الآية 258
الآيــــة
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحيي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(258).
* * *
معاني المفردات
{أَلَمْ تَرَ إِلَى}: الهمزة للاستفهام التعجبي، ألم ينته علمك ورؤيتك. قال صاحب المجمع: دخلت (إلى) من بين حروف الجرّ، لأنها لما كانت بمعنى الغاية والنهاية، صار الكلام بمنزلة: هل انتهت رؤيتك إلى من هذه صفته، ليدل على بُعد وقوع مثله على التعجيب منه[1].
{حَآجَّ}: غالب خصمه بالحجة، والمحاجّة، أن يطلب كل واحد أن يردّ الآخر عن حجته ومحجّته. ويسمّى ما يحتجّون به حُجّةً وإن كانت داحضة {وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149].
{أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} لأن آتاه، فهي واردة مورد التعليل، لأن إيتاء الملك أبطره.
{فَبُهِتَ}: دهِشَ وتحيَّرَ وانقطع، فالبُهت الحيرة عند استيلاء الحجة.
* * *
تربية القرآن للإنسان
ثلاث آيات تتلاحق الواحدة تلو الأخرى نلتقي فيها بالحديث عن فكرة إحياء الله للأشياء التي تدبّ فيها الحياة، ولكن بطريقة لا تعتمد الاستدلال بالبراهين العقليّة، بل بطريقة إيحائية، توحي بالفكرة من خلال القصة الخاطفة، من خلال حوار يدور بين إبراهيم(ع) وبين طاغية زمانه، فيصور لنا الفكرة كحقيقةٍ لا تحتمل الريب، في تمثلها في العقيدة بالله الواحد، فلا يملك الطاغية مجالاً للهروب منها إلا بالتلاعب بالألفاظ والضحك على قول السذّج من البسطاء...
ونتمثلها في قصة الإنسان الذي وقف مدهوشاً أمام القرية التي يغمرها الموت بكل أفكارها، فيتساءل.. فيموت.. ثم يبعث في الدنيا.. وتتمثل الفكرة أمامه في كيانه الذي دبّت الحياة فيه من جديد، وفي حماره الذي شاهده تتجمع أعضاؤه أمامه في عملية الحياة.
ثم يعود إبراهيم من جديد ليتساءل كيف يحيي الله الموتى، وتعيش التجربة في نطاق عمليّة خارقة للعادة يستجيب الله فيها لرغبته...
إن كل هذه القصص الثلاث التي تتصل بالجانب الغيبي من التفكير الديني، توحي لنا بالفكرة في أسلوب تقريري يجعل الفكرة والشعور يحملانها في جوّ من التفكير، تضج فيه غرابة لا تبتعد عن جانب الإيمان في الإنسان الذي يخشع إيمانه أمام الحق الذي ينزله الوحي في القرآن، وأمام القدرة التي لا يعجزها شيء في الإيمان بالله، وأمام الإيمان بالغيب الذي هو من أركان العقيدة في ما تقرره من الانطلاق مع حقائق الوجود الذي يهيمن عليه الله خالقه في عالم الشهود وفي عالم الغيب، وذلك هو أحد إثارات القرآن أمام الإنسان بغية إرشاده وتربيته روحياً وفكرياً.
* * *
إبراهيم يتحدى الطاغوت
لقد واجه إبراهيم ـ النبي في حياته طاغيةً من أكثر الطغاة تمرّداً، حيث بلغ به الطغيان حدّاً خُيّل إليه معه أنه الإله الذي يجب على الناس أن يعبدوه من دون الله، ولم يحدثنا القرآن عن اسمه، ولكن تاريخ القصص الديني للأنبياء يعطيه اسم النمرود، ولا يهمنا ذلك في قليل أو كثير، لأن القيمة تتمثل بالنماذج الحيّة في ما تمثّل من مواقف حاسمة وتجارب رائدة.
وقد وقف إبراهيم معه، في قصة الحوار، موقفاً حاسماً قوياً، حاول أن يثير فيه قضية الألوهة وارتباطها بالقدرة المطلقة التي لا يملكها هذا الطاغية، فطرح فكرة الحياة والموت، وأن الله ـ رب إبراهيم ـ هو الذي يحيي ويميت، ووجد هذا الطاغية الفرصة لاستغلال سذاجة أتباعه البسطاء في أسلوب التمويه الذي يعتمد التلاعب بالألفاظ، فأجاب إبراهيم، بأنه يحيي ويميت، لأنه يستطيع أن يبقي المحكوم عليه بالموت فيهبه الحياة، وأن يعدمه فيقضي عليه بالموت، فيكون مالكاً لأمر الحياة والموت... وإذاً، فهو يملك صفة الإله الذي يحيي ويميت، فيحق له أن يكون إلهاً.
ولم يترك إبراهيم له الفرصة الذهبية التي يأخذ بها زهو طغيانه وتمرده، فتحداه بالظواهر الكونية الثابتة التي خلقها الله في الكون، وطلب منه تغييرها إذا كان إلهاً حقاً، وقدّم له عرضاً بالشمس التي خلقها الله لتشرق من جهة المشرق، وطلب منه أن يحوّل طلوعها إلى جهة المغرب، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ولم يملك جواباً لهذه الحجة المفاجئة، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} لأن طبيعة الانحراف عن خط الله الذي هو خط العدل والسير مع خط الظلم الذي هو خط الكفر، يبعد الإنسان عن الرؤية الواضحة الصحيحة للأشياء، فيتخبط في الضلال على غير هدى، ويتركه الله لضلاله، بعد أن كان قد أقام عليه الحجة فلم يهتد بها ولم يخضع لها في ما يريد الله له من هداية وخضوعٍ.
ويلاحظ في قوله تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} الواردة في موارد التعليل لما قاله هذا الطاغية لإبراهيم، أن السبب في هذه الدعوى وفي هذا الطغيان هو رؤيته لنفسه في موقع الملك الذي أعطاه الله إياه في ما يعطيه الله لعباده من الفرص التي يختبرهم ويبتليهم بها في الحياة، وذلك من خلال الأسباب الطبيعية المودعة في الكون لحدوث الأشياء وفنائها... وقد تعاظم هذا الشعور في نفسه من خلال مظاهر القوّة التي يُحدثها الملك وينميها، فتملأ نفس الإنسان بالزهو والإحساس بالعظمة، لاسيما فيما إذا رأى الآخرين يتصاغرون أمامه من موقع إحساسهم بالضعف والانسحاق بالمستوى الذي يتحول خضوعهم له إلى عبادة، تماماً كما هي عبادة العبيد للرب، فيخيِّل لنفسه أنه في هذا المستوى، وتبدأ التصورات الذاتية تتجمع في كيانه، فتغشي عينيه وتسد نوافذ الوعي المنفتح عن قلبه، فيتحول إلى نصف إله في بعض الأحيان، ويتحول إلى ما يشبه الإله في أكثر الحالات لدى ذاته ونفسه، ثم يتطور الأمر به إلى أن يدعو الآخرين إلى الاعتراف بذلك من مواقع الإقرار والإيمان، بعد أن كان الأمر لديهم مجرد ممارسة لا ترتقي إلى درجة الاعتراف.
وربما كان في هذا الإيحاء بعض التوجيه للإنسان بخطورة المواقع المتقدمة التي يحصل عليها في الدنيا، من ملك أو جاه أو مال، على نظرته إلى نفسه وموقفه منها، فقد تنحرف به هذه النظرة إلى أن يخرج بها عن حدود التوازن، فتصل به إلى حدود الطغيان، ما يدفعه إلى مراقبة نفسه دائماً لتقف عند حدودها في ما يريد الله منها أن تقف عنده.
* * *
ما نستوحيه من الحوار
أما فائدتنا من هذا الحوار، فهي مواجهة الكثيرين ممّن يحاولون أن يموّهوا على البسطاء من الناس، باللجوء إلى الأساليب الساذجة التي يخدعونهم بها، سواءٌ في ذلك ما يتعلق بشؤون العقيدة وما يتصل بأمور الحياة، فنعمل على أن نستلهم أسلوب إبراهيم ـ النبي ـ في الانتقال إلى التحديات الواضحة التي لا تخفى ولا تنطلي ـ بالنتيجة ـ على أحد، مما يعطّل خطة التمويه والتضليل.
ولا بدّ لنا ـ في سبيل الوصول إلى ذلك ـ أولاً: من النفاذ إلى واقع الأساليب المضلّلة التي يخضع لها البسطاء من الناس، والأساليب الصارخة التي تملك قوّة التحدي، من دون أن يستطيع الآخرون ردّها أو مقاومتها ـ على الأقل ـ، وهذا ما يفرض على العاملين أن يقوموا به من أجل أن يلاحقوا الواقع وأساليبه التي تحكمه وتوجّه خطواته، بكل وعي ودقّةٍ وشمول وانفتاح.
ثانياً: القيام بالتوعية الثقافية للناس البسطاء من جهة التأكيد على الواقع الموضوعي للأشخاص الذين يملكون بعض مواقع القوة كالسلطة والمال والجاه ونحوها، ليواجه الناس نقاط ضعفه إلى جانب نقاط قوته، وليتوازنوا في تقدير الجوانب الإيجابية في شخصيته من خلال المقارنة بالجوانب السلبية فيها، حتى لا تتضخم ذاته في وجدانهم، بحيث يرتفعون بها إلى الدرجة التي لا تستحقها، كما لا ينتفخ ـ هو ـ عند نفسه في نظرته إلى موقعه إذا اندفع الناس نحوه من خلال هالة التقديس والتعظيم، لأن السبب في الكثير مما ينطلق به الواقع البشري من ظواهر الشخصيات التي تؤله نفسها أو يؤلهها الناس، هو فقدان التوازن في نظرة الناس إلى هؤلاء الأشخاص، وفي نظرتهم إلى أنفسهم. وفي ضوء ذلك، لا بد من الابتعاد عن أساليب التزلف والمبالغة والاندفاع العشوائي في قضايا المدح والتعظيم في الواقع الاجتماعي والسياسي العام.
إننا نريد التنبيه على هذه النقطة من خلال ظاهرة النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه في نظرته إلى نفسه من موقع الربوبية للناس، فإن ذلك لم يكن إلا من جهة الإخلال بتوازنه في نفسه وتوازن الناس معه، فلولا ذلك لما كان هناك مجال للمسألة، لأنه سوف يتحول ـ في نظر الناس وفي نظر نفسه، إلى شخص عاديّ، كسائر الناس الذين يملكون بعض الصفات الإنسانية الإيجابية والسلبية.
ــــــــــ
(1) مجمع البيان، م:1، ص:473.
تفسير القرآن