاح القلب أو العقل على الله بحيث لا يكون في داخله أيّ موقع لغيره، حتى يكون الإيمان صافياً نقيّاً خالصاً في إيحاءاته وخلفياته ومعطياته، لئلا يسيء الجو الداخلي في زحف المشاعر الخفية السلبية إليه، فتختلط الصورة، ويرتبك الإحساس، ويمتزج الحق بالباطل، ويعيش الإنسان الازدواجية بين بقايا الطاغوت في الفكر، وحركة الإيمان في الذات، وبذلك تضطرب الخطوات وتنحرف يميناً وشمالاً.

ولهذا كانت الخطة الإلهية في تعميق الإيمان وتصفيته أن يطرد الطاغوت من عقيدته كوسيلةٍ من وسائل طرده من حياته، ليكون القلب فارغاً من كل المؤثرات السلبية، ليدخل الإيمان فيه، فيستولي على الذات كلها، ولعلّ هذا ما توحيه كلمة الإيمان التي هي أساس الإسلام وهي شهادة التوحيد: «لا إله إلا الله» التي تتضمن مفهوماً سلبياً وهو نفي أي إله غير الله ممن يتخذهم الناس آلهة في الذهن وفي الواقع، ومفهوماً إيجابياً، وهو إثبات الألوهية الواحدة، لأن الوحدانية هي ذلك في العمق، لأنها تعني سلب العدد الآخر والاقتصار على الواحد.

ولا بد لنا ـ في هذا الاتجاه ـ من تخطيط منهجية تربوية تنطلق في حركتها من تفريغ ذهنية الإنسان الذي ندعوه إلى الله أو نهديه إلى الإسلام وإلى التقوى، من الأفكار الضارة والمشاعر السيئة والانطباعات الشريرة، ونعزل ذاته عن كل شخص طاغ أو منحرف أو ضال، حتى لا يؤثر على نفسيته أو يشوّش خاطره، فإذا طهّرنا ذاته من ذلك كله، أمكننا أن نزرع فيها الإيمان والخير والتقوى في أسلوب صافٍ بعيد عن التأثر والامتزاج بأي شيء مضاد، والله العالم.

ـــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:2، ص:346 ـ 347.

(2) الواحدي، أبو الحسن علي بن أحمد، أسباب النزول، دار الفكر، 1414هـ ـ 1994م، ص:45 ـ 46.

(3) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط:1، 1412هـ ـ 1992م، ج:22، ص:356، باب:37، رواية:117.