تفسير القرآن
البقرة / من الآية 282 إلى الآية 283

 من الآية 282 الى الآية 283
 

الآيتــان

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْـأمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(282ـ283).

* * *

معاني المفردات

{يَأْبَ}: يمتنع بشدة، من الإباء الذي هو شدّة الامتناع، فكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباء، وسمّي الممتنع من تحمل الضيم بالأبيّ.

{وَلْيُمْلِلِ}: الإملال: الإملاء، يقال: أملّ عليه وأملى عليه.

{شَهِيدَيْنِ}: الشاهد من شهد الشيء وحضره.

{يَبْخَسْ}: ينقص ظلماً، من البخس الذين هو النقص ظلماً، وثمنٌ بخس أي ناقص عن حقّه.

{تَضِلَّ}: تنسى أو تخطىء فتبتعد عن خط الهداية.

{تَسْـأمُواْ}: تملّوا وتضجروا، من السآمة وهي الملالة والضجر.

{أَقْسَطُ}: من القسط، وهو العدل، أي أكثر عدلاً، وأبلغ في الاستقامة.

{وَأَقْوَمُ}: أقرب.

{فُسُوقٌ}: الفسق هو الخروج عن طاعة الله.

{فَرِهَانٌ}: الرهان مصدر أو جمع رهن، والرهن ما يوضع وثيقة لدين المرتهن.

* * *

المعاملات المالية في القرآن

في هاتين الآيتين جولة تشريعية حول أحكام الدَّيْن في ما يُراد توثيقه وإثباته، من أجل أن لا يكون هناك مجال لإنكاره من قبل المدين في الحالات التي لا يوجد هناك أي مستند للدائن عليه، فقد أراد الله أن يكتب الدين بشكل موثّق لا يدع مجالاً للالتباس والإنكار، ودعا الكاتب الذي يُحسن الكتابة إلى أن يستجيب لذلك إذا طُلب منه، وحَثَّ على الشهادة، وطلب من الشهداء أن لا يمتنعوا إذا دعوا إلى تحمّلها، كما لا يجوز لهم الامتناع إذا دعوا إلى إقامتها. ثم أشار إلى تشريع الرهن إذا لم يكن هناك مجال للكتابة، ثم ترك المجال للمسلمين أن يتعاملوا على أساس الثقة المتبادلة التي تدفعهم إلى الوثوق ببعضهم البعض من دون حاجة إلى الإشهاد والكتابة.

وهكذا نجد في هاتين الآيتين برنامجاً عملياً إرشادياً يريد الله ـ من خلاله ـ أن يخطط للإنسان علاقاته الماليَّة لئلا تدخل في أوضاع سلبيّة تهدم العلاقات الإنسانية في نهاية المطاف، ولكن قد يرد هنا سؤال: لماذا كل هذا؟ إن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن، بالدقة التي تتحدث عنها هاتان الآيتان، قد يترك انطباعاً سلبياً في ما يتعلق بالعلاقات، ويُلقي ظلاً من الشك على تصور الوثاقة في علاقات المؤمنين بعضهم مع البعض الآخر، فإذا كانت العلاقات المالية تحتاج إلى الإثبات والتوثيق، فأين تقف ثقة المؤمنين ببعضهم البعض، وما هو موقعها في التخطيط للمجتمع المؤمن؟ فإن الإنسان إنما يحتاج إلى التوثيق بالكتابة ونحوها في حالة انعدام الثقة بالشخص نفسه.

ونجيب على ذلك، أن الإسلام يدعو إلى حسن ظن المؤمن بأخيه المؤمن، ويريد للثقة المتبادلة أن تسود العلاقات فيما بينهم، ولكنه يريد لذلك أن يستمر ويتركز ويقوى حتى لا يتعرض للحالة الطارئة الاستثنائية التي قد تسيء إلى الخط العام في كثير من المواقع، فإن الإيمان لا يعني العصمة التي يمتنع فيها الخطأ لتكون العصمة ضماناً روحياً وعملياً من الانحرافات السلبية، بل تبقى للإنسان نقاط ضعفه التي تستيقظ في داخله، فتضعف إرادته وتقوده إلى أن ينحرف عن خط الله في ما أمره به ونهاه عنه، فيخون الأمانة وينكر الحق، ويتنكر للمسؤولية، إذا لم تكن هناك ضوابط ماديّة تواجه نقاط ضعفه بضغوط عملية تحميه من الانحراف، فتثير أمامه الصعوبات، وتواجهه بالتحديات، ليعرف أن الخيانة تعني الفضيحة، وأن الإنكار للحق والتنكر للمسؤولية لا يثبتان أمام الدلائل الواضحة التي لا يملك الإنسان معها إلا الاعتراف الحاسم، لأنها تحيط به من بين يديه ومن خلفه.

وهناك نقطة أخرى لا بد من ملاحظتها في هذا السبيل، وهي أن الثقة إذا كانت ضماناً لعدم الخيانة من قِبَل المدين، فهل هناك ضمانة دائمة لعدم الخيانة من وارثه إذا مات المدين؟ فقد نجد بعض المدينين ينكرون الدين إذا لم يكن للدائن مستند مادي من كتابة أو شهادة أو رهن، كما قد نجد بعض الورثة ينكرون وجود الدين لضعف في الدين أو لعدم علمهم بذلك من غير طريق الدائن. أمّا إذا كان هناك إثبات مادي، فإنه يحميهم من الإنكار، كما يحمي للدائن حقه في حال إنكاره حالة شاذة أو عقدة مستعصية.

إن الإسلام يفكر أن الإنسان لا بد له من ضوابط خارجية تحمي مسيرته على خط الاستقامة، وذلك بعد أن أطلق في حياته الضوابط الداخلية من خلال الإيمان. وفي ذلك كله تأكيد لاستمرار الثقة في العلاقات وتنمية لها في مواجهة نقاط الضعف التي تزلزل قواعدها الإيمانية في الداخل. ذلك هو الخط العام الذي ينبغي للمسلمين أن يتحركوا فيه في خط حياتهم الطويل، ولا ينبغي لهم أن يتعقّدوا عندما يطلب منهم ذلك انسياقاً مع الهواجس التي يثيرها الشيطان في نفوسهم ليسوّل لهم تنافي ذلك مع الشعور بكرامتهم والثقة بأمانتهم، بل يجب أن يجدوا فيه الضمانة العملية لبناء المجتمع على أسس ثابتة لا تقبل الاهتزاز والانهيار. وقد ترك الإسلام الساحة مفتوحة للمسلمين في هذا التشريع، فلم يغلق عليهم الأبواب ولم يفرض عليهم ممارسة بنوده التشريعية فرضاً من باب الواجب، بل كلّ ما هناك، أنه أراد إثارته في حياتهم كنظام اختياري ينطلق من قاعدة المصلحة العامة التي تركز حياتهم على أساس ثابت، فلهم أن يأخذوا به في نطاق التطبيق العملي الذي لا يشعرون معه بالعقدة ضدّه، بل يتقبلونه كأسلوب واقعي حكيم، ولهم أن يتركوه في الحالات التي يشعرون فيها بالأمن على حقوقهم وأموالهم من دون أيّ مبرر للخوف، فذلك هو شأنهم في ما يفعلون وفي ما يتركون، لأنه قضيتهم الخاصة في حقوقهم وأموالهم.

إن القضية هي قضية المبدأ كقاعدة وكقيمة اجتماعية، من موقع النصح والإرشاد، لا من موقع الفرض والإلزام، وهذا ما يعبر عنه في المصطلح الفقهي الأصولي بالأمر الإرشادي الذي لا يستتبع موافقته ومخالفته ثواباً وعقاباً، في مقابل الأمر المولوي الذي ينطلق في خط طاعة المكلف لله على أساس الثواب والعقاب، والله العالم بحقائق أحكامه.

* * *

توثيق المعاملات المالية

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. وذلك بأن يراعي العدل في كتابته، فيكون دقيقاً في كل الخصوصيات المتعلقة بالموضوع، فلا يكتب ما لا أساس له في القضية. وقد عبر بالدّين ولم يعبر بالقرض، لأن القرض هو أن يأخذ الإنسان من إنسان آخر نقداً معيناً أو بضاعة معينة إلى أجل ليدفعه الآخر عند حلول الأجل، مثلاً بمثل، أما الدَّين، فهو كل تعامل مبني على عوضٍ أو معوّض مؤجّل، كما في الإجارة أو البيع أو الصلح أو نحوها، بحيث يكون أحدهما مديناً للآخر. وفي ضوء ذلك، فإن الآية تشمل القرض كما تشمل كل المعاملات المشتملة على تأجيل أحد العوضين، وليست الكتابة واردةً على سبيل الوجوب، بل الإرشاد، على الرغم من ظهور الأمر في الوجوب، لأن الظاهر من سياق الآية هو ورود المسألة على سبيل الاستيثاق، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ما يوحي بأن القضية ناظرة إلى المستقبل الذي قد يتمخض عن بعض الأوضاع والانحرافات التي تؤدي إلى النزاع فيما بينهما، فأريد توثيق الدَّين بحيث لا يستطيع المدين أن ينكره فيما بعد.

{وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} وفي هذا إيحاء بأن الثقافة مسؤولية المثقف في الإسلام لمن يحتاج إليه، فليس له الامتناع عن تقديمها للآخرين الذين يحتاجون إلى خدماتها في أمورهم، لأنها ليست شيئاً ذاتياً بعيداً عن المسؤولية. وقد يستوحي الإنسان منها ضرورة وجود أشخاص في المجتمع يملكون مثل هذه المعرفة التي تساهم في تنظيم وثائق المجتمع في معاملاته مما يحتاج إلى التوثيق، ولعل وظيفة «كاتب العدل» الذي يعمل على كتابة العقود المتداولة بين الناس بما فيها الديون، مستوحاة من هذه الآية، لأن الدَّين لا خصوصية له في المسألة، بل القضية تشمل كل المعاملات الجارية بين الناس التي يحتاج فيها إلى التوثيق حذراً من أن ينكر البائع بيعه والمؤجر إجارته والشريك شراكته ونحو ذلك، فهي قضية عامّة في عمق المسؤولية {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} بأن يلقي عليه حدود الحق الذي يلزمه للدائن {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فإن التقوى تفرض على الإنسان أن لا ينقص أحداً في ما يعطي وفي ما يوثق من إثباتات. {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} لأن الإنسان الذي لا يتمتع بصفات المسؤولية التي تجعل إقراره أو تصرفه شرعياً، أو الذي لا يستطيع ممارسة مسؤوليته، لا بد من أن يكون له وليّ خاص كالأب والجدّ بالنسبة للصغير والمجنون، أو عام كالحاكم الشرعي.

ولا بد من أن يراعي العدل في تحديد المبلغ والأجل مع كل الخصوصيات في مثل هذه الحالة بشكل أكثر تأكيداً لتعلق الموضوع بالإنسان القاصر الذي لا بد للولي من أن يراعي الاحتياط في المحافظة على حقه بكل دقةٍ، فهو الذي يتولى أموره ويوثق عقوده ويرعى كل علاقاته العامة والخاصة. {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} وقد جعل الله الشهادة طريقاً من طرق إثبات الحق، وذلك من خلال البيّنة التي تتمثل في شاهدين عدلين. ولا بد من أن يكونا بالغين عاقلين راشدين حافظين مسلمين، وهذا مستوحى من قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} أي ممن كان على دينكم.

* * *

لماذا شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد؟

{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فإنهما تقومان مقام الرجل في الشهادة. أما السبب في ذلك، فهو ما ذكره الله سبحانه بقوله: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} وقد يكون الأساس فيه هو قوّة الجانب العاطفي الذي تقتضيه طبيعة الأمومة التي تحتاج في تحمّل مسؤولياتها وأعبائها الثقيلة المرهقة إلى رصيد كبير من العاطفة، كما تقتضيه طبيعة الأنوثة التي توحي بالأجواء والمشاعر العاطفية المرهفة التي تثير في الجو الزوجي الحنان والعاطفة والطمأنينة. وربما تتغلب العاطفة فتنحرف بالمرأة عن خط العدل في الشهادة وتضلّ عن الهدى، لاسيما إذا كان جوّ القضية المشهود بها يوحي بالمأساة في جانب المشهود عليه أو المشهود له، فتتجه العاطفة إلى مراعاة مصلحته من خلال الحالة المأساوية الخاصة التي تحيط به. فكان لا بد من امرأة مثلها تصحح لها الخطأ، وتذكرها المسؤولية، وتترك للحاكم المجال لممارسة حريته في الوصول إلى الحق من خلال ذلك. وليس في القضية امتهان لكرامة المرأة، لأن العاطفة ليست شيئاً ضد القيمة في شخصيتها، بل هي قيمة إنسانية كبيرة. ولكن الله أراد لها أن تعيش الضوابط الداخلية والخارجية التي تحميها من الانحراف في الجانب الأقوى منها، على أساس الاحتياط للعدالة التي أراد الله للإنسان أن يبلغها في كل ما يحدث من قضايا وأوضاع على مستوى الفرد أو المجتمع.

 

* * *

التشريع والخصائص النوعية العامة

وقد يتساءل بعض الناس: إننا نسلّم بأن رصيد المرأة من العاطفة أقوى من رصيد الرجل منها، ولكننا نعرف ـ مع ذلك ـ بأن التربية الموجّهة قد تضعف هذا الجانب في المرأة فتسير به إلى خط التوازن، كما أن التربية المنحرفة، أو عدم التربية السليمة، قد تقوي الجانب العاطفي في الرجل إلى مستوى الانحراف، وتضعف فيه الجانب العقلي إلى مستوى كبير. فكيف نواجه مثل هذه الحالة؟ هل تنعكس القضية فيحتاج الرجل العاطفي إلى رجل آخر يذكِّره إذا ضلّ، وهل يمكن الاكتفاء بشهادة مثل هذه المرأة المتوازنة العاطفة إلى جانب شهادة رجل آخر؟ أم أن التشريع يبقى كما هو في ترجيح دور الرجل على دور المرأة مهما كان الرجل ضعيفاً ومهما كانت المرأة قوية؟

ونجيب على ذلك، بأن التشريعات المتعلقة بالرجل والمرأة في توزيع أدوارهما العملية في جوانب الحياة، لا تنطلق من الخصائص الفردية التي يتمتع بها الأفراد في أسباب التشريعات وحيثياتها، لأن الخصائص الذاتية للشخصية الفردية لا تخضع للضوابط العامة للأشياء، فقد تختلف في الشخص الواحد، حسب اختلاف الظروف التي تترك تأثيراتها الإيجابية والسلبية على حركة الشخصية في صعيد الواقع العملي، بل لا بد من أن تنطلق أسس التشريع من الخصائص النوعية العامة التي تتمثل البعد الإنساني التكويني للشخص، وذلك ليمكن وضع الضوابط العامة للقضايا والأشياء.

وعلى ضوء ذلك، لا بد لنا من ملاحظة العنصر النوعي في شخصية الرجل والمرأة من حيث تكوينهما الطبيعي في إيجابيات القضايا وسلبياتها، مع الاستفادة من الخصائص الذاتية للفرد في تفصيلات الموضوع في حركة العدالة في مجال القضاء... هذا بالإضافة إلى أن التربية الموجهة، في جانبها الإيجابي، أو التربية المنحرفة، في جانبها السلبي، قد تخلق طبيعة ثانية فاعلة أو منفعلة في حياة الإنسان، ولكنها لا تمنع من يقظة نقاط الضعف أمام بعض المواقف، ما يجعل جانب الاحتياط للعدالة منسجماً مع الخط النوعي للشخصية الإنسانية.

ولا بد لنا من أن نشير في هذا المجال إلى أن طبيعة التشريع لا تمنع من وجود سلبيات إلى جانب الإيجابيات، لأنه ليس هناك فعل يكون خيراً كله أو شراً كله، بل هناك خير يصاحب بعض الشر أو شرّ يصاحب بعض الخير، ما يجعل القضية، في جانب الوجوب أو الحلّية، خاضعة لزيادة جانب الخير على جانب الشر، أما في طرف التحريم، فتخضع للعكس، وهو غلبة جانب الشر على جانب الخير، فلا بد من السلبيّات على كل حال، ولكنها تختلف شدة وضعفاً وزيادة ونقيصة تبعاً لطبيعة الموضوع في أجواء التشريع، والله العالم بحقائق أحكامه.

وهناك نقطتان في التفسير:

(الأولى): قوله تعالى {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}. فقد وضع الظاهر موقع المضمر، وربما قيل: إن المناسب أن يقول (فتذكرها الأخرى)، وأجاب صاحب الميزان عن ذلك فقال: «والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأول إحداهما لا على التعيين، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الأخرى، فالمعنيان مختلفان»[1]. وهو جيّد، وربما كان ذلك للتأكيد، ولعله أقرب، لأن كلمة إحداهما الأولى تختزن في داخلها المعنى الأول الذي ذكره تفسيراً للكلمة الثانية، فيمكن الاستغناء بها عنها، وهناك وجهان آخران ذكرهما صاحب المجمع؛ الأول: أنه إنما كرر ليكون الفاعل مقدماً على المفعول، ولو قال: فتذكرها الأخرى، لكان قد فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول، وذلك مكروه. و (الثاني) ما قاله حسين بن علي المغربي إن معناه أن تضل إحدى الشهادتين، أي تضيع بالنسيان، فتذكر إحدى المرأتين الأخرى لئلا يتكرر لفظ إحداهما بلا معنى. ويؤيد ذلك أنه لا يسمي ناسي الشهادة ضالاً، ويقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت[2]، وهما بعيدان.

(الثانية) أن المفسرين فسروا الضلال في قوله: {أَن تَضِلَّ} بالنسيان. فقد جاء في تفسير الكشاف: «أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها»[3]. وجاء في مجمع البيان «أي تنسى إحدى المرأتين». وعلى ضوء ذلك، فسّر قوله: {فَتُذَكِّرَ} بقوله: «قيل: هو من الذكر الذي هو ضد النسيان، الربيع والسدّي والضحاك وأكثر المفسرين، والتقدير: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي تحملّتاها، ومن قرأ: {فَتُذَكِّرَ} بالتخفيف من الإذكار، فهو بهذا المعنى أيضاً، أي يقول لها: هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا وبحضرتنا فلان أو فلانة حتى تذكر الشهادة، وهذا لأن النسيان يغلب على النساء أكثر مما يغلب على الرجال»[4] .

ونلاحظ على ذلك أنهم حاولوا تفسير كلمة {تَضِلَّ} من خلال كلمة {فَتُذَكِّرَ} من جهة ما قرروه من ظهور كلمة التذكير بالعمل على إعادة الفكرة إلى ذاكرة الناسي، ولكن الأقرب هو أن تكون كلمة {تَضِلَّ} مفسرة للتذكر، لأن المطلوب في سلامة الشهادة أن لا يتأثر الشاهد بأية حالةٍ من الحالات التي تؤدي إلى الشهادة بخلاف الواقع، سواء كان ذلك من جهة النسيان أو الخطأ الناشىء من اشتباه الأمور عنده كنتيجة للخلل في الرؤية أو في فهم الموضوع من دون انتباه الى ذلك، ولهذا، فإن النسيان لا خصوصية له في الموضوع، بل الخصوصية للضلال، وهو الإبتعاد عن الحق من خلال أسبابه الطبيعية.

وربما يقال: إن المفروض عدالة الشاهدة، فكيف تخضع المرأة للخلل في الرؤية أو للفهم السيىء لتشهد على أساس ذلك، في الوقت الذي تفرض العدالة عليها أن تدقق في المشهود به، فلا يتناسب الإقدام على الشهادة في حالة الخطأ مع العدالة؟ والجواب عنه، أن ذلك قد يكون من غير التفات إلى أساس الخطأ، كما في الكثير من حالات الاستغراق في الأشياء بحيث ينفتح الإنسان فيها على جانب واحد، فلا ينافي ذلك العدالة، كما لا ينافيها النسيان، لأنّ من الممكن أن تكون الحالتان غير اختياريتين.

هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإن التذكير قد يتمثل في الإخراج من الغفلة كما يتمثل في الإخراج من النسيان، أو من حالة الخطأ على سبيل الجهل المركّب. وعلى هذا جاء قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} وغيرها من الآيات التي تعتبر التذكير رسالة الأنبياء الذين يبلّغون الناس رسالات الله لإخراجهم من ضلالهم لينتبهوا إلى حقائق الأمور وقضايا المصير التي كانوا يعيشون الفكرة الخطأ في طبيعتها وتفاصيلها.

ومن الغريب ما جاء في هذا الكلام من أن النساء أكثر نسياناً من الرجال، ولكنّ ذلك لم يثبت علمياً ولا وجدانياً، بل هما على حدّ سواء، لأن أسباب النسيان قد تعيش في داخل الرجال والنساء لتؤثر فيهم، وربما تحدث للرجل من خلال بعض الحالات الداخلية أو الخارجية الضاغطة المؤدية إلى ذلك بما لا تحدث للمرأة. لذلك، فإن الأقرب ـ والله العالم ـ أن يكون المراد من الضلال معناه الواسع الذي يتمثل في الابتعاد عن الحق في الشهادة، إما خطأً أو غفلةً أو نسياناً، ليكون التذكير شاملاً لأية حالة تنبيه على الخطأ.

{مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} الظاهر من ذلك هو الرضا بلحاظ حالة الوثاقة التي تحصل من العدالة التي هي الاستقامة على الخط الشرعي الذي يبعث على الصدق ويمنع عن الكذب.

{وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ} فإن الشهادة هي مسؤولية الناس من أجل الوصول إلى الحقيقة التي ينبغي تركيز الحياة على قواعدها الثابتة، فلا بد من تحمّلها إذا دُعي إلى ذلك، لأن ذلك هو سبيل إقامة العدل ومحاربة الظلم، ولولا ذلك لكانت إقامة البينة معتمدة على الصدفة من دون أي أساس للإلزام.

{وَلاَ تَسْأمواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}، أي لا يدفعكم الملل أو الضجر اللذان قد ينشآن من الأوضاع النفسية أو من انتظار تهيئة الأجواء أو الشروط الضرورية للشهادة والكتابة، إلى أن ترفضوا الكتابة أو تمتنعوا من الدخول في تفاصيل الموضوع صغيراً أو كبيراً إلى الوقت المحدد له. فلا بد من توضيح الصورة للحق مهما كان حجمها ليقف الناس عندها من دون حاجة إلى الجدال والنزاع...

* * *

حالات خاصة

{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} فإن أقرب الأمور إلى العدل عند الله، وأعظم الأشياء إقامة للشهادة، وأكثر الأساليب تأكيداً على عدم الارتياب في الوصول إلى معرفة الحق، هو الوقوف عند هذا الخط التشريعي في ما قرره الله من هذا البرنامج العملي المحدّد. وذلك كله في المعاملات التي تفرض تأجيل دفع أحد العوضين إلى أجلٍ مسمى. أمّا في المعاملات الحاضرة المبنيّة على الدفع نقداً في حالة الأخذ والعطاء، فلا بأس عليكم من عدم الكتابة لعدم الحاجة إليها إلا في حالات خاصة، ولما في ذلك من الحرج الشديد الذي يوجب صعوبة التعامل لما يتطلبه ذلك من تأخير في ما تقتضي المصلحة الإسراع فيه، وذلك هو قوله تعالى: {إِلاَ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}، لأنه لا ضرر عليكم من ذلك {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} كما تشهدون في حال الدَّين، لتثبت من خلال ذلك ملكيتكم للأشياء التي تشترونها... {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} لأن الكاتب بالعدل والشاهد به ينطلقان من أمر الله الذي أراد به مصلحة الناس، فلا يجوز لأحد الإضرار بهما، فيما إذا كان الحق على خلاف رغبته، ومن يفعل ذلك، فإنه ينحرف عن خط الله الذي أمرنا بالسير عليه وجعل الانحراف عنه فسقاً وضلالاً وضياعاً في متاهات الضلال.

وذكر بعضهم ـ كما في مجمع البيان ـ أن أصل (يضارّ) يضارر بكسر الراء الأولى عن الحسن وقتادة وعطا وابن زيد، فيكون النهي للكاتب والشاهد عن المضارّة، فعلى هذا، فمعنى المضارّة أن يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه ويشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه أو بأن يمتنع من إقامة الشهادة، وقيل: الأصل فيه لا يضارر بفتح الراء الأولى عن ابن مسعود ومجاهد، فيكون معناه: لا يكلف الكاتب الكتابة في حال عذر، ولا يتفرغ إليها، ولا يضيف الأمر على الشاهد بأن يدعى إلى إثبات الشهادة وإقامتها في حال عذر ولا يعنّف عليهما. قال الزجاج: والأول أبين، لقوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} فالفاسق أشبه بغير العدل وبمن حرّف الكتاب منه بالذي دعا شاهداً ليشهد أو دعا كاتباً ليكتب وهو مشغول[5]. والظاهر هو الوجه الثاني، لأن الخطاب هو للناس الذين يطلبون الشهادة والكتابة بقرينة قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ولو كان ـ على نحو المبني للفاعل ـ كما هو الوجه الأول ـ لكان من المفروض توجيه الخطاب للكاتب أو الشهيد، إما على نحو المفرد أو المثنى. ولعل هذا الوجه أقرب مما ذكرناه أولاً في توجيه الآية ـ وإن كان محتملاً ـ لأن الملحوظ فيه هو الإضرار بالشاهد والكاتب بعد الشهادة أو الكتابة من قبل الناس الذين يتضررون منهما، بينما الظاهر أن الفقرة واردة في المنع من الضغط الذي يوجّه إلى الكاتب أو الشاهد عند دعوتهما إلى ذلك، فلا يجوز تعجيلهما بتعطيلهما عن أشغالهما المهمّة، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل أو يحمّل الشاهد مؤنة مجيئه من بلده ـ كما جاء في الكشاف ـ والله العالم[6].

{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} فإنه أساس النجاة في الدنيا والآخرة، فلا بد لكم من اتباع أوامره ونواهيه وتعاليمه وتشريعاته لتحصلوا على رضوانه الذي هو غاية الغايات للمؤمنين.

{وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فهو الذي يفتح لكم أبواب المعرفة، ويقودكم إلى الوضوح في الرؤية من خلال علمه في ما هيأه لكم من وسائل العلم الذاتية، وفي ما أوحى به إليكم من خلال رسله، وأنتم لا تعلمون شيئاً من ذلك، فاشكروه على ما علّمكم وأطيعوه في ما أراد لكم من العمل بما علمكم إياه.

* * *

الله لا يغلق أبواب الوثاقة الذاتية

{وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} فإن الرهن وثيقة للدَّين، كما هي الكتابة والشهادة، فقد تمس الحاجة إليه في بعض الحالات التي لا مجال فيها للكتابة أو الشهادة، كما في الغالب من حالات السفر في المجتمع الذي يقل فيه الأشخاص الذين يتقنون القراءة والكتابة. ومن ذلك نفهم أن الرهن ليس مخصوصاً بهذه الحالة، بل هي نموذج للحالات التي يطلب فيها الوثيقة على الدين بالرهن، مما قد يمكن فيه الكتابة والإشهاد، ولكن الدائن لا يريد أن يدخل في الأوضاع التي تقتضيها الدعاوى في إقامة البينات، بل يحاول أن يستوثق لنفسه بالأشياء المادية التي تحت يده، فيمكنه استيفاء دينه منه عند امتناع المدين عن وفاء الدين... وهناك أبحاث تفصيلية في أحكام الدين والرهن تطلب من كتب الفقه، فليراجعها من يشاء.

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} الظاهر أنّها واردة في الدَّين الذي لا يشعر الدائن فيه بالقلق على ماله، ولا يخاف عليه من الجحود والنكران لثقته بالمدين، وفي هذه الحال، لا بأس بأن يترك الإنسان الكتابة والإشهاد إن شاء ذلك، فإن الله لا يريد أن يغلق على عباده باب الثقة الشخصية المتبادلة... ثم يتوجّه إلى هذا الإنسان الذي حصل على الثقة من صاحبه واؤتمن على الدَّين أن يحافظ على هذه الثقة ويردّ على صاحبه دينه، فيحفظ الأمانة ويصون العهد، لتبقى للعلاقات الإنسانية الحميمة حيويّتها وقوّتها وامتدادها العملي في العلاقات الإنسانية، فإن الأمانة تعطي ذلك بُعداً واقعياً ملحوظاً، بينما يكون العكس موجباً للانطباع بمثالية ذلك في هذا المجال، بعيداً عن الضوابط المادية للأشياء.

التقوى.. في إظهار الحق

وقد ربط الله ذلك بالتقوى، للتأكيد على أن التقوى تنطلق في خط الأوضاع المادية للإنسان، كما تنطلق في أجواء العلاقات الروحية، وذلك في قوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، وفي ضوء هذا، لا بد من حركة التربية الإسلامية في هذا الاتجاه، كما لو كانت أمراً عبادياً محضاً، ليتعلم الناس أن يراقبوا الله في تفاصيل العلاقات، كما يتعلمون أن يراقبوه في تفاصيل العبادات، فيكون ذلك مثاراً للاهتمام الفردي والاجتماعي في جوانبه الفقهية الشرعية.

{وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} فإن إظهار الحق مسؤولية الإنسان لإقامة العدل بمعاونة الجهات القضائية لتقوية فرص حركة العدالة في قضايا الناس. فإنه إذا امتنع عن ذلك انطلاقاً من أوضاع ذاتية معقدة، كانت الفرص أمام القضاء محدودة في الوصول إلى نتيجة جيّدة حاسمة، ما يجعل من هذه القضية شيئاً مرتبطاً بالإيمان القلبي الذي يفرض على الإنسان الاهتمام بالقضايا الحيوية للمجتمع، من موقع مسؤوليته الإيمانية في ما تمثله من خط عملي في الحياة {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} لأنه يدل على الانحراف في اهتماماته وتصوراته التي تبعده عما يحبه الله ويرضاه في هذا المجال من اهتمام المؤمن بأمور المؤمنين في ما يرفع مستواهم الفردي والاجتماعي في خط العدالة...

جاء في تفسير الكشاف، «فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: {فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ} وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترناً بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول، إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكانٍ فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترانه، واللسان ترجمان عنه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شُهد له بأنه من معاظم الذنوب[7].

وربما أريد بذلك التأكيد على عقدة الإثم الكامنة في قلبه انطلاقاً من خبث ذاته التي لا تفكّر بالخير للناس، لاسيما هؤلاء الذين ائتمنوه على الشهادة ووجدوا فيها عوناً على إثبات حقوقهم، كما رأوا فيه الإنسان الذي يؤدي الأمانة إلى أصحابها وإلى الله، لأنها أمانة الله كما هي أمانة الناس عنده، فقد يكون التعبير وارداً في الإشارة إلى دلالة الكتمان على إثم القلب الذي يلتقي مع خبث السريرة وفساد النية وإضمار الشر للناس؛ والله العالم.

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فلا يحاول أحد منكم أن يعتذر بما لا مجال فيه للعذر في ما يكتمه الإنسان من الشهادة التي يحملها، اعتماداً على إنكار معرفته بذلك الموضوع من جهة، أو على وجود ظروف شرعية تمنعه من إظهار شهادته، أو ادّعاء عدم وضوح القضية بالمستوى الذي يستطيع تقرير النتائج بشكل حاسم، فإن الله عليم بكل ما يعمله الإنسان في السر والعلن.

ــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:2، ص:440.

(2) مجمع البيان، ج:1، ص:513.

(3) تفسير الكشاف، ج:1، ص:403.

(4) مجمع البيان، ج:1، ص:513.

(5) مجمع البيان، ج:1، ص:514.

(6) تفسير الكشاف، ج:1، ص:404.

(7) تفسير الكشاف، ج:1، ص:406.