تفسير القرآن
البقرة / الآية 257

 الآية 257
 

الآيــة

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(257).

* * *

جدل النور والظلمات أو الإيمان والكفر

ما الذي يعنيه الإيمان في حياة الإنسان المؤمن، وما الذي يمثله الله في حركة حياته؟ هل الإيمان بالله مجرد فكرة تجريدية ترتبط بالجانب الفكري التجريدي من الإنسان، تماماً كما هو الفكر الفلسفي الذي يتحرك في نطاق التصورات المجردة التي تفلسف الواقع في ما هو يتحرك بعيداً عن كل فلسفاتها... فالواقع يتقدم، وهي تلهث خلفه لتفهمه وتعطيه صورة من صور الفكر أو الخيال؟ أو أنه يمثل الفكرة التي تدخل في عمق وجدان الإنسان وتتحرك في كيانه من حيث إنها تمثل التحديد لخط المسير في نقطة البداية والنهاية وتنطلق بعيداً في حياته لتغييرها على صورتها، فيتغيَّر مصيره تبعاً لتغيير الصورة؟

إن الجواب عن ذلك، هو أن نختار الفرض الثاني. ففي الإيمان، تلتقي خطوط الحياة العملية المسؤولة التي تقف بحساب وتتحرك بحساب وتخطط على أساس أن الله موجود من حيث هو خالق ومن حيث هو رازق ومن حيث هو رب الوجود ومالكه ومنه كل شيء وإليه المصير، وإن وجود الإنسان يمثل الظلّ لوجوده، فهو مفتقر إليه في كل شيء، كما أن الله مستغن عنه في كل شيء... فقضية الإيمان بالله مرتبطة بوجود الإنسان، بأعمق ما تمثله الرابطة العضوية بين شيء وآخر.

وهذا هو معنى ما يمثله الله في حركة حياته، فهو الذي يفتح للناس آفاق النور من خلال هدايته، في ما يوحي إليهم من آياته، وفي ما يشرّع لهم من شرائعه، وفي ما يقودهم إليه من مصير، وفي ما يثيره في أفكارهم من مفاهيم مضيئة... وبذلك لا يمكن أن يعيش المؤمن معاني القلق والضياع والحيرة، ولا يشعر بالجو الضبابي يغلّف رؤيته للأشياء التي حوله، ولا يتخبط في ظلمات الريب والشك والشبهة، ولا يتعقّد أمام الأزمات التي تختنق في داخله لتخنق له حياته، لأنه يعرف من خلال إيمانه كيف يخطط لطريقه الذي لا التواء فيه ولا انحراف، ويشعر بالنور يقتحم عليه وعيه للأشياء من حوله، ويزيل عنه كل ريب وشبهة، ويشعر في الوقت نفسه، أن الكون يتحرك بالقوة الحكيمة الرحيمة القادرة التي تسيطر على كل شيء وتضع كل شيء بحساب وتقضي كل شيء بحساب، وبذلك لن تكون الحياة خشبةً في مجرى التيارات، بل هي سفينة تسير بقيادة مدبّر حكيم.. حتى الموت ـ في وعي المؤمن ـ ليس ظلاماً وليس نهاية كل معاني الحياة، بل هو انفتاح على الله في حياة جديدة يواجه فيها الإنسان نتائج مسؤوليته، كما كان يواجه في الدنيا حركة المسؤولية، فهو يعيش في وضوح الرؤية في الدنيا، وينطلق مع وضوح الرؤية في الآخرة، وفي ضوء ذلك، نفهم كيف يخرج الله الذين آمنوا من الظلمات إلى النور.

أما الذين كفروا بالله، فهم الذين أغلقوا عيونهم عن النور المتدفق من كل جانب من جوانب الحياة، وأخلدوا إلى الأرض، وعاشوا للّحظة الحاضرة، وغرقوا في ظلام الشك والشبهة، فهم يتنقلون من ظلمة إلى ظلمة، ومن مشكلة إلى مشكلة، ووقفوا أمام قضايا المصير في الطريق المسدود، فلا فكرة تنير لهم الطريق... وبذلك عاشوا القلق والضياع والإحساس بعبث الحياة وتفاهتها، وتحركوا مع أطماعها وشهواتها وسكراتها، يُغرقون فيها آلامهم، ويغيبون فيها مع أوهامهم... وإذا كانت الأطماع هي سِرُّ حياة الإنسان، فهناك التخبط والقفز على المواقع، والانتقال من طريق إلى طريق من دون قاعدةٍ ومن دون أساسٍ... إنهم لم يملكوا القاعدة التي تتفجر بالنور وتفجر النور من حولهم، وهي الإيمان بالله، فساروا مع الطاغوت الذي يمثل الظلم والظلام والجحود والنكران، فوقعوا في الظلمات، ظلمة الكفر والشرك والعصيان، فكان جزاؤهم النار خالدين فيها، بعد أن وضح الطريق أمامهم، فانحرفوا عنه، وذلك هو جزاء الكافرين الجاحدين...

* * *

الله وليّ الذين آمنوا

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ} فهو ربهم الذي خلقهم ورزقهم ورعاهم ورباهم ودلّهم على مواقع هدايته وسبل رشده، وأفاض عليهم من نور علمه وزوّدهم بوسائل معرفته، وأنزل عليهم وحي رسالاته، وفتح قلوبهم على نور البصيرة، فكانوا منه على نور في العقل والروح والشعور والحركة، بحيث لا تلتقي بهم ظلمةٌ في أيّ طريقٍ يسلكونه، وفي أيّ فكرٍ يفكرون به أو أيّ أفقٍ يتطلعون إليه، إلا وأعطاهم ـ من خلال كل ما وهبهم من ألطافه ـ نوراً وإشراقاً يمنحهم من كل نور نوراً جديداً ومن كل إشراقةٍ وعياً جديداً. وهكذا تنطلق ولاية الله للإنسان المؤمن لتحتضن روحه وعقله وحياته وتوجه خطواته إلى الصراط المستقيم الذي يفتح لهم كل نوافذ النور التي تطل بهم على السعادة في الدنيا والآخرة.

ومن خلال ذلك فإنه {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ} بما تمثله كلمة الظلمات من ظلمة الكفر والشرك والجهل والتخلف والشرّ والظلم والباطل، وكل الأخلاق والأعمال التي تؤثر في ظلمة العقل والقلب والروح والحركة والشعور والحياة بشكل عام، {إِلَى النُّورِ} الذي يتمثل في وحي الله وتعاليم رسله بما يقرب الناس من مصالحهم في الدنيا والآخرة ويبعدهم عما يفسد أفكارهم ومشاعرهم وأوضاعهم الخاصة والعامة في الحياة.

والظاهر من هذا التعبير الذي يلتقي بأكثر من آية مماثلة في القرآن لهذه الآية، أن هذا الإخراج وارد على سبيل الاستعارة المجازية في استعارة الكلمة الموضوعة للمعنى المادي للنور والظلمة للصورة المعنوية لها، وهي الهداية للإيمان التوحيدي والنهج التشريعي والمنهج الأخلاقي الذي يتحرك فيه الإنسان في حالة من الصفاء الروحي والنقاء الفكري والاستقامة العملية، ونحوها مما يشبه حركة الإنسان في النور في صفائه ونقائه واستقامة طريقه، فيكون السائر معها كالسائر على النور، في مقابل الكفر والشرك والنهج الشرير في الجانب الأخلاقي والشرعي الذي يعيش الإنسان فيه التخبط الفكري والعملي في أكثر من طريق.

ولكن العلاّمة الطباطبائي يرى أن هذا الآخراج وما شاكله من المعاني، أمور حقيقية غير مجازية... غير أنها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا، بل هي لوازمها التي في باطنها[1].

ونلاحظ على ذلك، أن هذا الاتجاه في فهم الكلمات وفي توسعة مفاهيمها، تشمل المعاني الاعتيادية التي يدركها الناس في وعيهم للألفاظ عند سماعها، وغير الاعتيادية مما لم يألف الناس وسائلها، أو لم يعرفوها في واقعهم الوجودي الكلامي، لتكون الكلمة منفتحةً على المعنى الممتد في الوسائل المادية وغير المادية.

إننا نلاحظ على هذا الاتجاه أنه لا ينطلق من حالةٍ لغويةٍ، بل من حالة عقليةٍ تحليلية، بينما نجد أن الكلمات ترتبط بالتصورات الذهنية المألوفة لدى الواضع ـ إن كان هناك واضع ـ أو المستعمل، أو السامع الذي يعيش في أجواء اللغة. إن من الممكن توسعة معاني الكلمات على مستوى المجاز أو الحقيقة الادّعائية، ولكن ذلك لن يغيِّر شيئاً من المسألة اللغوية التي لا تجعل الاستعمال حقيقياً في نطاق المعنى الحقيقي الذي وضع اللفظ فيه.

وفي ضوء هذا، فإننا لا نستطيع موافقة السيد الطباطبائي على هذا الفهم العقلي للكلمة، بالرغم من دقتّه وطرافته، بل إن دراسة الآيات المتعددة التي ورد فيها هذا التعبير، تشير إلى المقصود بهذه الكلمات، فنقرأ قوله تعالى في سورة المائدة: {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 ـ 16]، وقوله تعالى: {ألر كِتَابٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِـَايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 5]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيات بَيِّناتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد:9]، وقوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق:10 ـ 11]، فنحن نلاحظ أن النور الذي يدخل المؤمنون إليه، هو كتاب الله الذي عبر عنه بالنور في الآية الأولى، من خلال ما يوحي به للإنسان من حقائق العقيدة والشريعة والحياة، كما في الآية الثانية، وهذا ما توحي به الآية الثالثة التي جعلت الرسالة التي كلف الله بها موسى أن يحملها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، باعتبار أنها تتحرك في خط التوراة التي هي النور، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} وقد جاء التعبير بالنور عن الإنجيل في الحديث عن عيسى(ع): {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً} [المائدة: 46]، وهذا ما نستوحيه من الحديث عن الآيات البينات التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور.

وخلاصة ذلك كله، أن النور هو الكتاب المنزل والرسول المرسل، فكيف يمكن أن يختزن المعنى الذي تدل عليه الكلمة من مدلولها اللغوي؟! وهذا ما تنطلق ولاية الله في حياة الإنسان لترسم له الطريق الواضح والخط المستقيم في كل حياته، ليعيش في وضوح الرؤية الذي يشمل كل منطلقاته وتطلعاته وأعماله وأقواله وعلاقاته ومواقفه في نفسه ومع الناس والحياة، تماماً كما هو الوضوح الذي يعيشه الإنسان الذي يتحرك في الطريق المنفتح على إشراقة النور في السماء.

* * *

الطاغوت ولي الذين كفروا

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ} وابتعدوا عن خط الإيمان وروحه وفكره وحركته {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} الذين يقدمون لهم فكراً بعيداً عن وحي الله ومنهجاً لا يلتقي بالمنهج الحق الصادر عن رسل الله، وأخلاقاً لا تتصل بالخط الأخلاقي الذي شرّعه الله، ومواقف ومواقع وأوضاعاً لا تخضع لأحكام الله وشريعته، فأفسدوا عليهم وجدانهم وأفكارهم ومشاعرهم وحياتهم وحياة الآخرين، فهم {يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} لأنهم ينتقلون بهم من دائرة الإيمان بالله والحق والخير والمحبة والسلام والطهارة والصفاء والنقاء، إلى دائرة الكفر به والباطل والشر والحقد والعداوة والحرب والقذارة والرجاسة، فهم يتخبطون في الظلمات في كل يوم يبتعدون فيه عن نور الحق، وبذلك استحقوا غضب الله وسخطه {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }، لأنهم تمردوا على الله بعد أن قامت عليهم الحجة من قبله، وليس لهم حجة يقدمونها بين أيديهم، فكان جزاؤهم النار وبئس القرار.

ــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:2، ص:349 ـ 350.