تفسير القرآن
البقرة / الآية 260

 الآية 260
 

الآيــــة

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(260).

* * *

معاني المفردات

{لِّيَطْمَئِنَّ}: ليحصل الاطمئنان المطلق الذي لا مجال فيه للشك، والطمأنينة والاطمئنان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وأصلها من الأرض المطمئنة إذا كان فيها انخفاض بحيث يستقر فيها الماء إذا سال إليها.

{فَصُرْهُنَّ: فأملهن واضممهنّ إليك فقطعهنَّ، من صار يصور إذا أمال أو قطع.

{يَأْتِينَكَ سَعْيًا}: أي يأتينك مشياً على أرجلهن. وذكر عن النضر بن شميل، قال: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: يأتينك سعياً، هل يقال للطائر إذا طار سعى، فقال: لا، قلت: فما معناه؟ قال: معناه يأتينك وأنت تسعى سعياً[1].

* * *

إبراهيم (ع) باحث عن الحقيقة

وهذه قصة من قصص الحوار القرآني في حياة إبراهيم(ع)، الذي أبرز لنا القرآن في شخصيته الإنسانية النبويّة، شخصية الباحث عن الحقيقة بأسلوب الحوار، سواءٌ منه الذي كان يثيره مع نفسه، في تصوير العقيدة الصحيحة حول ذات الخالق، أو الذي كان يثيره مع الناس في تحطيم عقيدة الأصنام في نفوسهم، أو الذي كان يثيره مع ربّه في مناجاته له... وقد تمثل هذا اللون الأخير في هذه الآية، فقد سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فقد كان يريد أن يشاهد عملية الإحياء على الطبيعة، وكان الجواب سؤالاً تقريريّاً: أولم تؤمن؟ فإن مثل هذا السؤال قد يصدر، في صورته هذه، من غير المؤمن، فكيف يصدر من إبراهيم الذي جاء من أجل أن يقود الناس إلى الإيمان؟! وكان جواب إبراهيم(ع) بتأكيد إيمانه، فلم يكن السؤال منطلقاً من ذلك، بل من أجل الحصول على حالة الاطمئنان القلبي الذي يتحرك من مواقع الحس في الحياة، بما لا يحصل من خلال القناعة الفكرية التي تعتمد على المعادلات العقلية التي تصنع للإنسان إيمانه، ولكنها لا تمنع الهواجس الذاتية من أن تتحرك في النَّفس في نطاق الأوهام الطارئة. ولهذا كانت الرغبة في المشاهدة من أجل تذويب كل ما يخطر في البال من أوهام. وأخيراً، نفّذ الله له رغبته، فطلب منه أن يواجه التجربة بنفسه، وذلك بأن يأخذ أربعةً من الطير، فيضمَّهن إليه، ثم يجزّئهنّ ويفرّق أجزاءهنّ على الجبال، ثم يدعوهن فيأتين ساعيات مسرعات في طيرانهن، أو في مشيهن على أرجلهن. ويقول صاحب الكشاف متسائلاً؛ فإن قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت: ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحالاتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك، ولذلك قال: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا}[2].

{وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلا ينقص من عزّته شيء إزاء زوال أي شيء من مخلوقاته، حكيم يضع كل شيء في موضعه في قصة الحياة والإحياء.

* * *

الفرق بين الإيمان والاطمئنان القلبي

وقد أثار المفسرون حديثاً طويلاً حول ما يمثله سؤال إبراهيم(ع) للحصول على الاطمئنان القلبي من حيث إن ذلك لا يتناسب مع مقامه النبوي الذي ينطلق من أجل تحصيل الطمأنينة للآخرين لا لنفسه. فقال بعضهم إن السؤال هو عن كيفية حصول الإحياء دون مشاهدة كيفية الإحياء، وإن الجواب لا يدل على أزيد من ذلك، وإن القضية لم تعرض على هذا الأساس، بل عُرضت على أساس توضيح الفكرة، تماماً كما يقول قائل: كيف يصنع الحبر؟ فتقول: خذ كذا وكذا تصير حبراً... وأفاض الحديث في تقريب ذلك. ولكن هذا يتنافى مع ظاهر الآية الذي يدل على أن إبراهيم طلب المشاهدة الحسية، كما توحي به كلمة: أرني، وقوله: كيف تحيي الموتى، ما يدل على أن السؤال هو عن كيفية الإحياء.

ولعلّ الدافع لأمثال هؤلاء هو الانطلاق من فكرة إبعاد الغيب عن ساحة الأنبياء في معاجزهم واستبعاد تحقق الحياة من خلال كلماتهم التي لا تحمل أي شيء من القوة في هذا الجانب، ولكن القضية كما ألمحنا إليه، أن هذا الاتجاه يدفعنا إلى التحفظ في الغيب كمبدأ، لأن المبدأ إذا كان وارداً في العقيدة، فلا قيمة للتفاصيل بعد ذلك، لأن بإمكاننا أن نتساءل: ما هو المانع من أن يبعث الله الحياة في هذه الطيور بقدرته بمجرد دعوة إبراهيم(ع)؟ ولا يملك هؤلاء دليلاً على تعزيز مثل هذا الاتجاه في حمل اللفظ على خلاف ظاهره، ولسنا هنا في معرض استعراض ما قاله المفسرون من وجوه عديدة في تفسير السؤال، بل كل ما نريد إثارته، هو أن السؤال لا يمثل أيّة مشكلة فكرية، لأن قضية الإيمان تتصل بالقناعة الفكرية المنطلقة من مصادره العقلية وغير العقلية. أمّا الاطمئنان، فإنه يمثل سكون القلب وهدوءه، بحيث لا يعيش أيّ خاطر مضادّ ولو في جولة الأوهام، ما يفرض أن تكون مصادره واضحةً للحس أو ما يقرب الحس، وهذا لا يعتبر منافياً للإيمان. وربما كان أيّ واحد منا يعيش الكثير من الخطورات الذهنية المضادة لما يؤمن به في الأمور التي تدخل في نطاق الحس، بينما لا يحس بمثل ذلك في ما يكون الحس مصدره الأساس، فلا مانع من أن يكون سؤال إبراهيم وارداً في هذا النطاق.

* * *

ماذا نستوحي من الآية؟

أما ما نستوحيه من هذه الآية، فهو ما ألمحنا إليه في كتابنا «الحوار في القرآن»:

«وقد نجد في حوار إبراهيم مع ربّه تجربة رساليةً رائعةً في أسلوب العمل، فقد طلب من ربّه أن يريه المعجزة التي يطمئن بها قلبه، في مشاهدته عملية إحياء الموتى على الطبيعة، فقد نستوحي منها أسلوباً عملياً جديداً في مواجهة ردود فعل الآخرين على ما نقدمه إليهم من أفكار، وذلك بأن نضع في حسابنا الحقيقة التالية وهي: أن الأفكار التي نقدمها للآخرين في إثبات قضايا العقيدة، قد تقنعهم فكرياً، ولكنها لا توصلهم إلى مرحلة الإيمان الروحي العميق الذي يلتقي فيه العقل والقلب، في عملية يمتزج فيها الفكر بالشعور، فيتحول إلى طمأنينة روحية يشعر فيها الإنسان بالسكون والاطمئنان الذي يغمر فكره وروحه، في سلام روحي عظيم.

ولهذا، فإن علينا أن لا نستنكر عليهم هذا الطلب، تماماً كما لم نجد هناك أي إنكار من الله على نبيّه عندما قدم هذا العرض له من أجل الحصول على الطمأنينة القلبيّة بعد حصول الإيمان الفكري. ومن البديهي، أننا لا نستطيع تقديم المعجزة للآخرين، كما قدمها لنبيّه، ولكننا نستطيع تقديم الأفكار الواضحة القريبة من حياتهم، حتى يحسوا أن قضية الإيمان تتحرك معهم في كلّ ما يعملونه أو يمارسونه من علاقات»[3].

ــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:1، ص:481.

(2) تفسير الكشاف، ج:1، ص:392.

(3) فضل الله، محمد حسين، الحوار في القرآن، ص:247.