{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ* الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِي خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ* وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ* لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسألونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بالليل وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(267ـ274).
* * *
معاني المفردات
{تَيَمَّمُواْ}: تقصدوا وتتعمدوا، وسمّي المقصود المتعمد بالإمام.
{الْخَبِيثَ}: الرديء من كل شيء، وخبث الفضة والحديد، ما نفاه الكير لأنه ينفي الرديء.
{تُغْمِضُواْ}: تتساهلوا وتتغافلوا وتتسامحوا، من الإغماض، وهو إطباق الجفن على الجفن، والإغماض في البيع الحطّ من الثمن لعيب فيه، ويكون المعنى: ولستم بآخذيه لو أعطي لكم، لخبثه ورداءته، إلا أن تتسامحوا وتتساهلوا في أخذه.
{بِالْفَحْشَآءِ}: الفحش، والفاحش البخيل. قال علي بن عيسى: الفحشاء المعاصي، وإنما سمي البخيل فاحشاً، لأنه مسيء برده الأضياف والسؤال[1].
{فَنِعِمَّا}: نِعم شيء، ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح و (ما) نكرة تامة بمعنى شيء والفاعل ضمير مستتر مفسّر بـ (ما).
{أُحصِرُواْ}: مُنعوا وحُبسوا لأسباب ظاهرية أو باطنية. قال الراغب: الإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو، والمنع الباطن كالمرض. والحصر لا يقال إلا في المنع الباطن[2].
{ضَرْبًا}: مشياً وذهاباً وتصرّفاً، من الضرب بالأرجل.
{الْجَاهِلُ}: الجاهل بحالهم وباطن أمورهم لأنهم غير متظاهرين بالفقر، يتجمّلون كي لا تظهر حاجتهم، فلا يسألون الناس شيئاً، فذكر الجاهل هنا ليس على سبيل الذم.
{بِسِيمَاهُمْ}: علاماتهم، من السيماء، وهي العلامة التي نعرف بها الشيء، وأصله الارتفاع. فهؤلاء تعرف حالهم من الأمور التي لا سبيل لهم إلى سترها من علائم الفقر والمسكنة البادية في طبيعة لباسهم وبيوتهم وأجسامهم.
{إِلْحَافًا}: إلحاحاً في السؤال، ومبالغةً فيه.
* * *
مناسبة النزول
جاء في الكافي بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) في قول الله عز وجل: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} قال: كان رسول الله(ص) إذا أمر بالنخل أن يزكّى، يجيء قوم بألوان من ثمر وهو من أردى التمر يؤدونه من زكاتهم تمراً يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحي عظيمة النوى، وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيّد، فقال رسول الله(ص): لا تخرصوا هاتين التمرتين ولا تجيئوا منها بشيء، وفي ذلك نزل {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} والإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين[3].
وروى زرارة عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) في قول الله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} قال: كانت بقايا في أموال الناس أصابوها من الربا ومن المكاسب الخبيثة قبل ذلك، فكان أحدهم يتيممها فينفقها ويتصدق بها، فنهاهم الله عن ذلك[4].
وعنه أيضاً: إن الصدقة لا تصلح إلا من كسب طيب[5]. ولعل هذا من باب الاستيحاء.
* * *
القرآن يخطط للإنفاق: النوعية والمورد والكيفية
وهذه جولة جديدة في تفاصيل المفهوم الإسلامي للإنفاق من حيث نوعية المال الذي ينفقه الإنسان، والأشخاص الذين يستحقون ذلك، ومن حيث جانب السرّ والعلانية في الإنفاق. فإن الحديث في مثل هذه الأمور يوحي بالخط المستقيم الذي ينبغي للمؤمن أن يسير عليه من أجل أن يكون منتجاً في طبيعته وغايته.
إنّ هذه الآيات تدعو المؤمنين إلى الإنفاق من الطيبات مما يملكونه من المال، ليكونوا النموذج الإيجابي المنفتح على العطاء من قاعدة الخير الكافي في ذاته على أساس حبّهم له وللناس الذين يعانون الحرمان في ظروفهم الحياتية الصعبة. وهي تصوّر لنا نموذجاً من الناس، يحاولون أن يختاروا ما ينفقونه من الأموال المستهلكة التي لا يرغبون فيها لقدمها، أو لخبث طعمها أو شكلها، ما يجعلهم يودون التخلص منها بأيّة طريقة ممكنة، بحيث إنهم قد يلقونه جانباً في النفايات إذا لم يجدوا أحداً يأخذه منهم، ولو عُرض عليهم من الآخرين لما قبلوه إلا بالإغماض فيه بالتساهل والتسامح. {أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وذلك هو قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} اعملوا على أن يتمثل الإيمان في حياتكم روحاً في الوعي، وعاطفة في القلب، وحركةً في الواقع، وقيمةً في الذات، لتنطلقوا مع الآخرين من خلال إيحاءاته الفكرية والعملية.
{أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} من جهدكم المتحرك في تجارتكم من مصادر الحلال الذي تستطيبونه في طعامكم وشرابكم وأوضاعكم الحياتية {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرضِ} من الثمرات التي تستلذونها وتتنافسون في الحصول عليها، فذلك هو المظهر الحيّ للقيمة الإنسانية في العطاء في سلوككم الإنساني تجاه الآخرين، لتكون القضية عندكم ما هي حاجة الآخرين مما تملكون تقديمه لهم، لأنكم تفكرون فيهم كما تفكرون في أنفسكم، لا ما هي طبيعة المال الذي تقدمونه لهم لتختاروا الرديء على الجيد حتى لا تكون خسارتكم بالعطاء كبيرة.
{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} لا تقصدوا إعطاء المال الخبيث الذي يرفضه الناس وترفضونه لرداءته وقلة الانتفاع به {مِنْهُ تُنفِقُونَ} كوسيلةٍ من وسائل التخلص منه مع الحصول على عنوان الخير في الإنفاق منه، مما يمكن أن يذكركم الناس به، في الوقت الذي تنطلق فيه دوافعكم بعيداً عن الخير، لأنكم لا تقبلون أن تأخذوا هذا المال من الآخرين في عطائهم لكم {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} وتتسامحوا في صفاته، بعدم التدقيق بألوان الرداءة في خصائصه الذاتية من خلال الظروف التي تفرض عليكم أخذه.
لقد أراد الله أن يوحي لهؤلاء بأن ذلك ليس من شأن الإيمان به تعالى، لأن الإنفاق في هذه الصورة، لا يمثل روح العطاء المنفتحة على القيم الروحية المستمدة من محبة الله ورضاه، بل يمثل وجهاً من وجوه التخلّص من المال الخبيث بعنوان الإنفاق من باب اللعب على القيم ومخادعة النفس في ذلك.
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فليس عطاؤكم الذي يدعوكم إليه بالإنفاق من أموالكم الطيبة في سبيله منطلقاً من حاجته إليكم، فالمال ماله، وأنتم ملكه، وهو الغني عنكم، الحميد في كل صفات الحمد في ذاته، ولكنه يريد بذلك صلاحكم وإصلاح أموركم في حياتكم الاجتماعية القائمة على العطاء والتكافل الاجتماعي الذي يكفل فيه الناس بعضهم بعضاً، فيعطي كل واحد منهم ما يملكه للآخر، تماماً كما لو كان مسؤولاً عنه بشكل خاص، لأن المجتمع في نظر الإسلام بمثابة عائلة واحدة، أو جسد واحد، فإذا تألم منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
* * *
الله هو الرازق لعباده
وينطلق القرآن ليعلّل ذلك بأنه من خدع الشيطان وأضاليله التي يسوِّل فيها للإنسان بالبخل حذراً من الفقر الذي يعده به إذا أنفق ما عنده من طيبات الرزق في ما اكتسبه الإنسان وفي ما زرعه.
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} لأنه يربطكم بالمال الموجود لديكم لتستغرقوا فيه كما لو كان هو الضمان الأول والأخير لقضاء حاجاتكم، فإذا ذهب بالعطاء، افتقرتم وفقدتم قدرتكم على الحصول على غيره، لتنظروا إليه نظرة ذاتية من الزاوية الضيقة المادية، بعيداً عن الواقع الحركي العام في حركة الإنسان في الفرص المتنوعة المطروحة أمامه، بحيث إذا ضاقت به فرصة، كانت هناك أكثر من فرصة مما يتسع لحاجاته في انتظاره، فليس ذهاب المال في مرحلة، نذير فقر دائم، كما أن الحصول عليه في مرحلة لا يعني الغنى الدائم.
{وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ} لأنه يخطط للانحراف الفكري الكلي الذي تتفرع عنه كل الانحرافات الجزئية، فإذا انطلق الإنسان من فكرة تجاوز حدود الله وخروجه عن خط التوازن الذي قرره له في سلوكه العملي، ابتعد عن الاستقامة في حياته، وانفتحت له أبواب الضلال، فامتنع عن الإنفاق من قاعدة البخل الذاتي في علاقته بالمال وبالناس، وتحرك نحو الفحشاء الأخلاقية. فباع نفسه وعرضه بالمال، وكفّ عن التحرك بالخير في حياته العامة والخاصة، فإن الشيطان إذا امتد في أوامره في وجدان الإنسان، فإنه يحوّل حياته إلى سلبيات متلاحقة يتبع بعضها بعضاً، ويرتبط أحدها بالآخر، فيأخذه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله... ولكن الآية تثير أمامه إيمانه بالله، وتذكره بوعد الله للإنسان بالمغفرة للذنب، وبالفضل والتعويض في الدنيا والآخرة.
{وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} من رزقه، فإن الله هو الذي يرزقكم من حيث تحتسبون ومن حيث لا تحتسبون ويعوّض عليكم من واسع فضله أضعاف ما أنفقتموه، وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض. هذا بالإضافة إلى أن الإنفاق هو الحسنة التي يغفر الله ذنوب العاملين بها، وبهذا يحصل لهم العفو عن ذنوبهم والزيادة في أموالهم، ولذلك، ينبغي للمنفق أن لا يستريح للشيطان في ما يأمره به من إنفاق الخبيث وترك الطيّب، وفي ما يوحي إليه من الشح والبخل، ثم يذكر له أن الله غنيٌ عن الإنسان في ما يأمره وفي ما ينهاه، فإن المصلحة في ذلك له من دون أن يزيد في ملكه شيئاً مهما قلّ.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فالله واسع الفضل والملك، فلا يضيق عليه أيُّ رزق أو عوض مما يمنحه لعبده من الخيرات جزاءً لعمله الخيّر، عليم بكل ما تكنّه صدورهم وما يقومون به من عمل في طاعة الله أو في معصيته...
وجاء في الدر المنثور: أخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله(ص): إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحق، وأمّا لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ}[6].
وقد جاء في حديث الصدوق بسنده إلى أبي عبد الرحمن قال: قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق(ع): إني ربما حزنت، فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد، وربما فرحت، فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد، فقال: إنه ليس من أحد إلا ومعه ملك وشيطان، فإذا كان فرحه كان دنوّ الملك منه، وإذا كان حزنه كان دنوّ الشيطان منه، وذلك قول الله: تبارك وتعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ}[7].
وفي تفسير العياشي عن هارون بن خارجة عن أبي عبدالله(ع) قال: قلت له: إني أفرح من غير فرح أراه في نفسي ولا في مالي ولا في صديقي، وأحزن من غير حزن أراه في نفسي ولا في مالي ولا في صديقي، قال: نعم، إن الشيطان يلمّ بالقلب فيقول: لو كان ذلك عند الله خيراً، ما أوال عليك عدوك ولا جعل بك إليه حاجة، هل تنتظر إلاّ مثل الذي انتظر الذين من قبلك؟ فهل قالوا شيئاً، فذاك الذي يحزن من غير حزن، وأمّا الفرح، فإن الملك يلمّ بالقلب فيقول: إن كان الله أوال عليك عدوّك وجعل بك إليه حاجة، فإنما هي لأيام قلائل، أبشر بمغفرة من الله وفضل، وهو قول الله {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}.
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} فهو الذي يعطي عباده النعم الباطنة في الوجدان الداخلي للإنسان، فيلهمه الصواب في الفكرة، والسداد في الرأي، والمنهجية في طريقة التفكير، وفي النظرة إلى الأمور، وهذا ما تمثله الحكمة في مضمونها الفكري على مستوى المنهج والوسيلة والفكرة، فيدرس القضايا من خلال سلبياتها وإيجابياتها ومقدماتها ونتائجها والظروف الموضوعية المحيطة بها على مستوى الدنيا والآخرة.
ثم يثير أمام الإنسان طريق الحكمة في الحياة في ما تمثله هذه الكلمة من تنظيم أعمال الإنسان وتخطيط أوضاعه على حسب الموازين الدقيقة للأشياء، بحيث يضع كل شيء في موضعه، فلا يمنع شيئاً ينبغي له أن يعطيه، ولا يعطي شيئاً ينبغي له أن يمنعه، ولا يضع شيئاً موضع شيء آخر، ولا يزيد ولا ينقص في ما يراد منه التوازن في جانب الزيادة والنقيصة... ويؤكد الله على أن الحكمة نعمة كبيرة يمنحها لمن يشاء من عباده، لأنها تهدي الإنسان إلى التوازن الدقيق في الحياة، فهي القيمة الكبيرة في شخصيته، التي تفوق الجاه والمال والجمال، لأنها هي التي توجه ذلك كله إلى الوجهة التي ينبغي أن تقف عندها الأشياء.
{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} لأنها التي تفتح للإنسان أبواب الخير في الدنيا والآخرة، فتصرفه عن طريق الخطأ وتقربه إلى طريق الصواب {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ} أي العقول، فلا بد للعاقل من أن يتذكر ذلك كله في ما يقرره ويستوحيه، لأن العاقل هو الذي تنطلق الذكرى في حياته لتضيء له السبيل، ولتربطه بالغاية، وهي رضا الله ومحبته. والتذكر هو حركة العقل في دراسة الأشياء التي تربط بين المقدمات ونتائجها، أو بين الشيء ونتائجه، ليحصل الإنسان على الفكرة الجديدة من خلال مفردات المعلومات التي يختزنها في وجدانه، فتكون الذكرى لوناً من ألوان اليقظة الوجدانية للوعي، التي توحي له بشيء جديد، وهذا هو المنهج الذي قرره القرآن الكريم في مسألة الإيمان التي هي حركة تذكر الله في عبادته وطاعته من خلال التذكر لآلائه ونعمه وأسرار مقامه الربوبي وعلاقة الناس به.
وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) ـ في رواية سليمان بن خالد عنه ـ قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن قول الله: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيراً} فقال: إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم، وما أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه[8].
وجاء عن محمد بن يعقوب الكليني ـ مرفوعاً ـ قال: قال رسول الله(ص): ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر النبي(ص) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل والعقلاء، هم أولو الألباب، الذين قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ}[9].
وفي هذه الأحاديث نوعٌ من الإيحاء التفصيلي بالجانب الفعلي للحكمة في حركة المعرفة من خلال المفردات العلمية والفقهية والتجارب العملية، وفي قاعدتها الإنسانية في قيمة العقل في تأثيره في تصورات الإنسان وممارساته، ما يجعل من الحكمة قوّة في العقل وحركة في المعرفة وانفتاحاً على توازنات الواقع.
{وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} فإن الله يعلم ما ينفقه العبد من النفقات، وما ينذره من النذور التي يتقرب بها إلى الله، فيعطيه أجره على ذلك {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}... أما الظالمون الذين يظلمون أنفسهم بالبخل والشح الذي يعتبر معصيةً لله في ما يمنعونه من مال الله الذي آتاهم ويظلمون الفقراء والمساكين في ما يأكلونه من حقوقهم التي جعلها الله لهم، أما هؤلاء، فلا نصير لهم في الدنيا والآخرة، لأن الله لا ينصر التائهين عن هداه، والمنحرفين عن طريقه.
وقد يستوحي الإنسان من ذلك، أن قضية الإنفاق هي قضية حق اجتماعي عام للمحرومين على القادرين من الأغنياء لا بد لهم من أن يؤدوه إليهم كما يؤدّى الحق إلى صاحبه، وهذا ما تدل عليه الآية الكريمة: {وَفِى أَمْوَلِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]. وعلى هذا الأساس، فإن الممتنعين عن الإنفاق الواجب، يظلمون الفقراء في أكل أموالهم التي جعلها الله لهم في شريعته، فيعاملهم الله ـ في الآخرة ـ معاملة الظالمين الذين يقفون وحدهم يوم القيامة أمام الله ليواجهوا الحكم الصارم عليهم بالعذاب، فلا شفيع لهم لديه، لأن الشفعاء لا يشفعون إلا لمن ارتضى، ولا وليّ لهم ولا نصير من الله، لأنه لا تملك نفس لنفس شيئاً في ذلك الوقت العظيم، والأمر يومئذٍ لله وحده.
أما إسرار الصدقات وإعلانها، فلا مانع منه في أيّ جانب كان، إذا كانت هناك مصلحة في ذلك، فقد تكون المصلحة في الإعلان إذا كان ذلك موجباً لتشجيع الآخرين على الإنفاق، وذلك من خلال طبيعة المنافسة الموجودة لدى بعض الأشخاص الذين لا يقومون بأعمال الخير إلا إذا قام بها أحد من نظرائهم، أو من جهات أخرى تتصل بالمنفق أو بالمنفق عليه أو بالآخرين... وقد تكون المصلحة في الإسرار إذا كان المنفق عليه من أهل الستر والعفة الذين قد لا يريدون الظهور بمظهر المحتاج لما في ذلك من إساءة إلى كرامتهم ومكانتهم، فلا بد في مثل هذه الحال من حفظ هذا الجانب من شخصيتهم في حالات العطاء... وربما كان في الإسرار جانب تربوي يتصل بشخصية المنفق، لما في ذلك من الدلالة على إخلاصه وقربه من المعنى العميق للقيمة الروحية البعيدة عن كل ما يشوبها من الرياء بابتعادها عن كل شيء يوحي بمعرفة الآخرين. وقد رجّح الله في نهاية الآية جانب السر، فإنه الأصل في الصدقة من حيث هي عبادة مقرّبة إلى الله، ما يجعل جانب الإخلاص فيها مرتبطاً بالبعد عن كل ما يربطها بالمعاني الذاتية للإنسان.
{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ} وتعلنوها أمام الناس لتكونوا قدوة لهم في الإنفاق، ليكون سنّة اجتماعية من خلال تكاثر الذين يتحركون في هذا المجال، {فَنِعِمَّا هِي}: أي فنعم الشيء هو الصدقات الظاهرة البارزة للعيان التي تحمل معنى الخير في مضمونها، وسرّ الإظهار لها في النتائج الإيجابية الاجتماعية، {وَإِن تُخْفُوهَا} وتستروها عن الأنظار والأسماع لتكون من صدقة السرّ التي هي الرسالة الخفية التي يوجهها العبد إلى خالقه بالإحسان إلى بعض عباده لحلّ مشكلتهم بطريقة سرّية تحفظ لهم ماء وجوههم، وتخفف عنهم الإحراج في الإعلان عن فقرهم وحاجتهم بما يتنافى مع كرامتهم، وهكذا تنطلقون بالمسألة في أجواء الكتمان لتحركوها في سلوككم العملي {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنه الأقرب لإخلاص النية بالبعد عن أجواء الرياء التي قد تتحرك في حالة الأعمال العلنية التي قد تثير في الإنسان الوساوس الشيطانية التي توحي له بالرغبة في إظهار النفس بالطريقة التي يعبر فيها عن حبه للخير ورغبته في الإحسان، ليمدحه الناس على ذلك وليرفعوا مكانته لديهم، لترتفع درجته الاجتماعية عندهم، فيفقد إخلاصه لله، وتتحول القضية لديه إلى ما يشبه الشرك الخفي الذي يدفع العمل ليكون للناس من دون الله، وهكذا يكون الخفاء وسيلة من وسائل تهيئه الأجواء الروحية التي تجعل العمل خالصاً لله، لأنه هو الذي يطّلع عليه من دون الناظرين، وهذا هو الذي يؤدي إلى محبة الله لكم وقربكم إليه، لتكونوا في موقع الحظوة عنده، فيغفر لكم {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} فإنه لا شيء يوجب تكفير السيئات أقرب من الصدقة على الفقراء، لأنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، ما يجعل منها إحساناً لربه كما هي إحسان للفقير {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، فهو الخبير بكل ما تفيضون فيه مما تبدونه وتكتمونه، وهو الذي يملك الثواب الذي يقدّمه لعباده المحسنين، فلتكن النظرة إلى رضاه، ولتكن الرغبة في الحصول على موقع القرب عنده، فإنه غاية الغايات لعباده المؤمنين.
وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق(ع) ما رواه أبو بصير عنه في قول الله عز وجل: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} قال: ليس من الزكاة، وصلتك قرابتك ليس من الزكاة[10].
وفي رواية العياشي بسنده عن الحلبي عن أبي عبد الله(ع) في قول الله عز وجل: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فقال: هي سوى الزكاة، إن الزكاة علانية غير سر[11].
* * *
ولكن الله يهدي من يشاء
وهنا تلتفت الآية إلى النبي(ص) لتخفف عنه بعض الحالات السلبية التي قد تطوف في خاطره وهو يشاهد بعض أوضاع المؤمنين من حوله، إذ ينحرفون عن الخط الذي يأمرهم به وينهاهم عنه من شؤون الإنفاق، فقد كان يريد من المؤمنين أن يرتفعوا إلى مستوى إيمانهم في الانضباط والسير على هدى الله في جميع أمورهم. فأراد الله أن يضع له القضية في مكانها الطبيعي، من أن دور النبي هو أن يفتح لهم أبواب الهدى، ويهيىء لهم أجواء الفلاح، وتنتهي مهمته عند استنفاد كل الأساليب في ذلك. وتبقى للأسباب الآخرى الخارجة عن إرادة رسول الله واختياره، نتائجها السلبية والإيجابية في ما تقتضيه من حالات الهدى والضلال... وهذا هو مدلول نسبة هدايتهم إلى الله، باعتبار ارتباط الأسباب العادية للأشياء بخالقها ومسبّبها، ما يوحي أن هذه النسبة لا تمنع نسبتها إلى العباد من حيث إنهم السبب المباشر للأشياء. ثم تلتفت الآية إلى المؤمنين لتدلهم على طريق الهدى وتدعوهم إلى سلوكه، وتوحي إليهم بالفكرة التي ترجع فوائد العمل للعامل من دون أن يرجع إلى الله منها شيء، وتهيب بهم أن يبتغوا وجه الله في إنفاقهم ـ إذا أنفقوا ـ لأن ذلك هو الذي يجعل منه معنى يتصل بالله ويرتبط بالآخرة، وهو الذي يستحق العبد من خلاله العوض من ربّه في الدنيا والآخرة من دون ظلم ولا حيف ولا نقصان.
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} في إلزامهم القسري بطريقةٍ غير عادية بالاستقامة على المنهج الأخلاقي في سلوكهم العملي في الإنفاق وغيره بالسير على خط الإخلاص وعدم المنّ على الفقراء في العطية والابتعاد عن التثاقل والتلكّؤ في دائرة مسؤولياتهم العامة والخاصة، فإن دورك الرسالي هو إبلاغ الرسالة في تفاصيلها بكل جهدك في طرح الفكرة وتنويع الأسلوب، وإيجاد الأجواء الملائمة التي تنفذ ـ من خلالها ـ الفكرة إلى عقولهم لتكوين قناعاتهم على أساس ذلك كله، فتلك هي قدرتك البشرية التي تتحرك الرسالة في نطاقها الخاص الطبيعي، فلا تملك أيّ وضع آخر غير عادي، لأن المعجزة ليست سبيلك في الهداية، بل هي سبيلك بإذن الله في ردّ التحدي {وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} بما أودعه في الإنسان من عناصر الهداية في أسبابها الوجودية، وبما يمنحه من ألطافه الخاصة لبعض عباده الذين يريد أن يقرّبهم إلى دينه من خلال حكمته ورحمته التي يختص بها من يشاء. وبذلك تكون المهمّة النبوية في الهداية مهمّة تشريعية، بينما تكون الخصائص التكوينية للهداية لله سبحانه بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي ضوء ذلك، كان نفي الهداية عن مسؤولية النبي تتصل بالهداية الفعلية الوجودية وإثباتها لله في هذا الجانب، لتكون المسؤولية النبوية منحصرة في تهيئة الوسائل المتنوعة في نطاق القدرة البشرية التي يقنع فيها الإنسان إنساناً ليهديه إلى الإيمان بما يريد له الإيمان به.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} لأنكم ـ أنتم ـ الذين تحصلون على نتائجه في الدنيا والآخرة، وليس لله من ذلك شيء، لأنه الغني عنكم وعن كل عباده {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ} فهو الذي ينبغي أن يتوجه الناس إليه في صدقاتهم وفي كل أعمالهم، لأنه ـ هو ـ الذي يملك المصير كله والثواب كله، فله الأمر، فلا بد للعباد من اتباع مواقع رضوانه للحصول عليه {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} في وجوه البر {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجره كاملاً غير منقوص {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فالله لا يظلم أيّ عبد من عباده حقاً من حقوقه التي يستحقها من خلال ما جعله له من ذلك في وعده له بالثواب على العمل الصالح، ولا ينقص منه شيئاً.
* * *
المستحقون للنفقة
ولكن من هم هؤلاء الذين يستحقون الإنفاق، في ما يدعو إليه الله من الإنفاق في سبيله، هل هم الذين لا يتركون مجالاً للمسألة إلا وانطلقوا فيه، ممن تحوّل السؤال عندهم إلى مهنة للتعيش، الأمر الذي قد يجعل من هذا التشريع تشجيعاً للبطالة والامتناع عن العمل والإخلاد إلى الراحة في الكسب السهل؟
أو هم الذين ضاقت بهم سبل العيش بعد أن سلكوا ما قدروا عليه منها، فلم يحصلوا من ذلك على نتيجة، ووقفوا أمام ما لا يقدرون عليه منها عند حدود العجز؟ أو الذين فرضت عليهم ظروف الالتزام بالإسلام الخروج من ديارهم، والابتعاد عن مواقعهم الطبيعية فيها للكسب الحلال بفعل ضغط القوى الكافرة المشركة التي منعتهم من الحصول على حاجاتهم الخاصة. وقد يتمثل هؤلاء بالمجاهدين الذين شغلهم الجهاد عن الكسب، والمستضعفين الذين اضطهدهم المستكبرون فضيَّقوا عليهم سُبل الرزق ليسقطوا تحت تأثير ضغوطهم الفكرية أو العلمية، وطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم من أجل الدعوة أو بلوغ المستوى الذي يؤهلهم لسدّ حاجات أمتهم منه، فلم يملكوا الجمع بينه وبين الكسب المادي لتحصيل ضرورات المعاش، فعاشوا الجهد والفقر والعوز، ولكنهم لم يقفوا على أبواب الأغنياء ليسألوهم، لأن عفَّتهم وكرامتهم تأبى عليهم ذلك، بل حاولوا أن يظهروا بمظهر الغني القادر على إعالة نفسه من خلال ما يظهرون به من مظاهر الاكتفاء في ما يأكلون ويلبسون؟
وتجيب الآية على هذا السؤال، فتحدد الفئة الثانية كمورد للإنفاق، لأن الله لا يريد للناس القادرين على العمل أن يستسلموا للسؤال طلباً للعيش السهل، لأن ذلك يحوّل المجتمع إلى مجموعات من العاطلين الذين يعيشون كلاً على غيرهم، وهو ما يبغضه الإسلام ويحاربه، بل يريد لهم الحصول على حاجتهم بعرق جبينهم وكدّ سواعدهم. أما الفئات العاجزة التي لا تملك وسائل العيش الكريم، فإن المجتمع بكامله مسؤول عنها في ما يستطيعه من الإنفاق عليها ورعاية أمورها ورفع مستواها المادي والمعنوي. ثم تبشر الآية الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سراً وعلانية، بالأمن عند الله والسرور برضاه وثوابه، جزاءً لهم على ما قدموه لله من طاعة وللمجتمع من خدمات كبيرة.
{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ومُنعوا من ممارسة حرياتهم في التحرك العملي من أجل كسب العيش بفعل الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية الخانقة، والضغوط الخارجية القاسية، فلم يملكوا سبيلاً إلى تلبية حاجاتهم الضرورية. وقد جاء في أسباب النزول، في الحديث عن الإمام محمد الباقر(ع) وعن ابن عباس في ما رواه الكلبي عنه، أن الآية نزلت في أصحاب الصفة، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون إليهم، فجعلوا أنفسهم في المسجد وقالوا: نخرج في كل سريّةٍ يبعثها رسول الله، فحث الله الناس عليهم، فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى[12].
وقد ذكرنا في أكثر من موضع من التفسير أن أسباب النزول لا تحدّد المضمون القرآني في نطاق مناسباتها الخاصة، لأنها تمثل المنطلق التي انطلقت منه الفكرة في الآية ليمتد في أمثاله وأجوائه في موارد أخرى متحركة في الأوسع منه في صعيد الزمان والمكان، لأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار، فلا يتجمد في مورد، ولا ينحصر في زمن، كما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع)[13].
وفي ضوء هذا، فإن كلمة {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} تشمل كل الذين توفرت فيهم هذه الصفة على مدى الزمن ممن لم يكن شأنهم في ترك العمل المعيشي من باب الكسل والاسترخاء والبعد عن المسؤولية، بل من باب القيام يمسؤولياتهم العامة التي توحي بها كلمة{سَبِيلِ اللَّهِ} ليسافروا إلى هذا المكان أو ذاك مما تتوفر فيه الوسائل الطبيعية للحصول على الرزق، وذلك من جهة الموانع الخارجية أو الداخلية المحيطة بأوضاعهم الخاصة والعامة التي تضغط على حرياتهم في الحركة في الذهاب والتصرف، فلم تكن المسألة عجزاً طبيعياً في الذات، بل من خلال الأجواء المتنوّعة.
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} فهم لا يظهرون بمظهر الفقير المسكين المحتاج في صرخات الجوع أو العطش، أو في مظاهر البؤس في الثياب والمنازل، بل يحاولون الظهور بمظهر الغنيّ القادر، حفاظاً على كرامتهم والتزاماً بعفتهم وانتظاراً للفرج الإلهي الذي يخرجهم من مشاكلهم، فهم يتمردون على الجوع والعطش والحاجة من موقع قوة الإرادة في عمق إيمانهم بالله الذي يرعى عباده المؤمنين ويجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
{تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} أي بعلاماتهم الظاهرة من خلال النظرة إلى وجوههم، لترى المعاناة القاسية المتمثلة في ملامحهم، ولتتمثل فيها العنفوان النفسي الذي يوحي بالتمرد على كل أوضاع الألم المنبعث من الجوع والعطش والحاجة الملحّة.
{لاَ يَسألونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي ليسوا من الذين لا يصبرون على حاجاتهم فيسألون الناس بطريقة الإلحاح في المسألة، فيكررونها مرة بعد أخرى ويتوسلون للحصول على ما يريدون من ذلك بمختلف الوسائل والأساليب، ولكنهم يواجهون الموقف من موقع الشخصية العزيزة العفيفة المتعففة عن الناس المترفعة عن الشكوى للآخرين، ما يعني أن المقصود بكلمة {لاَ يَسألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أنهم لا يسألون الناس أصلاً، فلم يكن النفي متوجهاً إلى القيد ليكون المدلول اللفظي أنهم قد يسألون الناس بدون إلحاح، بل كان موجهاً إلى النموذج الواقعي الذي يستخدم الإلحاح من خلال ضغط الحاجة عليه، لأن طبيعة الحاجة تفرض ذلك، لأنها من نوع الحاجات التي تفرض نفسها على الإنسان ليتخلى عن كثير من شؤون كرامته، وهذا التعبير يشابه القول: ما رأيت مثله، وأنت لم ترد أن له مثلاً ما رأيته، وإنما تريد أنه ليس له مثل فيرى، فمعناه لم يكن سؤال فيكون إلحاح، كقول الأعشى:
لا يَغْمِز الساق من أين ومن نصب ولا يعضّ على شرسوفه الصَّفَرُ
ومعناه ليس بساقها أين ولا نصب فيغمزها، ليس أن هناك أيناً ولا يغمز، كما جاء في مجمع البيان[14]. وقد ذكر صاحب الميزان، أنه لا يبعد أن يكون المراد نفي الإلحاف لا أصل السؤال، ويكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمّى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به، بل ربما صار واجباً، والزائد عليه وهو الإلحاف هو المذموم[15].
ولكننا نلاحظ أن الآية ليست في مقام بيان التفاصيل من حيث الإشارة إلى ما هو واجب أو راجح أو غير واجب وراجح في السؤال، بل في مقام بيان الطبيعة القوية لهؤلاء، بحيث يتمردون على آلام الحاجة وقد يموتون تحت تأثير ذلك، فهي من نوع الحاجة الملحّة القاسية التي قد تدفع الآخرين إلى أن يسألوا الناس إلحافاً ولكنهم لا يفعلون ذلك، ما يفرض على الناس اكتشافهم وسدّ حاجتهم بالصدقات، لأنها شرّعت لأمثال هؤلاء من أجل حلّ مشكلتهم الضاغطة الصعبة. {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} في الموارد التي أرادكم الله أن تنفقوا فيها من الخير المنفتح على حاجات الناس والحياة {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فهو يجازيكم عليه.
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالليْلِ وَالنَّهَارِ} بحيث يتحول الإنفاق في حياتهم إلى نهج في حركة الشخصية من خلال ما يتمثلونه في نظرتهم إلى الواقع في مشاكله ومآسيه، وفي مسؤولياتهم تجاه ذلك، مما حمّلهم الله من واجباتٍ وحقوقٍ للناس المحرومين، فلا يتركونه في أي وقت، حتى أنهم يبادرون إلى السير في الليل ليتحركوا من أجل سدّ حاجة النائمين، فيطرقون عليهم بيوتهم، أو يرسلون إليهم من يحمل إليهم الصدقات من موقع الاهتمام المستمر {سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} تبعاً للطبيعة الاجتماعية للمسألة بالنظر إلى مواقع الناس أو مواقع الخير في مناسبات الإسرار والإعلان {فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لأن الله يحب عباده الذين يتحركون في حل مشاكل خلقه من أجل إيجاد التوازن الاجتماعي في الحاجات، الذي يتحول إلى توازنٍ عمليٍ في المواقف، وهؤلاء هم الذين يتطلعون إلى الله في كل ما يفيضون به من عطاء، وما يقفونه من مواقف، طلباً لما عنده من الأجر، فلا تثقلهم خسائر الدنيا مما يفقدونه من المال في العطاء، لأنهم يستهدفون بذلك الحصول على أرباح الآخرة في رضوان الله والوصول إلى الطمأنينة الروحية والسرور القلبي والنعيم الخالد.
* * *
ماذا نستوحي من هذه الآيات؟
وبعد ذلك كله، ماذا نستوحي من هذه الآيات؟
إننا نلاحظ فيها إلحاحاً كبيراً على قيمة الإنفاق في الإسلام في حدوده الإنسانية التي تثير في داخل الذات مشاعر الخير في علاقتها بالآخرين، بحيث تحفظ لهم حقوقهم في العيش الكريم الذي يلتقون فيه بحاجاتهم الأساسية في نطاق التعاون الإيماني، وتحافظ على كرامتهم في إبقاء إنسانيتهم حرّةً كريمة أمام ضغوط الحرمان والحاجة إلى الآخرين. ذلك هو خط الإسلام في الحياة، أن تعيش العطاء السمح من موقع إنسانيتك التي تحمل مسؤولية الحفاظ على إنسانية الآخرين، وذلك هو ما نستوحيه من حديث أمير المؤمنين(ع): «إن الله يحب المرء المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه»[16]. وبذلك يمكن للفكرة أن تتسع لكل طاقة تملكها، ولا يملك الآخرون مثلها، مما يجعلك موضع حاجة الآخرين إليك، سواء في ذلك طاقة المال والقوة والخبرة والعلم بجميع مجالاته، فإن عليك من قاعدة إسلامك، أن تقدمها إليهم في نطاق مشاعر الرحمة الإنسانية التي ترى في الطاقة المميزة نعمةً من الله عليك، ومسؤوليةً تحملها لمن يحتاج إليك، من دون أن تخلق عندك عقدة الفوقية التي تثير في نفسك الشعور بالاستعلاء، لأن القضية هي أنها ملك الله وهبته، كما أنك ملك الله وعطيّته، فلا فضل لك في أن تعطي ملك الله لعباده. وتلك هي قصة الطاقات الحية في المجتمع المسلم، في حركة العطاء السمح الذي تتحرك فيه المسؤولية والإنسانية والنعمة والإيمان في مسار واحد يلتقي فيه الإنسان بالله عندما يلتقي بالحياة.
ــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:1، ص:492.
(2) مفردات الراغب، ص:119 ـ 120.
(3) الكافي، ج:4، ص:48، رواية:9.
(4) البحار، م:34، ج:93، ص:107، باب:18، رواية:10.
(5) م.ن، م:34، ج:93، ص:107، باب:18، رواية:11.
(6) الدر المنثور، ج:2، ص:65.
(7) البحار، م:20، ج:58، ص:88 ـ 89، باب:43، رواية:21.
(8) م.س، م:1، البحار، ج:1، ص:215، باب:6، رواية:25.
(9) الكافي، ج:1، ص:12، رواية:11.
(10) الكافي، ج:3، ص:499، رواية:9.
(11) م.ن، ج:3، ص:502، رواية:17.
(12) تفسير الميزان، ج:2، ص:409.
(13) جاء في البحار: قال أبو عبد الله(ع): "إن القرآن حيّ لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا". البحار، م:11، ج:35، ص:647 ـ 648، باب:20، رواية:21.
(14) مجمع البيان، ج:1، ص:499.
(15) تفسير الميزان، ج:2، ص:404.
(16) البحار، م:27، ص:60، باب:4، رواية:41.