تفسير القرآن
البقرة / من الآية 275 إلى الآية 281

 من الآية 275 الى الآية 281
 

الآيــات

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات وأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(275ـ281).

* * *

معاني المفردات

{الربا}: هو الزيادة على رأس المال، لكن خصّ في الشرع بالزيادة على وجه دون وجه، من الإرباء، وهو الزيادة على الشيء، وربا الشيء يربو إذا زاد.

{يَتَخَبَّطُهُ}: الخبط: المشي على غير استواء. ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه، هو يخبط خبط عشواء.

{الْمَسِّ}: الجنون، ويقال:المسّ في كل ما ينال الإنسان من أذى.

{سَلَفَ}: تقدم ومضى، من السُلوف وهو التقدم. والأمم السالفة أي الماضية.

{يَمْحَقُ}: يهلك ويُتلف، من المحق، وهو نقصان الشيء حالاً بعد حال.

{وَيُرْبي}: ينمّي ويزيد.

{عُسْرَةٍ}: تعسّر وجود المال. والعسر نقيض اليسر. وأعسر أضاق.

{فَنَظِرَةٌ}: فأنظروه وأمهلوه من النّظِرَة وهي التأخير. فالمديون المعسر يُنظر حتى يُوسر.

{مَيْسَرَةٍ}: اليسار، «مصدر ميمي»، أو وقت اليسار «اسم زمان».

* * *

أكـل مـال الربـا

الحديث في هذه الآيات عن الرّبا من خلال الواقع المتمثل في شخصية المرابي واختلاط الصورة في ذهنه، من جهة، وفي حركة الربا في حياة المرابي مقارناً بالصدقة في حياة المتصدق في حساب الله من جهة أخرى، ثم الملاحقة لهذا الواقع من أجل الدعوة إلى التخلص منه وتغييره بالموعظة الحسنة، والترغيب بما عند الله من ثواب للسائرين على خط التقوى، الذين لا يريدون أن يظلموا أحداً كما لا يريدون أن يظلمهم أحدٌ، فإذا لم ينسجموا مع هذا الخط ولم يتوبوا إلى الله الذي يقف بهم عند خط العدل في الأشياء، فليتحملوا مسؤولية إعلان الحرب عليهم من الله ورسوله، ما يعني المواجهة بالعنف في خطوات الشريعة في الدنيا، وفي عذاب الله في الآخرة، حيث يوفّي الله كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

تلك هي الصورة الإجمالية المتحصلة من هذه الآيات المتحدثة عن الربا في خطوات الواقع، الذي كان البعض من المؤمنين مستمرين عليه بعد نزول آيات التحريم، التي ربما كانت من الآيات الواردة في سورة آل عمران {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130]، واستمرار هذا الواقع الربوي، بعد نزول آيات التحريم، قد يكون ناتجاً عن طبيعة النظام الاقتصادي الذي كان يسود المجتمع العربي، لا سيما مجتمع المدينة الذي كان خاضعاً للسيطرة الماليّة للمرابين اليهود، كما هو شأنهم في كثير من المجتمعات التي يعيشون فيها، فكان لا بّد من الحملة المشدّدة التي تواجه هذا الواقع بأسلوبٍ عنيف لتكون عنصراً رادعاً للانحراف عن الخط المستقيم.

وربّما كان ترتيب آيات الربا إلى جانب آيات الإنفاق في سبيل الله، من أجل الإيحاء بالجو الطيّب الطاهر الذي يعيشه الإنسان المتصدّق في مشاعر الخير المنسابة مع مشاعر الإيمان في إنسانيتها الباحثة أبداً عن مواقع الخير في حياة الناس الذين يحتاجون إلى الإعانة والهداية والقوة والتسديد. فقد يشعر الإنسان الذي عاش أجواء الانحراف، بالحاجة إلى أن يعيش الأجواء الأخرى التي توحي له بالتغيير من ناحية الإحساس المرهف الجديد الذي يتنفسه في تلك الأجواء...

ولعلّ هذا الأسلوب القرآني يمثّل الطريقة العملية الروحية للهداية من خلال المقارنة بين النموذجين بالكلمة، ما يوحي بالحاجة إلى المقارنة بينهما في حركة الواقع في الحياة، كما يمكن الاستفادة من ذلك في حركة الفن التمثيلي المسرحي الذي يحاول أن يعرض صورة الإنسان الطيب الذي يعيش روح العطاء والرحمة إزاء الآخرين، إلى جانب صورة المرابي الشرير الذي يتغذى على آلام الآخرين ويتاجر بمآسيهم، حيث يتمثل لنا الوجه المشرق الجميل للإنسان في مقابل الوجه المظلم البشع له، وذلك في الأجواء التربوية التي نريد إثارتها أمام الأجيال الطالعة من وحي القرآن الكريم.

والآن لا بد لنا من وقفة قصيرة مع الربا، ما شأنه؟ وما هي مضارّه الأخلاقية والاجتماعية؟ وما هي كلمات المدافعين عنه؟ ثم الانطلاق بعد ذلك في وقفات متنوعة مع الآيات الكريمة في أسلوب تفسيري تفصيلي...

* * *

الربا في سلبياته الأخلاقية والاجتماعية

الربا، هو الزيادة والنموّ للأشياء، ويراد به هنا، بيع المتماثلين جنساً وكمية بزيادة في أحدهما، أو إقراض مال بزيادة مادية عينية، كإقراض عشرة في مقابل خمسة عشر أو بزيادة معنوية أو حكمية، كإقراض عشرة بعشرة بشرط صياغة خاتم أو خياطة ثوب، ولكل منهما حكمه المتنوع في تفاصيله في كتب الفقه مما لا شأن لنا به الآن...

أمّا مضارّه الأخلاقية، فقد أراد الله للإنسان أن يتفاعل مع أخيه الإنسان، لا سيّما إذا كان أخاه في الإيمان، وذلك بأن يصنع المعروف إليه في ما يحتاجه من شؤون العيش وفي ما يواجهه من مشاكل الحياة، فيشاركه آلامه وهمومه ويحاول أن يخففها عنه بالكلمة والبسمة والحركة والعمل، لتنفتح الحياة الإنسانية على البعد الروحي الذي يغني إنسانية الإنسان ويرفع من مستواها الروحي، فلا تعود العلاقات مجرّد مبادلات تجارية تقوم على استغلال فرص الربح في كل شيء مهما كانت الأوضاع والظروف، وترتكز على قاعدة المنفعة المادية، بل يبقى لله حساب في داخل هذه العلاقات، بحيث يفكر الإنسان بالثواب من عنده وبالعمل على الحصول على رضاه، بعيداً عن رضا طرف العلاقة الآخر وعدم رضاه، ما يجعل التضحية مكسباً، والخسارة المادية ربحاً. فنحن نعطي، لأن الله هو الذي يدفع لنا الثمن من ثوابه في الدنيا والآخرة، ونحن نتجاوز الربح، لأن الله هو الذي يعوّضنا عنه ثواباً مضاعفاً في مستقر رحمته.

وقد أطلق الإسلام هذه الروح في اتجاهين:

الأول: اتجاه العطاء الذي لا يبحث عن البدل حتى في الحساب المماثل للعطاء من ناحية مادية، بل يبحث عن الانطلاق من العطاء في ذاته كقيمة روحية يريد بها ما عند الله، لا ما عند الناس، وذلك هو ما يتمثل في الصدقة التي تقوم على العطاء دون مقابل قربة إلى الله، وبذلك كانت عبادة كبقية العبادات التي تقرّب الإنسان إلى الله...

الاتجاه الثاني: هو اتجاه القرض الذي يتمثل في دفع المال المقترض على أن يكون مضموناً عليه بمثله، فيجب عليه أن يدفعه للمقرض عند حلول الأجل. وفي هذا المجال، يلتقي العنصر المادي الذي يفكر فيه الإنسان بحفظ ماله في ذمة المقترض ليرجع إليه بعد حين، بالعنصر الروحي الذي يفكر فيه الإنسان بالتضحية بالزيادة التي قد يأخذها الآخرون في مقابل تجميد هذا المال مدة من الزمن، وحرمانه من منافعه التجارية التي يمكنه أن يحرّكها في طريق تحصيل الربح، وذلك هو مورد القربة إلى الله في هذا العمل الذي عبّر عنه في القرآن وفي الحديث بالقرض الحسن... فإن ذلك هو سبيل الوصول إلى محبة الله ورضاه، لما يشتمل عليه هذا العمل من حلّ لمشكلة هذا الإنسان الواقع تحت ضغط الحاجة إلى المال الذي يسد به خلّته.

وقد وردت الأحاديث المتنوعة التي تتحدث عن القرض الحسن في أسلوب تشجيعي، يجعله أفضل من الصدقة في بعض المجالات، فقد ورد أن درهم الصدقة بعشر، أمّا درهم القرض فبثمانية عشر... وربما كان ذلك من أجل مواجهة نزعة الربح التي قد تدفع إلى الرّبا، وذلك بتحويلها إلى التفكير بالربح في الدار الآخرة، بالإيحاء بأنها ترقى إلى أعلى من مستوى الصدقة، مما يرضي طموح المقرضين الذين قد لا يستريحون للصدقة من ناحية ذاتية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ربما كان درهم القرض متحركاً في حلّ أكثر من مشكلة لأكثر من شخص، ما يعطيه معنى الامتداد والنموّ، عندما يعود من يد المقترض ليتحوّل إلى مقترض آخر، ما يوجب تضاعف جانب العطاء في المسألة، بينما يذهب درهم الصدقة ليحل مشكلةً واحدة لإنسان واحد، ثم لا يعود.

إن الإسلام أراد للإنسان أن يعيش حسّ العطاء في نوعيه، بعيداً عن التفكير المادي، لتعيش العلاقات الإنسانية في نطاق البعد الروحي، كما تعيش حركتها في نطاق البعد المادي. وهذا ما لا يتحقق في المعاملات الربويّة التي تخلق في داخل نفس المقرض شعوراً بالجشع والاستغلال والفرح بآلام الآخرين ومشاكلهم والعمل على زيادة الأزمات المادية والمعنوية التي تساعد في شدة حاجتهم إليه... أما المقترض، فإنه يشعر بالحقد إزاء المرابي من خلال المشاكل التي يخلقها الربا في حياته، ويتنامى هذا الحقد حتى يتحوّل إلى عقدة نفسية ضاغطة، كما يعيش الإحساس بالقهر والحرمان والجدب العاطفي أمام الناس الذين لا يتعاطفون معه، بل يعملون على زيادة آلامه ومشاكله، ما يجعله واقعاً تحت ضغط الشعور بالغربة والوحدة الروحية في الحياة.

* * *

الربا في سلبياته الاقتصادية

أما الجانب الاقتصادي في الموضوع فيتمثل في عدّة نقاط سلبية:

1 ـ إن الزيادة التي يأخذها المرابي هي في مقابل لا شيء، لأن المفروض في ربا البيع، التماثل في النوع وفي الكم، فلا يحقق التبادل منفعة لكل منهما زائدة على ما يملكه من منفعة سلعته، لتكون الزيادة في مقابل تلك الخاصة الزائدة على ما يدفعه للآخر. أما ربا القرض، فكذلك، في ما عدا الأجل ـ وسنرى في ما يأتي أن الأجل لا يصلح أن يكون أساساً للزيادة في القرض ـ فإذا كان الأمر على هذا الشكل، فإن الزيادة تكون أكلاً للمال بالباطل، لأنه مال يكسبه من دون أن يقدم في مقابله عملاً أو خدمةً أو إنتاجاً.

2 ـ إن الربا يؤدي إلى زيادة فقر الفئات المستضعفة، وتضخّم ثروات الفئات الغنية التي تملك رؤوس الأموال، لأن الفقير ينطلق في استقراضه من موقع حاجته إلى هذا المبلغ، فإذا انطلق في مجالات العمل، فإن الحاجة ستتضاعف، بينما يواجه العامل عبء الزيادة التي يضطر إلى اقتطاعها من أرباحه ليوفّرها للدائن. وهكذا يأخذ الزيادة من حاجاته الأساسية إذا اضطر إلى أن يضغط على تلك الحاجات أو تضيف إلى دينه ديناً جديداً وزيادة جديدة إذا لم يستطع أن يقلّص حاجاته إلى المستوى الأدنى. وهكذا، حتى يسقط في قبضة المرابي حقيراً ضعيفاً، ما يسيء إلى طبيعة العلاقات في المجتمع ويحوّلها إلى ما يشبه الثورة، إن لم يكن إلى ثورة تأكل الأخضر واليابس، كما نشاهده في وقتنا المعاصر.

3 ـ إن الربا عادة، يؤدي إلى تجمع الثروات المادية في أيدي جماعة من الناس، وهم أصحاب الأموال الضخمة الذين يستغلون حاجات المجتمع، فيفرضون لأنفسهم النسب المئوية على رأس المال، ما يؤدي إلى نموّ رأس المال على حساب حاجة المستضعفين الذين يمثلون الفئة المنتجة في المجتمع. وفي هذه الحال، يتحول العامل إلى إنسان يكدح لمصلحة الرأسمالي من دون مقابل، ما يوجب استنزاف الطاقة المنتجة لغير مصلحتها، كما يؤدي بالأغنياء إلى السيطرة على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمحافظة على الظروف الموضوعية لحرية الاستغلال، ولحماية حركة رأس المال في التزايد والتضخم بلا عمل أو جهد، الأمر الذي يؤدي إلى استضعاف الشعوب من قبل الطغاة والمستكبرين، ويهيّىء للاستعمار الذي ينهب ثروات المستضعفين، ويحولهم إلى طاقة استهلاكية لا مجال لها إلاّ الاستقراض الدائم على حساب حاجاتها الحيوية وعزتها وكرامتها. وهذا ما نواجهه في كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية للشعوب الضعيفة التي تعيش تحت ضغط الشركات الاحتكارية في العالم. وفي هذا يقول الدكتور شاخت، الخبير الاقتصادي المعروف، في ما ينقله عنه صاحب تفسير الكاشف، في محاضرة ألقاها في دمشق عام 1953 م: «يمكننا بعملية رياضية أن نعلم أن جميع المال في الأرض سوف ينتهي إلى عدد قليل جداً من المرابين، وذلك أن الدائن المرابي يربح دائماً في كل عملية، بينما المدين معرّض للربح والخسارة، ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد أن يصير إلى الذي يربح دائماً، وهذه النظرية في طريقها إلى التحقيق الكامل، فإن معظم مِلاك المال يملكه بضعة آلاف، أمّا جميع الملاّك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك والعمال وغيرهم، فليسوا سوى أجراء، يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدّهم أولئك الآلاف..»[1].

* * *

شبهات حول تحريم الربا

ربما يطرح إنسان بعض الأفكار حول تحريم الربا.

1 ـ إن الزيادة في القرض حق للمرابي، لأن المال الذي يدفعه للمقترض يتيح له الفرصة للعمل وللربح، تماماً كما هو حال صاحب الدار الذي يتيح للمستأجر فرصة الانتفاع بالسكنى، فيأخذ الأجرة في مقابل ذلك، فالقضية في مجملها، هي أن تكون الزيادة في مقابل المنفعة، فكيف يكون ذلك أكلاً للمال بالباطل؟ ونجيب على ذلك، بأنّ المنفعة في الدار هي أمر حقيقي قائم بالدار، وهي ملك لصاحبها كما هي الدار ملك له، فيستحق العوض عليها من مستثمرها الذي لا يتحمل أيّة مسؤولية في ما يحدث للدار إذا لم يكن هناك اعتداء من قبله، فإذا تلف شيء من الدار من دون تعدّ ولا تفريط، فإن المالك هو الذي يتحمله وحده، أما رأس المال في القرض، فإن العامل يتحمل مسؤوليته، بالإضافة إلى الزيادة، من دون أن يتحمل صاحب المال شيئاً، فهو رابح دائماً، بينما يكون العامل معرّضاً للربح والخسارة، ما يعني أن القضية ليست انتفاعاً بمال الآخرين في مقابل أجرة، بل القضية هي الانتفاع بماله الذي يتملكه بالقرض في مقابل ضمانه له وتحمّله لمسؤوليته، ما يجعل بين الأمرين فرقاً كبيراً.

2 ـ إن الزيادة المأخوذة في معاملة الربا ليست زيادةً في الحقيقة، بل هي تعويض لصاحب المال عن الخسارة الطارئة بسبب ضعف القوّة الشرائية للعملة على مرور الزمن. وربما تكون الخسارة أكثر من التعويض، كما نشاهده في العملات التي تهبط إلى أكثر من النصف، بينما تكون الزيادة بنسبة خمسة بالمائة أو أكثر أو أقل قليلاً، وذلك من خلال الأوضاع الاقتصادية المرتبكة.

ونجيب على ذلك: أن القضية إذا كانت على هذا الأساس، فكيف نصنع بالحالة الاقتصادية التي تساهم في رفع سعر العملة، فهل يتوقف الدائن عن طلب الزيادة، أم يظل على موقفه في حالة الزيادة والنقصان؟ إن فكرة التعويض لا تنسجم مع طبيعة قانون الربا الذي لا يراعي الدقّة في هذا الجانب في ما يفرضه من زيادة ثابتة في جميع الأحوال.

هذا مع ملاحظة مهمة، وهو أن الواقع الربوي يتحرك في تحديد الزيادة بالمستوى الذي يتناسب مع الواقع الاقتصادي، بحيث يضمن الربح لنفسه في حالة ضعف القيمة للنقد، فيحقق التوازن من خلال الفائدة الممددة، وإذا كان انخفاض القوة الشرائية مشكلةً للدائن، فإنها تتحول إلى مشكله للمدين الذي لا ينتفع بما أخذه من المال إلا في نطاق الوضع الاقتصادي، مما يجعله خاسراً في الحالين، مما يدفعه من الفائدة وما ينقص من قيمة المال الذي أخذه.

ولو كانت المسألة كما يقول السؤال، لابتعد المرابون عن الأخذ بالربا، لأنه لا يمثل ربحاً لهم، بل يمثل خسارةً أو بقاءً للمال من دون ربحٍ في النتيجة، ولكننا نجد أن النظام الربوي لا يزال يتعاظم على مستوى الأفراد والجماعات والدول، لأن الخلل في حجم قيمة النقد ليس قاعدة ثابتة، بل هي خاضعة لحركة الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية، التي لا تمثل سقوطاً كبيراً، بل تمثل حركة تتوازن فيها الزيادة والنقصان، بحيث إذا ارتفعت القيمة اليوم بنسبة معينة انخفضت غداً بنسبة خاصة، ما يجعل التعويض حاصلاً من الحركة الاقتصادية نفسها.

وإذا كانت بعض الأوضاع الاقتصادية والأمنية تفرض سقوط العملة بدرجة قريبة من الإلغاء، فإن ذلك لا يمثل قاعدة عامة، بل يمثل حالةً طارئة لا تملك الشمول في الواقع العالمي.

3 ـ وقد تثار ـ في هذا الجانب ـ قضية حيويّة، وهي أن بعض الناس قد يحتاجون إلى أن يحركوا أموالهم في اتجاه الربح من دون أن يقدّموا عملاً عضوياً أو فكرياً في ذلك، إمّا لعجزهم عن العمل، وإمّا لظروف ذاتية خاصة. فما هي الطريقة إلى تحقيق ذلك، بدلاً من الرّبا؟! وقد يضيف هؤلاء، إننا نعرف أن الربح لا يتحرك من خلال العمل، بل ينطلق من عنصرين: رأس المال، والعمل. فلولا المال، لما تمكن العامل من التجارة، ولما استطاع صاحب المصنع أن يصل إلى ما يريده من مستوى الإنتاج، فلا بد من أن يكون لرأس المال حصة من أجل تحقيق العدالة والتوازن في هذا المجال.

ونجيب على ذلك، بأن الإسلام قد وضع حلاً عملياً يرتكز على المزاوجة بين رأس المال وبين العمل، وهو المضاربة، التي تمثل الشركة بين صاحب المال وبين العمل، بحيث تكون النتيجة لهما على حسب الاتفاق بينهما في مقدار الحصّة لأيّ منهما في حالة الربح، كما أن الخسارة في حال حدوثها تلحق رأس المال، تماماً كما يخسر العامل عمله. وبذلك يتم التوازن في حركة المال نحو الربح من دون عمل، وحركة العمل نحو الربح من دون رأس مال، فيتحمل كل منهما خسارة الجانب الذي يقدّمه في حالة الخسارة، كما يحصل كل منهما على الربح في حالة الربح. فهذا هو الحل الإسلامي العملي الذي يحرّك رأس المال والقوى المنتجة على حدّ سواء على أساس العدل.

4 ـ هناك من يقول: إن تحريم الربا يؤدي إلى شلل في الاقتصاد على مستوى الفرد والمجتمع، لأن معنى ذلك هو إلغاء المصارف والعلاقات الاقتصادية القائمة في حياة الناس على أساس الربا، ما يجعل من التحريم أمراً غير واقعي ولا عملي، فلا يكون صالحاً للتطبيق، فلا بد من تجميده في هذه الظروف من أجل مصلحة الإنسان التي قد تواجه بعض السلبيات في مقابل الكثير من الإيجابيات.

ونجيب على ذلك، بأن كل حكم إسلامي، تحريماً أو إيجاباً أو إباحة، لا يمكن أن نعرف واقعيته وعلاقته بالحل الشامل لمشكلة الإنسان، إلا من خلال مقارنته بالأحكام الأخرى التي تلتقي معه في إيجاد الحل، لأن الإسلام يمثل، في أيّة مشكلة من مشاكل الواقع، كلاً مترابط الأجزاء، أو هيكلاً متناسق الخصائص في ما يطلقه من تشريعات لتحقيق الحل الأفضل الشامل. وهذا هو ما نفهمه في موضوع تحريم الربا، فإننا لا نستطيع معرفة سلبياته وإيجابياته في نطاق النظام الرأسمالي الذي يمثل الربا العمود الفقري له، ولا يمكن أن نفكر في إلغاء الربا، مع إبقاء العلاقات الاقتصادية على ما هي عليه، لأننا لا نتحدث عن التحريم على أساس الأمر الواقع، بل من موقع العمل على تغيير النظام في قواعده وأسسه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الأمر الذي نعرف فيه الإيجابيات العملية لتحريم الربا في الخطّة الإسلامية المتكاملة.

وقد يطرح سؤال جديد في هذا المجال: هل معنى ذلك أن التحريم ينتظر ولادة الدولة الإسلامية وتحقيق النظام الإسلامي الشامل، فلا موقع للتحريم في ظل النظام اللاإسلامي، تماماً كما هو الحال في التشريعات المنطلقة من مضمون العقيدة الماركسية أو غيرها التي لا يدعو إليها واضعوها إلا في نطاق ولادة النظام الكامل المستند إلى القاعدة الفكرية، فلا مجال لها على المستوى الفردي لأنها لا تحلّ أية مشكلة للإنسان؟

ونجيب على ذلك، أن هناك فرقاً بين النظام الإسلامي في تشريعاته العامة والخاصة، وبين الأنظمة المادية الأخرى، فإن الإسلام قد انطلق من قاعدة بناء شخصية الإنسان الفردية والاجتماعية على أساس الجوانب الأخلاقية والروحية، بالإضافة إلى الجوانب الأخرى المادية، وفي ضوء ذلك، لم يكن الحل الشامل للمشكلة هو كل شيء في حركة التشريع في حياته، بل كانت هناك العناصر الروحية والأخلاقية التي تبني له شخصيته لتعزله عن التيار المنحرف في المجتمع، الأمر الذي يجعل التشريع حياً في النطاق الفردي لتحقيق تلك العناصر، وإن لم يتوفر له الحركة في النطاق الاجتماعي. ولذلك رأينا الأحكام الشرعية باقية في مدى الزمن خارج نطاق حكم الإسلام، من أجل بناء الإنسان المسلم على أساس الإسلام في قيمه الروحية والمادية، ولو كان ذلك بشكل جزئي، الأمر الذي يعيش معه المسلم حياته اليومية في ما يأكل ويشرب، ويلبس ويتعامل، أو في ما ينشىء من علاقات في أجواء إسلامية طاهرة، يتنفس فيها جوّ الإسلام وروحانيته، ويعيش فيها روحية القرب إلى الله من خلال طاعته، ويتحمل في ذلك الصعوبات النفسية والعملية، لأنه يشعر أن هدف حياته هو تحقيق رضا الله في ما يأمر به أو ينهى عنه، سواء حقق له ذلك الحل لمشكلته في إطار جزئي، أو كلي، أو لم يحقق له ذلك. فإن الحياة كلها تتلخص عنده في كلمة واحدة، هي أن يحقق الإنسان من خلالها إرادته التابعة لإرادة الله الخالق الواحد. ولهذا كان الربا محرماً على المسلمين حتى في نطاق النظام الربوي، وربما أوقع ذلك المسلمين في مشاكل عملية معقدة، وربما وضعت لهذه المشاكل بعض الحلول الفقهية التي يحصل الإنسان فيها على نتائج الربا من دون أن تقترب من أجوائه وأخلاقه في ما يسمى «بالحيل الشرعية» التي شرعت بوحي الحالات الطارئة الضاغطة التي يراد من خلالها الفرار من الحرام إلى الحلال، ولكن المسلم ـ كما ألمحنا إلى ذلك ـ يشعر بالسعادة في هذه المعاناة ما دامت تحقق رضا الله في أموره الخاصة والعامة، وينطلق ـ بعد ذلك ـ من خلال وعيه لعمق المشكلة في حياته التي يعيش فيها الازدواجية بين ما تفرضه الشريعة، وما يطلبه القانون، إلى العمل في سبيل إقامة الحكم الإسلامي الشامل الذي يقود الحياة كلها إلى شريعة الله.

أمّا الأنظمة الآخرى، فإنها لا تدرس الإنسان من حيث هو كائن روحي أو أخلاقي، بل كل ما عندها هو الجانب المادي من حياته، ولذا، فإنها تفكر له من خلال حاجاته المادية، بل ربما يعتبر بعضها الحاجات الروحية وجهاً من وجوه الحاجات المادية، الأمر الذي يؤدي بها إلى أن تجد في السير على أي تشريع من التشريعات عبثاً لا طائل تحته في المجال الفردي إذا لم يحقق الحل للحالة العامة.

إن الإسلام يريد للإنسان أن يعيش في مناخ روحي وعملي في كل جوانب حياته، ليصوغ نفسه على صورة عقيدته، فلا ينفصل عن الصورة في أي وجه من وجوه الحياة، ما يعطي للطاعة في الأمور الجزئية بعداً روحياً وعملياً في الأمور الكليّة على المدى الطويل. وفي هذا الإطار، نستطيع أن نقرر الحقيقة التالية، وهي أن الإسلام لم ينفصل عن خط التطبيق العملي في الحياة في حركة الإنسان اليومية، منذ انطلق إلى يومنا هذا، وإن اختلف الحال بين المجالات الخاصة والعامة.

هذا هو بعض الحديث عن الجانب التحليلي لتحريم الربا في القرآن، ويبقى لنا الجانب التفسيري التفصيلي لآياته الكريمة.

****

مثل آكل الربا كالممسوس

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.

كيف نفهم هذا التشبيه، هل هو حديث عن حالة المرابي في يوم القيامة، حيث يقوم من قبره كما يقوم المصروع، كعلامة على أنه من أكلة الربا ـ كما يروى عن ابن عباس ـ[2]؟

أو هو حديث عن جانب التخبط العملي الذي يوجب اختلاط خطواته العملية بطريقة غير متوازنة كما يتخبط المصروع في خطواته عندما يسير أو يتصرّف؟

أو هو تشبيه بحالة المصروع في السير على غير هدى لاختلاط الأمور في ذهنه مما يؤدي به إلى أن يرى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، ويتحول ذلك إلى التخبط في مجاله العملي؟

تخبط في مجاله العملي؟

لعل هذا هو الأقرب ـ والله العالم ـ لمناسبته للفقرة التالية {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فقد جرت هذه الفقرة مجرى التعليل لحالتهم في التشبيه، إذ اختلط الأمر عليهم، فاستنكروا الموقف السلبي ضد الربا في الوقت الذي يكون الموقف فيه إيجابياً تجاه البيع، وخيّل إليهم أن البيع مثل الربا، لاشتمال كل منهما على الربح والزيادة، ولكن هذا الموقف خاطىء، فإن البيع يؤدي إلى تسهيل عملية التبادل في المجتمع في ما تختلف فيه خصائص الأشياء، فيدفع الإنسان إلى غيره ما يستغني عنه في مقابل الحصول على ما يحتاج إليه، لتعود المنفعة إليهما معاً في ما يفترق به كل من العِوَضين من خصوصيات متنوعة، وبذلك تتقدم الحياة وتنمو وتزدهر. أما الربا، فإنه لا يضيف إلى المشتري الذي يأخذ مثل ما يدفع بزيادة أية ميزة تفرض ذلك، ما يجعل الزيادة أكلاً للمال بالباطل من جهة، وانحرافاً عن مصلحة الإنسان الفرد والمجتمع من جهة أخرى، في ما قدمناه من حديث.

وقد يرى بعض المفسرين، أن التخبط قد يظهر في اعتبار الأصل فرعاً، لا كما هو كلام المرابين في عكس الموضوع، وذلك بقياس البيع على الربا، لأن من المعقول أن يقول الإنسان إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به، وليس من المعقول أن يقول: إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه، لأن معنى القول الأول، أنه يسلِّم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه، لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزيّة مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس[3].

ولكن هذا المعنى غير ظاهر من اللفظ في تحديد حالة الخبط، بل الظاهر من سياق الكلام هو إنكارهم التفريق بينهما في التشريع، في حلّية هذا وحرمة ذاك، فكأنهم يريدون أن يقولوا: إن الشيء الذي تمارسونه وتستحلونه لا يختلف عن الشيء الذي نمارسه مما تستنكرونه علينا وتحرمونه على أنفسكم، فلا بد لكم من أن تحرموهما معاً أو تحللوهما معاً، وما دامت المسألة حاسمة لديكم في تحليل البيع، فلا بد من أن تكون كذلك بتحليل الربا، لأن وحدة العلة تقتضي وحدة المعلول. وربما يؤكد ذلك قوله تعالى في الفقرة التالية من الآية: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فإنه يوحي بالإنكار عليهم في ما قرروه من رفض الفكرة في الفرق بينهما، من دون تحديد لخصائص التعبير، وذلك من خلال دعوتهم إلى التفكير في المسألة بشكل أعمق من خلال معرفتهم بأن الله أحل البيع وحرم الربا، ما يعني بأن هناك مفسدةً كبيرة في الربا ليست موجودة في البيع، وأن هناك مصلحة في البيع لا يتضمنها الربا، لأن الله لا يشرّع حكماً إلا من خلال ما يحقق صلاح الإنسان أو يبعده عن الفساد.

وفي ضوء ذلك، يمكن فهم كلام علماء البلاغة، من أن هذا من التشبيه المقلوب، فإنهم يريدون القول: إنما الربا مثل البيع، ليصلوا إلى غرضهم وهو التحليل، فعكسوا الكلام للمبالغة وقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} الذي يوحي بأنهم يريدون تحريم البيع، من خلال الظاهر، فأصبح المشبّه به قائماً بالمشبه وتابعاً له، فإن هذا النحو من القلب في الكلام لا يبتعد عن تحقيق غرضهم بالطريقة التي أشرنا فيها إلى معنى الكلام المذكور.

* * *

معنى الذي يتخبطه الشيطان من المس

وقد عرض المفسرون لجانب آخر في تفسير هذه الفقرة من الآية، فإننا نستفيد منها أن هناك حالةً من الصرع أو الجنون تعرض للإنسان من خلال مسّ الشيطان له، كما تعتقد العامة في أمثال هذه الحالات أنها من عمل الجنّ. فهل يريد القرآن أن يؤكد هذه الفكرة ويعتبرها كحقيقة دينية حاسمة في تقريره لبعض حقائق الظواهر الإنسانية في الحياة، أو أن التشبيه واردٌ في سياق التعبير المعروف لدى الناس في ما يعتقدونه من أسباب الصرع، فكأنّ القرآن قصد الفكرة التي أُريدت من الكلمات، لا المدلول الحرفي نفسه لها، تماماً كما هو المعنى الذي يراد الكناية عنه بلازمه في أساليب الكناية في اللغة العربية، أو أنّ هناك وجهاً ثالثاً للقضية غير هذين الوجهين؟

ربما يجد بعض المفسرين المعنى الثاني أقرب إلى عدل الله، فإنه ـ سبحانه ـ أعدل من أن يسلّط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن، ولكن صاحب الميزان يردّ هذا الرأي، بأن الله تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول، بأيّ نحوٍ كان من الاستناد، إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله، وبأن تسليط الشيطان على عقل الإنسان إذا كان منافياً للعدل، فإن تسليط الأسباب الطبيعية عليه في ما كان منها مذهباً للعقل كذلك، لأنهما سيان في استنادهما إلى الله بالنهاية، مع خروجهما عن إرادة الإنسان واختياره... وبأن مبدأ إذهاب العقل لا يتنافى مع العدل، فإنه رافع للتكليف من الأساس، فلا مشكلة أمام الإنسان من هذه الجهة. ثم يضيف صاحب الميزان إلى ذلك قوله: على أنّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة، بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسبابٌ قريبة وراءها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك في ما حكاه الله عن أيوب(ع) إذ قال: {أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، وإذ قال: {أَنِّي مَسَّني الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والضرّ هو المرض، وله أسباب طبيعيّة ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان. ثم يختم ملاحظته بأن أسلوب القرآن في إسناد الأعمال أو الظواهر إلى الله أو إلى الروح أو الملك أو الشيطان لا يعني الإسناد المباشر الذي يلغي الأسباب الطبيعية، بل ما يتناسب مع ذلك، ما يجعل الفاعل في طول السبب لا في عرضه[4].

ونحن نوافق صاحب الميزان على ملاحظته بأن القضية لا علاقة لها بموضوع عدالة الله، غير أن ذلك لا يعني تأكيدنا للفكرة التي يعتقدها العامة من خلال الآية، فإن القضية متعلقة بالفهم الصحيح لمعنى الآية في ما تذكره من كلمة «الشيطان». فما هو المراد منها، هل هو المعنى الحقيقي الذي تحدث عنه القرآن في أكثر من مرة الذي يعبّر عن الكائن الخفيّ الذي أبقاه الله في الدنيا ومنحه الخلود فيها من أجل أن يثير في الإنسان خواطر الشرّ ودوافع العصيان، وهو الذي يعطيه القرآن اسم إبليس في أكثر من مورد؟ أو هو المعنى المجازي الذي يراد منه العوامل الخفيّة المتنوعة التي تسبب الجنون وغيره من الأمراض، وتكون العلاقة بين المعنيين عبارة عن أن كلاً منهما يمثل عنصراً خفيّاً يؤثر في الفكر والشعور تارة، وفي البدن والعقل تارةً أخرى؟ وإذا كان المراد هو المعنى المجازي، فما هي القرينة أو الدليل على صرف اللفظ عن معناه الحقيقي؟

إننا نستقرب ورود اللفظ على أساس المجاز لا على أساس الحقيقة، وذلك من خلال دراستنا لشخصية الشيطان في القرآن وعلاقته بالإنسان في ما أعطاه الله من دورٍ فاعلٍ في حياته، فإننا نلاحظ محاولة القرآن التأكيد على أن دور الشيطان الأول والأخير هو إثارة وساوس الشر من خلال تزيينه في أعين الناس ومحاولة الإضلال بالأساليب التي تساهم في تحقيق الضلال، بإرادة الإنسان واختياره، أمّا السيطرة عليه بالمستوى الذي لا يستطيع معه الوقوف أمامه، ولا يملك إلا الرضوخ لسلطانه، فهذا ما نفاه القرآن في أكثر من آية: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر:42].

فإننا نجد في الآية نفياً مطلقاً لسلطان الشيطان على الإنسان، إلا من خلال الوسائل العادية التي لا تلغي عنصر الاختيار الذي تتحرك في داخله المسؤولية... فإذا لم يكن للشيطان سلطان تكويني على نقل الإنسان من قناعة إلى قناعةٍ مضادةٍ في موضوع الكفر والإيمان والخير والشرّ، فكيف يكون له سلطان على إلغاء عقل الإنسان بالكلية من خلال وسائل غير منظورة لا يملك الإنسان أمامها القدرة على المقاومة. إن القضية ليست قضية عدالة الموضوع وعدم عدالته، بل هي قضية دور الشيطان في حياة الإنسان من خلال حكمة وجوده في الأرض، ما يوحي لنا بأنه لا يملك أيّ دور آخر تجاه الإنسان.

وهناك نقطة أخرى لا بد لنا من إثارتها في هذا المجال، وهي أن ذلك قد يتنافى مع الجوّ الذي أراد الله أن يثيره في صراع الإنسان مع الشيطان، وهو الإيحاء بكرامة الإنسان من خلال أمره للشيطان بالسجود لآدم، وجعله خليفة الله في الأرض، ما يوجب أن لا يجعله تحت رحمته في أقدس شيء وهبه الله له وميزه به على مخلوقاته الأخرى وهو العقل، لأن ذلك يجعله ألعوبةً في يده يعبث به كيف يشاء من خلال الوسائل الخفية التي يملكها ضد الإنسان... أمَّا تسليطه على إضلاله بالوسوسة وأمثالها، فإنها تؤكد جانب الكرامة فيه ولا تنفيها، وذلك من خلال ثقة الله بالإنسان، بما زوّده به من العقل وأرسله إليه من رسل، وفي ما أنزله عليه من كتب ورسالات، بأنه يستطيع الانتصار على الشيطان باستعمال هذه الوسائل، ليبلغ بذلك الدرجات التي تعلو درجات الملائكة في ما وردت به الأحاديث الشريفة... إن الله سبحانه قد وضع الإنسان في ساحة المعركة التي يملك إرادة الانتصار فيها، وفي ذلك تأكيد لقدرة الإنسان على الانتصار في معركته مع الشيطان.

ومن خلال هذا العرض، نستطيع الخروج بنتيجة حاسمة، وهي أن كلمة الشيطان هنا لا يراد بها إبليس، كما لم يرد منها ذلك في ما حكاه الله عن أيوب، فإن الظاهر إرادة الضر والمرض منه، لا على أساس أن الشيطان هو السبب الأعمق في سلسلة الأسباب الطبيعية، بل على أساس استعمال اللفظ في المرض نفسه ونحوه. أما الدليل على هذا الاستعمال، فهو ما قررناه من عدم وجود دور للشيطان في هذا المجال، والله العالم.

* * *

أحل الله البيع وحرّم الربا... نظرة تفسيرية

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. هل الواو هنا للاستئناف لبيان هذا الحكم الذي شرعه الله من قبل، أو هي للحال؟ يذهب البعض إلى الأول، لأن الفعل الماضي الواقع في نطاق الجملة الحالية ينبغي أن يكون مصدّراً بقد، ولأن الجملة الحالية واقعة في زمان الفعل، فيلزم أن يكون قولهم وتخبطهم في هذا الزمان، مع أنه ثابت قبله وبعده، ولكن سياق الجملة لا يناسب الاستئناف، لأنها واردة ـ على الظاهر ـ في مقام الرد على ما ذهبوا إليه من المساواة بينهما، أمّا قضية وحدة الزمان بين الفعل والحال، فلا مانع منها، وذلك على أساس بيان أن قولهم ثابت في زمان ثبوت الحكمين، كتأكيدٍ للإنكار عليهم، فيكون المعنى أنهم قالوا هذا القول في حال ثبوت هذا التشريع، بمعنى أنهم لم يتأملوا فيه ليدركوا طبيعة الفارق بين الأمرين، ولم ينسجموا معه على أساس الانسجام فيه مع خط الإيمان، لأن الحديث ـ في الأغلب ـ مع المؤمنين الذين ينحرفون عن الإيمان، فيأكلون الربا كما يظهر من الآيات اللاحقة، أما التصدير بقد، فإنه غير لازم على الظاهر، لاسيما إذا لاحظنا أن القرآن الكريم هو المرجع الأساسي في اللغة الصحيحة لا كتب اللغة؛ والله العالم.

{فَمَن جَاءه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. ورد عن الإمام محمد الباقر(ع) في تفسير هذه الآية ـ كما في مجمع البيان ـ من أدرك الإسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف[5].

{وَمَنْ عَادَ} إلى أكل الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من أن البيع مثل الربا، {فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحلّ للربا[6]. والظاهر أن المقصود من كلمة {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أنّها واردة مورد العفو عن الذنب من خلال سياق الآية التي تعني التوبة التي تستتبع قبولها، ولكن الله قد يغمض الحديث عن العفو ويبهمه ليظل العبد مشدوداً إلى الله في طلبه المغفرة منه، فتكون الآية على هذا الأساس متعرضة للعفو عن المال وعدم مطالبته بإرجاعه إلى أصحابه، وللعفو عن الذنب بإرجاع أمره إلى الله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب التوّابين.

* * *

كيفية محق الله الربا وإربائه الصدقات

{يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}. المحق هو النقص، والربا هو الزيادة، فكيف نفهم هذا النقص هنا، والزيادة هناك؟ هل هي في ما ينتجه الربا من نتائج سلبية في الدنيا، بحيث يجعلها الله ضدّ مصلحة المرابي في ما يأمله ويريده من زيادة ماله، وذلك من خلال النتائج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يؤدي إليها الربا في نهاية المطاف بما يثيره من أحقاد وأضغان وثورات تدمر كل ما بناه المرابون وتقضي على كل ما جمعوه، أمّا الصدقة فإنها تنتهي إلى الزيادة في مال المتصدق على أساس ما تثيره الصدقة من محبة وحب وخير وأجواء تهيّىء للنمو والازدهار؟

أو هي في ما يواجه به الله المرابين من العذاب والعقاب في الآخرة بحيث يشعرون معه بأن كل ما حصلوا عليه في الدنيا يتحول إلى هباء، لأنهم لم يجنوا من ذلك إلا الخسران الأبدي في الآخرة، بينما يحصل المتصدق على النتائج الطيّبة للصدقة من الثواب الذي يتضاعف إلى عشر أمثالها؟

أو هناك وجوه أُخر تستوحي الحكم الشرعي الذي لا يعترف بشرعية الربا ما يجعله رجساً محرماً، تماماً كما هو الغاصب في تصرفاته، بينما الصدقة تنمي المال وتزكيه وتثبته على ملك صاحبه؟

إننا نستقرب الوجه الثاني، وذلك بشهادة بعض الأحاديث: «إن الرجل يتصدق أو المرأة تتصدق بالتمرة أو بشق تمرة فأربيها له كما يربي الرجل فلوه وفصيله فيلقاني يوم القيامة وهي مثل جبل أُحُد»[7]. وقد لا يكون من البعيد أن تحمل الآية على النتائج في الدنيا والآخرة، وذلك من خلال انطلاق الحكم الشرعي من المفاسد الكامنة في موضوعه إن كان تحريماً، ومن المصالح الموجودة في داخله إن كان وجوباً، وانتهائه إلى العذاب على مخالفته والثواب على موافقته في الآخرة.

وفي ضوء ذلك، قد يكون للربا أثره الماحق على حركة المجتمعات والأفراد من خلال النتائج السلبية الأخلاقية في تأثيرها على العلاقات العامة بين الناس، فإن قيم المحبة والرحمة والخير والعطاء تنتج التقارب والتعاون والتواصل والانفتاح العقلي والروحي والعملي على المصالح المشتركة، ما يؤدي إلى تنمية الأموال والطاقات والأوضاع للمجتمع الذي يتحرك أفراده بهذه الطريقة، أو للأفراد الذين يعيشون في هذا الاتجاه، أما قيم الحقد والقسوة والشر والبخل، فإنها تنتج التباعد والتقاطع والانغلاق الروحي، ما يجعل كل شخص بعيداً عن الآخر، أو يؤدي إلى التعقيد الذاتي والعملي بما يسبّبه من الضرر للأفراد وللمجتمعات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والأمني والسياسي، وهذا ما نراه من ثبات الأنظمة والمجتمعات القائمة على قيم العدالة والحق والخير، واهتزاز الدول والجماعات المرتكزة على قيم الظلم والباطل والشر، الأمر الذي يجعل الدولة تزول والمجتمع ينهار، والأفراد ينكمشون.

وهذا ما لاحظناه من الاهتزازات التي تحصل للنظام الربوي في المدى البعيد من خلال التراكمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يفسّر لنا محق الربا للإنسان في الدنيا، لأنه يمحق ثروته وربما يهلك وجوده في نهاية المطاف، بينما تنطلق الصدقات لتؤسس له القوّة والامتداد والنتائج الإيجابية. هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فإن الحكم الإلهي العادل الذي يواجه الإنسان العاصي بالعقاب والمطيع بالثواب هو الذي ينتظر المرابين والمتصدقين.

أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فالظاهر أنه جار مجرى كثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الانحراف عن الخط العملي للإيمان بصفة الكفر، باعتبار أنه من نتائجه الطبيعية، لأن قيمة الإيمان هي بالعمل، فإذا ابتعد عنه صار والكفر سواء من الناحية العملية. والله العالم.

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. وهذا أسلوب قرآني مميز يثير أمام الحكم الشرعي الذي يدعو الإنسان إلى السير عليه، أجواء الآخرة في ما ينتطره فيها من عقاب على تقدير المعصية، وثوابٍ في حالة الطاعة. وقد أراد الله في هذه الآية أن يوحي للإنسان بأن قضية الربا تمثل جزءاً من كل في الشخصية المؤمنة المتكاملة التي تعمل الصالحات وتقوم بالصلاة وإيتاء الزكاة، ما يجعل من الإيمان عنصراً حيّاً لا ينفصل عن العمل في نجاة الإنسان من العقاب وحصوله على الثواب.

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. وفي هذه الآية يتصاعد الجوّ الضاغط على موقف الإنسان المؤمن عندما يقع تحت تأثير الأوضاع الاقتصادية المحيطة به في المجتمع المنحرف، فينسى إيمانه ويبدأ في الإلحاح بالمطالبة في ما له على المدينين له من زيادةٍ ربويّة. إن الآية تريد أن توحي للإنسان أن الموقف يتلخص في كلمةٍ واحدة، هي أن تكون مؤمناً أو لا تكون، في موضوع المطالبة بالربا في ما بقي له منه.

وقد رُوِي أنه لما أنزل الله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله(ص) وقال: يا رسول الله، ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني عند موته بأخذه، فأنزل الله: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبا}[8] الآية. وروى قريباً منه في مجمع البيان عن الباقر(ع).

وجاء في مجمع البيان عن السدّي وعكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي(ص) : على أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، وكل دم من دم الجاهلية موضوع، وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مرضعاً في بني ليث فقتله هذيل[9].

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لأن الله سبحانه يريد للقضايا المتعلقة بمصلحة الناس العليا وبالتالي بسلامة المجتمع في نطاق المدلول الأخلاقي والعملي لعلاقات أفراده المادية والإنسانية ، أن تكون موضوعاً حاسماً لا يتهاون الإنسان فيه ولا يتسامح، لأن الانحراف لا يمس الفرد، بل يشكل خطراً على السلامة العامة للناس، ولهذا، فإن الإنسان الذي يسيء إلى التنظيم الاجتماعي للحياة ،لا بد له من أن يواجه الدخول في حرب شديدة من الله ورسوله، الأمر الذي ينذره، وهو الإنسان الذي لا حول له ولا قوة، بالهول والرعب والشعور بالانسحاق أمام القوة العظيمة الهائلة التي لا حدّ لها والتي هي منبع كل قوّة، إن الآية تثير في الإنسان المنحرف مشاعر الهلع والفرق الكبير، كما لو أنه واقف تحت جبل عظيم شامخ يكاد يُطبق عليه من جميع الجهات، حيث لا مجال له للهروب أو الاختباء، لأنه يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله... إنه الرعب والهول الذي لا يبلغ مداه التصور، فكيف يتماسك الإنسان أمامه؟

{وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}. ويعود الأسلوب الرحيم الذي يثير أمام الإنسان خط التراجع في الحلّ المتوازن، فهناك المجال الواسع للتوبة التي لا يريد الله فيها للإنسان أن يخسر ماله ويفقده جزاءً على ما فعله من المعصية، بل يريد له أن لا يظلم الناس، وإذا كانت القضية قد انطلقت من قاعدة رفض الظلم ضد المدين، فلا يمكن لله أن يقبل وقوع الظلم على الدائن من قبل المدين بأن يسلطه على رأس المال الذي دفعه إليه.

وقد جاء في الدر المنثور: أخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) فقال: ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون[10].

{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}. أمّا إذا كان المدين معسراً لا يستطيع أن يرجع رأس المال إلى صاحبه في الوقت الحاضر، فإن الله يريد من الإنسان المؤمن أن ينتظره حتى يتمكن من ذلك ويجعل له الله من أمره يسراً، لأن ذلك هو خط العدل والرحمة في معناهما الإنساني الواقعي، فإذا كان العدل يفرض على المدين أن يدفع ما في ذمته إلى دائنه فلا يأكله بالباطل، فإنه يفرض على الدائن أن يراعي ظروف المدين في حالة العسر، فلا يضطره إلى أن يبيع ما يحتاجه من ضرورات الحياة الطبيعية أو يرهق نفسه بدين جديد يضطر إلى الخضوع فيه لشروط صعبة في ماله وكرامته وحياته، لأن حركة العدل في الحقوق والعلاقات تبقى في نطاق القدرة العادية للإنسان، فلا تتجاوزها إلى ما يخرج عن القدرة، فإن في ذلك الحرج كل الحرج، والعسر كل العسر، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وقد جاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: صعد رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) المنبر ذات يوم، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على أنبيائه (صلى الله عليهم) ثم قال: أيها الناس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ألا ومن أنظر معسراً، كان له على الله عز وجل في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله(ع): {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم[11].

{وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. ثم يثير أمام الدائن القادر الموقف الروحي الذي يتسامى معه الإنسان إلى أجواء التضحية والعطاء. فيبدأ بالتفكير في المكاسب التي يحصل عليها عند الله، بدلاً من الحسابات المادية التي تخضع للربح والخسارة في ما يحصل عليه من ماله أو في ما لا يحصل عليه منه، فإذا كان المدين غير قادر، وكان من حقه أن ينتظره، فإن من حق الله عليه في شكره لنعمه، ومن حق نفسه عليه في أن يرفع درجتها عند الله من خلال أعمال الخير، أن يتصدق بهذا الدين على صاحبه قربة إلى الله، فهو خير له عند الله الذي يتقبل صدقات عباده ويعفو عنهم ويجزل لهم العطاء في الدنيا والآخرة، إن كانوا يعلمون موازين الربح والخسارة في ما يبقى ويخلد ويستمر، فلا يقتصرون على الموازين العاجلة التي يفكر فيها الغافلون.

{وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. وتأتي الدعوة إلى التقوى في هذا الفصل الذي تتنوع أغراضه، في نطاق ما يحبه الله وما لا يحبه، لتبعث في روح الإنسان التفكير العميق في ذلك اليوم العظيم الذي يمثل العودة إلى الله من هذه الدنيا الفانية التي يترك فيها الإنسان كل شيء وراءه مما يتنافس عليه الناس ويتقاتلون حوله، ولا يبقى مع الإنسان إلا العمل، في ما أعطاه وفي ما منعه من مال الله ومن مال الناس، وفي ما أطاع الله فيه وفي ما عصاه. ويقف الإنسان في الانتظار، كلّ ينتظر دوره، ويحاول أن يعرف رصيده، وتعرض الأعمال، فلكل نفسٍ ما كسبت، تستوفيه وتأخذه لا ينقص منه شيء مهما قلّ، لأن اليوم هو يوم العدل ويوم الجزاء العادل الذي يحمل الشعار الخالد العظيم «لا ظلم اليوم». وبعد ذلك ماذا ينتظر الإنسان في هذه الدنيا ليسير على خط التقوى في حياته، ما دام يؤمن بالله وباليوم الآخر، ويعرف أنّ عليه أن يوجه نفسه إلى ما يسعدها ويرفع درجاتها في الآخرة ويحقق لها طموحها في السعادة، كما يفكر في تحقيق ذلك في الدنيا.

* * *

مع بعض الباحثين حول خصائص الربا القرآني

وخصائص معاملات المصارف

ذكر بعض الباحثين في الربا القرآني عدة خصائص:

أ ـ الخاصة الأولى: أن المدين محتاج للصدقة عملاً بظروف الدين، ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه.

ب ـ الخاصة الثانية: أن الدائن ينفرد وحده بالمنفعة من الربا، ويستغل أبشع استغلال لظروف ذلك المحتاج للصدقة، ولذلك فهو «ظالم» قد استحق الوعيد الكبير إن لم يذر الربا مع مدينه عملاً بقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.

ج ـ الخاصة الثالثة: أنه مجرد تنميةٍ لمال الدائن في أموال المدينين، واستغلالٍ لحاجاتهم من غير تجارةٍ ينتفع بها الطرفان، ولذلك شجب الله سبحانه وتعالى هذه التنمية الظالمة، فقال تعالى أوّلاً: {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39]، ثم أكد ذلك بإعلان حرمتها بشدة، فقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ} مشيراً إلى العمل التجاري الذي ينتفع به الطرفان في كلمة «البيع» وإلى فقدان ذلك في الربا الذي لا ينتفع به إلا طرف واحد.

د ـ الخاصة الرابعة: ذلك قوله سبحانه في أكَلَةِ الربا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وذلك لأن هؤلاء قد استعجلوا الأرباح، فأتوها من غير طريق التجارة، وهو طريق استغلال ظروف المحتاجين للصدقة الذين قلّما يستطيعون وفاء ديونهم وما تراكم عليها من ربا المرابين، ولذلك فإن هذه المقامرة في استغلال حاجة غير القادر على الوفاء ومضاعفة الربا عليه كلما حلّ الأجل وعجز عن الوفاء، تجعل من هؤلاء المستغلين عند عجز المدين عن الوفاء كالذي يتخبطه الشيطان من المس، لأنه فقد رأس ماله فوق فقده لأرباحه الاستغلالية، بعد أن كان ينتظر هذه الأضعاف المضاعفة بفارغ الصبر.

هـ ـ الخاصة الخامسة: أنه زيادة طارئة في الدين تفرض على محتاجٍ للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، وتلك هي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول، ولا يقابلها في هذا العقد الجديد غير تأجيل الاستيفاء من المدين أي «الإنساء»، وهو ربا النسأ القطعي من غير أيّ نفعٍ مادي للمدين، لأن التأجيل ليس بمال ينتفع به المدين في طعامه أو تجارته، في حين أن الزيادة في الربا للدائن كانت زيادة إليه وقد اقتصرت فقط عليه من دون مقابل للمدين، وهذا من أعظم أكل أموال الناس بالباطل من غير تجارةٍ ولا رضا، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ}، ولذلك كان ظلماً صريحاً، وقد حرمه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، واستحق الدائن عليه الوعيد الكبير من الله سبحانه حيث قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِي مِنَ الرِّبا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة:278ـ 279].

* * *

أما خصائص معاملات المصارف فهي كما يلي

أ ـ الخاصة الأولى: إن الدائن هو دائماً من «صغار المالكين لرأس المال»، غير أنه يملك «سيولة صغيرة» أي وفراً قليلاً لا يستطيع استثماره، وأمّا «المدين»، فهو دائماً من «كبار المالكين» لرأس المال، غير أنه لا يملك أيّة سيولةٍ لتسيير أعماله الكبرى، وذلك بسبب توظيفه لكل وفرٍ لديه في أعماله ومشاريعه الكبرى، وهكذا يتضح هنا أن الذي يحتاج للآخرين في المعاملات المصرفية هم دائماً «الأغنياء الكبار» الذين يمدون أيديهم لوفر «المالكين الصغار» دون العكس، وبالنتيجة، فإن هؤلاء الأغنياء الكبار لا تحل لهم صدقة المالكين الصغار في ما لو طلبنا إلى هؤلاء الصغار أن يتوبوا ويتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء كفارةً لهم عما سلف، عملاً بقوله تعالى: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وهذه أولى الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف تماماً عن «الخاصة الأولى» في الربا القرآني، حيث إن المدين في الربا القرآني محتاج للصدقة، وينبغي التصدق عليه برأسمال الدين، بينما الأمر على عكس المدين في المعاملات المصرفية.

ب ـ الخاصة الثانية: وعلى ضوء ما تقدم في الخاصة الأولى في هذه المعاملات، فإنه من الواضح أن الدائن هنا، وهو المالك الصغير، لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين كما هو الحال في الربا القرآني، ولا يستغلّ مديناً محتاجاً للصدقة، بل يشترك مع الأغنياء من الكبار في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه، وهذه أيضاً ثاني الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف تماماً عن «الخاصة الثانية في الربا القرآني»، حيث إن المدين في الربا القرآني لا منفعة له، وإنما المنفعة قاصرة على الدائن وحده، بينما الأمر مختلف في المدين في المعاملات المصرفية، لأن المدين وهو المالك الكبير، مشترك في المنفعة مع «الدائن» وهو المالك الصغير، وذلك باستثماره أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع.

ج ـ الخاصة الثالثة: «في المعاملات المصرفية». وعلى ضوء ما تقدم أيضاً في الخاصتين السابقتين في هذه المعاملات، فإن المعاملة المصرفية ليست مجرد تنمية لمال الدائن وحده من أموال المدينين كما هو الحال في الربا القرآني، وإنما هي تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها، ودعت إليها حاجة الناس أجمعين، حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها وينتفع بها الطرفان المعطي والآخذ، ولولا هذه المعاملة، لفاتت المنفعة في آن واحد على المعطي والآخذ وتعطلت مصالح الطرفين، ولذلك قال المرحوم رشيد رضا في فتاواه: «ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي، والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معاً، لا تدخل في تعليل: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} لأنها ضدّه، وأن المعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة، هي من قسم البيع، لا من قسم استغلال حاجة المحتاج، ويشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ويؤيد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر بها على حد قول الإمام موفق الدين ابن قدامة في المغني، أن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز، وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها، وإنما يرد بمشروعيتها، وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعاً».

ويؤخذ من كل ذلك أن «الدائنين» في المعاملات المصرفية إنما هم من صغار المالكين ولم يستغلوا «المدينين» الذين هم كلهم هنا من كبار المالكين، بل قد يتبادلون المنافع معهم بصورة تجارية وعقد رضائي من غير أن يكون هناك (ظالم) أو (مظلوم). وهذه هي أيضاً ثالث الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف تماماً عن الخاصية الثالثة في «الربا القرآني»، حيث إن الربا القرآني هو مجرد تنمية لمال «الدائن» وحده في أموال المدينين، بينما الأمر مختلف في «المدين» في المعاملات «المصرفية»، حيث إن كلاًّ من «الدائن والمدين» مشترك في المنفعة بعقد رضائي لا إلجاء فيه ولا استغلال.

د ـ الخاصة الرابعة: في «المعاملات المصرفية»، فإن المتعاملين فيها ـ معطياً وآخذاً ـ كلهم مستريح البال، وذلك لقيام إدارة المصرف نيابةً عنهما باتخاذ جميع الإجراءات والضمانات اللازمة لسلامة المعاملة على السواء لمصلحة «الدائن والمدين»، بينما الأمر على عكس ذلك في «الربا القرآني» القائم في الأصل على توظيف أموال الدائنين لدى العاجزين عن وفاء الدين طبعاً بالأضعاف المضاعفة من دون أيّ ضامن لذلك، ويكفي في ذلك مقامرة تجعل الدائنين لا يقومون في كل ساعة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، وذلك لما تأتيهم الأخبار والمعلومات الأكيدة من سوء أحوال مدينيهم وعجزهم عن الوفاء، وهذه هي أيضاً رابع الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف فيها تمام الاختلاف عن «الربا القرآني»، وذلك لاضطراب هؤلاء كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، بينما الأمر على عكس ذلك تماماً من أمن وراحة بال لدى المتعاملين في المعاملات المصرفية.

هـ ـ الخاصة الخامسة: في «المعاملات المصرفية»، فإن الزيادة فيها إنما تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية مع مدينين أغنياء من رجال الأعمال وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج للصدقة، وذلك ما يجعلها في الأصل ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية، أي في مقابل منافع متبادلة، وهذا كما ترى هو على خلاف الزيادة في «الربا القرآني» المحرمة التي لا تشترط فيه إلا على رجل محتاج للصدقة وبعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء.

ويتابع هذا الباحث القول: وبعد هذه المقارنة الواضحة بين خصائص الربا القرآني المحرم قطعاً، وبين خصائص المعاملات المصرفية، اتضح للناظر أن خصائص المعاملات المصرفية، لا تتفق في حالةٍ ما مع خصائص الربا القرآني، ولذلك فهي شيء جديد لا يخضع في حكمه للنصوص القطعية في «الربا القرآني» المحرّم، وهذا ما يوجب علينا النظر فيها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداءً برسول الله(صلى الله عليه وسلّم) في إباحته «بيع السلم» رغم ما فيه من بيع غير المحدود، وبيع ما ليس عند البائع ما قد نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) في الأصل، وقد أجمع العلماء على أن إباحة «السلم» كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلاّ بها.

ويخلص الباحث ـ من خلال ذلك كله ـ إلى أن المصارف في حالتها الحاضرة ووفقاً لقوانينها العالمية، إنما هي حاجة من حاجات العباد، ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها، فلم يكن من الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه، وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج في معاشهم لا مثيل له، بل يهدد كيان الدولة والأمة، ويقضي نهائياً على مصالحهم الاقتصادية المشروعة، وأن الحرج ـ كما عرفت ـ ممنوع بنص القرآن الكريم[12].

* * *

مناقشة النظرية

ونلاحظ على هذه الدراسة أنها انطلقت مما نقله صاحبها عن الإمام أحمد، وهو أن القرآن الكريم كلما ذكر الربا بسوء، أوصى الدائن بالصدقة على مدينه. ولهذا استفاد من الآيات أن المدين محتاج للصدقة عملاً بظروف الدين، ولذلك فهو مظلوم، كما هي الخاصة الأولى في الربا القرآني، ولكن المسألة المطروحة في الآيات هي الحديث عن الربا باعتباره مظهراً من مظاهر الحالة النفسية المعقدة التي تختزن في داخل الذات الإحساس بالذاتية في الحصول على المال بأية طريقة، فلا تنفتح على الآخرين، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، فهو الإنسان المصروع الذي يعيش الاهتزاز النفسي أمام نوازع الذات التي هي عالمه المنغلق على الآخرين، إلا في نطاق حاجاتها وأطماعها. أما الحديث عن الصدقة، فإنه يأخذ بُعْدَ السلوك الأخلاقي الذي يعبّر عن روحية العطاء في داخل النفس من خلال الإحساس بحاجة الآخر المحروم إليه، لتكون الصدقة مظهر تفاعل معه وانفتاح عليه في دائرة التكافل الاجتماعي، كخط عام في البرنامج الأخلاقي العملي الإنساني في نموذج الشخصية المنفتحة على الآخرين، في كل المجالات العامة والخاصة في الحياة، فليست القضية مقتصرة على الحالة الخاصة التي يدور الأمر فيها بين التصدق على المدين وأخذ الربا منه.

أما التعبير بالظالم هنا ـ في المرابي ـ والمظلوم ـ في المدين ـ فليس ملحوظاً جانب انفراد الدائن وحده بالمنفعة، بينما يخضع المدين لاستغلاله في حاجته، بل الملحوظ فيه هو عدم أخذ المدين رأس المال الذي هو ملك الدائن وإرجاع الفائدة إلى المدين لأنها غير مشروعة، فليس المراد بالظلم هنا، الحالة العملية التي تنطلق من حاجة المظلوم واستغناء الظالم، بل المراد به عدم إعطاء صاحب الحق حقه، سواء أكان غنياً أم فقيراً، ما يجعله مظلوماً من قبل المدين إذا منعه من رأس المال، فيكون المدين ظالماً له في ذلك. ومن خلال ذلك، نعرف أن الآية ليست واردة في النظرة إلى المسألة الربوية من حيث المبدأ، بل هي واردة في مرحلة تصفية المعاملة الربوية وإعادتها إلى الخط الشرعي في إرجاع الفائدة إلى المدين، وإعادة رأس المال إلى الدائن، باعتبار أن السلب هنا وهناك يمثل لوناً من ألوان الظلم.

وعلى ضوء ذلك، يمكن لنا أن نقرر المبدأ الإسلامي في تشريع العدل للناس كافة من الأغنياء والفقراء ورفض الظلم للجميع من خلال النظرة إلى طبيعة السلوك بعيداً عن شخصية الظالم والمظلوم من ناحية الوضع الاجتماعي السلبي والإيجابي، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} [النساء:135]، فقد جعل المسألة منطلقةً من طبيعة القضية بعيداً عن أيّ شيء آخر في صفة الناس الذين يرتبطون بها، فلا يشهد الإنسان لمصلحة الفقير بالباطل، ضد الغني الذي يملك الحق، لأن مثل هذه الحالة العاطفية الإنسانية لا تحل مشكلة الفقير، بل تعقد المشكلة العامة التي قد تطال الفقير في نهاية الأمر، أما مسألة الغنى والفقر، فإنها خاضعة للتدبير الإلهي في إدارة شؤون الإنسان في الحياة.

أمّا الخاصة الثالثة من الربا القرآني، وهي أن الربا مجرد تنمية لمال الدائن في أموال المدينين واستغلالٍ لحاجاتهم من غير تجارة ينتفع بها الطرفان، فإن ذلك قد لا يمثل مشكلةً في ذاته إلاّ من خلال ما يعبّر عنه من حالة نفسية خانقة منغلقةٍ، تتصل بالواقع الإنساني في أبعاده العامة، وقد يطرح الربويون في مقابل ذلك أن المدين قد ينتفع بالمال الذي يأخذه ديناً للاتّجار به، باعتبار أنه يحل له مشكلة عدم وجود رأس مال للعمل والإنتاج لديه، وإذا كان الباحث يستند إلى الآية الكريمة: {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ} باعتبار أن الله يرفض للإنسان أن ينمي ماله في أموال الناس، فإننا نردّ عليه بأن الظاهر من الآية أن الله يريد أن يبين له أنه إذا كان يستهدف الحصول على الزيادة من خلال الربا، فإنه لن يحقق لنفسه إلا زيادةً ماديةً لا تجديه شيئاً عند الله الذي هو الأساس الذي ينبغي للإنسان أن يرتكز عليه ويقصده في كل أعماله، لأن {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} فلا بد له من أن يطلب الزيادة بالإقبال على دفع الزكاة التي يضاعفها له الله، وهكذا نرى أنها ليست واردةً في مقام رفض الزيادة في أموال الناس لأنها تتحقق بالتجارة، حتى لو كان الفرق بينها وبين الربا، انتفاع الطرفين في التجارة واقتصار الانتفاع في الربا على الدائن ـ كما قيل ـ إلا أن ذلك ليس بفارق من حيث اشتراكهما في تنمية المال في أموال الناس.

أمّا تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} بأنهم استعجلوا الأرباح فأتوها عن غير طريق التجارة، وهو طريق استغلال ظروف المحتاجين للصدقة الذين قلّما يستطيعون وفاء ديونهم وما تراكم عليها من ربا المرابين، فإننا نلاحظ عليها أن الآية بعيدة كل البعد عن هذا المعنى، بل هي واردة في مقام الحديث عن حالة التخبط الفكري والعملي التي تصيب المرابي، كما شرحناه في أول الحديث عن الآيات.

وتبقى النقطة الخامسة من خصائص الربا القرآني، وهي أنه زيادة طارئة في الدّين تُفرض على محتاجٍ للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، وتلك هي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول، ولا يقابلها في هذا العقد الجديد غير تأجيل الاستيفاء من المدين، أي «الإنساء»، وهو ربا النسأ القطعي من غير أي نفع مادي للمدين... إلى آخر كلامه. فإننا نلاحظ عليه، أن هذا المنطق قد يرد عليه القائلون بحلّية الربا، من أن للأجل قسطاً من الثمن، ولذلك يزاد في ثمن السلعة التي تباع نسيئة بلحاظ الأجل، كما أن المدين قد يحتاج إلى إبقاء المال لديه من أجل تطوير تجارته بالاحتفاظ برأس المال مدة أخرى، فيكون وزان الأجل الجديد وزان الأجل القديم الذي لوحظ في البيع زيادة الثمن في مقابله في ضمن الثمن العام، فلا تكون الزيادة ـ على هذا ـ أكلاً للمال بالباطل.

إننا لا نقصد تبرير كلام المرابين بما ألمحنا إليه، بل نقصد أن مجرّد هذا التبرير للحرمة في كلام الباحث، ليس بعيداً عن النقض والمناقشة من الجانب الآخر.

وفي ضوء ذلك كله، فإن الاستنتاج الذي أكده الباحث من اختلاف الربا المصرفي عن الربا القرآني، بحيث يكون الموضوع فيه غير الموضوع في القرآن، فلا تشمله الحرمة، لأن الدائنين في المصارف هم المالكون الصغار، والمدينون هم المالكون الكبار، فلا يكون مورداً للصدقة كما هو في المورد القرآني، ولأن المنفعة هنا مشتركة بين الدائن بما يأخذه من الفائدة والمدين بما يستثمره من رأس المال، بينما تختص بالدائن في الربا القرآني، ولأن المعاملة المصرفية ليست مجرد تنمية للمال في أموال الناس، بل هي تجارة من نوع جديد مما يتصل بحاجة الناس، ولأن الدائن مضطرب الحال في الربا القرآني لعجز المدين، بينما هو مستريح البال لغناه ولكون المصرف مؤسسة منظمة ترعى المال وتضمنه لصاحبه من دون خوف، ولأن الزيادة في المصارف تشترط لأغراض تجارية بينما الزيادة في القرآن لا تشترط إلا على رجل محتاج للصدقة.

إننا نرفض هذا الاستنتاج من خلال الإشارة إلى الاختلاف المذكور، لأنه قائم على الاستفادة الضيقة في الربا القرآني بأنه وارد في مورد المحتاج العاجز عن الوفاء، وهو غير ظاهر كما ذكرنا، بل هو وارد في مقام الحديث عن النظام الاقتصادي الذي ينطلق فيه الناس في حياتهم العامة في معاملاتهم بعيداً عن شخصية الدائن والمدين، وهكذا في قضية اشتراك المنفعة هنا في المصارف واختصاصها بالدائن في الربا القرآني، فإن الملحوظ هو التركيز على الانتفاع بالربا من دون نظر إلى ما يفعله المدين من استثمار المال في حاجاته وفي مشاريع أخرى.

وهكذا تنطلق المناقشة في الإشارة إلى أن ربا المصارف يمثل تجارة، فإننا لا نفهم معنى ذلك في طبيعة المعاملة الربوية في مدلولها الموضوعي، لأن مسألة التجارة خارجة عن المعاملة ويمكن أن تحصل في الربا القرآني عندما يستثمر المدين رأس المال في أعمال تجارية صغيرة تدرّ عليه الربح. أمّا قضية راحة البال في المعاملة المصرفية واضطرابه في المعاملة الربوية القرآنية، فهو قد يكون صحيحاً في الحالات العامة، ولكن ذلك قد يحدث في المصارف من خلال الاهتزازات الاقتصادية العامة والخاصة التي تؤدي إلى إفلاس المصرف وعجزه عن الدفع مما يلتقي والربا القرآني.

إن القضية التي تفرض نفسها في الآيات القرآنية، هي أن القرآن الكريم عالج المسألة الربوية من عدة جوانب وربطها بالجانب الإيماني في شخصية المؤمن في الداخل إلى جانب الواقع العملي في حركته في الحياة، ورأى أن القضية تتصل بالنظام الاقتصادي العام من خلال نوعية التعامل الربوي الذي إذا اختزن بعض الإيجابيات في الحياة العامة، فإن سلبياته أكثر. هذا مع ملاحظة جديرةٍ بالاهتمام، وهي أنّ مسألة الربا مرتبطة بالتخطيط الرأسمالي للاقتصاد، فلا يجوز إدخالها في التخطيط الإسلامي للحياة الاقتصادية، لأن ذلك يعني وضع التشريع المنطلق من قاعدة معينة مختلفة في داخل دائرة قاعدة أخرى لا تتصل بتلك القاعدة من قريب أو بعيد.

وهناك نقطة حيوية لا بد من ملاحظتها في ربا المصارف، وهي أنه يوجب تراكم الثروة في جماعة معينة من الناس الذين قد يحركونها في المضاربات التجارية التي قد تؤدي إلى الأزمات الاقتصادية من جهة، وازدياد فقر الفقراء من جهة أخرى، لأن ما يأخذونه من الفائدة يفقدونه في التعقيدات الاقتصادية وغلاء الأسعار، بل ربما يخسرون رأس المال من جهة أخرى، وهذا ما نشاهده في المجتمع الربوي اليوم.

* * *

هل الآية شاملة لربا المعاوضة؟

الظاهر من آيات الربا أنها مختصة بربا القرض، وذلك من خلال الروايات الواردة في أسباب النزول التي تتحدث عن الواقع الربوي في الجاهلية المتمثل بالزيادة على رأس المال في مقابل الزيادة على الأجل عند حلوله مع ملاحظة مقابلة البيع للربا، ما يوحي بأنهما معاملتان مختلفتان، كما أن الظاهر من قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا} وقوله تعالى: {وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} هو الإشارة إلى الزيادة النقدية على رأس المال الذي أخذه المدين. وفي ضوء ذلك، فإن ربا المعاوضة لا بد من الرجوع فيه إلى السنّة الشريفة، والله العالم.

وقد ذكر في مجمع البيان أن هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله(ص) ولم يعش بعدها إلا واحداً وعشرين يوماً[13]. فإذا صح ذلك، فإن معناه أن الآية تمثل النداء الأخير الذي يوجهه الله في وحيه إلى عباده، ويلخص فيه كل مسؤوليات الإنسان في الحياة بالسير على خط التقوى الذي يستمد الإنسان قوّة الاستمرار فيه والإلحاح عليه من التفكير في اليوم الذي يرجع فيه إلى الله، فيحصل الإنسان فيه على كل ما عمل؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر. إنه الخط والزاد، كما قال تعالى في آية أخرى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَابِ}.

ــــــــ

(1) مغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، دار العلم للملايين، ط:4، حزيران 1990، م:1، ص:435.

(2) تفسير الميزان، ج:2، ص:418.

(3) انظر: م.س، ج:2، ص:419.

(4) انظر: تفسير الميزان، ج:2، ص:416 ـ 417.

(5) مجمع البيان، ج:1، ص:503.

(6) م.ن، ج:1، ص:503.

(7) البحار، م:34، ج:93، ص:86، باب:14، رواية:68.

(8) تفسير الميزان، ج:2، ص:430.

(9) مجمع البيان، ج:1، ص:505.

(10) الدر المنثور، ج:2، ص:109.

(11) الكافي، ج:4، ص:\35، رواية:4.

(12) فتوى د.معروف الدواليبي في موضوع الربا والمصارف (حول موقف الشريعة من المصارف) والأحكام والقواعد العامة الشرعية.

(13) مجمع البيان، ج:1، ص:507 ـ 508.